مع القرار الأخير الذي اتخذته الحكومة الفلسطينية يوم الخميس الفائت 17 كانون الأول/ ديسمبر بعدم لجوئها إلى الإغلاق الشامل والاكتفاء بالإغلاق الليلي حتى نهاية العام، استغلت بلدية بيت لحم الفرصة للإعلان عن موعد تنظيم سوق الميلاد في ساحة كنيسة المهد كما جرت العادة طوال 20 عاماً، ولكن ليوم واحد فقط.
لم يختلف السوق هذا العام الأعوام السابقة، ولكن التدابير التي رافقت تنظيمه تغيّرت بالكامل، بسبب الإجراءات التي فرضتها جائحة كورونا (كوفيد-19) على فلسطين وعلى بيت لحم تحديداً، والتي عانت خلال الأسبوع الماضي من نسبة إصابات ووفيات عالية.
كنا قد تواصلنا مع مسؤولة العلاقات العامة في بلدية بيت لحم "كارمن غطاس" أكثر من مرة، ولم يكن لديها جواب بشأن موعد تنظيم السوق، وإن كان سيتم إلغاؤه أم لا. واليوم، بعد تمكن البلدية من تنظيمه، تقول غطاس: "نشعر برضى كبير عن تنظيم السوق هذا العام، رغم كل التحديات التي واجهتنا وسط هذه الظروف، وقد التزمنا بمتابعة تقيّد المشاركين في السوق وزواره بالتعليمات الصحية، وخصوصاً لبس الكمامات والحفاظ على التباعد الاجتماعي، والتعقيم المستمر وفحص الحرارة".
وفي محاولة منها لإنجاح السوق هذا العام، ومساعدة أصحاب الحرف والمنتجات التي تعرض للبيع، أعلنت البلدية عن توفير أكشاك مجانية، ووضع جميع الإمكانيات اللوجستية تحت تصرف المشاركين فيه، سعياً لإنجاح أبرز فعاليات الأعياد، وإدخال البهجة والفرح على نفوس سكان المدينة التي حرمت منهما منذ بداية موسم الميلاد، ولا سيما أن إضاءة شجرة الميلاد تمّ من دون أي حضور جماهيري.
تقول غطاس:" رغم كل شيء، شاهدنا عائلات بأكملها مسيحية ومسلمة في السوق، وطوال ساعاته التي امتدت لدقائق قبل موعد الإغلاق الليلي اليومي المفروض (الساعة السابعة مساءً)، وشعرنا بتعطش المواطنين للفرح رغم أجواء الجائحة التي تلقي بظلالها الثقيلة على المدينة".
وكانت بلدية بيت لحم قد أجلّت موعد افتتاح هذا السوق أكثر من مرة بسبب إجراءات مكافحة الفيروس، وكان مقرراً تنظيمه في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت. واعتادت البلدية خلال العشرين عاماً الماضية على تنظيمه بمشاركة دولية، بينما اقتصرت المشاركة فيه هذا العام على مشاركين محليين فقط.
الأسواق… فاتحة الزمن المجيد
إن أسواق الميلاد في فلسطين حديثة نسبياً، وكان أقدمها هو ذاك الذي نُظم في مدينة بيت لحم ضمن احتفالات الألفية الثانية "بيت لحم 2000"، ليصبح تنظيمه فيما بعد تقليداً سنوياً بمشاركات محلية ودولية كل عام،كما جرى تنظيم أسواق في مدن وبلدات فلسطينية عدة، مثل رام الله وبيرزيت وبيت ساحور وبيت جالا.
وفي هذا العام، تمكنت بلديتا بيت لحم ورام الله فقط من تنظيم هذا السوق بسبب جائحة كورونا، بينما أعلنت كل من بيت جالا وبيت ساحور وبيرزيت إلغاء الفعاليات. وعادة ما كانت تنظم هذه الأسواق قبل شهر من عيد الميلاد، وترافقها فعاليات ثقافية وفنية واحتفالية تمتد طوال اليوم عموماً.
فرصة تسويق للمشاريع الصغيرة
وتشكل هذه الأسواق فرصة لأصحاب المشاريع الصغيرة، وخصوصاً من النساء والشباب، كي يقوموا بعرض منتجاتهم وتسويقها للجمهور، كما هو حال "رولا شاهين" من مدينة نابلس التي عرضت تحفاً خشبية بتيمة الميلاد، وهو مشروع بدأته في آب/أغسطس الفائت بمساعدة زوجها بعد خسارتها عملها في مجال الهندسة المعمارية مع بداية الجائحة. وكان سوق الميلاد في هذا العام هو الخامس الذي تنظمه بلدية رام الله، وهو وفّر لها فرصة لإشهار مشروعها وتسويقه خارج مدينتها، لكن الإجراءات التي فرضت للحد من انتشار فيروس كورونا أثرت على تسويق منتجاتها، وتقول: "عادة ما يزور الناس الأسواق بعد الساعة الخامسة مساء، ولكن الإغلاق الليلي يفرض في تمام الساعة السابعة مساء، ما يجعل وقت التسوق ضيقاً جدا".
