النكبة الثانية والحرية الفلسطينية
التاريخ: 
23/11/2023
المؤلف: 

تستمر أحداث النكبة في فلسطين المحتلة، مع تحويلها إلى مسميات مريضة ضمن منهجية لدولة مستوطنة بلا منهجية؛ فتظهر عن طريق "استقلال" يقام فوق القرى المهجَّرة، واحتجاز جثث الشهداء، واختراع السجون، وإقامة متاحف نازية جديدة تحاول باستمرار اجتثاث الحق الفلسطيني في المقاومة من أجل النهوض، ومحو الحقيقة تماماً كمحاولة "محو الفلسطينيين" في مختلف المناطق الجغرافية، وهي المناطق التي تعددت نتيجة الماكينة الاستعمارية التي تنظم مركزية الاحتلال وإسناده الغربي والرجعي في آن واحد. يتجلى المشهد في غزة بصورة "النكبة الثانية" للفلسطيني المطارَد بالإبادة، والتهجير، وترك البيوت والانتقال من شمال غزة إلى جنوبها في طريق ملغوم بالموت والفاشية، يتشتت فيه الناس وتصبح العائلة الواحدة أجزاء متفرقة بين عدة أماكن، ويصبح الفرد كذلك مشتتاً بين الأرض والزمن والقلق؛ فإلى أين يذهب في هذه الأيام التي تحمل النكبة لغزة؟ إن المشهد دامٍ، عجزت أمامه اللغة عن التعبير والتوصيف، ونفدت من البلاغة، بياناً وبديعاً ومعنىً، كل الأساليب والأفكار لتصويره وبقيت قاصرة عن ذلك، فقد أصبح الإنسان هناك ممزقاً بلا مدينة وهوية، ناهيك بكينونته الفلسطينية المطاردة من الصهيونية.

 لقد استنهض إلياس خوري من وسط نكبة فلسطين الكبرى، "زمن النكبة المفتوح"، بارقة الأمل في استعادة الاستقرار والآمال الممكنة، والتي تشرق مع كل لحظة يستحضر فيها الفعل الثوري في العمل الثقافي والفكري، بثلاثية الذاكرة والصمود والوعي، في ظل رؤيتنا أن وجود الاحتلال أصلاً مرهون بهوية التصهين واللغة المتصهينة في تعددها الواحد، وبدين تتوالى عليه التأويلات في عملية التخريف الاستعماري، وتيهه عن الحقيقة وعودته، من الصفر، إلى مسرح الإرهاب المعلَن الذي وضع فيه العقل الصهيوني جرائمه وأفعاله ضمن نظريات السيطرة على فلسطين، وعلى المرء وروحه هناك في غزة، مبعداً عن نفسه مصطلحات هذه الجرائم والأهداف بحروب الدول الأُخرى، فتجده ينادي، بصورة مثيرة للسخرية، داعياً إلى عقد قمم للتصالح بين الأنظمة الواحدة المتصارعة، ويدين الحروب والأفعال العسكرية في النطاقات الأوروبية والعربية، أي يبدأ التفكير بعقلية السياسي، محاولاً الدخول إلى أنظمة الدول وثقافتها المعروفة، لتصبح الدولة اللاشرعية وليدة الشرعية، وهو ما ترفضه الطبيعة والحقيقة والتاريخ، الأمر الذي يظهر حين يجد هذا الجسم الغريب تكوينه مشروخاً عن وجوده وحقيقته، مدركاً رفض الوجدان الشعبي له، وملاحقة القانون البشري إياه، إذ يُجري الاحتلال عبر وسائله المتعددة تدشين منصات افتراضية مفرطة في الهيمنة، والمشاركة في الهوية العربية داخل التراث وخارج المنطق بفواعله الواقعية، في زمن لم ينته على الرغم من بداياته الواضحة، إذ استُهل بتوليد الاستعمار البريطاني في فلسطين، واستُكمل بتسليم الاستعمار الصهيوني الأرض لاحقاً. والزمن هو إحدى الأدوات المستخدمة في حيثياث متنوعة؛ منها الكتابة عن "زمن الجغرافيات المتعددة" للفلسطيني في رحتله غير المنتهية كما اقترح عبد الرحيم الشيخ، والزمن الموازي للأسير والمفكر وليد دقة، الذي وضع في سجنه النظرية والتطبيق حتى ميلاد ابنته "ميلاد"، ومسيرة الأسرى الشهداء، والكتابة في الجو  السيئ عند العدو.

