Palestinian Prisoners’ Day: Freedom Is a Matter of Time
Date: 
April 17 2024
Author: 
blog Series: 

في يوم ما من أيام الأسر، ما إن انتهت نشرة الأخبار المسائية على القناة الثانية العبرية "عروتس شتايم"، حتى أمسك مسؤول الغرفة بجهاز التحكم، وكتم صوت التلفاز، فقد حان موعد الاحتفال. اللجنة الوطنية للمعتقلين في سجن عسقلان اتفقت خلال مداولات النهار، أن يجري إحياء "يوم الأسير الفلسطيني" في غرف السجن في تمام الساعة الثامنة والنصف مساء. إدارة المعتقل أعلنت الاستنفار، فنشرت السجّانين المزودين بالهراوات وبالغاز المسيل للدموع في ممرات الأقسام، واستقدمت قوة إضافية توزعت على أسطح المعتقل وأبراج المراقبة.

جلس الأسرى على "الأبراش" (الأسّرة الحديدية) وتحلقوا حول ما تيسر من بزورات ومشروبات غازية ابتاعوها من "كنتينة السجن". ووقف أحدهم وسط الغرفة معلناً البدء بالمراسم، فأمسك بورقة مكتوبة بخط اليد، ثم طلب من زملائه الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء الحركة الأسيرة وانتفاضة الحجارة، أتبعه بطلب إنشاد النشيد الوطني الفلسطيني "فدائي فدائي". كانت الأصوات تتحدى بعضها بعضاً في الغناء إلى حد الصراخ. الأجساد التي تصلبت بوقفتها لم تخفِ النظرات الضاحكة التي كان المحتفلون يتبادلونها كلما ازداد الصخب القادم من الزنازين المجاورة. وبعد تلاوة البيان الصادر عن اللجنة الوطنية للأسرى، جلس الجميع حول "مأدبة الاحتفال". وخيّم الصمت ثانية على المعتقل، لتخرقه "قرقعات" الجنود وهم ينسحبون من الأقسام تاركين الأسرى غارقين في أحاديثهم.

يوم الأسير الفلسطيني

اجتهدت في معرفة حكاية "يوم الأسير الفلسطيني"، وتحديداً سبب اختيار يوم 17 نيسان/أبريل في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في سنة 1974، ولم أصل إلى إجابة دقيقة، ولا سيما أن معظم الآراء تذهب إلى أن هذا اليوم مرتبط بالأسير محمود بكر حجازي (1936-2021)، وهو أول أسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي وقد اعتقل في 22 شباط /فبراير 1965 بتهمة الانتماء إلى حركة "فتح"، وفي 6 حزيران/يونيو 1965 أعلنت سلطات الاحتلال أن محكمة عسكرية إسرائيلية حكمت بالإعدام على حجازي. في 17 حزيران 1965 أذاعت القيادة العامة لقوات العاصفة بياناً حذرت فيه الاحتلال من تنفيذ حكم الإعدام بالأسير حجازي، وفي 5 أيار/مايو 1966 حكم عليه بالسجن 30 عاماً بعد إسقاط حكم الإعدام، ليفرج عنه في 28 كانون الثاني/يناير 1971 في عملية تبادل "أسير مقابل أسير" (فايزر في مقابل حجازي) بين حركة "فتح" والاحتلال، جرت في منطقة رأس الناقورة برعاية الصليب الأحمر، وكتبت الصحافة الإسرائيلية في ذلك اليوم أن إسرائيل رضخت واعترفت ضمنياً بمنظمة التحرير الفلسطينية. هذه المعلومات بحسب وكالة "وفا"، لكن لدى التدقيق في التواريخ، يتضح أن التاريخ المذكور لا يرتبط بـ 17 نيسان. ولدى سؤال أكثر من أسير، تبيّن أن هناك اجتهادات متعلقة بهذا اليوم، منها ما كتبه وزير الأسرى وشؤون المحررين الأسبق عيسى قراقع في موقع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" بتاريخ 17 نيسان 2020: "17 نيسان ارتبط تاريخياً بانطلاق وتفجر الثورة الفلسطينية في 17 نيسان 1936، والإضراب والعصيان الشامل الذي نفذه الشعب الفلسطيني لمدة 6 أشهر ضد سياسة الانتداب البريطاني الداعمة للعصابات الصهيونية واعتداءاتها على فلسطين، والداعمة للهجرة الصهيونية إلى فلسطين تجسيداً لوعد بلفور المشؤوم."

