وليد دقة.. قل للموت لا
التاريخ: 
14/04/2023
المؤلف: 
ملف خاص: 

"المرأة الفلسطينية يا سيادة القاضي تنجب أطفالاً تماماً كالمرأة اليهودية، لم يحدث حتى الآن أن أنجبت امرأة عربية عبوة ناسفة"....

بهذه العبارات، بدأت حديثك للقاضي في المحكمة، يوم تقدمت بطلب من أجل السماح لك بالاختلاء بزوجتك سناء في "غرفة الحب" (حيدير أهافا) في السجن. يومها أسمعت القاضي "الإسرائيلي" درساً في الإنسانية. قلت له إن حضور هؤلاء الممثلين عن المخابرات من الشاباك (المخابرات الداخلية) والشاباص (مصلحة السجون) حاملين إليك تقريرهم السري، إنما جاؤوا "لإقناعك أنني وسناء سننجب خطراً أمنياً على إسرائيل،" وتابعت "أي دولة هذه يا حضرة القاضي التي تخشى طفلاً بينما هي تملك 200 رأس نووي، أي أمن هذا الذي يهدده طفل لم يولد بعد!".

هذا الكلام الموثق بصوتك يا وليد، لم يكن مجرد دفاع عن حق زوجتك بأن تصبح أماً، وحقك أنت في أن تكون أباً ولو من خلف الأسلاك. كان تعبيراً منك عن حبك للحياة، عن تمسكك بالحرية. قلت: (وأنت المنهك من التعب جرّاء السفر في عربة نقل الأسرى، مصاباً بالتهاب رئوي) "إن طفلي ربما يصبح طبيباً يكتشف دواء لمرضى السرطان، أو قد يكون عالم فلك، أو ربما سيصبح موسيقياً يعزف لحناً لم يُعزف بعد، أو قد يكون قائداً سياسياً يجد حلاً للصراع العربي- الاسرائيلي".. لقد أفهمت القاضي أنه بتنكّره لرحم المرأة الفلسطينية، يتجرد من كل صفة بشرية. لكن، وعلى الرغم من كل ذلك أصدر القاضي قراره "العاقر" بمنعك من لقاء سناء.

هل أثناك ذلك يا وليد؟ هل حال دون تحرير "نطفتك" من السجن في عملية معقدة؟ لا لقد توّج ذلك في سنة 2020 بإنجاب سناء طفلتك الجميلة ميلاد.

نبيذ في السجن  

حسناً، دعك من هذا يا وليد، عد بنا إلى الغرفة 24 في قسم (ح) في معتقل سجن عسقلان. "برشك" الحديدي المطل على "المردوان" (الممر بين الغرف) محجوز لك. الضوء الخافت الذي يتسرب من الممر إلى سريرك عبر النافذة الكبيرة بعد قطع الإنارة يضطرك إلى السهر. تتابع دروسك الجامعية بهدوء، بعيداً عن ضجيج الأسرى في النهار. إلاّ إن هذا الهدوء انكسر ذات ليلة، وانتقل ضجيج غير محسوب إلى "فسحتك الخاصة" التي ألِفتَ فيها إلى حد كبير، صوت رنين المفاتيح التي يحملها السجان على خصره، بينما كان يروح ويجيء في الممر، كما ألِفتَ شخير أسير غارق في النوم، وآخر يئن من البرد أو الوجع، وسط صوت مسموع مزعج لخرير الماء وهو يجري في الأنابيب الممددة في السجن.

جيء بكميات كبيرة من العنب التالف إلى السجن بعد مصادرة كمية كبيرة منه على حاجز "إيريز". وزّعت مصلحة السجون العنب على السجون، وكان لمعتقل عسقلان حصة الأسد، إذ نالت كل غرفة "كرتونة". قمنا بمحاولة تنقية العنب الصالح للأكل، لكننا لم نعثر على حبة واحدة صالحة. فتقرر عصر العنب ووضعه في قناني من البلاستيك، ومع الوقت صار العنب خلاً.

أسيران يتجادلان بصوت خافت بشأن ضرورة الانتباه إلى قناني "العنب" الباقية الموضبة سراً في "عليّة" فوق الحمام خشية من فضح السر. أحد الأسرى في غفلة منك، قرر الإبقاء على بضع قناني لتحويل "الخل إلى نبيذ"، يومها تآمرنا كلنا عليك. أخفينا عنك السر الذي كنت تدركه، لكنك أظهرت لنا عدم اكتراثك . كنا نعرف أنك تعرف، لكن قدرتك العالية على ضبط نفسك وملامحك، جعلتنا نظن يومها أنك لم تكن تعلم.

تبادل أسيران مهمة "تنفيس القناني"، وكانت العملية تجري في وقت وجودك في الباحة أو في اجتماع مع لجنة الأسرى أو إدارة المعتقل. لكن ما لم يكن بالحسبان قد جرى، ففي ساعات الليل، وبينما كان الأسرى نياماً، دوى صوت قوي داخل الغرفة، استيقظنا بسببه برعب. دوّت صفارات الإنذار، وخلال دقائق انتشرت الشرطة في الأقسام وبين الزنازين، لتبحث عن سر الصوت. بقيت على "برشك" جالساً، تمسك بكتابك، تنظر إلينا، وخلف نظرتك ابتسامة العارف. قناني العنب الموضبة انفجرت، نسي الأسرى تنفيسها.