 فزمن المخيم عند الأسير باسم خندقجي هو زمن السجن الذي لا يتغير مسماه إلاّ بعد وقوع المجزرة، بالإضافة إلى المآسي التي فيه، وهو زمن مسكوت عنه. أمّا زمن الموت المعلق، فلم يتسنَّ فيه للموت أن يكون طبيعياً لكمال أبو وعر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فارس بارود، الذي شهد صوت الأنابيب وغاز المبردات قبل موته في سجنه الرهيب، بالإضافة إلى داود الزبيدي الذي عاد شهيداً يوم النكبة، واستمر أسيراً في ثلاجات الصهيونيين. ناهيك بالزمن الاستعماري الذي يبدأ باللامحدودية في استعمال أدوات القمع والإبادة، والمسح، والتدجين الديموغرافي، والذي جعل فلسطين بوابة للتوطين اليهودي حتى يصل إلى غزة المحاصرة، تحت قبعة "نجمة داود" والدليل الصهيوني. ويرتكز مكان هذا الزمن على قتل الشَّعر والشِّعر، وعدم السماح بمرور الرواية الفلسطينية من دون مطاردة واغتيال، كما نجد في مسيرة غسان كنفاني، وماجد أبو شرار، وكمال ناصر، وصولاً إلى الصوت الذي "كان معكم"، وهو صوت شيرين أبو عاقلة، وبلال جاد الله، الذي رحل شهيداً في الأمس، وغيرهما من شهداء الكلمة، وأمَّا نعش شيرين، فقد قاد مسيرته الأخيرة في مواجهة ستعود إليها الأساطير يوماً عن الوحش ومطاردة جثة الشهيدة وصوتها الخالد مع الأجيال، وكأن الموت بين الرصاص هو عنوان الأبجدية الفلسطينية المستمرة. وزمن النكبة في غزة تعود إليه هذه المرحلة بلا نهاية، ولربما تكون النهاية الوحيدة، بين قوسين، حين ينتهي زمن العدو، ويستسلم ويتوقف عن القتل المعلَن في المخيمات المطارَدة والأحياء السكنية. وقد وصف زكريا الزبيدي، حين فتح عيون الحرية في أرض الشمال لبيسان المحتلة، الاحتلال بأنه لا يريد أن تكون هناك نهاية، لأنه أصلاً لا يعترف بالبداية حين يجدد بدايات الظلم والظلام لمشروعه ومسوغاته المتطورة نحو السيطرة، والسياسات الحيوية المدمرة، التي تسيطر على الروح الداخلية والحركة، وهذا في رسالته "الصياد والتنين" وهو يكتب مخطوطته الأولى، وقبل أن يذهب جسده إلى محاكم المسرحيات الهزيلة في وصف حنة أرندت في كتابها المعروف "أيخمان في القدس.. تقرير حول تفاهة الشر"، وبعد أن أصبح حاضره في العزل الكارثي في ريمونيم جنوبي النقب المحتل، لتصبح بعد ذلك الذاكرة مفقودة عند أحمد مناصرة الذي يكبر مع صرخته "مش متذكر"، ولم تنفَّذ إلاّ في مواجهة الروح الفلسطينية حين تعود إلى الفدائي مكانته وطريقه، على الرغم من "مستوطنات العقاب" وفداحة الأسى ومآلاته.

لذا، على الرغم من مأسوية التاريخ، فإن مكانة النكبة الكبرى حتى أحداث غزة هي العودة الفكرية، وتحرير الوعي، وكتابة الحقائق ضمن النهج الإنساني، ويجب أن تُقص الذاكرة وتُروى من كبسولات الفقدان، وإن غاب أصحابها وحضروا في الرواية الشارحة الناقدة، يجب أن يبقى السؤال حياً تتولَّد منه الأسئلة إذا ما تعرضت [الذاكرة] للاغتيال، وقتْل الكلام، في عصر التحولات الصعبة والمريرة الساعية لإبادة مكوناتها المكتوبة، والمسجلة، والمفكَّر فيها والمصورة فنياً، والتشكيلية منها في الشارع العربي، ومكتباته، وحضوره في الوسائل التقنية، والانتافضة البصرية التي لم تتوقف يوماً، فالعين تدخل حيز النقد أولاً، ومعها تاريخ الشواهد، وعند اغتيال العقل وعينيه، تعود الرصاصة بالعوار على الذاكرة.

