الحملة الفاشلة لإسرائيل على قطاع غزة: العقوبات الجماعية لن تهزم "حماس"
التاريخ: 
13/12/2023

مقدمة المترجم:

نشرت مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs Magazine) هذه المقالة للبروفيسور روبيرت إ. بيب، ونظراً إلى أهمية الأفكار والمعلومات التي وردت فيها فقد ارتأيت نقلها إلى العربية، على الرغم من أننا لا نوافق على بعض أفكارها المنطلقة بالأساس من الحرص على "مصلحة إسرائيل الوطنية"، ونظرتها إلى "حماس" باعتبارها منظمة "إرهابية" لا حركة تحرر وطني. علماً بأن بيب هو أستاذ العلوم السياسية ومدير مشروع الأمن والتهديد في جامعة شيكاغو، وهو معروف بدراسته ظاهرة "العمليات الاستشهادية" التي يطلق عليها لفظَي "الإرهابية والانتحارية"، وسبق له أن تلقى منحة سخية لتمويل أبحاثه في هذا الموضوع.

في هذه المقالة ينتقد بيب أسلوب إسرائيل في الرد على ما جرى في السابع من أكتوبر، ويتوقع فشلها في تأليب سكان قطاع غزة ضد حركة "حماس"، بل يعتقد بتعاظم وزن الحركة. وعليه، يرى ضرورة لجوء إسرائيل، بضغط أميركي مباشر، إلى حل سياسي فوري بدلاً من المراهنة على الحل العسكري التدميري، وخصوصاً القصف الجوي غير الفعّال.

نص المقال:

"منذ السابع من أكتوبر، غزت إسرائيل شمالي قطاع غزة بنحو 40.000 جندي، وقامت بقصف المنطقة الصغيرة بواحدة من أكثر حملات القصف الجوي كثافة في التاريخ. ونتيجة لذلك، نزح ما يقرب من مليوني شخص عن منازلهم، وقُتل من المدنيين في هذه الهجمات أكثر من 15.000 (بمن فيهم نحو 6000 طفل و5000 امرأة)، بينما ذكرت وزارة الخارجية الأميركية أن الحصيلة الحقيقية قد تكون أعلى. كما قصفت إسرائيل المستشفيات وسيارات الإسعاف ودمرت نحو نصف المباني في شمالي قطاع غزة، وقطعت تقريباً كل إمدادات المياه والطعام وإنتاج الكهرباء عن سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. وفقاً لأي تعريف وبحسب جميع المعايير، تُعتبر هذه الحملة، فعلاً، عملاً هائلاً من أعمال العقوبة الجماعية ضد المدنيين.

حتى الآن، مع تقدم القوات الإسرائيلية في أعماق قطاع غزة الجنوبي، لا يزال هدف المقاربة الإسرائيلية غير واضح تماماً. فعلى الرغم من أن قادة إسرائيل يدّعون أنهم يستهدفون "حماس" فقط، فإن عدم التمييز الواضح [بين المدنيين والمقاتلين] يثير أسئلة حقيقية بشأن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية فعلاً.

هل يرجع الحماس في تدمير غزة إلى القصور نفسه الذي أدى إلى الفشل الضخم للجيش الإسرائيلي في التصدي لهجوم "حماس" في السابع من أكتوبر؟ وهو هجوم وقعت خططه في أيدي المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين الإسرائيليين قبل أكثر من عام؟ هل تدمير شمالي قطاع غزة والآن جنوبها هو مقدمة لإرسال جميع سكان القطاع إلى مصر، كما اقتُرح في "ورقة مفهوم" أنتجتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية؟

بغض النظر عن الهدف النهائي، يثير التدمير الجماعي في قطاع غزة مشكلات أخلاقية عميقة، لكن حتى إذا قيّمت بشكل استراتيجي صرف، فإن نهج إسرائيل هذا محكوم بالفشل - وهو بالفعل يفشل.

لم تقنع العقوبة الجماعية ضد المدنيين سكان قطاع غزة بالتوقف عن دعم "حماس"، بل على العكس، فقد زادت من مشاعر الاستياء بين الفلسطينيين. ولم تنجح الحملة على ما يبدو في تفكيك المجموعة المستهدفة. إذ بعد خمسين يوماً من الحرب، يظهر أن إسرائيل قادرة على تدمير قطاع غزة، لكنها لا تستطيع تدمير "حماس". في الواقع، قد تكون "حماس" اليوم أقوى مما كانت عليه من قبل.

