14 يوماً في حصار الشفاء
Date:
23 avril 2024
Auteur: 
Thématique: 

مرت علينا أيام صعبة وقاسية مع فرْض حصار على مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، حيث أسكن أنا وأسرتي في محيطه، وبقيتُ 14 يوماً محاصَرة برفقة أسرتي وأطفالي في المنزل، من دون أدنى مقومات الحياة. وكعادته، أمعن الاحتلال في الأذى والتنكيل بنا، ناهيك بإذلال الرجال، وإهانة النساء وكبار السن، بل أيضاً كان الجنود يتلذذون بمعاناتنا، ودبابات الجيش ومركباته العسكرية تطلق نيران أسلحتها بجنون وهستيريا نحو المنازل، ومنزلنا ضِمنها، فكانت لحظات توقف القلب وتُرعب الأطفال؛ إذ كانت القذائف والشظايا تنسف المباني السكنية بأكملها! وكدتُ في تلك الأحيان أجزم بأننا سنفارق الحياة في أي لحظة، ولم يستجب الجنود لكل نداءاتنا كي نتمكن من مغادرة مربع مجمع الشفاء، وكانوا يتقصدون الأذى؛ فكل الأهالي الذين حاولوا الخروج من منازلهم قَتَلَهم الاحتلال، وأعدمهم، على الرغم من مزاعمه بوجود ممرات آمنة.

كما أطلق الجنود إلينا رسائل عبر مكبرات الصوت، فحواها أن "موتوا من دون طعام ولا شراب لأن حكومتكم هي من أوصلتكم إلى ذلك." كانوا يريدون النيل منا، والتأثير في معنوياتنا، ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل أيضاً تحدثوا إلينا عبر مكبرات الصوت، وقالوا: "إن كنتم تريدون أن تحصلوا على الطعام، فعليكم أن تتعاونوا معنا، ونحن سنعطيكم ما تريدون. اخرُجوا الآن واحصلوا على الطعام من مقدمة الدبابة." كانت لحظات قاسية بكل ما تعنيه الكلمة؛ إذ كانت الدبابات تقتل كل من يحاول التحرُك من مكانه.

وهذه لیست المرة الأولى التي حوصرتُ فيها أنا وعائلتي؛ إذ عشتُ الحرب البرّية 3 مرات: أولها عندما دخلت آليات الاحتلال لأول مرة قطاع غزة، وكان دخولها الأول لمجمع الشفاء. والمرة الثانية عندما دخلت الآليات منطقة تل الهوى والرمال ومحيط الشفاء. أمّا الأخيرة، فكانت عندما اقتحموا مجمع الشفاء وأحرقوه بالكامل.

وكان للصحافيين نصيب من الاستهداف؛ إذ نفذ جنود الاحتلال إعدامات ميدانية مباشرة في حقهم، واستشهد عدد منهم داخل مجمع الشفاء وفي الطرقات، وهذا عدا الممارسات العدوانية ضد الرجال وكبار السن الذين قُتلوا بالعشرات أمام نسائهم وأطفالهم بلا رحمة.

لقد عشنا كصحافيين أياماً صعبة للغاية، وكنا لا نملك شيئاً نسد به رمق أطفالنا، فأصبحت المعاناة مضاعفة، وسط شعور القهر والألم، وذلك كله أثّر كثيراً في مسار التغطية الإعلامية، وفقدتُ الاتصال بزملاء لأيام طويلة. وعلى الرغم من أنني صحافية، ومن المفترض أن أنقل الأخبار إلى الناس، فقد كنتُ، وفي لحظة، عاجزة حتى عن معرفة أخبار ما يدور حولي من أوضاع بسبب انقطاع الاتصالات والكهرباء، وهول الجريمة المرتكبة في حقنا. 

كنتُ أعمل مذيعة ومقدمة لنشرات الأخبار والبرامج على مدار سنوات، وكنتُ أغطي الأحداث الميدانية الجارية في أرجاء مدينة غزة، لكن آلة الحرب والعدوان الإسرائيلية استهدفت المؤسسة التي أعمل فيها مباشرة منذ بداية الحرب، وبذلك، عطلت تلك الصواريخ الغادرة مهماتي، وتعمّد الاحتلال إعاقة عملنا الصحافي، فلم يبق أي مكان صالحاً للعمل بعد أن دُمرت المعدات وسيارات البث ومحطات الإرسال الإذاعي، فضلاً عن تشتُت الفرق الإعلامية على طول قطاع غزة وعرضه، فمنهم من أصبح نازحاً، ومنهم ومن استشهد، وآخر اعتُقل، ومنهم مَن لا يزال طريح الفراش جريحاً.

لقد تعمّد الاحتلال قطع الأخبار عن الناس عبر قطع الاتصالات والإنترنت عن مدينة غزة أكثر من مرة، كي لا يصل صوتنا إلى العالم، وهذه سياسية بشعة استخدمها محاولاً التأثير معنوياً فينا وفي شعبنا، لكنه فشل.

هذه الحرب ليست كباقي الحروب السابقة، فالفارق الوحيد هو أن هناك قراراً متعمداً بالإبادة الجماعية، من دون النظر إلى قوانين الحروب ومواثيقها، فالهدف هو المس بوجود كل من هو فلسطيني وقتْله. وفي هذا السياق، مارس الاحتلال كل وسائل الإرهاب ضد الصحافيين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وحتى اللحظة، وكان ذلك محاولة لطمْس الحقيقة عن العالم، وتغييب صورة القتل المنتشرة في شوارع قطاع غزة، ولم ينجح في التأثير في جموع الصحافيين، واستمر العمل الصحافي على الرغم من قلة الإمكانات، وكنتُ أنا وزملائي نحاول قدر المستطاع إيصال الصوت والصورة، ولا سيما في المناطق التي عزلها عن غيرها. 

إن الاستهداف الواضح للطواقم الصحافية وتدمير المؤسسات الإعلامية يستدعي وقفة جادة من كل من يدّعي الإيمان والاهتمام بحقوق الصحافيين وحقوق الإنسان، فما حدث معي كصحافية فلسطينية لا يمكن أن يتصوره عقل، وفي الوقت الذي كان العالم يحتفل بيوم المرأة العالمي، كانت الصحافيات يعشن الحصار المطبق من جيش الاحتلال الذي لم يحترم أي حقوق، إنما نكّل بنا، وعرّض حياتنا للخطر، وها أنا أكتب هذه الشهادة، وأحلم بأن نخرج من هذا الكابوس.

نجوم منتخب كرة الطائرة إبراهيم قصيعة (يمين) وحسن زعيتر (مواقع التواصل) استشهدا بقصف إسزائيلي على مخيم جباليا.
Ayham al-Sahli
المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام
Maher Charif
معهد أريج (القدس).
Uday al-Barghouthi
مصدر الصورة: وكالة الأناضول
Kareem Qurt
مصدر الصورة: معتز عزايزة
Yumna Hamidi
مصدر الصورة: الأونروا
George J. Giacaman