الأسير الشهيد وليد دقة
التاريخ: 
08/04/2024
المؤلف: 
ملف خاص: 

أعلنت هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير في بيان، أمس الأحد، استشهاد الأسير وليد نمر دقة (62 عاماً) داخل مستشفى "آساف هروفيه"، نتيجة سياسة الإهمال الطبي المتعمد والمزمن بحق الأسرى.

وكان الوضع الصحي لدقة قد تدهور بشكل ملحوظ، بحسب الأخبار التي كانت تعلنها عائلة الأسير والجهات المعنية بالأسرى، منذ آذار/ مارس من العام الماضي، بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد، وقصور كلوي، بالإضافة إلى إصابته بسرطان التليف النقوي، وهو سرطان نادر يصيب نخاع العظم. وجرّاء ذلك، أُطلقت حملة عالمية للإفراج عنه، لكنها لم تنجح، واستشهد دقة عن عمر 62 عاماً، قضى منها 38 عاماً أسيراً في سجون الاحتلال.

حياة وليد دقة وأماكنه

وُلد وليد دقة في باقة الغربية؛ قريته التي ينحدر منها والده وأجداده، في 18 تموز/ يوليو 1961، والده نمر، ووالدته فريدة من منشية وادي الحوارث، له 6 أشقاء و3 شقيقات.

في مقالة للدكتور عبد الرحيم الشيخ، بعنوان "المكان الموازي: رسم الزمن في فكر وليد دقّة"، تكثيف في جانب منها لسيرة دقة، إذ يقول الشيخ: "ولد لأب من باقة الغربية ولأم من منشية وادي الحوارث، وذهب في رحلات علاجه إلى الخضيرة (1961 - 1978). أمضى دقّة مطلع شبابه (1979 - 1982) عاملاً في أحد المطاعم في 'تل أبيب'، والتقى اليهود والعرب الآتين للعمل في قاع المدينة، كما زار في هذه الفترة عدة مناطق من فلسطين المحتلة كنابلس ورام الله والقدس، حين رغب في التسجيل للدراسة في جامعة النجاح أو جامعة بيرزيت أو 'الجامعة العبرية'. وعمل دقّة في الفترة 1983 - 1986 في مدينة طولكرم وفي مستعمرة 'إيلات' في أم الرشراش المحتلة قبل أن يلتحق بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ويذهب إلى التدريب في سورية حيث مرّ بدمشق، وتدرّب في درعا، وزار مخيم اليرموك قبل عودته إلى فلسطين المحتلة، عن طريق قبرص. أمّا رحلة أسره، بين الشباب والكهولة، في السجون الصهيونية (1986 - 2023)، فتنقّل فيها بين جميع السجون ومراكز الاعتقال والعزل الصهيونية على امتداد فلسطين التاريخية."[1]

التحق بالعمل الوطني ضمن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1983، ولاحقاً، انضم إلى التجمع الوطني الديمقراطي في سنة 1996، وصار عضواً في لجنته المركزية.

اعتُقل دقة في 25 آذار/ مارس 1986، بتهمة اختطاف وقتل جندي إسرائيلي سنة 1984، وحكمت عليه المحكمة العسكرية في اللد في آذار/ مارس 1987 بالسجن المؤبد. وقد حُدِّد "المؤبد" في عام 2012 بـ 37 عاماً، ما عنى أن وليد دقة كان سيتحرر في 24 آذار/ مارس 2023، إلاّ إن محكمة بئر السبع المركزية أصدرت قراراً، في 28 أيار/ مايو 2018، يقضي بإضافة عامين على حكم وليد دقة، بادعاء ضلوعه في قضية إدخال هواتف نقالة إلى الأسرى. وعليه كان تحريره قد تأجل حتى العام المقبل، في 24 آذار/ مارس 2025.

قرار محكمة بئر السبع المركزية ليس جديداً على مستوى جور قضاء الاحتلال بحق الأسرى، ومنهم وليد دقة؛ فقد رفضت محاكم الاحتلال عشرات الالتماسات المتعلقة بتحديد فترة حكمه، كما جرى رفض الإفراج المبكر عنه، وإزالة تصنيف "أسير عالي خطر الهرب" إلاّ مؤخراً، بحسب بيان "الهيئة" و"النادي". كذلك منعه الاحتلال من وداع والده الذي توفي في سنة 1998، والمشاركة في جنازته، وحُرم من زيارة الأهل لأغراض إنسانية، ولا سيما بعد إصابة والدته فريدة دقة بمرض الألزهايمر منذ عام 2013. وبسبب وضعه الصحي، تقدم بالتماسات للإفراج المبكر من أجل تلقي العلاج بعد أن تم الكشف عن إصابته بسرطان الدم، في عام 2015، وحتى بعد تشخيص إصابته بمرض التليف النقوي (Myelofibrosis) في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2022، وهو سرطان نادر يصيب نخاع العظم. وفي أكثر من صفقة تبادل، رفض الاحتلال الإفراج عن دقة، وذلك في الأعوام التالية: 1994، و2008، و2011، و2014.