إسرائيل ليست أول دولة تخطئ عندما تضع ثقتها الزائدة في سحر القوة الجوية، إذ يظهر التاريخ أن القصف الجوي المكثف للمناطق المدنية لا يحقق أهدافه في الغالب. وكان من الأفضل لإسرائيل أن تستجيب لهذه الدروس التاريخية وتواجه هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر بضربات مباشرة ضد قادة "حماس" ومقاتليها بدلاً من الحملة الجوية التي اختارتها. لكن الأوان لم يفت كي تقوم إسرائيل بتغيير المسار واعتماد استراتيجيا بديلة قابلة للتطبيق بهدف تحقيق أمان دائم، وهو نهج من شأنه أن يدق أسفيناً سياسياً بين "حماس" والفلسطينيين بدلاً من التقريب بينهما: اتخاذ خطوات فعالة وأحادية نحو حل الدولتين.

فقدان القلوب والعقول

منذ ظهور القوة الجوية، سعت الدول إلى قصف أعدائها لإجبارهم على الاستسلام وكسر معنويات المدنيين. ووفقاً لهذه النظرية، سينتفض السكان ضد حكوماتهم ويتحولون إلى الجانب الآخر عندما يتم دفعهم إلى نقطة الانهيار. وقد بلغت هذه الاستراتيجيا ذروتها خلال الحرب العالمية الثانية. ويذكر التاريخ قصف المدن بسبب هذه الحرب ببساطة من خلال أسماء الأماكن المستهدفة: هامبورغ (40.000 قتيل)، دارمشتات (12.000)، ودرزدن (25.000). والآن يمكن إضافة غزة إلى هذه القائمة السوداء.

وقد شبّه بنيامين نتنياهو الحملة الإسرائيلية الحالية بقتال الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من نفيه أن إسرائيل تمارس العقوبات الجماعية من خلال القصف، فقد أشار إلى أن غارة سلاح الجو الملكي البريطاني على مقر الغستابو [المخابرات النازية] في كوبنهاغن قد قتلت العشرات من تلاميذ المدارس.

لكن نتنياهو لم يذكر أن أياً من جهود الحلفاء لمعاقبة المدنيين بشكل جماعي أمر لم ينجح. ففي ألمانيا، كانت حملة القصف الجوي، التي شنتها قوات الحلفاء اعتباراً من سنة 1942، قد تسببت بدمار المدن وتدمير منطقة حضرية بعد أُخرى، وفي نهاية المطاف فإن 58 مدينة وبلدة ألمانية دُمرت بحلول نهاية الحرب. لكنها لم تلحق الأذى بمعنويات السكان أو تدفعهم إلى التمرد ضد هتلر، بعكس توقعات مسؤولي الحلفاء. في الواقع، شجع القصف الجوي العشوائي والعنيف الألمان على القتال بشدة خشية من سلامٍ قاسٍ. ولم تؤدِ حملة القصف إلى تمرد ضد الحكومة المستهدفة قط.

يجب ألاّ يكون هذا الفشل مفاجئاً، فهذا ما حدث عندما جرب النازيون أنفسهم التكتيك ذاته في الحرب العالمية الثانية. فالقصف الجوي الذي شنته ألمانيا النازية على لندن ومدن بريطانية أُخرى في سنتي 1940 و1941، قتل أكثر من 40.000 شخص، ومع ذلك، رفض وينستون تشرشل الاستسلام. بل على العكس من ذلك، فقد استند إلى هذه الخسائر لحثّ المجتمع البريطاني على تقديم التضحيات لتحقيق النصر. وبدلاً من كسر المعنويات، حفّز القصف الألماني البريطانيين على بذل الجهود التي استمرت سنوات - مع حلفائهم الأميركيين والسوفياتيين - للرد بالهجوم وفي النهاية القضاء على البلد الذي قصفهم.

