When the Back of the Prisoner's Body Becomes a Notebook
Date: 
August 25 2023
Author: 
blog Series: 

بدأت القصة بين الأسير الشيخ والأسير الشاب بهذه العبارة: "لحيتك السوداء جميلة عليك، لكن يجب ألاّ تكون لحية لشخص علماني"، قال الشيخ الأسير لزميله في المعتقل، والذي لم يكن قد مضى على اعتقاله أربع سنوات. تعجّب الشاب من كلام زميله، ولا سيما أن هناك عرفاً داخل سجن عسقلان المركزي يمنع الاستقطاب الحزبي أو التنظيمي. وتابع الشيخ كلامه: "ما رأيك في تجاوز العرف الاعتقالي قليلاً والدخول في نقاش فكري عن أصل الوجود والخلق؟" ثم أردف شارحاً: "خذ وقتك في القراءة، استشر من شئت من رفاقك من قادة الأسرى الشيوعيين، على أن نلتقي بعد أسبوعين في الساحة، فإمّا أن تقنعني وأصبح مثلك علمانياً، وإمّا أن أقنعك وتصير مثلي ملتزماً دينياً". قَبِل الأسير التحدي، وتوجه على الفور نحو مكتبة السجن.

كتب السجن.. بلا غبار

عند الزاوية، في باحة السجن، باب صغير لا يُغلق، إنه باب المكتبة. دخل الشاب منه فوجد نفسه بين مئات الكتب الموضوعة على رفوف حديدية، والمعروضة بطريقة مرتبة جداً؛ الكتب السياسية مرمّزة بحرف "السين" وإلى جانب كل حرف رقم هو رقم الكتاب في المكتبة، والكتب التاريخية تحمل الرمز "تاء"، والكتب الفكرية يرمز إليها بحرف "الفاء" وهكذا...

درجت عادة الشاب أن يذهب إلى أمين المكتبة بمجرد دخوله إليها، والذي كان ينتمي إلى حركة "فتح"، فيسأله عن رواية معينة أشار إليه عنها أحد الأسرى، أو يطلب نصيحته برواية مشوقة على أن تكون إمّا مستمدة من التجربة السوفياتية، وإمّا تنقل قصصاً من أميركا اللاتينية، إذ على الرغم من إشهار الأسير الانتماء الحزبي في المعتقل، فإن ما يحمله من كتب يدل على هويته الفكرية.

تسمّر الأسير "رهين التحدي" لبعض الوقت أمام رفوف الفلسفة والفكر، وشرع يقلّب في الكتب؛ يسحب واحداً ثم يعيد آخرَ إلى أن انتبه إليه زميله "الفتحاوي"، فاقترب الأخير منه عارضاً عليه إخراجه من حيرته. في البداية ظن أن الرفيق ضل طريقه إلى اهتماماته "السوفياتية"، لكنه عاد عن شكوكه بعد أن عرف بأمر "المبارزة" بين الشيخ والرفيق. لذا أعطاه مجموعة من الكتب التي تفيده، قائلاً له: "احرص على قراءة الفصول، استنتج منها ما يناسب طرحك، ولا تنسى تسجيل ملاحظاتك على ورقة جانبية". ارتفعت معنويات الرفيق بسبب الاهتمام الذي أبداه "سجين الكتب" الذي ختم كلامه، بينما كان يكتب في سجل المكتبة أسماء الكتب المستعارة واسم الأسير والتاريخ، بالقول: "احرص يا رفيق على سلامة الكتب، لقد دفع الرعيل الأول من الأسرى الدم من أجل أن يكون لدينا كتاب. لا تدوّن على الكتاب أي شيء، وأعده كما أخذته، نظيفاً كما تراه، لا غبار عليه".

أوراق ناقصة...

