كلمات لم تُرسل إلى شيرين أبو عاقلة
التاريخ: 
10/06/2022
المؤلف: 

كنتُ صغيراً حين ظهرتِ أول مرة على شاشة "الجزيرة" مع زميلك وليد العمري، لست متأكداً إن كنتُ قد شاهدتكما حينها، فكما أخبرتُكِ، كنتُ صغيراً، لكني كنتُ أعرف أنني في مخيم اليرموك أعيش كلاجئ فلسطيني، وأعرف أن عائلتي هُجّرت من قرية بلد الشيخ في حيفا. أذكرُ أن جدتي كثيراً ما أسكتتنا في البيت حين كانت تشاهدك على الشاشة، فقد كانت تحبك من بين صحافيين كثر كانوا يظهرون على الشاشات، وترى أن وجهك يشبه وجهها. جدتي من مواليد بلد الشيخ في حيفا، وأنت من مواليد القدس.

 

شيرين أبو عاقلة في أول ظهور لها على قناة الجزيرة عام 1997 رفقة الصحافي وليد العمري/ من موقع السفير العربي

 

أذكر في تلك الأيام، في تسعينيات القرن الماضي، صحافياً فلسطينياً كان يطل علينا عبر الشاشة، وكنتُ أسمع منه كلمات كثيرة عن الأحداث في فلسطين، وعلى الرغم من حبي له، أو الأصح حبي للتلفاز، إذ كنت أشاهد فلسطين وبعض المدن والقرى والمعالم، فإنني كنت أبغض حالة أني أسكن في المخيم، ولستُ قريباً كفاية من كل شيء ينقله هذا الصحافي، ولاحقاً، صرتم كثيرين، وبتنا نشاهدكم جميعاً، ونتعلق بكم نحن اللاجئين في المخيمات خارج فلسطين.

شيرين العزيزة،

قبل نحو عشر سنوات، التقيتك سريعاً بين عشرات القادمين من الخارج إلى رام الله، وفي تلك الزيارة السريعة إلى بلدنا، كان من الصعب عليّ أن أميز الكثير من الأشياء، فمثلاً، لم أميز بين شيرين الصحافية الشهيرة وبين شيرين الفلسطينية، وقلتُ إنها صحافية قبل كل شيء. كنتُ في حينها واحداً من المنظرين للصحافة المهنية التي تتوخى الدقة في نقل المعلومات على حساب أي شيء. لم أدرك حينها أن الصحافيين أرواح تحمل قضايا، وقد تكون هذه القضايا مشرفة، كما قد تكون سيئة وبشعة. وحينها أدركتُ أنك وبعض أقرانك تقاومون عبر الكاميرا والكلمة، فعرفتُ بذلك أنه لا يمكن التفريق بين شيرين الصحافية وشيرين الفلسطينية، فالأولى تخدم الثانية وبالعكس.

لاحقاً تطورت الأمور، عرفتُ أكثر، وقرأتُ أكثر، وسمعتُ وشاهدتُ أكثر، وعرفتُ أنك والصحافيين الآخرين، يمكن أن يقف أحدكم في جوار الآخر ويرى الحدث ذاته، لكنه يقول عنه ما يناسبه ويناسب سياسات الجهة التي يعمل معها. أدرك الآن أيتها العزيزة، أيتها الزميلة، أنك مع زملاء غيرك، كنتم تتكلمون بروحكم، وكنتم تناضلون من أجل فلسطين، فحفظنا اسمك كما نحفظ اسم غسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي. 

هؤلاء الرموز الفلسطينيين، هم بعض رموزنا فقط؛ أفكر كثيراً في "الرمز" وعلاقته بفلسطين، فأنتبه دوماً إلى أننا شعب وقضية بارعة في إنتاج الرموز، لا لأن قضيتنا حقيقية وقضية حق فحسب، بل لأننا، وعلى الرغم من غياب المؤسسة الفلسطينية، شعب نؤمن ونعرف دورنا بحسب مواقعنا المختلفة، وبالتالي هناك الشاعر والفنان والموسيقي والكاتب والصحافي أيضاً.

هل تعلمين يا شيرين، أن الكل يذكرك كأنك واحدة من العائلة؟ الكل يستشهد باسمك. اسمعي، في اليوم الثالث لاستشهادك، دخلتُ إلى محل بقالة في إحدى العواصم العربية، وكان في المحل ثلاث سيدات كنّ يتحدثن عنك، وكانت واحدة منهن تقول للأخريات: كانت شيرين واحدة منا، كنا نعرفها؛ فردت عليها أُخرى قائلة: كنتُ أنتبه إن كانت متعبة. هؤلاء النسوة لسن فلسطينيات، لكنهن ينتبهن لوجهك إن كان التعب قد حل فيه بعد يوم من التغطية والتنقل بين المدن والقرى والمخيمات في فلسطين.

في تلك اللحظة، ومن ذاك الحديث الذي قطعتُه بطلب علبة سجائر، انتبهتُ إلى أن اليأس لن يكون فكرة تتناسب مع القضية الفلسطينية، فالإجماع الذي تحظى به من الشعب العربي وأحرار العالم يطغى على التفاصيل اليومية والقضايا المحلية لهؤلاء، لأنهم، ولا سيما الشعوب العربية، تأكدوا أن من استوطن الأرض هو أصل مآسيهم وكوارثهم المتراكمة منذ عقود.