خلال عام 2023، وتحديداً منذ آذار/ مارس 2023، وإلى جانب إصابة دقة بسرطان التليف النقوي، تدهورَ وضعه الصحي نتيجة إصابته بالتهاب رئوي وقصور كلوي حادّيْن، وبقي محتجزاً في مستشفى "برزيلاي" في العناية الفائقة تحت حراسة أمنية مشددة. وفي 12 نيسان/ أبريل 2023، خضع لعملية جراحية جرى فيها استئصال جزء من الرئة اليمنى، ثم جرى نقله إلى عيادة سجن الرملة.

وفي 22 أيار/ مايو 2023، تعرض دقّة لتدهور إضافي، ونُقل إلى مستشفى "أساف هاروفيه" جراء معاناته من مضاعفات عملية الاستئصال في الرئة، وذلك بسبب الاختناق التنفسي الشديد جداً والتلوث، وهناك خضع لعملية قسطرة جرّاء قصور ملحوظ في عضلة القلب. وفي 25 أيار/ مايو 2023، أعادته سلطة السجون إلى عيادة سجن الرملة، ما تسبب له بتدهور جديد نُقل في إثره مجدداً إلى مستشفى "أساف هاروفيه"، وتلاحقت عمليات النقل بحقه من السجن وإلى المستشفى (السجن)، بينما كانت حالته الصحية مستمرة في التدهور.

 

وليد دقة، لوحة لسهاد الخطيب

 

دقة المنتصر على السجّان

تغلب وليد دقة على السجان الإسرائيلي في أكثر من موضع، منها: زواجه من سناء سلامة، التي تعرفت عليه في عام 1996، حين كانت تعمل صحافية لصحيفة اسمها "الصبّار" كانت تصدر في يافا، وكانت كتابات سناء دائما تتناول أوضاع الأسرى وشؤونهم، ولا سيما أن والدها تعرض للأسر أكثر من مرة، وكذلك شقيقها الذي اعتُقل لأول مرة في عمر 14 عاماً. وبينما كانت تستقي أخبار الأسرى من الأستاذ عبد الرحيم عراقي، الذي كان يترأس جمعية "أنصار السجن"، اقترح عليها عراقي أن تأخذ أخبار الأسرى من الأسرى أنفسهم، وأعطاها اسمين، أحدهما كان وليد دقة، ونصحها بزيارتهما. فاختارت سناء وليد، وزارته في السجن. تقول سناء: "ما شدني إليه ثقافته الواسعة والطريقة العملية التي يفكر بها ويدير بها شؤونه وشؤون السجن بالتعاون طبعاً مع رفاقه الأسرى. كانت أول زيارة له عبارة عن تعارف وسألته يومها إذا كان بحاجة لأي أمر يمكنني أن أوفره له وعلى الفور قال: 'نعم طبعاً أنا بحاجة لكتاب، الحرب والاستراتيجية، للكاتب الإسرائيلي العسكري يوشفاط أركابي، أحتاجه في دراستي' وطبعاً وفرت له الكتاب وعدت لزيارته بعدها بشهرين وأنا أحمل الكتاب."[2]

تطورت علاقتهما، وقررا الزواج، وتقدما بطلب لإقامة حفل زفافهما في السجن بحضور عائلتيهما، بالإضافة إلى 22 أسيراً مقرباً لوليد، مع السماح بالتصوير، فيديو وفوتوغراف، والسماح بوضع الموسيقى، مثل أي حفل زفاف. جرى رفض كل الطلبات، لكنهما أصرّا، فاستأنفا نضالهما ضد السجان، وكسبا الرهان، فكان ما أرادا في سجن عسقلان، إلاّ في نقطة واحدة، إذ سُمح فقط لتسعة أسرى بالمشاركة. ومع ذلك، فقد أقام الأسرى في غرفهم الحفلات احتفالاً بالعروسين.

