A State of Collective Emancipation
Date: 
May 31 2021

خرج الفلسطينيون من كل حدب وصوب يهتفون على امتداد الأسفلت لفلسطين وللحرية، يشتبكون عند نقاط التماس، يرفعون رموزهم عالياً، يجنّدون ويطوّعون أدواتهم التي لطالما سخرنا منها ليعلمّوا العالم درساً مهماً في الإعلام الشعبي. خرجوا هكذا من دون أن ينتظروا أمراً من أحد، أو من فصيل، فتعجب العالم بأكمله متسائلاً، مَن يكون هؤلاء الذين نطلق عليهم من باب الاستخفاف أحياناً "الفتية"، أو "المراهقين"؟ أيّ غضب يختبئ خلف رؤوسهم المخبأة خلف اللثام؟ وكيف انفجر هكذا بعد أعوام من محاولات طمس هويتهم ومحوها. علامَ استند هذا الجيل غير المعبأ سياسياً؟ هذا الجيل الذي لم يرث الهزيمة فحسب، بل ورث تطبيعها والتصالح معها؟

في الحقيقة إن الإجابة عن هذه التساؤلات تضعنا أمام عملية تحليل لحظة الانفجار، وهي لحظة بنيوية يصعب علينا فهم ماهيتها بدقة، إذ يسبق ظهورها على السطح سيل من الغضب المكبوت والوعي غير المختمر والمحاولات غير المكتملة. فقد شهدت فلسطين في الآونة الأخيرة محاولات لخلق مساحات اجتماعية - سياسية، ونماذج من حالات ثورية، منها جذرية وأُخرى ليبرالية، أعادت هذه الحركات طرح تساؤلات تتعلق بالهوية الجمعية وأولويات النضال. ويمكننا هنا أن نستذكر حملة "متواصلون" التي كانت رداً على ترصّد جهاز الاستخبارات الإسرائيلي العلاقات الاجتماعية التي يقيمها فلسطينيو الـ48 مع ابن الضفة، أو الشتات، أو غزة، تحسباً لأن تُراكِم هذه العلاقات العابرة للحواجز والحدود الجغرافية حالة ثورية جدية وممتدة. وعلى ما يبدو كان جهاز الاستخبارات الإسرائيلي على دراية بأن مثل هذه العلاقات يمكن أن يخبئ في داخله بذور مدّ ثوري قائم على أساس الهوية الجمعية، الأمر الذي كان جلياً في هذه الهبّة التي كان أبرز الهتافات فيها يحاول عبور الحواجز والتقسيمات الجغرافية، على شاكلة " من القدس لغزة" و"من الناصرة للشيخ جرّاح"، وهكذا كانت هذه اللغة المحكية هي الوحيدة بين أقطاب النضال.

أمّا اللغة غير المحكية والاتفاق الذي يُبرَم ضمنياً كل دقيقة وكل ساعة بين مدن فلسطين فإنه أمر يصعب وصفه بالكتابة، علينا فقط أن نتأمل حركة شرارة الهبّة وهي تنتقل بسلاسة وسرعة بين المدن الفلسطينية، فما إن تشتعل مدينة حتى تتبعها أُخرى. إذاً، يبدو أن مخاوف اسرائيل كانت في مكانها، وعلى ما يبدو كان خوفها مقترناً دائماً بولادة مرحلة جديدة في فلسطين، ومحاولات التضييق والتخويف والترهيب وسياسة بث القلق بين أبناء الشعب الفلسطيني بهدف اقتلاع تجاربهم وإحباط محاولتهم بالتحرر ما هي إلّا آلام المخاض التي تسبق هذه الولادة الجليلة.

ماذا يمكن أن نسمي هذه المرحلة؟ من السهل بمكان أن نلاحظ في هذه الهبّة ملامح الاستشفاء من رواسب أوسلو، بكل ما تحمله من إحساس عميق بالهزيمة، ذلك الإحساس الذي لا يحول دون عملية التحرير، بل يعرقل دافع المحاولة، لذلك يمكن القول إن هذه المرحلة هي مرحلة الاستشفاء من أوسلو ورواسبها.

"في عصر ما بعد الحداثة أو الحداثة السائلة، لا يهمني ماذا يسمونها، لكن ما يهمني هو أن هذا العصر هو عصر موت الرومانسية وانتهاء البطولة، وطبعاً تعلم بأننا نحن الفلسطينيون نعيش خارج هذا الزمان، نحن في زمان استعماري فلسطيني خالص، يدور حولنا عالم في زمان ما بعد استعماري وما بعد حداثي، لذلك ما زلنا قادرين على إنتاج سرديات رومانسية".