دخلت قوة كبيرة من حراس السجن إلى غرفتنا، وآثار العنب واضحة على جدرانها، قاموا بإخراجنا من الزنزانة، وأخضعنا لتفتيش دقيق. انتشر خبر النبيذ بين أسرى عسقلان، وبتنا حكاية السجن لأيام على لسانهم للضحك والتندر بقصتنا، "الرفاق" يصنعون النبيذ في المعتقل.

وليد العاشق

في بداية مشوارك العاطفي مع سناء، لم نشاهدك تكتب إليها رسالة عاطفية واحدة، لم تجلس وحيداً لتقرأ منها رسالة. حين لمع اسمها على لسانك في السجن، عرفناها بأنها الناشطة على صعيد الأسرى وعائلاتهم، والمتابعة لهمومهم في الخارج، تشارك في الاعتصامات والوقفات التضامنية مع أسرى "الداخل" من باقة الغربية وعارة ويركا وحيفا ويافا واللد والرملة. تصطحب الأهل، وتحمل صورتك وصور زملائك من مناطق الـ 48، وتنتقل بهم إلى القدس للمشاركة في اعتصام كبير يقام هناك.

وليد، منذ اللحظة الأولى لدخول سناء إلى حياتك، لمسنا تغيراً خافتاً بك. على الرغم مما تتمتع به شخصيتك من غموض وكتم. كنا نتهامس فيما بيننا بأن سناء "هي نصفك الآخر في القضية". انكشفت فيك شخصية "رومانسية" طالما رميتها جانباً. رميتها تحت عباءة المتابعة النشطة لقضايا الأسرى تمكيناً وتنظيمياً وأمنياً وتثقيفاً لهم.  لكن قل لنا، لماذا كان الحب بالنسبة إليك مهمة سرية؟. أإلى هذا الحد كان يسكنك الحذر من رقيب، من جلاد، من شرطي، من محقق، من قاضٍ؟ الكل بالنسبة إليك كانوا احتلالاً، من رأس "الدولة " إلى عامل النظافة في الطرقات.

كنت تخرج إلى زيارة الأهل للقاء الوالدة فريدة وشقيقك حسني وأخواتك، وتأتي إلينا بأخبارهم جميعاً، تحدثنا عنهم، عن أطفالهم، كما لو أننا من أسرتك أو جيران لك في الحي. وحين خرج شقيقك أسعد من المعتقل بعد سنوات من الاحتجاز معك، وجاء في المرة الأولى لزيارتك، سألته بجو من الفكاهة والفرح "إن كان مشتاقاً للزربيحة (شوربة دسمة في السجن يمقت الأسرى شربها)". بشيء من "العتب الأخوي" تذكّر أسعد حين كنت المسؤول التنظيمي الأعلى في الغرفة، وكيف سمحت لمسؤول آخر أن يقوم بطرده من جلسة تنظيمية، أراد حضورها وكان يرتدي "بروتيلاً".

لائحة الممنوعات

خرقنا "بالنبيذ" لائحة الممنوعات. خرقناها "بتواطؤ" منك. ربما كنت في قرارة نفسك تنتظر النبيذ مثلنا. لم تتخذ ضدنا أي إجراء تنظيمي أو وطني (قرار يتعلق بكل الأسرى) على الرغم من أننا قفزنا فوق حروف ضبطت تفاصيل الحياة اليومية لسنوات وسنوات، وضعها قادة الحركة الأسيرة، وأنت أحدهم.

كنت تحاضر فينا بطريقة جامدة بكراس "الدوائر الهندسية"، ذاك الكراس الأمني الشهير الذي أدخل بعض الأسرى في حالة من "الهوس الأمني" جرّاء مقولة "السقوط الأخلاقي مقدمة للسقوط الأمني". اضطريتنا إلى حفظ الكراس عن ظهر قلب، والتقيد به نصاً وروحاً إلى درجة صرنا نعتقد أن "الضحك بصوت عالٍ" مقدمة للسقوط الأمني. نجونا من عقدة الكراس هذه، لكن الخوف بقي يتملكنا من آخر كنت رؤوفاً في شرحه لنا. كتاب "فلسفة المواجهة" ونظريته "الاعتراف خيانة وليس لها ما يبررها"، نظرية كفيلة بعد المشاركة في عدة جلسات تثقيفية، أن تضعك أمام شعور بالذنب جرّاء قيامك "بتسليم فلسطين للجلاد"، بمجرد أن نقول للمحقق "نعم، هذا هو اسمي". كنت تسخر من ذلك، وتقول إن "المواجهة مع المحتل وجودية، هذه هويتي، وهذا أنا، كائن حي، بكامل وعيي وإرادتي أرفضك".

