خضر عدنان ... الخباز الجائع للحرية
التاريخ: 
27/04/2023
المؤلف: 
ملف خاص: 

في يوم مشمس، يقطف الرجل الأربعيني ذو اللحية الكثة ثمار التين، نتجاذب أطراف الحديث حول الإضراب عن الطعام وقد طال أمده، بينما بعض التجارب منيت بالفشل، كما تراجع التفاعل الشعبي معها بشكلٍ ملحوظ، حتى إن قصص الأسرى ما عادت تميل إليها قلوب الناس أو تصغي إليها آذانهم، على الرغم من أن هذه الحقيقة المرة التي لا يختلف عليها اثنان، إلاّ إنه قال لي بنبرة الواثق بالنصر: "إذا اعتُقلت مرة أُخرى سوف أخوض إضراباً جديداً عن الطعام، على الرغم من صعوبته وآثاره الصحية التي ترافق جسدي حتى اليوم، لكن الإضراب عن الطعام بالنسبة إلي يعني الحرية."

يعدّ الإضراب عن الطعام من أكثر القضايا إثارة للجدل اليوم في السياق الفلسطيني، سواء داخل السجون أم خارجها، على الرغم من توالي التجارب، الناجحة والأقل نجاحاً، إلاّ إن هذا النقاش لم يطفُ إلى السطح حتى الآن، وبقي حبيس الأروقة الداخلية ومن خلف الستار، وذلك لحساسية قضية الأسرى على الرغم من الانتكاسات التي أصابتها، أو احتراماً لمن يخوض غمار الإضراب عن الطعام.

يعتقد البعض بضرورة، بل بلزوم جماعية المواجهة داخل السجن بصورة خاصة، كون الأسير يواجه منظومة بأكملها، في حال تعذر اتفاق الجماعة كانت البدائل هي الخيار عن تلك المواجهة الحاسمة، بينما يرى فريق آخر بأنه لا يشترط اكتمال نصاب الجماعة لمراغمة المستعمر، سواء داخل السجن أو خارج حدوده. فعمليات المقاومة الفردية كإضرابات الأسرى الفردية سيان.

كما يتباين السجان والأسير في تعريف الإضراب عن الطعام، فالسجان ينظر إلى الإضراب عن الطعام على أنه فعلٌ أهوج يتضور بسببه السجين جوعاً حتى تذبل اعضاء الجسد، ويمتنع من الشراب حتى تجف الأوردة والشرايين، ثم يوهن العظم، ويتساقط شعر الرأس الذي اشتعل شيباً، إلى أن يخطفه الموت.

أمّا الأسير فلا يرى في إضرابه عن الطعام امتناعاً عن الطعام والشراب فحسب، ولا يرى فيه تجربة تخاض بدافع الترف أو الرفاهية، بل مواجهة يُدفع إليها مرغماً بعد استنفاد كل الوسائل والبدائل، وهو يسعى من خلالها إلى انتزاع سيطرة السجان على الجسد وإدارة الموت، وهي بذلك أشد مظاهر التمرد على منظومة التحكم والعقاب الاستعمارية. بكلمات أُخرى تكمن فلسفة الإضراب عن الطعام بأن الأسير هو من يتولى زمام موته/حياته بنفسه، ويصبح تجويع الجسد هو وسيلة الرفض الوحيدة التي من خلالها يرضخ السجان لمطالب الأسير.

بعد توالي الاعتقالات الإدارية، وخصوصاً سنة 2012، قرر خضر عدنان موسى، الأسير المحرر الذي مكث زهاء ثماني سنوات خلف القضبان، والخباز الحاصل على درجة ماجستير في الاقتصاد من جامعة بيرزيت، والقيادي في حركة الجهاد الإسلامي المنحدر من قرية عرابة جنوبي غربي جنين، ووالد الأطفال التسعة، أن يضع حداً لذلك السيف المسلط على رقبته ورقاب كثيرين من الفلسطينيين، ولا سيما الأسرى المحررين، فخاض إضراباً فردياً عن الطعام استمر 65 يوماً ثم انتهى بتحقيق مطلب الإفراج عنه بتاريخ 17 نيسان/أبريل، وبذلك شق خضر عدنان بإضرابه هذا السبيل.