إفرازات أوسلو كثيرة ولا يمكن حصرها في التقسيمات الجغرافية فحسب، ولعل هذه الأخيرة ليست الأشد خطورة. حاولت أوسلو أن تدمجنا في الزمان ما بعد الاستعماري، بكل ما يحمله هذا الزمان من أسئلة وإشكالات كادت تُغيّب حاجة الفلسطيني إلى السياسة كفعل انخراط، إذ فتحت بوابة الخطابات النيوليبرالية وضخّمت إشكالات الهوية، فأصبح الفلسطيني يعيش في زمان غير زمانه، يحمل على كاهله إشكالات عصره وعصر غيره، فهو إذاً في حالة صراع إقدام إحجام مع الزمن، لا تنفك سلطة أوسلو توقظه، ولا ينفك الاحتلال الإسرائيلي يستغله لتطويع الفلسطيني وترويضه، إذ تُشعره بأن عجلة التاريخ ستفوته إذا بقي منهمكاً بفلسطينيته. هذه الحيلة الاستعمارية في جوهرها أجادتها إسرائيل جيداً في الأعوام الأخيرة، هامسة في أذن كل مَن يشتبك مع إشكالات في هويته الجندرية والجنسية وغيرها من هويات برزت بفعل غياب الهوية السياسية: كي تحقق ذاتك وتكون مَن تريد عليك أن تلتحق بالركب وتترك خلفك سؤال فلسطين، وإن بقي هذا السؤال أمام ناظريك فستدفع الثمن غالياً، ربما أكثر مَن عايش هذا الابتزاز وأكثر مَن يعرفه هم الأسرى داخل زنازين التحقيق.

لكن الأمر الهزلي هنا أن الاحتلال الإسرائيلي لا يكف عن الوقوع في فخ نصبه بنفسه، فعلى الرغم من كل محاولاته لممارسة "الغسيل الوردي" وتمييع أساليبه، إلاّ إنه غير قادر على أن يخبئ عنجهيته وشراسته، وهو بذلك يكشف حيلته ويعيد الفلسطيني من جديد، عودة تحمل ملامح التوبة إلى قضيته الأولى (فلسطين)، ويدرك حاجته إلى تعبئة الفراغ السياسي بالفعل والحركة. وهنا تأخذ السياسة بعداً يتقاطع مع رؤية غرامشي، إذ يمنحنا تصوراً موسعاً بعمق لما هي عليه السياسة نفسها، يحولنا من دون الرجوع إلى فكرة السياسة الكلاسيكية الانتخابية، أو السياسة التي تحمل البعد الحزبي بمعناه الضيق، بل السياسة كحقل أكثر اتساعاً، وخصوصاً في مجتمعات كمجتمعاتنا تعيش من خلال تكاثر مواقع السلطة والعداء في المجتمع الحديث.

قد يكون هذا الطرح الغرامشي هو الرد على بعض المتحذلقين الذين برزوا على هامش هذه الهبّة، متبنّين سياسة اليأس، محاولين تسخيف كل ما يحدث بحجة العين النقدية والمنطق والعقلنة، مشككين في هذا الشكل الجديد من الهبّات، غير المنظم، والذي تغيب فيه القيادة الحزبية والفصائلية؛ إذ كان الدرس الأهم في هذه الهبّة أن هناك أشكالاً متعددة للاحتجاج والثورة غير تلك الكلاسيكية التي عرفناها، هناك جيل بأكمله يحتج بطريقته، يجنّد ويطوّع أدواته الخاصة، له خصوصيته الثقافية والاجتماعية، وأغنياته، ولغته، وشعاراته؛ والأهم من هذا كله وعيه الذي يتشكل بالممارسة، فعلى خلاف الكثير من النقاد والمنظّرين الذين يعتقدون أنه لا بد من وجود مستوى وعي عالٍ عند الشعوب كي يتمكنوا من خلق حالة ثورية حقيقية، أثبتت هذه الهبّة وما سبقها من محاولات أنه يمكن للحالة الثورية أن تسبق الوعي أحياناً. ولعل الحراك الفحماوي يشكل تجلياً واضحاً لهذه الرؤية، إذ حمل في بدايته خطاب مواطنة عبّر الناس فيه عن ذواتهم كأقلية "عربية" تريد أن تعيش بأمان مطالبة الشرطة الإسرائيلية بأن تحميها، وانتهى بخطاب وطني واضح المعالم. إذ بدلاً من أن يكون هذا الاختلاف في شكل وماهية الهبّة مادة للتهكم والنقد غير البنّاء، يمكنه أن يكون مادة للتفاؤل. كيف؟

إن كل محاولات النضال بعد الانتفاضتين نلمح فيها شكلاً من أشكال النوستالجيا لتلك الحقبتين الزمنيتين، وكأن نضال الفلسطيني في حالة من التثبيت، وهو مفهوم نفسي طرحه سيغموند فرويد عندما وضع نظرية تناقش مراحل النمو عند الإنسان، هذا المفهوم يعني أن يبقى الإنسان عالقاً عند مرحلة ما من مراحل نموه بسبب جمالية المرحلة - أو لعدم إشباع حاجاتها على صعيد آخر - الأمر الذي يبدو جلياً لدى الفلسطيني الذي لا ينفك يتغنى بأمجاد الماضي؛ فالانتفاضة الأولى مثلاً ومن فرط جماليتها شكلت أزمة على الصعيد النفسي لدى الفلسطيني، إذ لم يستطع تجاوزها ولم ينفك يمارس ما يسمى النكوص حيالها، فهي "طفولته" الوديعة التي شُوِّهت بفعل الزمن، ربما هذا تحديداً ما جعل نضالاتنا السابقة مشهدية جملة وتفصيلاً، وكأنها تجلٍّ - وتجلٍّ محض- لحنين الانتفاضة الأولى، لكن هذه المرة كأننا انفلتنا أخيراً من قبضة التثبيت هذه والنضال الذي لطالما كان في جوهره تعبيراً عن الإحالة على الماضي، وأن هذا الانعتاق سمح للفلسطيني بأن يثور هنا والآن.

Hamza al-Aqrabawi
Layan Drini
Rita Ammar

Read more