طابور هنا، طابور هناك
التاريخ: 
26/04/2024

في الأفق طابور يمتد لمسافة طويلة، يجب أن تقترب السيارة لتظهر معالمه. وهناك الآلاف من قوارير غاز الطهي التي تبلغ سعتها 12 كيلوغراماً، وبقرب كل قارورة يقف صاحبها. ويمتد الطابور لأكثر من كيلومتر ليصل إلى باب محطة لتعبئة الغاز على طريق صلاح الدين، وهؤلاء المئات لن يأتي دورهم قبل أيام.

خلال الخمسين يوماً [يوم كتابة هذا النص]، كانت هناك عدة طوابير، منها ما بدأ ثم اختفى، وأُخرى كانت وما زالت موجودة، وغيرها جديدة بدأت مع بدء الهدنة.

الطابور الأول هو طابور الخبز، ويقف فيه آلاف الناس أمام المخابز للحصول على كمية محددة من الخبز، بالكاد تكفي ليوم واحد لعائلة من 5 أشخاص. وهو طابور منظم يقتحمه من وقت إلى آخر شخص أناني يدس نفسه قبل الآخرين، فتحدث مشكلة ولغط ينتهيان بدفعه بعيداً ليقف في مكانه. وهذه الطوابير اختفت بالتدريج؛ ففي النصيرات على سبيل المثال، يوجد 4 مخابز، وقد قصفت إسرائيل اثنَين منها، فأصبحت الطوابير مضاعفة على المخبزَين المتبقيَين إلى أن انتهى الدقيق من السوق، واستُهلك الغاز الذي تعمل عليه ماكينات الخبز والعجن.

وما حدث في النصيرات، حدث في جميع مدن قطاع غزة؛ إذ تم قصْف نصف المخابز فوق رؤوس العاملين الغلابة الذين يعملون داخل المخبز طوال الليل ليحضّروا كميات من الخبز استجابةً لحاجة الناس. والبعض الآخر من هذه المخابز أغلق أبوابه مع انتهاء الدقيق من السوق، فتم دفع الناس بصورة مبرمجة ومتعمدة إلى المجاعة.

والنوع الثاني من الطوابير هو طابور التسجيل للحصول على الدقيق، وتجده على أبواب مقرات وكالة الغوث؛ فترى مئات الناس يسعون للتسجيل والحصول على رقم وموعد لاستلام الدقيق، وهذا طابور مستمر، فضلاً عن طوابير أُخرى على أبواب مقرات وكالة الغوث لاستلام الدقيق، وهذا طابور يومي.

وكانت هناك أيضاً طوابير على أبواب السوبر ماركت والمحلات التجارية بسبب التدافع والازدحام، إلى أن انتهت البضائع واستُهلكت، ولم يبق شيء يُباع، ولهذا السبب، فإن هذه الطوابير قد اختفت.

وهناك نوع آخر من الطوابير، وهو طابور البنك، وهو يومي وقصير، يتشكل من بضع عشرات من الناس، أمام ماكينة الصراف الآلي لسحب النقود، فمعظم الناس ليست لديهم نقود في البنوك، إنما فقط الموظفون وبعض أصحاب المال، أي بضعة آلاف من مجموع مليونَي إنسان في قطاع غزة يقفون أمام ماكينة الصراف الآلي.

أمّا الطوابير الحديثة، والتي بدأت مع سريان الهدنة [في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، في اليوم الـ 46 للحرب]، فهي طابور غاز الطهي الذي تم ذكره سابقاً، وطابور البنزين والسولار على بعض محطات الوقود التي وصلت إليها كميات محدودة؛ فتجد مئات السيارات والعربات تصطف لمسافة أكثر من كيلومتر، على أمل الحصول على بعض الوقود الذي قفز سعره في السوق السوداء ليصل إلى 1000%.

إن الحرب خراب، ودمار، وموت، وتسرق من البشر أهم ما يميزهم؛ إنسانيتهم. هذا ما تعرفه إسرائيل، وتفعله بغزة.

لعبة الموت

حين تصبح حياة شعب بأكمله عبارة عن بحث عن ملجأ وطعام وماء، فيهرب من الموت الذي يطارده من مكان إلى آخر؛ من غزة إلى النصيرات، ثم دير البلح، فخان يونس، وإلى رفح، وصولاً إلى اللامكان، إذ لا مهرب بعد رفح، ويتم حشْر 1,200,000 إنسان في مكان صغير، ويبقى القصف المدفعي والجوي والبحري يطاردهم، تاركاً بعضهم موتى، وبعضهم الآخر جرحى، وغيرهم معاقين، وآخرين مصدومين صدمة لا علاج منها، فتجدهم محرومين من الملجأ، والطعام، والدواء، والماء، والأمان؛ فما معنى هذه الحياة؟؟

تذكّرني حياتي هنا ببعض الأفلام الرخيصة التي تتحدث عن شركات تعطي الأغنياء فرصة ليطاردوا بعض الفقراء حتى الموت، فتجعل هذه الشركة اصطياد الفقير سهلاً على الغني، وتجعل النجاة مستحيلة بالنسبة إلى هذا الفقير.

نحن الفقراء هنا، نحاول الهرب، ونبحث عن مكان للاختباء والنجاة، وخلال هذه المطاردة، تصبح الكرامة رفاهاً، ويصير الحصول على حمام ساخن أسطورة، ويغدو الظَفَرُ بفراش للنوم صعباً، والحصول على غطاء للبدن تحدياً، ويصدح في السماء فقط صوت العذاب والموت.

عن المؤلف: 

حسام المدهون: مسرحي فلسطيني في قطاع غزة.