أحيت هبّة القدس أو هبّة فلسطين 2021 أجزاء من سِفر التحرر الفلسطيني، فالهبّة صهرت الشعب الفلسطيني من جديد في ميادين التحرر الفلسطينية في باب العامود والشيخ جرّاح وسلوان، وفي غزة وأم الفحم والنقب والجليل وصفد وأمكنة فلسطينية متعددة في فلسطين التاريخية؛ ولم تعد فلسطين التاريخية صورة متخيلة بمنطق بندكت أندرسون في تنظيره للهوية الحديثة، وإنما ساهمت الممارسة الانتفاضية الفلسطينية في تكثيف الخيال والصورة المتخيلة على شكل صورة ملموسة وواقعية إلى جانب الصورة الهوياتية المتخيلة عن فلسطين كهوية وطنية جماعية، وقد جمعت الممارسة الانتفاضية الفلسطينيين على توقيت القدس وقضيتها وقضية فلسطين.
ساهمت هبّة القدس في إعادة بعث الهوية الفلسطينية الجماعية من جديد، بعد أن اعتراها انكسار سياسي ووهن التقسيم الجغرافي الاستعماري والسياسي، إلّا إن الهوية وخلال الهبّة أعادت صيانة ذاكرتها الجماعية كون الثقافة الفلسطينية بقيت حارسة الهوية الفلسطينية الجماعية على مدار أعوام الانحطاط السياسي وتراجُع المشروع الفلسطيني التحرري الجماعي. وإذا كانت الهوية الحديثة مرتبطة بابتكار "الرأسمال الطباعي"، وفق مجادلة إرنست غيلنر، فإن الهوية الفلسطينية مرتبطة بابتكار واستعادة ونحت "الرأسمال المقاوم" كما عبّرت عنها الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن الماضي، وكما استعادتها فصائل المقاومة والفعل الثقافي الفلسطيني من جديد في ميادين الانتفاض الفلسطينية.
عبّرت هبّة القدس وجغرافيا الانتفاض الفلسطيني في فلسطين التاريخية عن استعادة الهوية الفلسطينية الجماعية ووحدة الشعب الفلسطيني، وتجديد ارتباطه كجماعة سياسية ووطنية بحق تقرير المصير المترابط والمشترك في كل الجغرافيا الاستعمارية في فلسطين، وقد توحدت الجغرافيا الفلسطينية عبر الممارسة التحررية، ومن مؤشراتها: الحشد في باب العامود والشيخ جرّاح، ومع قضية أهالي بطن الهوى في سلوان؛ الإضراب الموحد بتاريخ 18 أيار/مايو 2021؛ التضامن الكبير مع قطاع غزة وسكانها ومقاومتها؛ مساندة أهالي فلسطين المستعمَرة سنة 1948 لأهالي القدس، ومساندة أهل القدس لهم عندما اعترضتهم الشرطة الإسرائيلية في طريق باب الواد، وغيرها من المؤشرات والصور والجداريات والأغاني والهتافات والأشكال الانتفاضية والتضامنية التي تعبّر عن هوية جماعية فلسطينية تمت استعادتها وإحياؤها بعد سباتها، بفعل أفك الفاعل السياسي وضمور بصيرته الهوياتية.
لقد رممت الهبّة أجزاء من الوحدة النفسية والاجتماعية والثقافية والتضامنية والنضالية الفلسطينية بين الجغرافيات الفلسطينية التي قسمها الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وشرذمتها الرؤية السياسية الفلسطينية في زمن التيه السياسي والتراجع عن المقولة الميثاقية الفلسطينية الجماعية ومشروعها الكفاحي. في زمن الشرذمة والانقسام والانكسار السياسي الفلسطيني وُلد جيل فلسطيني نشأ على إيقاع الحروب والاعتقالات والاقتحامات وأصوات الرصاص وقنابل الغاز وغيرها من الانتهاكات الإسرائيلية الكثيرة التي رسخت في ذاكرة الأجيال الفلسطينية، ومنها الجيل الفلسطيني المنتفض في فلسطين التاريخية خلال العقد الحالي.
تعثُّر الجيل الفلسطيني المقاوم بالنكبة التي ورثها من منظومة استعمار استيطاني أدى به إلى اللجوء في مخيمات الضفة الغربية، أو قطاع غزة، أو في مدن وقرى فلسطين المستعمَرة سنة 1948. إلى جانب ذلك، ورث هذا الجيل بؤس الجغرافيا ولعنة الحروب والنكبات المتراصة، فجزء منه عرّف نفسه بأنه فلسطيني من الضفة الغربية، أو فلسطيني من غزة، ووسمهم البعض بأنهم "عرب إسرائيل"، أو فلسطينيو الداخل، أو عرب 48، وغيرها من التسميات أو الشرذمات الهوياتية التي كادت تؤتي أكلها في عملية شرذمة الهوية الفلسطينية ومحاولات أسرلتها واقتلاعها وتجريفها؛ لكن هذا الجيل أعاد الاعتبار إلى الذاكرة الجماعية الفلسطينية، باعتبار أن حدود فلسطين من البحر إلى النهر، وأن الرابطة الهوياتية الفلسطينية للكل الفلسطيني عصية على الشرذمة، ولم يستطع الاستعمار تذويبها أو اختطافها وحرفها عن بوصلتها في القدس.