في الواقع، لم يحدث في التاريخ أن أدت عملية قصف جوي [شامل] إلى تمرد السكان المُستهدَفين ضد حكوماتهم. لقد جربت الولايات المتحدة هذه التكتيكات عدة مرات دون جدوى، سواء خلال الحرب الكورية عندما دمرت 90 في المائة من إنتاج الكهرباء في شمال كوريا، أو في حرب فيتنام عندما أخرجت من الخدمة ما يقرب من النسبة نفسها من القدرة الكهربائية في شمال فيتنام. وفي حرب الخليج، تسببت الضربات الجوية الأميركية في تعطيل 90 في المائة من إنتاج الكهرباء في العراق. لكن في جميع هذه الحالات، لم يتمرد السكان.

وفي حرب أوكرانيا، بدا أن روسيا تحطم أوكرانيا. وعلى الرغم من ذلك فإنها لم تكسر عزيمة أوكرانيا، بل إن هذه العقوبات الجماعية والضخمة أقنعت الأوكرانيين بالقتال ضد روسيا بشكل أكثر حماسة من أي وقت مضى.

حملة تؤدي إلى نتائج عكسية

هذا النمط التاريخي يتكرر في غزة، إذ لم تحقق إسرائيل نتائج كبيرة بعد شهرين من العمليات العسكرية المكثفة. فهذه الحملة لم تؤدِ حتى إلى هزيمة جزئية لحماس، وعلى الرغم من قتل عدد كبير من مقاتلي "حماس"، فإن الحملة لا تقلل كثيراً من حجم التهديد للمدنيين الإسرائيليين. بل يقر المسؤولون الإسرائيليون بأن الحملة العسكرية قتلت من المدنيين ضعف عدد قتلى "حماس". وبهذا، فإن إسرائيل بالتأكيد تولّد مزيداً من "الإرهابيين" بدلاً من قتلهم، فلكل مدني يُقتل عائلة وأصدقاء سيسعون للانضمام إلى "حماس" للانتقام.

إن بنية "حماس" العسكرية لم يتم تفكيكها بشكل فعّال، حتى بعد العمليات المعلنة ضد مستشفى الشفاء الذي اتهمت القوات الإسرائيلية "حماس" باستخدامه كقاعدة عمليات. وكما أظهرت مقاطع الفيديو التي نشرها الجيش الإسرائيلي، فإن إسرائيل قد احتلت ودمرت مداخل العديد من أنفاق "حماس"، لكنها يمكن أن تُرمم فيما بعد، تماماً كما بُنيت في الأصل. والأهم من ذلك، يبدو أن قادة "حماس" ومقاتليها تخلوا عن الأنفاق قبل دخول القوات الإسرائيلية إليها، وهو ما يعني أن البنية التحتية الأهم لحماس - وهم مقاتلوها - قد نجت.

تتمتع "حماس" بميزة على القوات الإسرائيلية: إذ يمكن لأفرادها التخلي بسهولة عن القتال، والاندماج مع السكان المدنيين، والعيش استعداداً للقتال مجدداً في ظروف أكثر ملاءمة. ولهذا السبب، فإن العملية البرية الإسرائيلية إلى حد كبير محكومة بالفشل. كما أن الحملة العسكرية الإسرائيلية، بصورة عامة، لم تضعف سيطرة "حماس" على غزة بشكل كبير.

وقد نجحت إسرائيل في إنقاذ رهينة واحدة فقط من بين الرهائن الـ 240 تقريباً الذين تم أخذهم في هجوم 7 أكتوبر، أمّا الرهائن الذين حُرروا فقد أطلقتهم "حماس"، وهو ما يظهر أن المجموعة ما زالت تسيطر على مقاتليها.

وعلى الرغم من انقطاع التيار الكهربائي بشكل واسع والتدمير المتسارع في غزة، فإن "حماس" لا تزال تنتج وتنشر مقاطع فيديو دعائية تظهر الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين والمعارك العنيفة بين مقاتليها والقوات الإسرائيلية. وهي تنشر دعايتها على نطاق واسع عبر تطبيق التيليغرام، إذ يشترك في قناتها [قناة كتائب القسام] أكثر من 620.000 مشترك. وبحسب إحصاءات "مشروع الأمن والتهديد في جامعة شيكاغو"، الذي أديره شخصياً، فإن جناح "حماس" العسكري، كتائب القسام، تابع نشر نحو 200 فيديو وبوستر إلكتروني في الأسبوع، خلال الفترة من 11 تشرين الأول/ أكتوبر إلى 22 تشرين الثاني/ نوفمبر عبر تلك القناة.