وفضلاً عن "رولا شاهين" شارك في سوق الميلاد الذي نظمته بلدية رام الله هذا العام أكثر من خمسين من أصحاب المشاريع البيتية والصغيرة، معظمهم من النساء والشباب، كما تقول مديرة دائرة الشؤون المجتمعية والثقافية في بلدية رام الله "سالي أبو بكر"، التي اعتبرت أن تنظيم هذا السوق، رغم كل ظروف الجائحة والتغيرات التي فرضتها، كان إنجازاً حقيقياً. فعادة ما يتمم تنظيم السوق في مكان مغلق، ولكن هذا العام تم تنظيمه في مكان مفتوح في منتزه البلدية، ونظمت الأكشاك بشكل يضمن التباعد فيما بينها، كما يضمن تباعد زوار السوق، وفرضت البلدية إجراءات مشددة على الداخلين إلى السوق من حيث الالتزام بالكمامات والتباعد الاجتماعي، وضمان عدم الاكتظاظ. ومن جهة أخرى، ألغيت جميع الفعاليات الفنية والثقافية والمسابقات المصاحبة للسوق، التي نظمت في دورات السوق الأربع السابقة، واقتصر الأمر هذا العام على التزيين وموسيقى العيد.
وبحسب "سالي أبو بكر"، فإن تنظيم السوق يندرج في إطار سياسة البلدية، الرامية إلى "توفير منصات خارج الأطر التقليدية لتشجيع الحرف اليدوية، وخلق أجواء محيطة تشكل ملتقى لسكان المدينة وزوارها، سواء من العارضين أو الزائرين لهذه الأسواق، يما يعكس روح المدينة الجامعة للكل". وأضافت: "حرصنا على أن نختتم هذا العام في المدينة بفسحة من الفرح بعد خسارتنا موسمي الربيع والصيف بسبب كورونا".
كورونا العدو الكبير
غيّرت كورونا مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد بصورة كاملة، وليس فقط فيما يخص أسواق الميلاد وتنظيمها، وهو تغير لم تعرفه فلسطين على الرغم من جميع الأحداث الصعبة التي مرت بها.
"كارلوس زلفو " ( 44 عاماً) واحد من أصحاب المشاريع البيتية التي تنتج العسل والنبيذ البيتي، وهو لاحظ هذا التغير خلال مشاركته في السوق، وقال: "بالرغم من الفرح الذي كان واضحاً في وجوه زوار السوق/ إلا أن التغيير من السهل ملاحظته." وتابع في حديث خاص:" غاب عن السوق كبار السن، ولم تصل أعداد الزوار إلى ثلث عدد من كان يحضر في الأعوام السابقة، ولم يحضر سياح أجانب كما في كل عام ليشاركوننا ونتبادل معهم طعامنا وثقافتنا".
"كارلوس زلفو" الذي اعتاد المشاركة في السوق منذ سنوات ، يستذكر أصعب الأوقات التي مرت على مدينة بيت لحم منذ الانتفاضة الثانية وما تلاها من أحداث، ولكنه يعتقد أن كورونا كانت أصعبها. ويقول: "نحن لا نواجه خطراً واضحاً، فالخطر ممكن أن يكون القريب أو الصاحب أو حتى الكاهن في الكنيسة". وهو سيحرص على حضور قداس العيد والصلاة، ولكنه سيتخذ جميع الإجراءات الوقائية الممكنة هو وأفراد عائلته، وخصوصاً لبس الكمامة والتعقيم، بينما يفضل كثيرون، ولا سيما من كبار السن، البقاء في المنازل هذا العيد.
"يوسف بصير" ( أبو عواد)، 75عاماً، من بلدة الطيبة الواقعة إلى الشرق من مدينة رام الله، قال: "إنه لن يكون سبباً في نقل العدوى لزوجته أو لأبنائه وأحفاده، وأنه سيقوم بتقديم التهاني بالعيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهاتف". ويتمنى أبو عواد، في هذا العيد، أن تمر هذه السنة بسلام، وهو الذي واكب أعياداً كثيرة منذ سنة 1954 وشهد أحداثاً صعبة للغاية، كاحتلال ما تبقى من فلسطين سنة 1967 والانتفاضة الأولى والثانية والمواجهات والاعتقالات والمطاردات في قريته والقرى المحيطة، ويقول: "أتذكر عيد الميلاد الذي أعقب النكسة واحتلال الضفة، قمنا بالاحتفال وتزيين الشجرة وسط القرية بالورود والأعلام، كان الاحتفال بالنسبة لنا مقاومة".