كي تتخطى الفنونُ الصدمةَ إلى الثورة
التاريخ: 
16/04/2024
المؤلف: 

يخطر في بال أحدنا سؤال ما إذا كان الفلسطينيون سيمرّون اليوم بحالة مماثلة لما بعد الصدمة التي مرّوا بها لعقد وأكثر بعد النكبة، قبل أن يستعيدوا عافيتهم في الستينيات، أدبياً وفنياً ووطنياً، ليصنعوا ثورتهم التي ستطوي حالة التروما تلك، وتصنع فنونها التي كانت ثورية آنذاك، ملازمة للعمل الفدائي.

إن السياقات التاريخية مختلفة اليوم مع حرب الإبادة التي لا يزال قطاع غزة يعيشها، ومع ارتدادات هذه الحرب في الضفة الغربية، وذلك بعجز عن استشراف ما ستحمله الأشهر والأعوام التالية، وخصوصاً أنه لا توجد وحدة وطنية يمكن لأحدنا تلمُّس معالمها، ولا كيان ثوري كما كان في الستينيات، يمكن بحسب السياقات التاريخية والجغرافية كذلك أن يترقّبه أحدنا من الآن وهنا. لكن، يبقى للفنون، بتمثيلاتها، إمكان الاستجابة التلقائية والأصدق في التفاعل مع الحدث التراجيدي، من دون أي اعتبارات لسياق تاريخي من دون غيره. وتتكيف الآداب والسينما وباقي أشكال الفنون مع كل مرحلة، تنعكس عن الواقع بتحولاته، وكلما كان الواقع كارثياً، أو مفصلياً في التاريخ، كان التكيف أكثر جذرية أو، على الأقل، تحولاً وظهوراً.

لقد شهد التاريخ ذلك في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، بكوارثها على الأصعدة كافة، وما حملته في تيارات تقصدتْ تكسير السائد قبل الحرب، أو التمرد عليه، بتكيُف مع واقع جديد تدمرت فيه المجتمعات وعمرانها. وخرجت في الخمسينيات "الواقعية الجديدة" في السينما الإيطالية، و"الرواية الجديدة" في الأدب الفرنسي، وكان لكل من التيارَين شكل في مجاله يعيد صوغ الأسس السينمائية أو الأدبية، وكانت لكل منها أسماء لمعت في التاريخ السينمائي أو الأدبي بصورة عامة. واستمر التياران بأشكال متغيرة حتى اليوم، إذ لا تزال تُحال هذه الرواية أو ذلك الفيلم إلى أحدهما.

وكذلك، شهد الفن تغييرات جذرية لمرحلة ما بعد الحرب، وفي أوروبا، بصورة عامة، برزت تلك التغييرات بشتى أسمائها وسماتها في الخمسينيات، واستمرت بتنويعات وتفريعات، وكان الأساس فيها آنذاك إخلاصها للواقع المدمَّر في الانعكاس عنه، فاختفت الواقعية والانطباعية والتكعيبية كما عُرفت قبل الحرب، أو مُسخت إلى أسماء وأشكال مستحدَثة، وظهرت تفريعات عن التجريدية وتجارب أُخرى امتازت كلها بتكسير الأنماط التقليدية لأسس الحرفة الفنية.

لا يمكن لأحدنا أن يتوقع الحال الفلسطيني، فنياً، بعد الحرب الإبادية في غزة، لكن هناك 3 مسارات، لا أرى غيرها، يمكن أن تتخذها الفنون؛ إمّا العودة إلى حالة ما بعد الصدمة في الخمسينيات الفلسطينية، فينكفئ الفلسطينيون عن الإنتاج بتفسيرات يمكن أن يكون أبرزها أن لا جدوى من كل ذلك الفن، وهذه حجج الخائبين واليائسين تجاه المأساة والفن بصورة مزدوجة، ولا أرى في الممارسين الجديّين والواعين من الفلسطينيين، في شتى مجالات الفنون، انهزامية تحيل إلى هذا المسار، وإمّا التمرد، كما في الخمسينيات الأوروبية، على واقع الفنون بشكله السابق للمأساة، والخروج بتقصّد وتمرّد عن منظومة الإبداع الأدبي والصناعة السينمائية والتعامل الفني، لما كان عليه قبل المحاولة الملحّة لإبادة الغزيين والمستمرة حتى اليوم منذ نصف عام. وهذا مسار لازمٌ تقصُّده.

أمّا المسار الثالث، وهو معيب في حق التاريخ الفلسطيني كما هو في حق الضحايا والناجين في قطاع غزة، فهو مسار المواصلة في الإنتاج، شكلاً ومضموناً، وكأن شيئاً لم يكن في القطاع، ومسار استئناف التواصُل والتواطؤ مع مؤسسات أجنبية غربية، كان لها موقف الداعم، كلاماً وصمتاً، لهذه الإبادة.

