كثيراً ما أتعرض لمشكلة الأسماء. سألني ويسألني كثيرون من الناس:
- هل أنت عدنان جابر بطل "عملية الدبويا"؟
أجيب مَن يسألني: لا، أنا عدنان جابر آخر.
وحين يسألني أحدهم: هل أنت "عدنان السيخ"؟
أجيبه: نعم، هذا صحيح، أنا "عدنان السيخ "، ولكن سيخ فلسطين، وليس سيخ الهند!
مصدر الصورة: أرشيف ملصق فلسطين، الاتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين، 1985.
هناك ثلاثة أسرى يحملون اسم "عدنان جابر"، كاتب هذه السطور واثنان آخران. الأول، عدنان جابر محمود جابر (الاسم الحركي "عدنان")، من قرية تياسير قرب طوباس في محافظة نابلس، أحد أبطال عملية الدبويا (بيت هداسا) الشهيرة في الخليل التي حدثت في 2 أيار/مايو 1980، وأسفرت عن مقتل 6 صهاينة وجرح 20 آخرين، وكان معه في المجموعة التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي قامت بالعملية، ثلاثة مناضلين هم: ياسر حسين محمد زيادات (الاسم الحركي "عزيز") من بلدة بني نعيم قضاء الخليل، وتيسير محمود طه أبو سنينه (الاسم الحركي "ماهر") من مدينة الخليل، ومحمد عبد الرحمن صالح الشوبكي (الاسم الحركي "مجاهد") من بلدة إذنا قضاء الخليل.
أما الثاني، فهو عدنان مثقال جابر (أبو مثقال)، قريب من العائلة، من مواليد القدس وسكان بيت لحم، وهو مناضل قديم من الرعيل الأول في حركة القوميين العرب وعضو اللجنة المركزية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عشت معه في سجن الخليل سنة 1974 وفي سجن نابلس سنة 1975، وكان الأسرى يميزون بيننا بـ "عدنان الكبير" و "عدنان الصغير".
أمضى أبو مثقال في السجون الإسرائيلية 8 أعوام، وهي مدة الحكم الذي صدر بحقه، بالإضافة إلى 6 أشهر، أما هذه الـ 6 أشهر، فلها قصة طريفة: في الغرفة رقم 1 في سجن نابلس في سنة 1975، اكتشفنا أسيراً عميلاً. تم التحقيق معه خلال عدة جلسات، وحين تيقن أن أمره اكتُشف وحان عقابه، صرخ بأعلى صوته، منادياً السجّان الموجود في الممر خارج الغرف لكي تأتي الإدارة وتنقذه.
فور انطلاق صرخة العميل، أخذ العديد من الأسرى يوجهون الضربات له قبل مجيء الإدارة. في تلك الأثناء، كان أبو مثقال يلعب الزهر مع أسير آخر، فما كان منه إلا أن حمل طاولة الزهر وهوى بها على رأس العميل الذي رأى طاولة الزهر، ورأى وجه أبي مثقال "عدنان الكبير".
أما أنا "عدنان الصغير"، فقد رغبت في أن "أكسب أجراً" كما يقال، وأشارك في ضرب العميل، لكن لم يكن ذلك سهلاً، فالأسرى يحيطون بالعميل مثل دائرة، وثمة أسرى آخرون يتقدمون للمشاركة، تقدمت إلى أقرب نقطة لأمد قدمي اليمنى السليمة من أحد الفراغات وأوجّه إليه ركلة، لكن أحد الأسرى داس بلا قصد على قدمي اليسرى المصابة، فتراجعت من دون أن أحظى بتوجيه ضربة واحدة إلى العميل.
في مقابل الضربة بطاولة الزهر التي وجّهها ابن عمي "عدنان الكبير" إلى العميل، تلقى عقوبة 6 أشهر زيادة على حكمه، ولم يغادر السجن إلا بعد مضي 8 أعوام و6 أشهر.
يوم الأربعاء 17 كانون الأول/ ديسمبر 2014، توفي عدنان جابر، أبو مثقال، عن عمر 72 عاماً في بيت لحم، في ذلك اليوم، كنت مع أسرتي في بلغاريا. أصيب كثيرون من الأهل والأصدقاء في فلسطين والشتات بالصدمة حين انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي خبر "رحيل المناضل عدنان جابر"، معتقدين أنني المتوفي.
"القهر".. والاعتقال
في 5 حزيران/ يونيو 1969، دخلت السجون الإسرائيلية لمدة سبعة أعوام ونصف. عشت وتنقلت في 6 سجون: الرملة، عسقلان، بيت ليد، بئر السبع، الخليل، نابلس، قبل أن يتم إبعادي من سجن بئر السبع إلى الأردن في 29-11-1976.
في اليوم نفسه، وكان عمري 17 عاماً، طعنت 3 جنود إسرائيليين أمام الحرم الإبراهيمي في الخليل، وأُصبتُ في فمي ورقبتي وقدمي برصاص الحاكم العسكري الكولونيل أبراهام عوفر وجنوده.
