تتصاعد الأحداث في الآونة الأخيرة داخل سجون الاحتلال الصهيوني، وقد وصلت إلى ذروتها باستشهاد عدد من الأسرى الفلسطينيين، ليصل عدد الأسرى الذين استشهدوا منذ سنة 1967 إلى يومنا هذا جرّاء سياسة الإهمال الطبي المتعمد، إلى 73 شهيداً، آخرهم الشهيدة سعدية فرج الله (68) عاماً، التي استشهدت في سجن الدامون.
وسياسة الإهمال الطبي هذه هي سياسة ممنهجة تتّبعها إدارة السجون، بهدف قتل الأسير الفلسطيني، وأقله النيل من صحته وإضعاف قوته الجسدية والنفسية، ليفرَج عنه وهو معطوب صحياً، فيشكل عبئاً مادياً ونفسياً على عائلته وشعبه، فضلاً عن عدم قدرته على استئناف مهماته الوطنية والكفاحية من جديد في مجابهة الاحتلال الصهيوني. ويشرف المستوى السياسي الصهيوني الرسمي على ما يتعرض له الأسرى من هجمة ممنهجة شرسة، من خلال مجموعة من الممارسات والإجراءات العدوانية والقمعية التي تستهدف حياة الأسرى وخلق ظروف صحية ونفسية تهدف إلى قتل الأسير بشكل تدريجي تراكمي بطيء، حتى يأخذ مرضه مع حريته.
فقد ازداد عدد الأسرى المرضى، وبصورة خاصة عدد المصابين بمرض السرطان، وكما هو معلوم، فإن إدارة السجون أعلنت وجود 25 إصابة بمرض السرطان في صفوف الأسرى. وأعتقد أن هذا الإعلان غير دقيق، فالعدد ربما يكون أكبر من ذلك، في ظل حرمان الأسرى من حقهم في كشف صحي دوري. كما أصيب العشرات من الأسرى بأمراض خطيرة وقاتلة، مثل أمراض القلب والفشل الكلوي وأمراض الكبد والأوجاع المزمنة، فضلاً عن الأمراض الناتجة من التعذيب الجسدي والنفسي. فبحسب مركز الدفاع عن الحريات والحقوق المدنية "حريات"، وهيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وحتى أيلول/سبتمبر 2022، بلغ عدد الأسرى المرضى 625 أسيراً، منهم 200 من الحالات المرضية الصعبة. لذا، عند الحديث عن الوضع الصحي للأسرى والأسيرات، يتبين أنهم في خطر حقيقي يهدد حياتهم، فالأسير الفلسطيني المريض تتضاعف معاناته بثنائية السجن والمرض.
وحتى اللحظة، لم يُبذَل جهد جدّي لتحرير الأسرى، ولا يُعمل جدياً على تقديم العلاج اللازم لأمراضهم. وعند التوقف قليلاً وعن قرب للتعرف على معاناة الأسيرات والأسرى المرضى، نجدهم يواجهون السجن والسجّان والمرض القاتل ليلاً ونهاراً، لوحدهم. تعالوا واقتربوا قليلاً من نوافذ غرف وزنازين السجن، واسمعوا آلامهم وتأملاتهم ومعاناتهم وأحلامهم بالحرية الممتدة عبر الأفق. تعالوا وانظروا إلى عين كل واحد منهم، فمنهم مَن تظن أنه يتأمل، لكنه في الحقيقة يتألم. اقتربوا وانظروا إلى رقصات أجسادهم على أمتار من أبراشهم (أسرّتهم) الحديدية. لكنهم يتراقصون من شدة الألم ووجع الانتظار، إنهم ينامون على قرقعة المفاتيح والأقفال، ولكل واحد منهم مقطوعته في الألم والحرمان وقسوة الانتظار، وفقدان الثقة بقيادتهم وفصائلهم. بينما البشر خارج السجون، منهم مَن ينام على صوت أم كلثوم، أو سيمفونية الفرح لبيتهوفن، أو مقطوعة موزارت الأشهر جوبتير والناي السحري، ومقطوعة تشايكوفسكي بحيرة البجع، ومقطوعة فيفالدي الأجمل "الفصول الأربعة". بينما الأسرى المرضى يتقطّعون ألماً ووجعاً وقيداً، يعزف السجن والمرض أقسى ألوان العذاب على أرواحهم وأجسادهم، ويصرّ الأسرى المرضى، على الرغم من كل ذلك، على عزف مقطوعة الأمل بالحرية.
