قد لا يجد المرء غير المطّلع معنى لاتخاذ الأسرى إجراءات، مثل رفض الخروج إلى الساحة (الفورة) أياماً عديدة. أو أن يخرج كل أسير مرة في اليومين للحصول على طعامه من إدارة السجن، أو أن يمتنعوا من الخروج إلى الساحة لأداء الصلاة الجماعية، أو أن يمتنعوا، في حال قرروا الخروج إلى الساحة، من الدخول إلى الزنازين، ولو لوقت محدود. وقد يتساءل المرء ببراءة، كيف لهؤلاء أن يحرموا أنفسهم من فسحة حرية أسيرة مشتهاة؟ قد يبدو السلوك مغايراً لمنطق الأمور خارج السجن، لكن للمكوث القسري داخل الجدران منطق مغاير.
جدارية للفنان فؤاد اليماني/ رام الله
بلغني من الأسير القيادي راتب الحريبات، ابن بلدة دورا قضاء الخليل، والذي يمضي العام الـ 21 من اعتقاله من أصل 22 عاماً، وهو حالياً في سجن نفحة، بعد أن فرّقت دولة الاحتلال أسرى سجن الجلبوع على السجون الأُخرى، ويبدو أن الأمر سيطول لغاية 6 أشهر، وذلك في أعقاب نفق الحرية، الذي لا يزال محفوراً عميقاً في ذهنية دولة الاحتلال، وتنتهج سياسة الانتقام لهيبتها التي بعثرها أسرى النفق الستة؛ إذ يؤكد الأسير حريبات أن الأسرى في سجن نفحة لم يخرجوا من الزنازين منذ 3 أسابيع، وذلك ضمن الإجراءات التصعيدية التي تقوم بها الحركة الأسيرة، وإذا تواصلت، فستبلغ ذروتها في إضراب جماعي مفتوح عن الطعام.
ما يقوم به الأسرى هو لغة مخاطبة يفهمها ويدركها أصحابها المبادرون إليها، وكذلك يفهمها ويدركها السجّان. فليس أصعب على السجّان ودولته وعقيدته من فقدان مفهوم السيادة والسطوة. إنها أدواته التي يوفرها له قانون الاحتلال وأجهزة القمع والقهر، فهو يعمل بقوة دولة الاحتلال. إلا إن الأسرى لا يتبنّون قواعد لعبة السجّان ولا يفكرون كما يفكر، إنما يقاومونه بمصادرة سيادته. فالأسرى هم الذين يصادرون سيادة قاهرهم، ليصبح هذا المدجج بكل عتاد القمع هو الأعزل من السطوة، بينما يتسلح الأسرى بإرادتهم المصقولة لتصبح سطوة على السجّان.
معضلة السجّان، وأقصد كل منظومة سجون الاحتلال، وفوقها جهاز الأمن العام (الشاباك)، هي أنهم ليسوا قادرين على إدارة شؤون الأسرى فردياً، ولا ضبط علاقة معقولة ويقبلها الأسرى إلا جماعياً، وفي المقابل، لا يريدون أن يسلموا بجماعيّة إدارة الأسرى لشؤونهم الاعتقالية الداخلية. إن فرض الأسرى على السجون العودة إلى قانون دولة الاحتلال الأولي، عبر إلزامها بتوفير الوجبات اليومية الفردية لكلٍّ من 4500 أسير وأسيرة، بدلاً من النظام الجماعي بحصول الأسرى على المواد التموينية وهم يعدّون وجباتهم جماعياً في كل زنزانة، هي مسألة لا تستطيع مصلحة السجون القيام بها، وهي ليست جاهزة لها، وخصوصاً أن الأمر يتطلب منها مجهوداً إدارياً إجرائياً أمنياً لا تملك القدرة عليه، على الأقل في المرحلة الراهنة.
كما أن رد الأسرى على قرار مصلحة السجون تقليص ساعات الفورة إلى ساعة واحدة يومياً على مرحلتين، برفضهم جماعياً الخروج إلى الفورة، والذي يبدو كأنهم يعاقبون أنفسهم، في حين أن مطلبهم هو الخروج طوال النهار إلى الفورة، باستثناء ساعات محددة لإجراء العدد اليومي، هو إجراء نضالي بامتياز يُبقي سجون الاحتلال في حالة طوارئ وتأهُّب قصوى وتجنيد واسع للسجّانين وقوات الأمن، وهو أمر مُثقِل بالنسبة إليها وعبء كبير لا تستطيع تحمّله لمدى طويل. وهنا تعود المعادلة الكفاحية إلى أصولها، وهي أن للموقف ثمن، وتحقيق الإنجازات يتم بثمن باهظ يضحون فيه أحياناً بحريتهم السجينة المبتورة من أجل تحقيق فسحة حرية أكبر. كل حق يتمتع به الأسرى تعتبره سجون الاحتلال امتيازاً تمنحه هي، ولها القدرة على سحبه ومصادرته، بينما يعتبره الأسرى مكسباً وإنجازاً حققوه بنضالاتهم ولن يتنازلوا عنه مهما كان.
كذلك الأمر بالنسبة إلى رفض الخروج إلى الساحة لأداء الصلاة جماعياً، والقيام بذلك في الزنازين، بما في ذلك صلاة الجمعة. إذ تقضي الإجراءات المتّبعة أن تحصل إدارة السجن على اسم الأسير الذي سيؤم الأسرى، وعلى النقاط التي ستتضمنها خطبته. ليحضر فريق من السجّانين يجلس في إحدى زوايا الساحة بالقرب من مقصورة الرقابة، لمراقبة سير الأمور وتأكيد حضورهم. إلغاء الصلاة يضع السجن في حيرة وترقّب، ولا تعرف الإدارة، وبالذات ضابط الاستخبارات ما ينويه الأسرى، وهو يُفقده القدرة على تقدير الأمور ومنحاها، وإلى ما قد تؤول إليه.