كذلك اجتهد محرر هذه المادة في "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، فأجرى اتصالات بعدد من الأسرى، منهم قراقع وأحمد أبو السعود، وكانت الإجابات كلها تتراوح بين الرأيين السابقين.

الأسرى يحتفلون

بالتأكيد لا يحتفل الأسرى باليوم الذي وقفوا فيه أمام المحقق حاملين يافطة تحمل رقماً سيحل محل اسمهم. وبالتأكيد لن يكونوا في السجن عندما يحتفلون بيوم حريتهم. وحده الأسير الذي أُفرج أو سيفرج عنه في 17 نيسان من كل عام سيحيي الأسرى يومه، على الرغم من أن الأسرى يحتفلون بتحرير كل أسير بينهم. الأسرى الجدد سيتعين عليهم قراءة سيرة الأسرى من زاوية مراكمة التجربة، بدءاً بسيرة أول أسير في سجون الاحتلال وهو محمود بكر حجازي الذي اعتقل في سنة 1965، ومراحل الاعتقال، وتبدل ظروف الاعتقال، والتغيير الكبير في تركيبة الأسرى على المستوى السياسي والنضالي والعقائدي. لن يتعين عليهم بالطبع البحث عن "فاتح الأسيرين والمحررين" بين المعتقلين وإن كان قد التقاه أحدهم في غرفة التحقيق حيث التعذيب والاستجواب، أو أن يعثروا على مرافق له تنقل وإياه في "بوسطة نقل الأسرى" في أثناء مرحلة التوقيف والانتقال لحضور جلسات المحاكمة. أيضا لن يمر اسمه ضمن قوائم الأسرى في السجون المركزية. لن يُطلب منه "الخروج إلى غرفة الاستعلام"، إمّا لمراجعة طبيب السجن، وإمّا للقاء المحامي، وإمّا لنقله إلى معتقل آخر.

ربما، لم يعاصر محمود مرحلة الامتعاض من تناول "الديسة" (رز وحليب ونشاء) والابتلاع المرغم لـ "زوربيحا السجن" (ماء ساخن مثقل بالزبدة يفتقد إلى مكونات الشوربة الكاملة)، ولم يتعرض لصعقة كهربائية قاتلة، ولم يمت إلى جانبه رفيق له، تعرض لنزيف حاد في المعدة جراء الإضراب المفتوح عن الطعام. ولن يرى الموت البطيء في حالة أسير يصارع مرض السرطان، ولن يلاحظ أساساً كيف يضمر جسده ليصبح نحيلاً جداً ويموت من شدة الوهن. ولن يسمع حكايات من قُتلوا شنقاً في أقبية التحقيق لأنهم رفضوا أن يقولوا كنيتهم مثلاً.

مليون حكاية

خلال الاحتفال، قرر الأسرى أن يمارسوا حريتهم. هو يومهم، فلماذا لا يسمحون لأنفسهم بأن يرموا قشرة البزر في أرض الزنزانة، ولا يتكلفوا عناء وضع القشور أمامهم بطريقة منضبطة. يرتخون في التمدد على البلاط البارد ويشرعون برمي القشور كيفما شاؤوا وفي كل اتجاه. الحفاظ على نظافة الغرفة شعار سقط من لائحة المسموح والممنوع، والتي هي أشبه بالوصية المقدسة، إذ يُمنع على أي أسير تجاوزها.

