الممر الآمن في غزة: "ممر إنساني" أم "ترانسفير جديد"؟
Date:
12 octobre 2023
Thématique: 

شكل القرار الإسرائيلي بفرض حصار تام على قطاع غزة تحت شعار: لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، إعلاناً واضحاً بمنع وصول الإمدادات الغذائية والطبية وحرمان سكان القطاع من وسائل العيش كافة. ومع تصاعد وتيرة الحرب الإسرائيلية على القطاع بصورة غير مسبوقة، بدأت الدعوات تتوالى من هنا وهناك مطالبة بفتح ممر آمن أو "ممر إنساني". لكن اللافت أن الهدف من فتح هذا الممر الإنساني لم يكن واحداً.

ما هي الممرات الإنسانية؟

يُستخدم مصطلح الممرات الإنسانية خلال النزاعات المسلحة عندما يتم الاتفاق بين أطراف النزاع على السماح بفتح ممر آمن بهدف: إدخال المساعدات الإنسانية، أو إجلاء الجرحى والمرضى، أو تسهيل مغادرة المدنيين الراغبين في المغادرة. ويُشترط في الممر الآمن أن يكون في منطقة منزوعة السلاح، تحت إشراف طرف ثالث، مثل قوات الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية ذات الصلة، وذلك بهدف تأمين سلامة المغادرين، وإيصال المساعدات الإنسانية.

إذاً، فالهدف الأساسي من إنشاء الممرات الإنسانية هو حماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة، ولهذا ارتبط هذا المصطلح بالقانون الدولي الإنساني الذي أُنشئت قواعده لحماية المدنيين وتحييدهم خلال النزاعات المسلحة، وهي قواعد تُطبق في النزاعات الدولية وغير الدولية. ويمكن القول أن هذه الممرات تدخل ضمن نطاق التدخل الإنساني لحماية المدنيين.

وغالباً، تتولى المنظمات الإنسانية الدولية كالصليب الأحمر الدولي وغيرها مهمة إيصال المساعدات الإنسانية، أو إخراج الجرحى والمرضى. وتُلزم المادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، الدول بمبدأ حرية مرور المساعدات المتضمنة الأدوية والأدوات الصحية والأغذية والثياب للسكان المدنيين.

لهذا، فإن إقامة ممر آمن تحتاج إلى مناقشات ومفاوضات تشمل الأطراف المتنازعة، والدولة الطرف الثالث، التي ستمر المساعدات عبرها، والمنظمات الدولية التي ستتولى الإشراف على الممر. وفي الغالب تكون هيئات الأمم المتحدة طرفاً في هذه الاتفاقات.

ولا بد من توفر عنصرين في الممر الآمن:

أولاً: نطاق جغرافي محدد متفق عليه من طرفي النزاع، أي منطقة آمنة خارج نطاق النزاع.

ثانياً: نطاق زمني محدد لتحقيق الهدف، أي فترة زمنية موقتة لإتمام الهدف من فتح الممر.

لكن إنشاء هذه الممرات، عادة، ليس بالأمر السهل، إذ يجب أولاً، أن يتفق طرفا النزاع على إنشاء الممر، وأن توافق الدولة التي سيتم إيصال المساعدات عبرها، وإجلاء المدنيين إليها، ويحق لهذه الدولة أن تفرض قيوداً أو شروطاً معينة تتعلق بهذا الممر.

كما يحدد البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لسنة 1977 الأحكام الخاصة بتقديم المساعدات الإنسانية، وأهمها ألاّ تُعتبر هذه المساعدات تدخلاً في النزاع، وأن تستوفي شروط الحياد والتجرد، أي أن المهمة هي ذات طابع إنساني بحت.

ويمكن للأمم المتحدة فرض فتح ممرات إنسانية استناداً إلى الفصل السابع، لكن استخدام حق النقض "الفيتو" غالباً ما يقف حائلاً دون التوصل إلى قرار بشأن هذا الممر، وهذا ما حدث خلال الأزمة السورية، عندما اقترحت فرنسا وتركيا فتح ممرات إنسانية، لكن روسيا عارضت الاقتراح، كما أن سورية رفضته. وبررت روسيا وسورية رفضهما الاقتراح حينها أن الممر سيكون سبباً مباشراً للتدخل في الشؤون السورية الداخلية وزيادة حدة النزاع المسلح.

وتُعتبر الممرات الإنسانية التي أُنشئت خلال الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا بعد مفاوضات بين طرفي القتال المثل الأقرب، إذ تم إنشاء 10 ممرات إنسانية لعبور المدنيين الأوكرانيين من مناطق النزاع إلى مناطق آمنة. لكن السماح بفتح الممر خضع في أحيان كثيرة للإرادة الروسية، وقد اتهمت أوكرانيا عدة مرات السلطات في روسيا بتعطيل هذه الممرات من خلال عمليات القصف التي طالت مناطق من المفترض أن تكون آمنة لتسهيل مرور المدنيين.

