على عكس معظم التوقعات التي كانت تشير إلى احتمال خروج ملايين البشر من دائرة الفقر خلال هذا العام، جاءت سنة 2020 بوابل من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تربعت على رأسها النواتج المترتبة في ضوء انتشار فيروس كورونا المستجد، إذ قلبت الموازين وعكست التوقعات بما تمخض عن الجائحة من تسارع في انهيار عدد من المنشآت والهياكل الاقتصادية، وولوج العديدين حول العالم –كعمال المياومة وصغار الكسبة- إلى دائرة الفقر، مؤسسين بذلك لشريحة اجتماعية وليدة ممن يمكن وصفهم بالفقراء الجدد، وذلك بعد أن أتاحت سنة 2019 انضمام أثرياء جدد إلى نادي المليارديرات حول العالم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفقراء الجدد مختلفون بالضرورة –من حيث استشعارهم الأزمة ودرجة تضررهم وتأثرهم بها بالحد الأدنى- عن الشريحة التقليدية من الفقراء الذين تكيفوا مع ضيق الحال، وقد يشكل ظهورهم تكريساً لنواتج هذه الجائحة التي اخترقت الحدود الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ردود الأفعال لإغاثة المتضررين من الأفراد والعائلات الأكثر عرضة للانكشاف، ولمواجهة التبعات الاجتماعية-الاقتصادية للجائحة حول العالم، جاءت في صور متباينة، سواءً على شكل معونات مباشرة تقدمها حكومات الدول ومؤسساتها المتعددة لدعم المتأثرين من مواطنيها، أو من خلال تأسيس صناديق وإطلاق مبادرات فردية ومؤسساتية لتقديم المساعدات العينية والدعم المعنوي للمعوزين، بما يتيح ترسيخ التكافل والتضامن الاجتماعي، وغيرها من مظاهر المساندة. وفي الوقت الذي أعلنت دول عديدة اعتزامها تقديم مساعدات مالية للفئات الأكثر تضرراً، وسط تطمينات بالعمل على استقرار الحياة، برزت تصورات محلية متعلقة بتراجع ثقة الأفراد بقدرة مؤسسات السلطة الفلسطينية على احتواء وإدارة الأزمة من الناحية الاقتصادية والمالية، وذلك في ظل ارتفاع الدين العام الفلسطيني إلى نحو ثلاثة مليارات دولار، وتأخر الحكومة والهيئات المحلية في إعلان إجراءاتها "التطمينية". وسأعرض في هذا المقال لسلوك عدد من المؤسسات الحكومية الموجودة في رام الله والبيرة، والتي قد تشكل نموذجاً يتيح فهم استراتيجيات أذرع الحكومة لمواجهة الأزمة.
يشير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى رام الله والبيرة بصفتهما أعلى مستوى في هيكل التقسيمات الإداريـة للأراضي الفلسطينية ومركزاً لمحافظة رام الله والبيرة، وتعتبر المحافظة –كمؤسسة- إطاراً ناظماً للعمل البلدي والمؤسسي ضمن هذا النطاق الجغرافي. وقد برز دور مؤسسة المحافظة خلال الجائحة –كامتداد لدورها الطبيعي- في متابعة قضايا المجتمع بصورة عامة، إذ ترأس المحافظ لجنة الطوارئ والهيئة الأمنية في المحافظة، وكان لطواقمها حضور واضح في الميدان. وقد تم تقسيم محافظة رام الله والبيرة إلى أربعة قطاعات تنظيمية بهدف تسهيل متابعة أمور الناس وحل مشكلاتهم وكسب ثقتهم والحفاظ على كرامتهم، إضافة إلى اضطلاع المحافظة بالمسؤولية الأمنية والصحية والمتابعة الميدانية على حواجز المحبة، ومساعي ترسيخ السلم الأهلي، وتكريس صور التضامن والتماسك الاجتماعي.