"حبسة بقلب حبسة" مع محظورات "يتجاوز عددها الشعر في الرأس" هكذا تصفها وأنت تضحك، أقنعتنا على الرغم مما تتعرض له منطقة عسقلان من حر شديد في الصيف، كونها على مقربة من منطقة شبه صحراوية، أقنعتنا بضرورة عدم ارتداء "الشورت" فوق الركبة، لكن يا وليد لماذا كنت تدافع عن محظور آخر يتعلق "بمنع إطالة شعر اللحية"؟ هذا الأمر لم نفهمه، خرجنا من السجن ولم نفهمه، تماماً مثل محظور آخر "غريب - عجيب" يتعلق بمنع الأسرى من الاحتفاظ بـ "الجرابات - الكلسات" تحت المخدة. ربما الإجراء هذا مرتبط بمرحلة سابقة، تعود لأيام كان فيها الأسرى لا يملكون ثياباً كافية تقيمهم شر البرد. ما نُقل عنك مؤخراً ولدي السؤال عن موقفك من كل ذلك، قيل أن تشددك خفّ، وأنك تدعم نظرية "دع الأسير ينمو... دعه يكبر في السجن كما يكبر في الحياة".

الأسير المفكر

ما إن انتهينا من الإضراب المفتوح عن الطعام الذي أعلن في أواخر أيلول/سبتمبر 1992، واستمر لأكثر من أسبوعين، وانضمت إليه تباعاً معظم السجون والمعتقلات، حتى تصدرت لائحة المطالب التي تحقق قسم كبير منها، مطلب شكّل بالنسبة إليك، مطلبك الخاص، وهو السماح للأسرى بالالتحاق بالجامعات العبرية عن طريق المراسلة.

كنت أول من تسجل من الأسرى في الجامعة العبرية المفتوحة في تل أبيب. اتخذت لنفسك مساراً لافتاً، كنت تقول إنك فيما تفعله ترد على "عقيدة وهدف" يقوم عليها مبدأ الاعتقال وزج الأسرى في السجون والمعتقلات وسط ظروف اعتقالية قاهرة تفتك بهم الأمراض، ألا وهي تحويلهم إلى أرقام في مجتمعاتهم، إلى أشخاص يعانون الخواء الفكري والأخلاقي والثقافي، ولا يحملون في داخلهم أي محتوى نضالي.

أثناء قيادتك للجلسة الثقافية اليومية بالغرفة، كنت تحرص على مشاركة الجميع في الطرح والنقاش والتفاعل، كنت تصرّ على المداورة في إدارة الجلسة، لتمكين الأسير من تعلم فن القيادة والإحاطة، أو لتضعه أمام مسؤولية الالتزام، وخصوصاً حينما تكتشف محاولة التهرب من النقاش عبر القول إن "الذي كنا نريد أن نقوله قاله رفيقنا".

في دراستك الأكاديمية بالجامعة، كنت تحاول أن تفك الأحجية الفكرية، لما يحاول أن يسوّقه العدو من ثقافة. في البداية تملكنا القلق من أن تؤثر الدراسة وفق المنهاج "الإسرائيلي" على الوعي، على طريقة صناعة الرأي. خفنا عليك من المصطلحات ومن المفردات ومن البرامج، من هذا السياق المنظم للمعرفة. لكنك، وأنت الذي يتقن اللغة العبرية أكثر من السجانين والمستوطنين الجدد الذين جلبوهم إلينا من إثيوبيا وروسيا، جعلت من دراستك الأكاديمية ساحة إضافية للتحدي.

زاد ذلك من رصيدك المعرفي، تكتب نصاً عبرياً لأسير يطلب فيه زيارة خاصة، تشرح قراراً للمحكمة المركزية، وتفند الرد عليه بطريقة المحامي، تشرح قانوناً صدرعن الكنيست، وتفسر لنا برنامج عمل الحكومة "الإسرائيلية". تحاجج إدارة السجن بالمطالب المحقة للأسرى، وتصر على تحقيقها. وإن أتى إلى السجن مدير جديد أو مسؤول أمني أو استخباراتي جديد، فإن أول من يسأل عنه ويهاب اللقاء به هو أنت يا وليد.  

كما بدأت برسالتك أنهي بها، إذ تقول "إن القناة العاشرة العبرية، بثت تقريراً يتحدث عن أنثى الكنغر في حديقة حيوانات في مدينة قلقيلية، وقد أجرى المسؤولون الفلسطينيون والإسرائيليون تنسيقاً أمنيا بهدف إجراء اللقاء بين أنثى الكنغر (في قلقيلية) وذكر الكنغر في حديقة حيوانات في رمات غان (قرب تل أبيب)...

أريد أن أبشرك يا حضرة القاضي.. إن أنثى الكنغر قد ولدت صغارها...

أما حان الوقت أن تعاملوا البشر كما تعاملون الكنغر..

وليد دقة... قل للموت لا...

عن المؤلف: 

نبيه عواضة "نيرودا": صحفي لبناني وأسير محرر.

انظر