نشأ الجيل الفلسطيني الجديد على وقع الانكسارات والتراجع والهزائم التي حلت بفلسطين والمنطقة العربية، لكنه في الوقت ذاته وعى، أو خبِر، أو تعلم من انتصار المقاومة اللبنانية سنة 2000 والانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة سنة 2005، وانتصار المقاومة اللبنانية سنة 2006، وشاهد انتفاضات الربيع العربي سنة 2011 وما بعدها، وتعلم درس الصمود والمقاومة من قطاع غزة ما بين 2008-2014، وبعضهم كان قريباً من هبّة السكاكين، أو هبّة القدس 2015-2016، ومنهم مَن ساهم في نصر باب الأسباط سنة 2017، وباب الرحمة سنة 2019؛ أي أن هذا الجيل الفلسطيني خبِر الانتصارات التي حققتها فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وتلقن درس الصمود والثبات الذي اجترحه الشعب الفلسطيني في وجه منظومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
يوماً ما وُصف جزء فاعل من الجيل الفلسطيني المنتفض بأنه لا يبالي بالشأن السياسي، أو غير مهتم بالسياسة والمشاركة في الحياة السياسية بمعناها الكلاسيكي، لكن لوحظ اهتمام هذا الجيل بالسياسة والحقل العام من زوايا نظر وأدوات عمل أُخرى لم تعِها النخب السياسية ومَن ساندها من النخب الوظيفية؛ فالشباب كانوا يمارسون السياسة على طريقتهم من خلال النكتة والشتائم والمنشورات والغناء والكتابة والتعليم النقدي والنقاشات والنوادي الثقافية وغيرها من الوسائل، وعند وقوع الواقعة الوطنية، تصدّر هذا الجيل الشوارع والساحات والميادين؛ أي أن الجيل الفلسطيني المنتفض يرى الشأن السياسي ضمن الشأن الوطني العام، ويرى أن الفعل الوطني أشمل وأعمق من الفعل السياسي، ذلك الفعل الذي تركه شباب ميادين التحرير الفلسطينية لهواة السياسة وأصحاب الوصفات الجاهزة في التحليل السياسي الباحثين عن مكرمة السلطات وموائد الفضائيات.
بعض الفاعلين والمؤثرين الذين برزوا خلال هبّة القدس، هم شباب خريجو جامعات في تخصصات متعددة، في الإنسانيات، والعلوم الاجتماعية، والدراسات الإسرائيلية، واللغات، والموسيقى، وغيرها من الاختصاصات، وظّفوا مواهبهم وخبراتهم الأكاديمية في تفعيل الهبّة وتعميمها وتطويرها ودحرجتها إلى كل فلسطين والعالم، هؤلاء الشابات والشباب هم في العقد الثاني والثالث من العمر، ويتقنون أدوات العصر ولغته ومنطق الانتصار والكرامة، فقد ساهموا في تعميم التضامن مع الهبّة على نطاق واسع من خلال امتلاكهم أدوات العصر ولغته، سواء من خلال استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، أو إيصال الرسائل السياسية، أو التعبير عن قضيتهم كقضية تحرر وطني في مواجهة دولة استعمار استيطاني.
تمت مساندة جيل الشباب من شباب كثر من خلفيات متنوعة، مناطقياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً، وما ميّز الهبّة سِمة تنوّع الشباب والشابات في نواحٍ متعددة، وكان التنوّع سِمة قوة للهبّة وعاملاً لتعزيز صورها وأفعالها الانتفاضية، وبذلك كانت الهبّة متفوقة على الجغرافيا الاستعمارية والتقسيمات الجغرافية، وعلى الأيديولوجيا الحزبية والدينية؛ فلم يُصَب شباب الهبّة بالعمى الأيديولوجي والانحياز السياسي بتغليبهم مصلحة حزب أو تنظيم على آخر، وإنما كانت الهبّة فوق حزبية وعابرة للأيديولوجيات والتنظيمات، وعلى الرغم من أن بعض الشباب حزبيون وأبناء تنظيمات، إلّا إن دورهم كان كدور الآخرين، وربما ساهموا في التنظيم والتكتيك، لكن الهبّة كانت من صناعة الشباب والجماهير، ولا يمتلك أحد سلطة عليها سوى القدس ورمزيتها ومكانتها في قلوب الفلسطينيين.
وُلد جيل الأمل في فلسطين والشتات؛ هذا الجيل يصبو إلى الحرية والكرامة وفلسطين، فلسطين التاريخية التي عبّروا عنها بالغناء، وبرسمها على جدران حي الشيخ جرّاح، وفي الكاريكاتير، وفي بوستر الإضراب العام في 18 أيار/ مايو 2021، وفي الممارسة التحررية في فلسطين.