شهد الشارع الفلسطيني في العامين الأخيرين حالة تراجُع عامة، وقد رافقت هذه الحالة مشاعر من الإحباط والانتكاسات، تحديداً في أوساط الشباب والشابات الناشطين في المجال السياسي؛ فمع التغيّرات الدولية وحالة التطبيع التي شهدتها منطقتنا العربية، وعدم وجود بديل ثوري قادر على تحريك الشارع، أو إيقاف المخططات الصهيونية، أو إيجاع العدو، ولعل هذا جعلنا أمام خيبة أمل كبيرة طالت الشارع الفلسطيني.
لكن الشارع الذي يقهرنا سكونه لطالما فاجأنا، أتت الأحداث الأخيرة بصورة فجائية أعادت إلى الناس آمالهم وطاقاتهم وإيمانهم بذواتهم وبقضيتهم، والأهم بقوتهم، تحديداً فيما أنجزته المقاومة في غزة، والمقاومة الشعبية والتحركات الميدانية في القدس والداخل المحتل سنة 1948 والضفة الغربية؛ ليس هذا فقط بل امتداد المشهد على التراب العربي بأكمله، فمن مشهد الزحف على الحدود الأردنية إلى ارتقاء شهيد لبناني على الحدود الشمالية، كان الالتحام واضحاً بطريقة يصعب تجاهلها. صارت خريطة فلسطين التاريخية في مخيلتنا قطعة واحدة، لا فواصل فيها ولا حدود.
فرضت قوة الأحداث وسرعتها على الأجسام والأطر والناشطين المستقلين العودة إلى التفكير مجدداً في طبيعة ما يستطيعون تقديمه، وكيف يمكنهم استنهاض أُطرهم ومجموعاتهم التي تراجعت خلال الفترة الأخيرة لتقوية الحدث وتعزيز التواجد في الشارع. ليس هذا فقط، بل بادر شبان/شابات جدد في اتجاه تشكيل مجموعات أو لجان ميدانية لتنظيم الشارع وتأجيجه أكثر، وضمن هذه المحاولات أخذت شبكة العلاقات القديمة تُفعَّل مجدداً وتفعل فعلها ضمن الأحداث.
ما يحدث اليوم يذكّرني كثيراً بالانتفاضة الأولى التي انطلقت فجأة، بعد حصار المنظمة والمقاومة في الشتات وتراجُع قضيتنا تدريجياً، فهبّ الشارع ونظّم نفسه، وأعاد تشكيل ذاته وتحديد معاركه الصغيرة الممتدة، كل هذا يقودنا إلى معركة اليوم، صحيح أن حدّة وطبيعة الاشتباك انخفضت بعد التهدئة، لكن هذا لا يعني انتهاء القضية أو عودتنا إلى الحالة القديمة.
ليس لأن قضية حي الشيخ جرّاح أو سلوان لم تنتهيا بعد، بل لأن قضيتنا كلها لم تنتهِ، ولأن معاركنا القادمة كثيرة، لكن يعود السؤال مجدداً ليطرح نفسه، كيف نستطيع أن ننتظم ونتحرك ونفكر ونحدد أولوياتنا لاستكمال هبّة جماهيرنا الفلسطينية والعربية والمراكمة عليها.
يمكننا القول إن الهبّة الأخيرة هي فرصتنا لإعادة ترتيب صفوفنا الداخلية، وإعادة بناء أُطرنا الطلابية والشبابية والنسوية، والأهم إعادة بناء الأحزاب وفتح حوار جدي يشمل الكل الفلسطيني على امتداد التراب الفلسطيني والشتات لتحديد مشروعنا الوطني وخطنا السياسي الذي سنسير عليه في رحلتنا النضالية.
لقد أعاد الشباب والشارع خلال الأسبوعين الماضيين رسم الخريطة السياسية وخلق الهوية الفلسطينية الجامعة من جديد، مُحطّمين بذلك كل "إنجازات" اسرائيل التي حققتها على مستوى صهر الوعي وتشتيت الجغرافيا وخلق ظروف متباينة بين أبناء الوطن الواحد، فأخذت الهتافات تتوحد من الشمال الى الجنوب، وأخذت الجغرافيا تقترب من بعضها شيئاً فشيئاً، وهذه هي الجدوى الكبرى التي حققناها بوحدة نضالنا ومصيرنا، وأي انطلاقة جديدة عليها أن تستند إلى هذا الأساس الوحدوي للجغرافيا في العمل مستقبلاً.