فور هزيمة حزيران/يونيو 1967، رأيت غطرسة المحتل وتجرعتُ طعم الهزيمة، كانوا فرحين يغنون ويرقصون، وكنا حزانى.. مكسورين.. واجمين. أمور كثيرة شحنتني بالقهر، وجعلتني أفكر في القيام بعمل ما.
أتذكر بعض الأمورالتي قهرتني وأشعلت الغضب في روحي، ودفعتني إلى فعل ما فعلت، فقد رفعوا العلم الإسرائيلي فوق مئذنة الحرم الإبراهيمي، وصفعني جندي في الشارع، بلا سبب، وأشار أحدهم إلى ساعة على يده، وكان متفاخراً. الوغد سرقها في سيناء من يد جندي مصري شهيد. أما الأكثر إيلاماً وقهراً، فقد شاهدت في الشارع، قرب ملعب المدرسة الإبراهيمية، وكنتُ بائع شاي متجول، جندياً ينادي طفلاً صغيراً عمره 5 أعوام تقريباً، فخاف الطفل وهرب. رأيت الجندي الوغد يجلس على ركبة ونصف، كأنه في حقل رماية، يصوِّب على الطفل، أطلق عليه النار من بندقية "ناتو" طويلة، وأصابه، فـ"تفعفل" الطفل، كعصفور، ومات.
الجرح في رقبتي شُفيَ بعد 40 يوماً، لأنه من طلقة مسدس عادية.. أما الجرح في القدم، فلم يبرأ حتى الآن، على الرغم من إجراء 10 عمليات جراحية في عدة دول، وما زلتُ أغيِّر عليه، لأنه من رصاص متفجر (دمدم) من بندقية "ناتو".
منذ أكثر من نصف قرن، ما زال في قدمي 60 شظية، تلسعني مثل الكهرباء، وترسل إليّ بين آونة وأُخرى رسائل تنبيه:
إيه.. أنت يا رجل، انتبه!
شكراً للشظايا.. أنا رجل لا ينسى!
لا أمنُّ على الله والناس بما فعلتُ وما عانيتُ. هناك مَن ناضل أكثر مني، ومَن ضحى أكثر مني، ومن أمضى وراء القضبان أكثر مما أمضيت. حاولتُ أن أقوم بواجبي، وما أفعله هنا هو تسجيل تجربة.
خلال سنوات أسري لدى العدو الصهيوني كانت أمي تطارد ورائي من سجن إلى سجن، وبعد الإبعاد، صارت تطارد ورائي من منفى إلى منفى. كانت تلهمني وتسندني: في الوجع، والسجون، والمنافي. علمتني سعاد كيف يلوذ الإنسان بالغناء بدل البكاء. كان لها دور كبير في أن أكون صابراً وحالماً وشاعراً، تأثرتُ بموهبتها الفطرية في تأليف الأغاني والزجل الشعبي. وبعد أن غفت في تراب الخليل، هناك قرب كروم العنب، كم أتمنى أن تزورني في المنام!
وُلدْتُ مرتين، مرةً حين خرجتُ من رحم أمي سعاد إبراهيم صلاح، التي ولدتني في الخليل، في كروم العنب، في 13 آب اللهاب في سنة 1952. ومرةً، حين خرجتُ من أسر السجون الإسرائيلية، بعد أن تم ترحيلي من سجن بئر السبع إلى جسر الأردن بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1976.
قبل الأسر، كنت أنهيت الصف "الأول ثانوي" في المدرسة الإبراهيمية في الخليل، ووراء القضبان أكملت تعليمي، ونلت شهادة الثانوية مرتين، علمي، وأدبي. هناك، قرأت كثيراً، وصرت كاتباً وصحافياً. وقبل أن أنال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من بلغاريا في سنة 1991، كنت تعلمت الفلسفة في سجن عسقلان في سنة 1970 على أوراق علب السجائر الفارغة، على يد إنسان قصير القامة، عملاق الإرادة، هو ربحي حداد، أبو رامز، من نابلس.
خلف القضبان، كان ربحي قائداً وقدوة، روى لنا "الأم" لمكسيم غوركي مثل حكاية، وكان يحب السيدة أم كلثوم ويتمتع بصوت جميل، غنى لنا أغنيتها "شمس الأصيل".
أمضى ربحي في السجون الإسرائيلية 17 عاماً (1968-1985)، وتحرر في عملية تبادُل الأسرى في حينه (عملية الجليل)، لكنه واصل نشاطه خارج السجن، وتم اعتقاله إدارياً لمدة 20 شهراً، بالإضافة إلى اعتقاله مرتين لفترات أقل.
اعترافاً بدوره الريادي والقيادي في الحركة الوطنية الأسيرة، تم انتخابه عضواً في اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم عضواً في المكتب السياسي للجبهة، واستحق لقب "حكيم الداخل".