انتظر هذا الزواج سنين أُخرى حتى أثمر ميلاد، الطفلة التي أتت إلى الدنيا من نطفة مهربة محررة في 3 شباط/ فبراير 2020. وقد نشرت مجلة "الآداب" اللبنانية نصاً موقعاً باسم ميلاد وليد دقة، ليبدو كبيان من أجل الحرية، جاء فيه: "نعم، أنا الطفلة التي انتظرتْ أكثرَ من عقد، ووُلدتْ من نُطفةٍ محرَّرةٍ على الرغم من كلّ إجراءاتهم وقوانينِهم بمنعي من الحياة. لقد بلغتُ من العمر ما يكفي لأرويَ عليكم قصّتي. سيقول أحدُكم بالتأكيد إنّ هذا جنون؛ فحتّى لو كانت هذه الطفلةُ معجزةً فلا يمكن أن تروي تفاصيلَ حكايةٍ حصلتْ أحداثُها قبل ولادتها وهي في هذه السنّ. وقد يقول آخرُ انْ ليس من الأخلاقيّ تقويلُ طفلةٍ رضيعةٍ - مستغلّين براءتها - كلامًا على هذه الدرجة من الخطورة وينطوي على اتهامات، من دون خشية، لدولةٍ تمتلك أقوى رابع جيشٍ في العالم. ومع ذلك، ورغم أنَّ هذا البلد بلدُ المعجزات، بلدُ الإسراء والمعراج، مهدُ السيّد المسيح عليه الصلاة والسلام، فإنّني لستُ طفلةً معجزة، بل ثمرةُ تصميمٍ وإصرارٍ وتحدٍّ. زمنُ المعجزات قد ولّى، ونحن اليومَ في زمن التعجيزات الإسرائيليّة وغطرستِها."[3]

نجاح وليد وسناء في إنجاب ميلاد أدى إلى ردة فعل من جانب إدارة السجون الإسرائيلية، فقد قامت إدارة سجن جلبوع بعزل دقة في أوضاع اعتقالية غاية في القسوة. وقبل نقله إلى جلبوع في 18 شباط/ فبراير 2020 لعزله، كان في سجن مجدو حيث قامت إدارة السجن بعزله ومعاقبته أيضاً. وأوضحت في حينها هيئة الأسرى أن ظروف عزل دقة صعبة جداً، كما جرت مصادرة جميع كتبه وأوراقه قبل عزله، وحرمته إدارة المعتقل من "الكانتينا"، ومن إدخال "بلاطة للطهي".

الكتابة كنضال

وفي جولات انتصاره المستمرة، تمكّن وليد دقة من الاستمرار في تحصيله العلمي داخل السجن؛ فحصل على البكالوريوس في السجن من الجامعة المفتوحة الإسرائيلية في عام 2010، كما حصل على الماجستير من جامعة هداريم في عام 2016. ولم يتمكن من إكمال دراسته لنيل الدكتوراه في الفلسفة من جامعة تل أبيب بسبب القوانين الإسرائيلية العنصرية الجائرة. ولدقة مساهماته في العديد من المجلات الفكرية والأكاديمية، وهو عضو مجلس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية".

وقبل أن يتم تعليمه الجامعي، في السجن، وبعده، كان وليد دقة نهماً في القراءة، الأمر الذي ساعده على تأليف العديد من الكتب الفكرية والأدبية التي تشكّل رؤيته الفكرية للحياة والصراع، منها: "يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002" (2004)؛ "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب" (2010)؛ "حكاية المنسيين في الزمن الموازي" (2011)؛ "حكاية سرِّ الزيت" (2018)؛ "حكاية سرِّ السيف" (2021)؛ "حكاية سرِّ الطيف/الشهداء يعودون إلى رام الله" (مخطوطة)؛ "رياحين الشباب.. بين مفاصل صخر الدولة العبرية" (مخطوطة)، "نفايات الكلام" (مخطوطة). هذا بالإضافة إلى عشرات الترجمات والمقالات بالعربية والعبرية التي تُرجمت إلى عدة لغات، أبرزها: "الزمن الموازي" (2005)؛ "ميلاد: أكتب لطفل لم يولد بعد" (2011)؛ "حرر نفسك بنفسك" (2020)؛ "السيطرة بالزمن" (2021). كما أن للأسير دقة العديد من المخطوطات، والرسومات، والأشعار، والأغاني، والنصوص السيرية والمسرحية.

 

[1] انظر عبد الرحيم الشيخ، "المكان الموازي: رسم الزمن في فكر وليد دقّة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 135 (صيف 2023).

[2] انظر موقع "عادل سالم"، حوار أجراه معها في عام 2004.

[3] انظر مجلة "الآداب"، "ميلاد".

عن المؤلف: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.

انظر