فأنت يا شيرين، ولأنك كنت فلسطينية، أي كنت جميلة وحقيقية ومبدعة، كنت فلسطين الموجودة في بيوت الناس وقلوبهم من مشرق العالم العربي إلى مغربه. وهنا أقول لك: على قدر مهمتك الصعبة في نقل صورة الأوضاع في الأراضي المحتلة كافة، كانت مهمتك سهلة، فالكل يعرف اليوم، من هو الجاني ومن هو الضحية، بفضل التضحيات والأدب والفنون والبحث والصحافة. وعلى الرغم من الجدل الذي يدور هذه الأيام في بعض الأوساط عن التطبيع، فإنك شكلت إجماعاً بين الشعوب العربية، وأكدت أن الناس، حين تلتف حول قضية جامعة، تلتف حول فلسطين.

فالنساء اللواتي اشتريتُ منهن علبة سجائر، يعرفنك جيداً، ويعرفن عنك تفاصيل عديدة لم أكن لأنتبه لها يوما، لأني كنتُ أبحث عن معلومة في تقاريرك وإفاداتك الصحافية، قبل أي شيء. لقد دخلتِ البيوت من أضيق أبوابها، من شاشة التلفاز، فوسّعت قلوب أصحابها على فلسطين، قضيتك وقضيتي، فصار أصحاب البيوت تلك، أصحاب القضية مثلي ومثلك ومثل غيرنا، ممن نكنّى بفلسطينيين تبعاً لجنسياتنا. هؤلاء الذين سمعوا اسمك في نهاية التقرير، مع اسم فلسطين، حفظوا شيئاً أساسياً، أن فلسطين التي استشهد بعض أولادهم من أجلها، باقية، وفيها أولاد مثل أولادهم، يدافعون عنها، ويستشهدون من أجلها.

قبل خروجي من محل البقالة أخبرتهن بأني فلسطيني، وأخبرتُ إحداهن بأني التقيتك يوماً، فقد كان جميلاً أن أستعرض معرفة سريعة بك. في الحقيقة، كنت أقول لهن إني أعرف الشهيدة، أي أعرفك، فأنت الآن في كل شيء من الذاكرة، نذكرك، مثلما نذكر فلسطين، ونشتمّ رائحة الأرض.

هذه الرسالة أيتها العزيزة، خَلَت حتى الآن من كلمة الاحتلال، ومن كلمة إسرائيل، وخَلَت من رصاصه الكثير الذي أطلقه منذ احتل أرضنا، وسمّاها العالم باسمها. خَلَت منهم جميعاً، لأنها تود لو تبقي موتك سليماً من الكذب، وسليماً من مأساتنا نحن الذين نقلتِ صورتنا كل يوم، وسليماً من عجزنا.

سنظل نناديك شيرين، فأنت بيننا أيتها الفلسطينية الكبيرة، سليمة من كل شيء، حتى من عين القناص الذي يحضر في رأسي الآن، وأفكر في رأسه، لأجرب أن أعرف، كيف يفكر وهو يرى صورتك كل يوم في كل مكان، نعم في كل مكان، وهذا الكلام ليس مجازا، فأنت في كل المدن والقرى، وأنت على صفحات التواصل الاجتماعي بكامل الحضور.

فالآن يا شيرين وأنت بيننا، مثلما كنت بيننا، نجرب أن نستمر في الحلم، وأن نرسم الواقع كما نريد، حياة، نؤمن بها وبجدواها، ونؤمن بالأمل الذي آلمنا طول انتظاره، لكنه لم يكن في يوم من الأيام "غودو" فالأمل أيتها الفلسطينية جداً، فلسطين التي نحب، وفلسطين التي نقلتها إلى بيوت اللاجئين في المخيمات الكثيرة في لبنان وسورية والأردن وغيرها من بلدان الشتات الكثيرة، فلسطين التي منحتك لقبك الجديد، وفلسطين التي تمنحنا على الدوام، البقاء أحياء بلا موت، وإن متنا كلنا.

كما أخبرتك في البداية، كنتُ صغيراً حين كنت أشاهدك، وكبرتُ معك ومع زملاء غيرك، تابعتُ منك أخبار جنين ومخيمها، والمقاطعة وحصار الشهيد ياسر عرفات، وحصار كنيسة المهد، عرفتُ ما عرفت، ليس بفضل التقنيات الفضائية، بل بفضلك وفضل مَن هم مثلك من الفلسطينيين الذين آمنوا بأن فلسطين هي المهنية.

أخيراً يا عزيزتي شيرين، أوصيك بالسلام على غسان ومحمود وتوفيق وإميل وسميح وغفران ورزان وعاهد وفيتوريو وراشيل وجوليانو، سلمي عليهم جميعاً، وعلى غيرهم من الجميلين الذين يستمرون في تربيتنا وتعليمنا الحياة.

عن المؤلف: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.