وقد شهد التاريخ الحديث أمثلة عديدة لهذه الممرات، منها مثلاً:

  • ممر "كيندر ترانسبورت"، أي "نقل الأطفال"، وقد أُنشئ بموافقة ألمانية بنقل أطفال يهود من مناطق خاضعة للسيطرة النازية في سنتي 1938 و1939، إلى المملكة المتحدة.
  • ممرات أنشئت خلال حصار سراييفو، عاصمة البوسنة، بين سنة 1992 وسنة 1995، لإنقاذ السكان المدنيين الراغبين في المغادرة.

لكن التمعّن في هذين النموذجين، يشير إلى أهداف تتجاوز الهدف الإنساني المتمثل بإنقاذ المدنيين، إذ إن تسهيل خروج المدنيين في الحالتين، انطوى على خطط ترحيل شرائح سكانية معينة بهدف إحداث تغيير ديموغرافي في مناطق النزاع. وهذا بالتحديد، ما يثير القلق والمخاوف لدى الجانب الفلسطيني من فكرة إنشاء ممر إنساني في قطاع غزة.

ممر إنساني، أم عملية تهجير؟

تحمل الدعوات إلى إنشاء ممر إنساني في قطاع غزة في ظاهرها طابعاً إنسانياً، يتماشى مع مبادئ القانون الدولي الإنساني. لكن متابعة التصريحات التي تصدر تباعاً على لسان مسؤولين دوليين تشير إلى تباين في الهدف من فتح هذا الممر يقود إلى أهداف أكثر خطورة بشأن ما يخطط لسكان القطاع. فبين المطالبة بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية، وبين المطالبة بخروج المدنيين فرقاً شاسعاً يتمثل بطريقين: طريق تسمح بدخول مقومات صمود إنساني، وطريق معاكس للخروج وإفراغ القطاع.

فكيف ظهر التباين في هذا الخطاب "الإنساني"؟

أكدت الأمم المتحدة أن الحصار الكامل الذي فُرض على قطاع غزة، محظور بموجب القانون الدولي الإنساني. ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى إمداد سكان القطاع بالمساعدات الإنسانية قائلاً: "يجب السماح بإدخال الإمدادات الحيوية المنقذة للحياة، بما في ذلك الوقود والغذاء والمياه إلى قطاع غزة"، وشدد على ضرورة "وصول المساعدات الإنسانية بسرعة ومن دون عوائق."

منظمة الصحة العالمية دعت إلى فتح ممر إنساني لإيصال المساعدات، وجاء في تصريح الناطق باسمها في جنيف: "إن فتح ممر إنساني ضروري لتوفير الإمدادات الطبية الأساسية للسكان." وذكرت مصادر صحافية أن مدير منظمة الصحة العالمية التقى الرئيس المصري وتباحثا في شأن إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.

وطالبت عدة منظمات إنسانية وحقوقية بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة منعاً لحدوث كارثة إنسانية تهدد المواطنين جرّاء الحصار وعمليات القصف المدمر الذي يستهدف المدنيين الأبرياء، وهو ما يتنافى مع قواعد القانون الدولي العام.

كما طالب رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه، في بيان صدر عن مكتبه، بإنشاء ممرات آمنة لإدخال الإمدادات التموينية والطبية إلى قطاع غزة، محذراً من كارثة إنسانية تهدد سكان القطاع.

لكن مفوض السياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بوريل كانت له وجهة نظر مغايرة، إذ طالب خلال مؤتمر صحافي عقب اجتماع طارئ لمجلس الاتحاد الأوروبي بفتح ممرات إنسانية وتسهيل مغادرة المدنيين إلى مصر. أي أن الهدف من هذا الممر وفق رؤية الجهة التي يمثلها هو إجلاء المدنيين من غزة إلى مصر.

وجاءت مطالب بوريل متناغمة مع تصريح المسؤول العسكري الإسرائيلي، ريتشارد هيخت، الذي قال بوضوح  أمام صحافيين أجانب: "أعلم أن معبر رفح لا يزال مفتوحاً .. وأنصح أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك." وعلى الرغم من أن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي عاد ونفى دعوة سكان القطاع إلى التوجه نحو الأراضي المصرية، فإن التصريح الأول عبّر من دون شك عن نيات العدو الإسرائيلي.