إن أسئلة النهاية لا تتوقف عند حركة مجروحة جروحاً تلخص العنوان الأبدي والفريد لشطر جغرافية الفلسطيني، والذي منه تولد النشأة التي لا تتوقف، وتُسلَّم من يد إلى أُخرى، والمأساة الفلسطينية كموضوع ومضمونه، مع صوت غنائها الموصوف لكتّاب الأرض المحتلة منذ زمن الانتداب البريطاني الأول، ويليه الاستعمار الصهيوني، ومواجهة الثائر الفلسطيني والعربي، وصولاً إلى الطليعة الشعرية التي تمثلت في إبراهيم طوقان، وأبو سلمى، وعبد الرحيم محمود، انتقالاً إلى جيل غسان كنفاني، وناجي العلي، ومحمود درويش، وتوفيق زياد، وإميل حبيبي، وسميح القاسم، وراشد حسين، وسالم جبران، وحنا أبو حنا، ومن جاء بعد ذلك الجيل مستمراً في تجديد الكتابة، والمقاومة حيث الشعلة لا تنطفئ بلا نهاية، وإن تفاقمت أزمنة الانهيار التابعة، حتى بلغنا زمن الكتابة المتحررة في سجون الاحتلال للحركة الأسيرة، وكتابة الفكر والنظرية السياسية والرواية والشعر والمسرح والرسائل واليوميات، وهذا ليس وصفاً وحصراً بقدر ما هو مقدمات المقاومة والمعارضة التي تستكمل الرحلة.

قبل أشهر، رحلت سلمى الخضراء الجيوسي، وهي "ناقدة ’حرثت الأرض‘ بيديها العاريتين" بحسب تعبير الشاعر زكريا محمد الذي افتتح به مقالته وشهادته كعنوان، فنستذكر قامتها الفاعلة في تواريخ النكبة، ورصيدها الذي ملأ مكتبة الذاكرة والتجديد في النقد والشعر والدراسة والترجمة، وجدار الثبات والصمود والمعرفة عندها، والذي يلاحقه وإياها الاحتلال، رافعين إنتاجها كراية عربية تقول القول وتحفظه مكتوباً، وترصد الفعل الفلسطيني في أرضه، وتبحث عنه في عبارة منهجية لرومانسية الثورة الأدبية، و"تكتب من هناك ليكون هنا"، من الشتات الفلسطيني إلى الوطن المسلوب، فهذا الزمن النكبوي المتجدد أيضاً محاط باتجاهات الثقافة، والنضال، والإبداع الذي تعددت معه أشكال الكتابة؛ قبل الزمن القومي، وفي خطاب القومية العربية وبعدها، ليعيد مع كل بداية من هنا وهناك الرواية الفلسطينية، وتراثها الشعبي الممتد، وهو الإرث الذي يسرقه الاحتلال، حتى الكلام والوجدان وتنوعات المجتمع الفلسطيني.

إن الكتابة الصحافية جزء من ضمائر الحق التي تناولت النكبة الفلسطينية، والإجرام الإسرائيلي المتواصل منذ المجزرة الأولى، وملاحقة أهل الشتات، والفدائي الفلسطيني، وحروب الإبادة في قطاع غزة، والمجازر الدموية والاغتيالات في الضفة الغربية كما في جنين ونابلس، وعربدة المستوطنين في القدس والمسجد الأقصى، وتقسيم الضفة الغربية إلى مجمعات للمتسوطنات الصهونية. ولا يعود حاضر هذه النكبة والظلم بسبل العاطفة، إنما حين تأخذ المعرفة التحريرية مسار الأصل في فهم مرصد النظرية الاستعمارية التي دخلت فلسطين بوعد بفلور وعصابات الموت والتهجير، إلى الخروج من فلسطين في البحث عن شرعية مفقودة لدولة تحمل وصية المستوطنات، وقانون الحركة الصهيونية، ووصف محمود درويش "أحد التجليات السمجة لظاهرة الاستلاب" لذهنية المستعمر وشعبه الذي تشكَّل من الهجائن بثنائيات متعددة للهوية، والجنسية، وغطاء الدين الذي رفع سيف الموت في وجه الأحياء والحياة.

عن المؤلف: 

محمود بركة: فلسطيني يحمل درجة الدكتوراه في الإعلام السياسي، وباحث إعلامي في الشأن الثقافي والفلسطيني. أصدر كتاب "الأطر الإعلامية للسياسة الفلسطينية الخارجية"، وكتب العديد من المقالات الثقافية.