الأرض في مقابل السلام

الطريقة الوحيدة لتحقيق هزيمة دائمة لحماس هي مهاجمة قادتها ومقاتليها مع فصلهم عن السكان المحيطين بهم. ومع ذلك، يُعد هذا أمراً أسهل، قولاً لا فعلاً، ولا سيما أن حماس تستمد قوتها مباشرة من السكان المحليين لا من الخارج.

في الواقع، تظهر الأدلة المسحية أن العمليات العسكرية الإسرائيلية تنتج "إرهابيين" أكثر مما تقتل منهم. وفي استطلاع لرأي الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية أجراه مركز "العالم العربي للبحوث والتنمية" في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر، أظهر أن %76 من المستجوبين ينظرون إلى "حماس" بصورة إيجابية. ويعني هذا أن نسبة كبيرة من أكثر من 500.000 رجل فلسطيني تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً مستعدة الآن لتشكّل تجنيداً سهلاً لحماس أو لجماعات فلسطينية أُخرى تسعى لاستهداف إسرائيل ومدنييها.

تُعزز هذه النتيجة أيضاً دروس التاريخ، إذ يظهر أن معظم المقاتلين لا يختارون مهنتهم بسبب الدين أو الأيديولوجيا، على الرغم من أن هناك بعض الحالات طبعاً، بل يقوم معظم الأشخاص الذين يصبحون مقاتلين بذلك لأن أرضهم تسلب منهم.

على مدى عقود، قمت بدراسة أكثر المتطرفين تطرفاً: المنتحرون. ودراستي عن 462 شخصاً قتلوا أنفسهم في مهمات بهدف قتل الآخرين في "أعمال إرهاب" من سنة 1982 إلى سنة 2003 لا تزال أكبر دراسة اجتماعية لهذه الفئة من المهاجمين. ووجدت أن هناك مئات المتطرفين العلمانيين. في الواقع، كانت جماعة "نمور التاميل"، وهي مجموعة ماركسية معادية للدين في سريلانكا، هي الزعيمة العالمية في "الإرهاب الانتحاري" خلال تلك الفترة، إذ نفذت هجمات انتحارية أكثر مما نفذت حركة "حماس" أو حركة الجهاد الإسلامي - الفصيلان الفلسطينيان اللذان قتلا أكبر عدد من الإسرائيليين. ووفقاً لقاعدة بياناتي، فإن 95% من "الإرهابيين" الانتحاريين كانوا يقاتلون ضد احتلال عسكري كان يسيطر على الأراضي التي اعتبروها وطنهم.

وبين سنة 1994 وسنة 2005، نفذت "حماس" وجماعات فلسطينية أُخرى أكثر من 150 هجوماً انتحارياً، قُتِل فيها نحو 1000 إسرائيلي. ومنذ أن انسحبت إسرائيل من غزة، تخلت هذه الجماعات تقريباً عن العمليات الانتحارية بأكملها. ومنذ ذلك الحين، زاد عدد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بنسبة 50%، وهو ما يجعل من الصعب على إسرائيل السيطرة على هذه الأراضي على المدى الطويل.

كل شيء يدعونا إلى الاعتقاد بأن إعادة احتلال غزة عسكرياً "لفترة غير محددة"، وفقاً لنتنياهو - ستؤدي إلى موجة جديدة، وربما أكبر، من الهجمات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين.

مشكلة الاستيطان

على الرغم من الأبعاد الكثيرة للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، فإن حقيقة واحدة تساعد على توضيح الصورة المعقدة. فتقريباً في كل عام منذ أوائل الثمانينيات، ينمو عدد السكان اليهود في الأراضي الفلسطينية، حتى خلال سنوات عملية سلام أوسلو في التسعينيات. وقد أدى نمو المستوطنات إلى فقدان الفلسطينيين أرضهم، وتصاعد المخاوف من أن تصادر إسرائيل المزيد من الأراضي لتوطين المزيد من اليهود في الأراضي الفلسطينية. وقد حث يوسي داغان، وهو مستوطن بارز وعضو في حزب نتنياهو، على إنشاء مستوطنات في غزة مكان تلك التي تمت إزالتها في سنة 2005.