خاض عدنان إضراباً مفتوحاً عن الطعام أثناء اعتقاله سنة 2004 لمدة 28 يوماً احتجاجاً على سجنه في العزل الانفرادي، تكلل بالنجاح، إذ استجابت إدارة السجون لمطالبه ونقلته إلى أقسام السجون العادية مع بقية الأسرى.

يعتبر الاعتقال الإداري وسيلة عنف وعقاب ذات أهمية قصوى، وأحد موروثات الانتداب البريطاني، إذ تتمكن إسرائيل من خلاله من الزج بالفلسطينيين داخل السجون لسنوات قد تصل إلى خمس، على فترات متتالية تتراوح من 3 إلى 6 أشهر قابلة للتجديد، بقرار من المحكمة العسكرية في سجن عوفر من دون أي تهمة معلنة، تحت مسمى الملف السري، ومستعينة بمبررات مبهمة وغامضة، كـ "خطر على أمن المنطقة" أو "خطر على الجمهور"، وبذلك لا يستطيع الأسير أو حتى المحامي معرفة أسباب الاعتقال ودوافعه.

أشارت معطيات صادرة عن نادي الأسير الفلسطيني إلى أن قرابة 12 ألف قرار بالاعتقال الإداري صدرت عن محاكم الإسرائيلية خلال السنوات التسع الماضية، وأن 80% من الأسرى الإداريين هم من الأسرى المحررين الذين تعرضوا للاعتقال سابقاً، كما بلغ عدد الأسرى الإداريين حتى شباط/ فبراير 2023 قرابة 900 أسير.[1]

حث نجاح الشيخ خضر في تجربته الشاقة، وإجباره جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" على تحديد سقف زمني لإنهاء اعتقاله الإداري، العديد من الأسرى الإداريين على أن يحذوا حذوه منذ تلك الفترة وحتى يومنا هذا، كبلال ذياب، وثائر حلاحلة، وحسن الصفدي، وعمر أبو شلال، وهناء الشلبي، وخليل العواودة، وهشام أبو هواش، وعلاء الأعرج، ومقداد القواسمي، وسامر العيساوي، ومحمد القيق، على سبيل المثال لا الحصر.

وأصبح خضر عدنان أيقونة للمضربين عن الطعام، ونصيراً للأسرى وعوائلهم، فلا يوجد بيت شهيد أو أسير في الضفة الغربية من شمالها إلى جنوبها، إلاّ يسبق إليها الشيخ خضر مواسياً أو مهنئاً. كما لا تقام أي فعالية اعتصام أو وقفة تضامنية واحتجاجية إلاّ ويتصدرها بصوته الجهوري وكلماته الصادقة التي تحمل بين ثناياها معاني الصبر والإقدام والشجاعة.

اليوم مجدداً لم يلتفت الشيخ خضر إلى أمعائه المقرقعة الخاوية، أو يخشى تقييده على سرير في سجن مستشفى الرملة، فأخذ قراراً مفصلياً بأن يعود إلى ميدان الإضراب عن الطعام، وهو الإضراب الخامس له، وذلك احتجاجاً على اعتقاله بعد مداهمة الجيش الإسرائيلي منزله في 5 شباط/ فبراير الماضي.

الجديد بالنسبة إلى الشيخ خضر في هذه التجربة – وفقاً لنادي الأسير الفلسطيني - هو أن إضرابه عن الطعام هو ضد اعتقال مبني على لائحة اتهام وجهت إليه،[2]  ذلك بأن إضراباته السابقة كانت كلها ضد اعتقالاته الإدارية، وبالتالي فإن هذا الإضراب له خصوصية مختلفة عن الإضرابات السابقة.

مع كتابة هذه السطور يقترب خضر عدنان - الذي غاب جسداً عن مائدة الإفطار في رمضان، وعن طقوس عيد الفطر - من اليوم الثمانين لإضرابه الحالي عن الطعام، كما يمتنع أيضاً عن إجراء الفحوصات الطبية وتناول المدعمات والفيتامينات، شاقاً طريق حريته وعودته إلى زوجته رندة وأطفاله بجوعه وصبره.

 

[1] نادي الأسير الفلسطيني. "أبرز معطيات الاعتقال الإداري". 

[2] نادي الأسير الفلسطيني. "الأسير الشيخ خضر عدنان يواصل الإضراب لليوم الـ74 على التوالي". 

عن المؤلف: 

ياسر مناع: طالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت.

انظر