تُراكم المقاومة الفلسطينية إرثها النضالي وتستدعي ذاكرتها التاريخية والدينية الممتدة على مدى 100 عام، لتواجه الاستعمار ببنية متينة ورواية واعية. فالحرب رواية، ومن الأهمية أن نقدم روايتنا الواعية التي لا تغفل تاريخنا وإرثنا الثقافي والسياسي.
وقد حضر هذا الموروث بوضوح خلال الهبّة الأخيرة في أيار/مايو 2021، وهنا نتتبع بعض الظواهر والحالات التي جرى من خلالها الربط بين الفعل المقاوم واستحضار الموروث ليكون أداة نضالية تساهم في تعبئة الجماهير في مختلف أماكن تواجدهم، في فلسطين وخارجها.
الفنون البصرية (البوستر)
أبدع الفنانون في تصميم لوحات بصرية متنوعة تعكس طبيعة الفعل على الأرض، وهو ما يساهم في حشد مزيد من التضامن والتفاعل العربي والعالمي، تنوعت تلك اللوحات بين البوسترات، والصور، والكاريكاتير، والرسومات الإلكترونية، التي تم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان البعد التاريخي والتراثي والديني والنضالي حاضراً فيها.
ولعل من أشهر الأعمال التي لاقت رواجاً تلك التي بُنيت على صورة "لن نرحل"، التي ظهر فيها الحاج نبيل الكرد أحد سكان حي الشيخ جرّاح، وكذلك صور صواريخ المقاومة في معركة سيف القدس، وكان واضحاً التركيز على خريطة فلسطين من البحر إلى النهر في كثير من الأعمال الفنية.
ويمكن الإشارة إلى عملين فنيين تم تداولهما بكثرة خلال الحرب، الأول للفنان الإيراني علي حياتي الذي أعاد رسم مشهد الصواريخ في عدة لوحات، واحدة منها حاكى فيها أسطورة إيرانية لها شبيه في الموروث العربي هي أسطورة الخضر (مار جرجس)، إذ تناول صورة تظهر فيها رشقة من الصواريخ منطلقة من غزة بينما تحاول مضادات القبة الحديدية التصدي لها، فصوّر الرشقات الصاروخية كالبطل الأسطوري الرامي آرش كمانجير الذي يهاجم التنين الذي اعتاد قتل الآمنين.
أمّا العمل الفني الثاني الذي نال حيزاً مهماً من الحوار والتداول فكان لوحة جمل المحامل للفنان سليمان منصور، والتي رسمها سنة 1973، إذ ظهرت في مؤتمر قائد "حماس" في غزة يحيى السنوار بعد انتهاء المعركة، بتعديل يجمع بين الموروث والحاضر، وقد اختفى العجوز "العتال" الذي انحنى ظهره من حَملِ القدس والقضية، ليحل مكانه مقاوم شاب منتصب القامة وسلاحه في يده وملامح النصر في عيونه.
سيف القدس: استدعاء الإرث العسكري
مما لا شك فيه أن تسمية المعارك تعكس التصور عن الحرب وطبيعتها وأهدافها، ومن أجل ذلك يتم اختيار الاسم بعناية. وفي الحرب الأخيرة اختارت المقاومة في غزة اسم "سيف القدس"، لأنها جاءت دفاعاً عن القدس. واستجابةً لنداء المقدسيين في هتافهم: "حُط السيف قبال السيف إحنا رجال محمد ضيف".وهنا تبدو الرمزية عالية ومحمّلة بإرث الماضي وبطولات التاريخ، فالسيف الذي يرمز إلى القوة والعزم ينتفض لحماية القدس والتصدي للاحتلال ووضع حد للتمادي في حي الشيخ جرّاح. وهو اسم قد يطول الحديث عن رمزيته ودلالته السياسية المحملة بهالة أسطورية كبيرة، وخصوصاً إذا ارتبط بالقدس وحرب تحريرها وحي الشيخ جرّاح المنسوب إلى أحد قادة جيش صلاح الدين الأيوبي.
أنثى القدس.. الجازية الفلسطينية
خلال هذه الهبّة، أو الحرب، ظهرت أيقونات نضالية وشخصيات محورية لها حضور كاريزمي لا يمكن تجاهله، ومنها الصحافية منى الكرد، الفتاة التي حرّكت ملف حي الشيخ جرّاح وتم تداول فيديوهاتها وهي تكيل الشتائم للمستوطنين وتتحداهم بشجاعة وصلابة، ولعل حضورها كان شبيهاً بالحضور الكبير للناطق الإعلامي أبو عبيدة في معركة سيف القدس، الذي جسّد بحضوره هيبة المقاومة وكثّف بخطابه معنى الانتصار، وهذه الثنائية نجدها في واحدة من أعظم الملاحم الشعبية، تغريبة بني هلال، والتي تُعرف أيضاً بسيرة أبو زيد الهلالي.
أبو زيد الهلالي لم يكن بطل الحرب الوحيد، بل إن الحرب الفاصلة مع الزناتي خليفة حسمها ذياب بن غانم، وهو ما يشير إليه المثل الشعبي "الصيت لأبو زيد والفعل لذياب"، لكن أبو زيد ظل بطل السيرة طوال تغريبة بني هلال، وعلى حد سيفه بُنيت الملحمة الشعبية، الأمر الذي نقرؤه في حضور الملثم أبو عبيدة، فعلى الرغم من كونه ناطقاً إعلامياً، إلاّ إنه شكّل رمزية المقاومة ككل، فكان شبيه أبو زيد الهلالي في ملحمتنا البطولية المعاصرة.