كما تتضمن إجراءات الأسرى عدم خروج طاقم العمل المتطوع (المردوان) إلى الساحة لتشغيل المرافق وتوزيع الطعام، وكذلك رفض تجميع المهملات والقمامة في براميل خاصة تنقلها جماعياً إلى الإدارة، لتوضع أكياس القمامة إلى جانب بوابات الزنازين ويقوم السجّانون بتجميعها، وبحراسة خاصة، وهو ما يستنزف قواهم وسلطتهم.
الإجراءات التصعيدية هي مخطط لتفكيك السجن من أدوات رقابته وقدرته على التوقع، ومن إعمال سطوته. وقد يلجأ إلى التصعيد من خلال المداهمات وتقييد أيدي وأرجل الأسرى في زنزانة، أو بعض الزنازين، وإخراجهم إلى الساحة، حتى في البرد القارس أو المطر، والقيام بإجراء التفتيش بتباطؤ متعمّد لإرهاق الأسرى، وقد تطول هذه العملية لساعات كما يرِد من الأسرى في هذه الأيام، وهو تفتيش ومداهمة في ساعات الليل المتأخرة، وهدفه كسر تصعيد الأسرى وردعهم. أو أن يقوم السجّانون بعملية نقل الأسرى بين السجون، والتي توصي بها لجنة التحقيق، في إخفاق للمنظومة الأمنية الاحتلالية في واقعة نفق الحرية. ويُعتبر هذا الإجراء من أكثر الإجراءات قسوة، كونه يمس رتابة حياة الأسرى وهدوءهم النفسي النسبي ضمن محدوديات الحياة الاعتقالية.
أما قيام الأسرى بإجراء "حلّ التنظيم"، أي اعتماد لجنة طوارئ فصائلية وحدوية (بخلاف الوضع الفلسطيني خارج السجون)، وإلغاء مهام ممثل المعتقل وشاويش الساحة والعاملين في المرافق، هو قرار يجعل إدارة السجن في حالة من عدم القدرة على إدارة دفة الأمور، فلا عنوان لها تتحدث إليه، أو تتفاوض معه، سوى العنوان الكفاحي الجماعي، الذي لا ينشغل بالخدمات اليومية للأسرى، بل أساساً بمطالبهم الجماعية، وهو إجراء يزيد في توتر سلطة السجون ويؤكد عدم قدرتها على تجاوز مطالب الأسرى ورفضهم لإجراءاتها.
في المقابل، إن قيام الأسرى الإداريين، وعددهم نحو 500، بمقاطعة محاكم الاحتلال، هو خطوة في غاية الأهمية في حال تحولت إلى نمط جماعي ثابت ومدعوم من مجمل الحركة الأسيرة ومن الهيئات الحقوقية والقانونية. إنها نزع شرعية ما تسعى دولة الاحتلال لإضفائه على إجرائها وعلى جهازها القضائي والأمني على السواء، ليكون رفض المثول أمام المحاكم بمثابة لائحة اتهام ونزع شرعية عن المحاكم نفسها وعن مجمل الجهاز القضائي، الذي يشكل أحد أعنف أجهزة القهر في دولة الاحتلال.
على الرغم من قسوة أدوات التنكيل بالحياة الاعتقالية وبمكانة الأسرى، فإن حرية عمل دولة الاحتلال تبقى أيضاً محدودة، فمن ناحية، ستسعى للمزيد من القمع والانتقام، وقد تصل إلى إدخال قوات جيش إلى السجون تضاعف عدوانية مصلحة السجون، ودخول الجيش يعني تهديد حياة الأسرى. في المقابل، هناك متغير جديد نسبياً، وهو أن قضية الأسرى لم تعد تداعياتها محصورة بما يحدث داخل الجدران، بل باتت، كما القدس والشيخ جرّاح، مسألة قد تكون ذات أبعاد استراتيجية رادعة لدولة الاحتلال، وأن تؤدي إلى مواجهة عسكرية على شاكلة "سيف القدس" بكل أبعادها الميدانية والعملياتية والسياسية المحلية والدولية. وهذه المسألة تشير إليها معاهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلية وتتخوف منها، بل تعتبرها مميزة للحالة الفلسطينية، إذ إن أي تصعيد تجاه الأسرى، أو حتى أي إضراب فردي متواصل عن الطعام يهدد حياة الأسير، قد يؤدّي إلى حدث استراتيجي.
إن التصعيد الاحتلالي الانتقامي في أعقاب نفق الحرية، والتصعيد الكفاحي للأسرى، والهادف إلى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل النفق، بالإضافة إلى مطالب اعتقالية أُخرى، هو مسألة ما زالت طيّ المواجهة ولم تُحسم نتيجتها بعد، وقد نشهد تصعيداً قمعياً وحتى دموياً، يتلاءم مع الذهنية الإسرائيلية الصهيونية الحاكمة، وبغياب أية كوابح سياسية لها. وهذا يجعل الفعل الشعبي والسياسي الفلسطيني المساند للأسرى، وتحريك التضامن العالمي الفعال، عاملاً حاسماً، إلى جانب دور الأسرى وصمودهم وتصدّيهم الوحدوي لآلة القهر والقمع. إن هذا الإسناد ليس مسألة شكلية، بل هو في صلب مقومات انتصار الأسرى لحقوقهم وحقوق شعبهم.