وفي أحدث تصريح لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن قبل مغادرته إلى إسرائيل، ذكر أن المناقشات بشأن ممر إنساني للسماح للمدنيين بمغادرة غزة عبر مصر مستمرة.

وكانت مصادر أمنية مصرية رفيعة المستوى قد أكدت رفضها هذا المخطط، مشيرة إلى مخطط واضح لإفراغ الأراضي الفلسطينية من سكانها، وأن حكومة الاحتلال تجبر الفلسطينيين على الاختيار بين الموت تحت القصف أو النزوح خارج أراضيهم. وذكرت المصادر المصرية أن الاحتلال الإسرائيلي سعى على مدار الصراع إلى توطين أهالي غزة في سيناء، مؤكدة أن مصر تصدت لهذه المخططات، وأن هناك إجماعاً شعبياً فلسطينياً على التمسك بالأرض.

وتأكيداً لوجود مخطط صهيوني لإخلاء قطاع غزة من سكانه، ذكرت وزارة الداخلية الفلسطينية أن الاحتلال يقوم بإرسال رسائل صوتية مسجلة تصل إلى هواتف المواطنين في غزة بشكل عشوائي، تطلب منهم مغادرة منازلهم. ودعت الوزارة المواطنين إلى تجاهل هذه الرسائل التي تهدف إلى إثارة الذعر والخوف في إطار الحرب النفسية المصاحبة للعدوان الإسرائيلي.

ومع تباين وجهات النظر، يبدو واضحاً أن فكرة إنشاء الممر الإنساني في حال إقرارها من دون تحديد الهدف منها، وهو إيصال المساعدات الإنسانية، ستشكّل خطراً وجودياً على قطاع غزة. إذ إن إسرائيل ستحاول من خلال هذا الممر تنفيذ خطة "ترانسفير" لطالما حلم الإسرائيليون بتنفيذها من خلال تهجير سكان غزة إلى مصر وبالتحديد إلى سيناء.

وفي هذا الإطار، يمكن للحكومة المصرية أن توافق، وبالأحرى أن تصر على إيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع عبر معبر رفح، على الرغم من التهديد الإسرائيلي بقصف المعبر في حال إقدام مصر على هذه الخطوة. إذ إن خطوة مصرية كهذه، من دون شك، ستحظى باهتمام معظم الأطراف لأنها ذات طابع إنساني بحت. وستمنع من ناحية ثانية، كارثة إنسانية تهدد المدنيين في القطاع في حال استمر الحصار الإسرائيلي من دون رادع.

ختاماً،  لا بد من التوقف للإشارة إلى أن الدعوة إلى تطبيق قواعد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، في حالة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تبدو فارغة من معناها، إذ إن المجتمع الدولي الذي أقر مبادئ القانونين، هو نفسه الذي يعتمد الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وفي هذه الحال يصبح قانون "القوة" هو القانون الوحيد المطبّق والساري.

ويبقى السؤال الأهم برسم أهالي غزة المحاصرين والصامدين والمقاومين: هل هم مستعدون لتهجير جديد، وهم في معظمهم ممَن ذاقت عائلاتهم مرارة الطرد والتهجير خلال النكبة قبل 75 عاماً؟

 

مصادر مختارة:

بوريل يدعو إلى فتح الممرات الإنسانية وتسهيل خروج المدنيين من غزة إلى مصر، Arabic.rt.com،

10/10/2023.

"الصحة العالمية" تدعو لتفح ممر إنساني إلى قطاع غزة،  "الشرق الأوسط"، aawsat.com،

10/10/2023.

"غزة: أوروبا تنضم لمخطط التهجير.. وتدعو لفتح ممرات للمدنيين إلى مصر"، almodon.com،

11/10/2023.

غوتيريش: يجب تجنب "امتداد الصراع" الإسرائيلي الفلسطيني لجبهات أُخرى. الأمين العام للأمم المتحدة شدد على ضرور السماح بدخول الإمدادات المنقذة للحياة إلى غزة، /aa.com.tr/ar،

11/10/2023.

ميشال بينكي، "في زمن الحرب .. الممرات الإنسانية طوق نجاة المدنيين"، /dw.com/ar،

8/3/2022.

À propos de l’auteur: 

سناء حمودي: أكاديمية فلسطينية.

نجوم منتخب كرة الطائرة إبراهيم قصيعة (يمين) وحسن زعيتر (مواقع التواصل) استشهدا بقصف إسزائيلي على مخيم جباليا.
Ayham al-Sahli
المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام
Maher Charif
معهد أريج (القدس).
Uday al-Barghouthi
مصدر الصورة: وكالة الأناضول
Kareem Qurt
مصدر الصورة: معتز عزايزة
Yumna Hamidi
مصدر الصورة: الأونروا
George J. Giacaman