تأبط الكتب، وصعد إلى زنزانته قبل انتهاء "وقت الفورة" (ساحة الشمس)، ووضعها على "البرش" (سرير النوم الحديدي)، وشرع في تفحص فصول كل كتاب على حدة. حين عاد رفاقه من الساحة أخبرهم الحكاية، فأدلى كل واحد منهم بدلوه طارحاً فكرة أو نصيحة تدعم توجهات أصغرهم سناً، وكأنه كان ينقص هؤلاء الأسرى مادة يتحدثون بها، وواقع حالهم يدفعهم إلى استحضار كل كبيرة وصغيرة على الكوكب، ذلك بأنهم لا يملكون أصلاً إلاّ "العيش في الفكرة".

فعلاً، انشغل نزلاء الزنزانة بموضوع جديد، وربما شعر كل واحد منهم بأنه معني بإثبات فكرة زميله؛ فحثّوه على التركيز في القراءة على كذا وكذا، وأعطاه البعض عناوين معينة، والبعض الآخر نصاً جاهزاً من "كرّاس" (دفتر يصدره الأسرى على شكل مجلة ثقافية مكتوبة بخط اليد، وتشرف عليه لجنة ثقافية من الأسرى المثقفين المنتمين إلى فصائل فلسطينية)، حتى إن أحد الرفاق سلمه تلخيصاً لحكاية النشوء، وتعريفاً عاماً بالأساطير التي سبقت الديانات السماوية، وطلب منه أن يحفظ هذا عن ظهر قلب، قائلاً: "هذا سوف يفيدك في تعزيز أفكارك العلمانية".

اندفع الشاب أكثر وراح يقلّب في صفحات أحد الكتب بحثاً عن "تعزيز فكرته"، لكنه صُدم عندما اكتشف أن أوراقاً مهمة تتناول "إرهاصات العقل الأولى وشكل العلاقة بين الأساطير والديانات" غير موجودة، فهي ممزقة ومنزوعة من الكتاب. رمى "بزعل" الكتاب جانباً من دون أن ينبس ببنت شفة، والتفت إلى التفاعل الذي يجري في الغرفة، لكن أكثر ما لفته كان الحديث الدائر بين أسيرين اثنين.

ظهر الأسير.. دفتر

كان "القطاوي"، أحد أبرز الأسرى اليساريين في السجن، وهو من الرعيل الأول الذي عايش فترة التأسيس في السجون؛ لم يلتق الأسير وليد دقة (أحد قادة الأسرى الذي يعتبر من مفكري الحركة الأسيرة، والذي ما زال رهن الاعتقال للعام الـ 37 على التوالي، ويعاني من مرض خبيث) في المرحلة التي سبقت الإفراج عنه في عملية تبادل الأسرى التي جرت سنة 1985، لكنه التقاه بعد اعتقاله ثانية سنة 1989 في إثر مشاركته في انتفاضة الحجارة خريف سنة 1987. كان "القطاوي" يحكي كيف تمكن الأسرى من انتزاع حقهم في القراءة، والحصول على الكتب، ممسكاً بأحدها التي وضعها الأسير الصغير على سريره. وبينما كان يقلّب صفحاته، تذكر أن الكتاب نفسه الذي يحمله سبق أن حمله وقرأه في الاعتقال الأول. فكّر الشاب في كلام زميله القيادي وراقب كيف كانت يد الأخير تقلب الكتاب بكل عناية وتركيز، كما لو أنه يحمل طفلاً حديث الولادة بين يديه. أخذه شروده للتمعن في اللحظة، "كتاب السجن في السجن، يخرج الأسير ليعود إليه، ويمكن له أن يقرأه مرتين في مرحلتين من عمره الاعتقالي وربما أكثر". فالطريقة التي كان يمسك بها "القطاوي" الكتاب أثارت فضول البقية الذين تحلقوا حوله، وقبل أن يتوجهوا إليه بالسؤال، التفت نحو وليد دقة موجهاً إليه الكلام: "أتعلم يا وليد، في إحدى المرات التي نُقلت فيها من سجن عسقلان إلى سجن نفحة (حدث هذا سنة 1981، بينما كان سجن نفحة يعاني جرّاء الحصار بسبب الإضراب الشهير الذي أدى إلى استشهاد ثلاثة أسرى خلال إضرابهم عن الطعام) تقدم مني أحد الأسرى، بعد أن تبلغت من إدارة السجن بقرار النقل، وكان يحمل في يده كتاب لينين "ما العمل"، وشرع في تدوين بعض عبارات وأفكار الكتاب على ظهري كي أقوم بإيصالها إلى سجن نفحة المحاصر".