المسؤول عن "أغراض الكنتينة"، تحول إلى "نادل"، يسكب لكل "نزيل" في الزنزانة كوباً واحداً من المشروبات، ويحرص على توزيع  الكمية بالتساوي. الأسرى بدورهم، تحولوا إلى روّاد حانة، يتسامرون ويغنون ويتحدثون. يطيلون أمد ارتشاف المشروبات الغازية، وخصوصاً أن كميات البزر أكثر.

الإصغاء متعذر، والتركيز كذلك. الكل يتحدث إلى الكل. تختلط الأحاديث مع "تفقاية البزر". أسير صغير من القدس يحكي لنا كيف طلب منه جنود الاحتلال التمدد على الأرض بينما كان شارون يقوم بزيارة تفقدية إلى معسكر سجن النقب أو "أنصار 3". يومها، ركل الوزير الإسرائيلي برجله الأسير سائلاً إياه "عن اسمه". التفت الشبل صوب الرجل السمين وقال له: "الناس بتحكي من تمها مش من رجلها". شاب آخر من جنين أحضر المحقق حبيبته وشرع بتهديده بها كي يعترف على بقية المجموعة التي قامت برمي زجاجة "المولوتوف" على باص يقل مستوطنين بالضفة الغربية. أسير ثالث من مخيم جباليا يحكي ضاحكاً كيف صمد طوال فترة التحقيق ولم يقل كلمة واحدة في أثناء استجوابه، على الرغم من التعذيب الذي تعرض له، لكنه أدلى بكل المعلومات أمام مجموعة من العملاء (العصافير) بعدما خدعوه وأوهموه أنهم من الأسرى الأمنيين. ورابع كان يحكي كيف خاف والده من كلامه خلال الزيارة، عندما أراد أن يعرض أمامه الثقافة الثورية التي يتربى عليها داخل المعتقل. فقال له "يا أبي إن لم تحترق أنت وأحترق أنا فمن ينير لنا الطريق"، ظن الوالد أن منزله سوف يحترق فأصيب بالهلع.

الحرية مسألة وقت

بين الحاضرين من هو محكوم بالسجن مدى الحياة خمس مرات، بينما يجلس إلى جانبه أسير محكوم عليه لسبع سنوات أمضى منهم ست سنوات، وبقي له سنة واحدة. يرسم الأول مشاريعه "لليوم التالي" بحماس كبير لا يقل عن الثاني. يخطط للسير على الرمل بدلاً من الإسفلت الذي أرهقه الدوس عليه بقدميه طوال عشرين عاماً مضت، يتطلع لأن يعرّض جسده للشمس لوقت طويل.

عندما يبدأ الحديث عن الحرية، ينكب الجميع على المشاركة في التفاعل. يتفقون تارة ويختلفون تارة أُخرى. لكنهم كلهم يجمعون على أمر واحد ويرغبون بفعله، هو "السير في الليل تحت السماء من دون أن يكون فوقهم سياج، أو يحيط بهم حائط."

اقتربت الساعة من العاشرة مساء. تنبّه مسؤول الغرفة إلى الأمر. دقائق ويتقدم الشرطي، ويقوم بإطفاء ضوء الغرفة. بسرعة ينظف الأسرى المكان، ويزيلون آثار الاحتفال، تحديداً  "قشور" البزر. وتوضع "قناني" المشروبات الغازية الفارغة على "المجلى". بدأ كل واحد منهم  بالانسحاب نحو سريره. فعلى الرغم من أن التلفاز ظل طوال الوقت "داير" فإن أحداً  لم يعره انتباهه.

ساد ظلام السجن ثانية يبدده ضوء قادم من الممر. يكسر صمته الرهيب صوت صرير الماء وهي تجري في الأنابيب الممددة في جدران السجن. يشير الصوت إلى الوجود، إلى حياة لم تزل هنا.

Read more