ماذا يريد الأسرى؟
يعتقد بعض أبناء شعبنا أن واجبهم تجاه الأسرى محصور في الدعاء لهم، أو في الحديث عن قضية الأسرى، وفي أفضل الأحوال، المشاركة في الاعتصامات والتظاهرات لمساندة أسير مريض أو مضرب عن الطعام، أو إسناداً لقضية الأسرى بشكل عام. لكن الواجب الأهم والأسمى للشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية وبصورة خاصة تجاه الأسرى، هو العمل على تحريرهم. وإلى حين تحرُّرهم، يريدون منكم أن تسمعوا وتعملوا على تحقيق مطالبهم وحاجاتهم العادلة والمحقة، والتي ينص عليها القانون الدولي الإنساني، وبصورة خاصة اتفاقية جنيف الرابعة.
تتنوع وتتعدد حاجات ومتطلبات الأسرى، بهدف تحسين ظروف اعتقالهم، من دون أن تزيح أعينهم عن هدف الحرية، حريتهم من السجن، وحرية فلسطين التي ضحوا بحريتهم الشخصية من أجلها ولها. لكن تبقى مسألة الأسرى المرضى التي يجب العمل على توفير الحلول العاجلة لها، من خلال:
- نقل مسؤولية الملف الطبي للأسرى إلى مرجعيات طبية مهنية، وليس عبر مكتب تقديم خدمات.
- استرداد جثامين الأسرى الشهداء الذين ارتقوا داخل السجون والمعتقلات.
- السماح بإدخال لجان طبية متخصصة في كافة المجالات وتسهيل إجراءات إدخال أطباء متخصصين إلى السجون، وبصورة خاصة إدخال طبيبة نسائية فلسطينية بشكل دوري لفحص الأسيرات.
- العمل الفوري على تسهيل وتذليل العقبات التي تضعها إدارة السجون أمام إجراء العمليات الجراحية للأسرى وعدم ربطها بالدور وقائمة الانتظار، على أن يتم نقل الأسرى في وسيلة نقل ملائمة صحياً وطبياً، ومباشرة من السجن إلى المستشفى، وبالعكس.
- تطوير العيادات الطبية في السجون لترتقي إلى الحد الأدنى، وخاصة لجهة استقبال الحالات الطارئة وتوفير أطباء مناوبين في كل سجن، وعلى مدار الساعة، بما يشمل توفير كافة المستلزمات الطبية والأدوية في السلة الدوائية لإدارة السجون، وتوفير نظام غذائي صحي ملائم لكل حالة مرضية.
- السماح بزراعة الأعضاء للأسرى الذين ينتظرون منذ أعوام، مثل زراعة الكلى والقرنية والأطراف الصناعية، وزراعة الأسنان، وتسهيل التحويلات الخارجية لإجراء الصور، مثل (CT scan, MRI) وغيرها من الصور الشعاعية، وخصوصاً للأسرى الذين يعانون جرّاء أوجاع مزمنة في الرأس والظهر والصدر.
- إيقاف أجهزة التشويش المؤذية بحجة التشويش على الأجهزة الخليوية المهربة، ومن الجدير بالذكر أن الأسرى يقومون بتهريب الأجهزة الخليوية بسبب حرمانهم من حقهم في الاتصال الهاتفي بعائلاتهم.
- تطبيق القانون على الأسرى الفلسطينيين، والذي ينص على إجراءات إطلاق السراح المبكر والاكتفاء بثلثيْ مدة الحكم للأسرى المرضى، وإطلاق سراح الحالات المرضية الخطِرة فوراً.
- إجراء الفحوصات الطبية الشاملة بشكل دوري للأسرى، بصرف النظر عن أعمارهم وسنوات أسرهم.
- تحسين الشروط الحياتية والطبية لمستشفى سجن الرملة، وإعادة فتح القسم القديم لأنه أفضل نسبياً من القسم الحالي.
- ايقاف الشروط والإجراءات الأمنية القاسية المتعلقة بنقل الأسرى المرضى إلى المشافي الخارجية، من حيث تقييد الأيدي والأرجل بالكلبشات، ووقف نقلهم ببوسطة نقل الأسرى، وإنهاء الانتظار في المعابر.
- تقديم شكاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، بهدف محاكمة الاحتلال وإدارة السجون عن إلحاق الأذى الجسدي بالأسرى وعدم تقديم العلاج اللازم لهم.
وفي نهاية هذا المقال، أقول إن للأسرى رؤيتهم في الدفاع عن أنفسهم، لكن تبقى قضية الأسرى قضية حرية، ذات أبعاد وطنية وسياسية، وقبل ذلك إنسانية، ودعوني أستدعي قولاً للشاعر الفلسطيني الراحل تحرير البرغوثي الذي أمضى في الأسر خمسة عشر عاماً، إذ يقول:
ويل لأمتنا
ويل لقيادة ثورتنا
سحقاً لمن عرفوا الأسرى وما سألوا