أمّا الشابة منى الكرد فكان لدورها المهم في الهبّة إرث من تغريبة بني هلال، وذلك في سيرة الأميرة الجازية، السيدة التي ألهبت حماسة مقاتلي بني هلال في حروبهم، فكانت مقاتلة بشعرها وحضورها الأنثوي الطاغي، ومن أجل ذلك وُصفت بأنها صانعة أمجاد بني هلال. يتجسد حضور منى الكرد برمزية عالية من خلال تداول صورها وهي ترتدي قميصاً كُتب عليه "أنثى القدس"، فصنعت صورة للأنثى القوية الشجاعة التي تدير معركة وتحمل همّ قضية.
الشهداء يعودون
لا تغيب سيرة الشهداء في مسيرة كفاحنا الطويل، وكلما احتدمت المواجهات كلما تقدم الأبطال ليكونوا شهداء كل مرحلة، وحين تقع الحرب تذكّرنا الفصائل بالشهداء من خلال أسماء كتائبها وأجنحتها العسكرية، كالشيخ عز الدين القسّام وعبد القادر الحسيني وشهداء الأقصى.
غير أن الحضور الأسمى للشهداء كان في تلك الصواريخ التي انطلقت من غزة حاملة أسماءهم، كصاروخ العياش 250 الذي ضرب مطار رامون، وكذلك كتابة أسماء وجمل لبعض الشهداء على صواريخ أُخرى، مثل الصاروخ الذي كُتب عليه: "هذا الصاروخ كالباسل لا يضل الطريق"، في إشارة إلى الشهيد باسل الأعرج الذي استشهد سنة 2017 في رام الله. وربما حققت المقاومة نبوءة الروائي الجزائري الطاهر وطار في رائعته الروائية "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، بعودة الشهداء الفلسطينيين لانخراطهم في المقاومة.
الهتاف والغناء الشعبي
الهتاف للمقاومة وحضور أسماء القادة من كل الفصائل كان سِمة عامة في المسيرات والوقفات التضامنية في فلسطين. فمن خلال تتبّع تسجيلات الهتافات في حي الشيخ جرّاح وبعض المسيرات في الضفة الغربية نجد هتافات استحضرت العمل الفدائي وعمليات المقاومة الفلسطينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهو ما يدل على تواصل الإرث النضالي في الوجدان الجمعي للفلسطينيين.
ومن الهتافات التي تكررت في المسيرات:
عَ جبال النار لنصب رشاشي ع جبال النار
أبو عمـار يا رب ترحـم أبو عمـار
**
في كرم التين لنصب رشاشي في كرم التين
أحمد ياســين يا رب ترحـم أحمد ياســين
**
وهزت كيان إسرائيل دلال المغربية
وع سواحل تل أبيب نفّذت عملية
***
راح المزح وإجا الجد وليلى نزلت ع اللد
وأقســمـت والله لنفـّذ عمـليـة
أمّا في الغناء، فكان لنشيد "موطني" الحضور الدائم الذي لا يُمَل منه، فهذه القصيدة التي كتبها الراحل إبراهيم طوقان سنة 1934 لا تزال حية وحاضرة في كل الهبّات والمسيرات الشعبية في فلسطين.
ومن توظيف الموروث ما سمعناه من غناء الحاجة نصرة أبو النصر فوق ركام منزلها المدمر في غزة وهي مرتدية الثوب الفلسطيني وتنشد أغاني من أيام العمل الفدائي:
خذوا من لحمي رصاص مرتين.. وإملوا جعب الفدائيين
واعملوا من دمي مشاعل.. تضوي فوق أرض فلسطين
خـذوا لحمي ودمي وعنادي.. تسقي الزيتونة ببـلادي...
ثأرنا جيل بعد جيل
من الحضور الطاغي للموروث النضالي في الهبّة استحضار فكرة حرب المواصلات وإغلاق الطرق بعد أن منع الاحتلال باصات الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى للاعتكاف، فتدافَع شباب القدس وقراها للمساعدة في حمل الناس بسياراتهم إلى المسجد الأقصى، ثم قاموا بإغلاق الطريق نحو (تل أبيب) لإجبار الشرطة على فتح طريق القدس. وكذلك فكرة الإضراب الشامل الذي عمّ كل فلسطين، وكان نجاح الإضراب رسالة قوية تمثل وحدة مطالب الفلسطينيين بالحرية.
ولا تغيب عنا فكرة الفزعة والعَونة والتسارع إلى نجدة المناطق التي تحتدم فيها المواجهات، وقد أدت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في دعوة الناس إلى الفزعة لأهالي حي الشيخ جرّاح مثلاً حين كان يهاجمه المستوطنون على حين غرة.
وهذه النماذج الثلاثة هي من أدواتنا النضالية التي استخدمها الفلسطينيون في الثورة الكبرى 1936-1939، وكذلك في حرب 1948، وواضح من هذا الحضور انتماء الأجيال إلى روح أسلافهم وحمْلهم إرث الكفاح جيلاً بعد جيل.
لا يمكن في هذه العجالة الإحاطة بكل ظواهر استدعاء الموروث في المواجهة الأخيرة التي امتدت أحداثها لتشمل كل فلسطين، لكن وحدة الحالة الثورية في كل فلسطين يمكن اعتبارها عودة إلى فلسطين بأكملها كما كانت قبل قيام دولة الاحتلال سنة 1948.