استشهد ربحي حداد، أبو رامز، بتاريخ 6 نيسان/أبريل 2002 في البلدة القديمة في نابلس، وهو يحمل السلاح، خلال اجتياح العدو الصهيوني للضفة الغربية. وقام الأصدقاء، أبو زياد النداف وعادل شريم وزوجة الشهيد السيدة مي مرعي، بوضع باقة ورد على ضريح ربحي نيابةً عني.
السجون الإسرائيلية والسجون العربية
ثمة رأي يصدر عن البعض، يقول إن السجون الإسرائيلية أرحم من السجون العربية؟!
فيما يلي مقاربة لهذا الموضوع: السجون العربية، في ظروفها، من قهر وتعذيب الإنسان فيها، أسوأ من السجون الإسرائيلية، لكن الأسوأ لا يجعل السيئ جيداً.
إسرائيل عدو، وأنا كنتُ في سجون عدو. الأسرى الفلسطينيون جعلوا من السجون الإسرائيلية مدرسة للكفاح والعلم والثقافة والإبداع والوعي الوطني والإنساني، وخاضوا في سبيل ذلك الإضرابات وقدموا التضحيات والشهداء.
إسرائيل لم تكن يوماً إنسانية مع الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، وإدارة السجون الإسرائيلية لم تقدم للأسرى تحسينات في ظروفهم ومعيشتهم على طبق من إنسانية، بل انتزعها الأسرى انتزاعاً.
الفرق بين السجون العربية والسجون الإسرائيلية، هو فرق في المظهر ودرجة السوء، لكن المضمون واحد والجوهر واحد: استلاب حرية الإنسان، حرمانه من حاجاته وحقوقه الأساسية، وتعذيبه وإهانة آدميته...
لا يجوز القول إن السجون الإسرائيلية ألطف وأرحم من السجون العربية! هذا قول خاطئ وخطير. المقارنة لها أصولها، منطقياً ولغوياً. ولا مكان لـ "اللطف "و"الرحمة "هنا، وإلا ستكون الصورة كما يلي: السجون العربية لطيفة ورحيمة، لكن السجون الإسرائيلية ألطف وأرحم! هذا هراء ومنافٍ للحقيقة، واستخدام خاطئ وأخرق في اللغة لاسم التفضيل وأفعال التفضيل. السجون الإسرائيلية سيئة وقاسية، لكن السجون العربية أكثر سوءاً وقسوة، وإذا كانت الأخيرة كذلك، فلا يجوز مدح الأولى. لا تجوز المفاضلة بين الاحتلال الإسرائيلي والاستبداد العربي. الاحتلال والاستبداد، كلاهما ضد الإنسان، ضد الحرية، ضد الحياة. السجن مثل الموت: ليس هناك موت جميل، وليس هناك سجن جميل.
بنطالي المثقب بالرصاص
ما زلتُ احتفظ ببنطالي الكاكي المُثقب بالرصاص.
عمر هذا البنطال الآن أكثر من نصف قرن، والولد الذي كان يرتديه حين كان عمره 17 عاماً، صار عمره الآن 70 عاماً، وعلى عكاز! هذا البنطال رفيقي وصديقي، أسير سابق وجريح مثلي، مبعَد معي، تنقّل في المنافي والبيوت معي، أعلّقه بعناية في خزانة ملابسي، وهو أفضل ما أورِّثه لأولادي.
ترحيل.. وترحال!
في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1976، رحّلني الأعداء من سجن بئر السبع إلى الأردن، حاملاً ذاكرتي. وفي 9 أيلول/سبتمبر 1998، وفي معصمي "كلبشات" لامعة مكتوب عليهاMade in USA، رحّلتني "مخابرات الأشقاء" إلى سورية، حاملاً عكازي، وفي 8 حزيران/يونيو 2011، مقهوراً وحزيناً، غادرت دمشق إلى صوفيا، حاملاً فاطمة ودالية وعمر، وفي 21 تموز/يوليو 2015، حملتُ فاطمة ودالية وعمر إلى منفى جديد، فرنسا.
قدَري أن أعيشَ في هذا الزمن، من منفى إلى منفى، وكل حضن منفى. بعد حضن الوطن، خرجت من السجن وقد تعلمت أن الحياة صراع، وكل مشكلة ولها حل. وتعلمت أيضاً أن هناك دائماً ثمة بقعة ضوء في لوحة السواد.
أبعدني الأعداء من بلادي، وأبعدني "الأشقاء" من بلادهم، أما الله فلم يبعدني أبداً. أؤمن بأن الإنسان يمكن أن يخسر أشياء كثيرة، لكن عليه ألا يخسر نفسه، ومَن يبيع نفسه مرة، يمكن أن يبيعها مرة ثانية، وثالثة...
أنا ابنكِ يا فلسطين، أنا العاقل المجنون، من جرّب ضيقَ الدنيا، وسِعَةَ السجون. أعترف بأنني عشت بكرامة!