الجلسات الثقافية.. وجبة مسائية

انتهى النقاش والتفاعل الذي تشعب وخرج عن جوهر الفكرة بعد أن طلب "مسؤول الغرفة" من الرفاق التنبه إلى الوقت وضرورة إنهاء النقاشات، إذ كان قد حان موعد الجلسة الثقافية اليومية. بسرعة استجاب الجميع وجلسوا في حلقة دائرية بعد أن اتخذوا من الأسرّة مقاعدَ لهم، وأحضروا دفاترهم الخاصة التي سبق لهم أن دونوا فيها ملاحظاتهم على المادة موضوع النقاش.

الأسير الشاب كان مشغولاً في تحضير الكتب، فنسي واجبه في القراءة الإلزامية استعداداً "لوجبة المساء"، كما يسميها بعض الأسرى. "طبقها الثقافي" كان يتمحور حول "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية"، لكن "إهماله" قراءة المادة لم يحل دون إظهاره اندفاعة معينة بخلاف انكفاءاته السابقة عن المناقشات في الحالة التي يكون فيها الموضوع فلسفياً. هذه المرة تابع كل ما جرى من نقاش باهتمام، علّه يستفيد مما يطرح أمامه من آراء تعزز موقفه النقاشي لاحقاً مع الشيخ، فكان شديد التركيز على كل كلمة تقال، حتى إن مدير الجلسة الذي أدار النقاش فوجىء بتصرف الرفيق الصغير، فلم يسمعه يكرر تلك اللازمة التي دأب عليها للتنصل من إبداء الرأي بالقول: "ما كنت أريد أن أقوله قد قاله الرفيق الذي تحدث قبلي".

تبدلت يوميات الأسير، وصار تركيزه منصباً على أمر "المنازلة"، حتى إنه نسي أمر لعب "كرة السلة" مدة نصف ساعة، وهي المدة المسموح بها من الوقت المخصص لساحة الشمس، إذ صار يفضل النقاش، وخصوصاً أن أحد الأسرى المخضرمين قال له: "النقاش يجعلك مستعداً، في حين أن الكتابة تجعل منك شخصاً دقيقاً".

مرت الأيام واقترب موعد النقاش؛ لم يكن الشيخ، بالتأكيد، يشعر بالارتباك، على عكس الأسير الشاب الذي التقاه أكثر من مرة في الساحة، وكان يسأله دائماً عن تحضيراته واستعداداته، وكان الشيخ يجيب بكثير من الثقة "إنه يستعد".

لو أنك حر...

بالمفاتيح، طرق سجان "المردوان" بقوة باب الزنزانة، وكان الصوت الذي أحدثه كفيلاً بدفع الأسرى إلى القفز من الأسرّة وانتظار التعداد الصباحي. وأسوة بغيره من النزلاء، قفز الأسير من "برشه"، ووقف للحظات في مكانه نصف نائم قبل أن ينبهه رفيقه إلى أن التعداد قد تم، وأن عليه العودة إلى النوم.

عوضاً عن ذلك، اتجه نحو المغسلة التي تقع في طرف الغرفة، وقام بغسل وجهه بالماء والصابون، وتناول فرشاة الأسنان ونظف أسنانه، ثم مشّط شعره ولحيته الكثيفة، ووضع "السخان الأنبوبي الكهربائي" في كوب "السيراميك"، وخلال دقائق معدودة كان قد أنهى تجهيز كوب الشاي. جلس على سريره وتناول دفتره الذي أمضى أسبوعين يدون عليه ملاحظاته استعداداً للنقاش – النزال- الفكري.