أيّ تحرك شعبي واسع غالباً ما يبدأ بانطلاقة عفوية، فإمّا أن يتم استثماره وتنظيمه والمراكمة عليه، وإمّا ينتهي عند هذه الحدود، وعليه أعود لأنطلق من هذه النقطة للحديث عن التحركات الشبابية واستثمار شبكة العلاقات التي أنتجتها الأعوام الماضية. الشارع اليوم بشبابه ونسائه ورجاله وأطفاله يبحث عن مكان للفعل، والسؤال عن الدور والفعالية يلاحقنا اليوم كفلسطينيين، ما الذي نستطيع فعله حتى ننهي عملية تطهيرنا المستمرة ونتكاتف في معركة نضالنا من أجل الحرية؟ وهذا ما يفسر قدوم الناس من مدينة إلى مدينة أُخرى لمساندة أهلها كما يحدث في القدس مثلاً، وكما حدث في اللد أيضاً. على الأطر المتعددة اليوم أن تبادر في اتجاه نشاطات جديدة وحملات يستطيع من خلالها الجميع المشاركة والانخراط، فمثلاً مع تصاعُد حملة المقاطعة اليوم علينا أن نفكر كيف يمكن لهذه المبادرة أن تنطلق في اتجاه كل المدن الفلسطينية، وكيف يكون باستطاعتنا، كمؤسسات وأفراد وأُطر، أن ننقل هذه الحملة إلى المتضامنين حول العالم لفرض مقاطعة حقيقية على الكيان الصهيوني وضرب اقتصاده وارتباطاته.
تلوح في الأفق أولويات كثيرة جديدة للعمل المناطقي والمحلي وما هو أعمّ من ذلك، من تجربة "لجان الحماية الشعبية" في القرى والمدن والأحياء الفلسطينية التي تتعرض لهجوم المستوطنين والشرطة أو الجيش، إلى حملات الضغط التي بإمكاننا التأسيس لها بمساعدة إعلاميين ومناضلين وناشطين في المنطقة العربية أو في العالم ككل، إلى مجموعات تعمل على تحديد الأحياء والمناطق المهددة بالمصادرة بما يتيحه لنا الوقت لاستباق الأحداث ودعم صمود أهالي تلك المناطق بمختلف الوسائل المتاحة.
تدور السجالات في العادة حول جدوى الاشتباك، وحول عقلانيته في تحقيق أهدافه، في ظل فروقات علاقات القوى، إلّا إن المهم في الحراك الأخير أنه أثبت للشارع الفلسطيني أن حسابات الجدوى تحت الاستعمار لا يمكن أن تكون هي السبيل إلى الخلاص من الاستعمار، وخصوصاً بعد الانتكاسات المستمرة التي تعرّض لها شعبنا وقضيتنا في الفترة السابقة، فكما أوضحنا سابقاً إن معظم حركات التحرر الوطني التي نالت استقلالها انطلقت في البداية من كونها حراكات عفوية غير منظمة ولاحقاً تم تنظيمها، ولم تمنعها حسابات فرق القوة بين المستعمَر والمستعمِر من الاشتباك والمطالبة بحقها في الحرية والحياة العادلة.
كان الحراك في مدينة اللد مثالاً جلياً للطرح السابق، فقد كانت هذه الهبّة خارجة تماماً عن حسابات المحللين السياسيين، ولم تتنبأ بها شاشات القنوات الإعلامية؛ إذ سعت الحكومة الإسرائيلية في الأعوام الماضية لأسرلة سكان مدينة اللد بصورة خاصة، وسكان الداخل الفلسطيني المحتل بصورة عامة. لكن، وفي لحظة ثورية واحدة طالهم الحراك الفلسطيني الأخير، وكانوا جزءاً منه وكان جزءاً منهم. وكذا في الضفة الغربية، فبعد أعوام من الانتكاسات التي خلفّتها أوسلو، عاد الحراك الفلسطيني مجدداً إلى الساحة، وعاد صوت الشباب الفلسطيني صارخاً في وجه الاستعمار، ومؤيداً للمقاومة بكافة أشكالها، بعيداً عن حسابات السياسيين، ليعود تقرير مصير الاشتباك مرة أُخرى إلى الشارع.