إن زيادة عدد المستوطنين اليهود في الأراضي الفلسطينية هو السبب الرئيسي في إذكاء نار النزاع. ففي السنوات التي تلت حرب 1967 مباشرة، بلغ إجمالي عدد المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة عدة آلاف فقط. وكانت العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين تتم في الغالب بتناغم، فلم تحدث هجمات انتحارية فلسطينية وكان حجم الهجمات من الأنواع الأُخرى ضئيلاً.

لكن الأمور تغيرت بعد أن جاءت الحكومة اليمينية بزعامة حزب الليكود إلى السلطة في سنة 1977، فقد وعدت، وقامت بتوسيع كبير للمستوطنات. فزاد عدد المستوطنين من نحو 4000 في سنة 1977 إلى 24.000 في سنة 1983، و116.000 في سنة 1993. وبحلول سنة 2022، عاش نحو 500.000 مستوطن إسرائيلي يهودي في الأراضي الفلسطينية، باستثناء القدس الشرقية، حيث يعيش 230.000 يهودي إضافي. ومع نمو المستوطنات، تلاشى الهدوء النسبي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أولاً، جاء تأسيس "حماس" في سنة 1987، ثم بعد ذلك انتفاضة 1987-1993، والانتفاضة الثانية سنة 2000-2005، واستمرت جولات النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ ذلك الحين.

النمو المستمر للمستوطنات اليهودية هو سبب أساسي في فقدان فكرة حل الدولتين للقضية صدقيتها منذ التسعينيات. وإذا كان هناك مسار جاد نحو دولة فلسطينية في المستقبل، فيجب أن يصل هذا المسار إلى نهايته. بعد كل شيء، لمَ يجب على الفلسطينيين رفض "حماس" ودعم ما يُسمى بعملية سلام إذا كان ذلك يعني فقط فقدان المزيد من أراضيهم؟

سلام دائم

إن حل الدولتين هو الحل الوحيد لتحقيق أمان دائم للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، وهو النهج الوحيد الذي سيضعف "حماس" فعلياً، ويمكن، بل ويجب، أن تضغط إسرائيل بشكل منفرد نحو وضع خطة، واتخاذ خطوات من جانبها قبل التفاوض مع الفلسطينيين. يجب أن يكون الهدف هو إحياء عملية أصبحت خامدة منذ فشلت آخر مفاوضات في سنة 2008، (منذ 15 عاماً). لكن على إسرائيل أن تعتمد الجانب السياسي من الاستراتيجيا الآن وليس في وقت لاحق. فإسرائيل لا يمكنها الانتظار حتى بعد وقت متخيل، أي عندما تهزم "حماس" بالقوة العسكرية وحدها.

الذين يشككون في أن حلاً بدولتين يمكن أن يتم تحقيقه يحق لهم ذلك، إذ إن استئناف المفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين لن يقلل من إرادة "حماس" للقتال. أولاً، هي تدعم بوضوح القضاء على إسرائيل؛ ثانياً، ستكون واحدة من أكبر الخاسرين في حل دولتين، إذ سيكون من المرجح أن يشمل اتفاق السلام حظراً على المجموعات الفلسطينية المسلحة بجانب المنافس الرئيسي لحماس داخلياً، السلطة الفلسطينية، التي من المحتمل أن تتمتع بدعم وشرعية متجددة إذا تحقق اتفاق يدعمه معظم الفلسطينيين.

لكن هذا هو السبب في أن الهدف الآن يجب ألاّ يكون تقديم خطة نهائية لحل بدولتين فوراً، فهو أمر لا يمكن أن يتحقق سياسياً في الوقت الحالي. بدلاً من ذلك، يجب أن يكون الهدف الفوري هو خلق مسار نحو دولة فلسطينية في المستقبل. وعلى الرغم من أن المشككين يزعمون أن مساراً كهذا مستحيل لأن لدى إسرائيل شركاء فلسطينيين مناسبين، فإنه يمكن لإسرائيل اتخاذ خطوات حاسمة بمفردها.