ربما تتفاوت توقعات أحدنا عن أمنياته هنا، أو ما تفرضه علاقات القوة عما يراه ضرورياً لفض هذه العلاقات، فالأزمة الكبرى في المشهد الفني الفلسطيني هو ارتهانه، تمويلياً وبالتالي بنيوياً، بمؤسسات غربية لها شروط أو تمنيات، نجدها في أشد حالات الصناعة الفنية الفلسطينية ارتهاناً بهذه التمويلات، وهي السينما. أمّا الفن، فله حالة أكثر استقراراً، لكنها تبقى مرتبطة بالسوق الرأسمالية، ونرى ذلك في الحجّ الذي لا يتوقف للفنانين وأعمالهم إلى السوق الخليجية، وخصوصاً المطبّعة منها.

ويبقى الأدب الأكثرَ استقلالاً واستقراراً في المجالات الفنية بصورة عامة، فليست التمويلات الغربية شرطاً في نشوئه، ولا السوق التطبيعية شرطاً في حركته. يبقى الأدب الفلسطيني أشد إخلاصاً لتحولات الواقع الفلسطيني، ليكون ذلك أشد وقعاً على المجتمع الفلسطيني المحتفي تاريخياً بروائييه وشعرائه بصورة سابقة لفنانيه وسينمائييه وأعلى منه. وأحيل ذلك إلى عامل أوّلي يليه آخر ثانوي، وهو تحرُّر العمل الأدبي الفلسطيني من عمليات الإنتاج والتسويق المرتبطة بمنظومة رأسمالية يمكنها أن تحول إمّا دون إخراج الفيلم إلى الصالات، وإمّا إخراج اللوحة من المرسَم. إذاً، فالمسألة تتخطى الأفراد إلى منظومة يصعب عليهم تحييد عملهم عنها، وذلك ما لم تحوِهم مؤسسات تؤمّن لهم بديلاً، كما كان حال منظمة التحرير الفلسطينية وشبكات علاقاتها الثورية والتضامنية في السبعينيات.

إذاً، فالمسار الذي أرى الفلسطينيين سائرين إليه، لاختلافات في السياق التاريخي تحديداً عما عاشه أهلنا في الخمسينيات، هو الثاني؛ وهو التكيف مع واقع ما بعد الإبادة بتكسير علاقات القوة التي كانت سائدة في عوالم الفنون الفلسطينية قبل الإبادة. أمّا السؤال "متى يبدأ ذلك؟ وإذا بدأ، فكيف؟" فتبقى الإجابة عنه للأعوام القليلة القادمة. لكن، لما أوردتُه أعلاه، يبقى المجال الأرجح للدخول في هذا المسار التمردي، أو افتتاحه، الأشبه بما دخله الفلسطينيون في الستينيات واستمر بنضج في السبعينيات، هو الآداب المتحررة لطبيعتها من منظومة إنتاج وسوق رأسمالية متوغّلة في الصناعة السينمائية والفنية في العالم، والإنتاجات الفلسطينية منها الخاضعة لها بصورة يجب التحرر منها، إذا استهلّ طريقه وقتاً.

ولا تقع المسؤولية فقط على الأفراد (أدباء، وسينمائيين، وفنانين)، لكن، وفي الدرجة ذاتها، على المؤسسات الفلسطينية المرتبطة، قبل غيرها من فئات المجتمع الفلسطيني، بمؤسسات غربية هي مراكز في علاقات القوة هذه، وهي المانحة، وبالتالي المسيطرة. إذاً، فهي بالتالي راسمة المسار الأنسب لها، عبر مؤسسات أصغر تعيش أو تعمل أو تتطور بمِنح هذه المؤسسات الكبرى. لا بد لتحالف فلسطيني من أن ينشأ بين الأفراد والمؤسسات والمجتمع (بين صنّاع الفن والراعين والمتلقين) من أجل الخروج بحالة لا تكون صامتة فيها تماماً، تجنُباً لشروط أجنبية (المسار الأول)، ولا تكون متفوّهة بما تسمح به تلك الشروط (المسار الثالث).

لا بد لشيء ما من أن يتغير في المشهد الثقافي الفلسطيني، فالقول إن ما بعد الحرب لن يكون كما قبله يستحق أن يطال جوانب الحياة الفلسطينية كافة، وخصوصاً الفنون. ويكون ذلك؛ أولاً ودائماً، ليس بالتكيّف مع الواقع الجديد، إنما بالالتحام مع الشعب في واقعه الجديد، ويلي ذلك تكيُّف العمل الفني تلقائياً. ويستطيع الفلسطينيون اليوم التعلم من تاريخهم القريب، كما يستطيعون تخطّي الخمسينيات إلى الستينيات، في القفز عن حالة التروما التي عاشها أهلنا، بالردّ مباشرة على الإبادة بصناعة فنية ثورية وعصرية، تماماً كما ردّ أهلنا على النكبة بصناعة فنية ثورية، وبصورة غير مباشرة، في سياق آخر استلزم المكوث أعواماً من الصمت الخائف والمتوجس والتائه. هذا الصمت في الفنون، ونحن نعيه تماماً اليوم، هو ما يجب تخطّيه إلى الثورة.

عن المؤلف: 

سليم البيك: كاتب فلسطيني.