الكل في السجن، بمن فيهم بعض السجّانين كانوا على علم بالنقاش الذي سيجري بين فكرتين نقيضتين؛ استهل الشيخ كلامه ما إن ألقى التحية على رفيقه في الأسر بالاطمئنان عن أحواله، ثم مازحه قائلاً: "عرفت أنك أمضيت وقتك بين الكتب وفي النقاشات، ثم عرض عليه البدء بالكلام".

اعتدل في مشيته، وأعاد كتفيه إلى الوراء وانطلق في الحديث؛ تلعثم في البداية قليلاً، إذ فاته من أين يبدأ، وقد انتبه الشيخ "لتعثر غريمه"، فقاطعه بالقول: "خذ راحتك بالكلام وتحدث بالطريقة التي تراها مناسبة".

استرد روح التحدي واندفع في إثبات "ماديته"، واستحضر "نظرية الغبار السديمي"، ثم أفاض في الحديث عن "الخلية الأولى أو الأحادية". ومع صمت الشيخ وتمتماته، أحس كما لو أنه تمكن من منافسه، فتوسع في "أصل الأنواع"، وعرج على "تشكل المجتمعات وتطورها"، وتلك التقاطعات "بالطقوس" بين الأديان والأساطير.

بدأ العرق يتصبب منه جراء الحر الشديد، فالأسيران كانا يسيران دائرياً حول شجرة النخيل في عسقلان، وحولهما وإلى جانبهما كان الأسرى لا ينفكون يسترقون السمع مبتسمين، وضاحكين لهذه المنازلة "غير المتكافئة" بين مبتدئ ناشئ تعرّف على معتقداته في السجن بعد أن كان طفلاً صغيراً لم يبلغ الـ 15 عاماً عندما حمل السلاح، وكان الدافع لذلك حبه للبندقية وتأثره بمناخ ساد بفعل انطلاقة المقاومة الوطنية في بيروت غداة احتلالها من قبل إسرائيل. في المقابل، كان الشيخ قائداً كبيراً ومؤسساً مهماً للعمل الفلسطيني المقاوم بنسخته الحديثة، وأحد الوجوه القيادية المؤثرة في صناعة القرار الميداني للمقاومة.

عندما أحس الشيخ بتعب زميله، طلب منه الاستراحة قليلاً والتوقف تحت شجرة كبيرة ترخي بظلالها على مجموعة من الأسرى تحلقوا حول جذعها، لكن الشاب رفض خشية ألاّ يأخذ راحته في الحديث، ففضل الاستمرار في السير والحديث على الرغم من الشمس الحارقة. فتابع سرده "العلماني"، وعند كل انتقال في العناوين، كان يشعر بالثقة أكثر بنفسه، على الرغم من أنه كان في بعض الأماكن يردد جملاً جاهزة، وفي أماكن أُخرى كان يعي تماماً ما يقول، وأحياناً كانت الذاكرة تخونه فيذكر تواريخ وأحداث مختلفة كان الشيخ يقوم بتصحيحها له.

لكن هذا الاتساع لهذا القدر الكبير من الحرية سرعان ما تكسّر بعد الوقوع في المحظور؛ ففي أثناء سرده وانطلاقته اللغوية من دون حسيب أو رقيب، ذكر عبارة استفزت الشيخ كثيراً، إذ قال، في معرض تناول نشأة "الدعوة الإسلامية"، ما حرفيته: "حينما أقام الرسول ثورته". هنا طلب الشيخ من الأسير التوقف عن السرد، وساد صمت مطبق لدرجة اختفت معه أصوات الأسرى في الساحة، والتي كانت عبارة عن "طنين خلية من النحل". كسر السكون سؤال وجهه الشيخ إلى الرفيق: "أتعلم كم أحبك وأنت الشبل المناضل من أجل فلسطين"، أجاب وقد اعترته الدهشة: "نعم يا شيخ، أعلم"، فرد الشيخ بهدوء قائلاً: "على ما تقوله يا عزيزي وما تحمله من معتقدات، لو أنك خارج السجن لأقمت الحدّ عليك"، قبل أن يتابع ضاحكاً وقد وضع زنده الضخم على كتف الأسير، مضيفاً: "إن لحيتك السوداء جميلة عليك".

See

Read more