ويمكن للحكومة الإسرائيلية أن تعلن عزمها تحقيق حالة حيث يعيش الفلسطينيون في دولة اختارها الفلسطينيون جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل اليهودية. ويمكنها إعلان نيتها تطوير عملية لتحقيق هذا الهدف بحلول سنة 2030، وستعرض خطوات مهمة للوصول إليه في الأشهر القادمة. ويمكنها الإعلان أنها ستجمد فوراً المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وتتنازل عن مثل هذه المستوطنات في غزة حتى سنة 2030 كمبادرة أولى تظهر التزامها بحل حقيقي بدولتين. ويمكنها إعلان استعدادها للتعاون مع جميع الأطراف - كل الدول في المنطقة وخارجها، وجميع المنظمات الدولية، وجميع الأطراف الفلسطينية - التي تكون على استعداد لقبول هذه الأهداف.

بعيداً عن كون هذه الخطوات السياسية غير ذات صلة بجهود إسرائيل العسكرية ضد "حماس"، فإن هذه الخطوات ستعزز حملة استهداف مستمرة ومستهدفة للحد من تهديد قريب المدى لحماس، إذ تستفيد جهود "مكافحة الإرهاب" بشكل فعّال من المعلومات الاستخباراتية من السكان المحليين، والذين من المرجح أن يكونوا أكثر انفتاحاً على التعاون إذا كان لديهم أمل في بديل سياسي حقيقي للمجموعة "الإرهابية" [حماس].

في الواقع، وعلى المدى الطويل، تتمثل الطريقة الوحيدة لهزيمة "حماس" في دق إسفين بينها وبين الشعب الفلسطيني. وإن توقع خطوات إسرائيل أحادية تشير إلى التزام جاد بمستقبل جديد من شأنه أن يغير بشكل حاسم الإطار والديناميات في العلاقة الإسرائيلية-الفلسطينية، ويعطي الفلسطينيين بديلاً حقيقياً من دعم حماس والعنف. وفيما يتعلق بالإسرائيليين، سيكونون أكثر أماناً، وسيكون الطرفان أخيراً على مسار السلام.

طبعاً، لا تظهر الحكومة الإسرائيلية الحالية علامات على متابعة هذه الخطة. ومع ذلك، يمكن أن يتغير ذلك، وخصوصاً إذا قررت الولايات المتحدة استخدام تأثيرها. فعلى سبيل المثال، يمكن للبيت الأبيض ممارسة ضغط خاص أكثر على حكومة نتنياهو للحد من الهجمات التي لا تميز في حملتها الجوية.

لكن ربما تكمن أهم خطوة يمكن أن تتخذها واشنطن الآن في إطلاق نقاش عام كبير بشأن سلوك إسرائيل في غزة، نقاش يسمح بالنظر في استراتيجيات بديلة بعمق، وتقديم معلومات عامة غنية للأميركيين والإسرائيليين والناس في جميع أنحاء العالم لتقييم مداولات هذا النقاش بأنفسهم. ويمكن للبيت الأبيض أن يصدر تقييمات الحكومة الأميركية حول تأثير حملة إسرائيل العسكرية في غزة على "حماس" والمدنيين الفلسطينيين. ويمكن أن يعقد الكونغرس جلسات استماع تتناول سؤالاً بسيطاً: هل تؤدي الحملة على غزة إلى زيادة عدد "الإرهابيين" أكثر مما تقتلهم؟

من الواضح، يوماً بعد يوم، فشل المقاربة الحالية الإسرائيلية. إن المناقشة العامة المستمرة بشأن هذا الواقع، جنباً إلى جنب مع النظر الجاد في بدائل ذكية، يقدمان أفضل فرصة لإقناع إسرائيل بالقيام بما هو، في النهاية، في مصلحتها الوطنية.

ترجمة: د. صالح عبد الجواد 

* مصدر المقال: 

Robert A. Pape, “Israel’s Failed Bombing Campaign in Gaza: Collective Punishment Won’t Defeat Hamas,” Foreign Affairs, December 6, 2023.

 

(المستشفى الأهلي المعمداني، 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023، مدينة غزة) تصوير "بلال خالد، الأناضول، عبر Getty Images"
يسري الغول
مهرجان العودة السينمائي الدولي، مدينة  خان يونس، آب/ أغسطس 2024، صفحة مهرجان العودة الدولي السينمائي على منصة فيسبوك
فاطمة الزهراء سحويل