ويشير نائب المحافظ إلى جسامة المهمات والأعباء الملقاة على عاتق محافظة رام الله والبيرة، مقارنة ببقية المحافظات، وخصوصاً في ظل تحملها مسؤولية قرى شمالي غربي القدس -التي تشكل بؤرة للوباء- إضافة إلى كثرة مراكز الحجر الموجودة في المحافظة وضرورة تأمين المحجورين بكل ما يلزمهم من الدواء والغذاء، والتنسيق مع مختلف الجهات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص والغرفة التجارية، مؤكداً أن الناس "لا يزال فيها الخير." وقد شهدت الفترة الأخيرة حضوراً ميدانياً واضحاً ومميزاً للمحافظ، إضافة إلى المتابعة الحثيثة للعديد من القضايا المتعلقة بإدارة الأزمة. وقد عملت المحافظة على تقديم العديد من المساعدات العينية للعائلات المتضررة، وخصوصاً مع حلول شهر رمضان، وأطلقت حملة لتوزيع كميات من دقيق القمح، بما يعادل مليون رغيف خبز، كما عملت على تحديد أسعار السلع الرئيسية ورفض الاستغلال، وساهمت في تهيئة نوع من التسوية بين ملاك العقارات والمستأجرين المتضررين الذين لم يتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم المادية. وقد استندت المحافظة في عملها إلى قواعد بيانات كل من وزارة الشؤون الاجتماعية ولجنة الزكاة في المحافظة، إضافة إلى تحسس أوضاع الفئات المتضررة والتي دخلت دائرة العوز بفعل الجائحة، كعمال المياومة والسائقين، والإيعاز بضرورة أن تشملهم المساعدات أولاً، باعتبارهم أولوية.
دور المحافظة في إدارة الأزمة، جاء حاضناً ومكملاً لممارسات لجنة الزكاة في المحافظة والتي استمرت في تقديم المساعدات العينية والنقدية للعائلات المستورة وصرف كفالات الأيتام، التي تم تحويلها من المحسنين والمؤسسات الخيرية. ويؤكد مدير عام لجنة الزكاة أن اللجنة ملتزمة مساعدة العائلات الفقيرة وأسر الأيتام المعتمدين لديها، وأن اللجنة لا تخرج في مسار الدعم الذي تقدمه عن هذا المضمار، ذلك بأنهم في اللجنة ليس لديهم ميزانيات كافية ولا طاقة لهم لمواجهة الفقر المستجد بفعل الجائحة، وخصوصاً في ظل إغلاق شرياني اللجنة الأهم، المساجد والأسواق، وتراجع مدخولات اللجنة. وعلى الرغم من أن آلية اختيار المستفيدين خلال الأزمة لم تختلف ولم تشتمل على إضافة فقراء جدد، فإنه يبدو أن لجنة الزكاة لم تتوان في الخروج عن هذا النسق، فقد أرسلت اللجنة، وكمبادرة أخوية، مئة سلة غذائية بقيمة 15 ألف شيكل إلى لجنة زكاة بيت لحم عند إغلاقها في بداية الازمة. كما خصصت اللجنة باباً لمن يتصل ويشكو حاله، وقامت بتدخلات اشتملت على تقديم مساعدات في الحالات الطارئة جداً بعد التثبت من حقيقة الحاجة، وبذلك يكون هذا الباب مفتوحاً، للضرورات وفق مقتضيات اللجنة، وليس باباً عاماً لكل محتاج، ولا يساهم بوضوح في الحد من أثر الجائحة على الأسر العفيفة.
سلوك الهيئات المحلية في محافظة رام الله والبيرة وطريقتها في التعامل مع الأزمة، اشتمل على صور ونماذج متباينة، إذ شكلت تجليات وممارسات كل من بلديات رام الله والبيرة نموذجاً واضحاً لتميز رام الله في السعي لزيادة وعي السكان وتعزيز انتمائهم وشعورهم بالقرب من المدينة ومؤسساتها، إعلامياً وخطابياً بالحد الأدنى، وبات ممكناً ملاحظة الفرق في توجهات بلديتي رام الله والبيرة مرة أُخرى. وعلى الرغم من وجود قرار في بلدية رام الله بالالتزام بدورها الخدماتي وعدم تقديم مساهمات إغاثية للمتضررين، في بداية الأزمة وقبل تفاقمها، فإنها شكلت فريق طوارئ للتعامل مع الجائحة، ووضعت خططاً بديلة وسيناريوهات متعددة لعملها، وعملت على تهيئة الناس وتوعيتهم حول كيفية مواجهة الفيروس ورفع روحهم المعنوية، وقامت بزيادة تفعيل دورها المجتمعي من خلال بث العديد من الأفلام القصيرة الموجهة إلى جمهورها عبر صفحتها على الفيسبوك، والتي تعرض عدداً من التمارين الرياضية المنزلية، أو تحكي قصة مناسبة للأطفال، كما أصدرت نشرة متعلقة بكبار السن، ووضعت العديد من الصور التي تؤكد أهمية الوقاية من المرض.
وفي إطار متصل قامت بلدية رام الله، وبمجرد إعلان الحكومة إغلاق المدارس والجامعات، بإغلاق الفضاءات العامة التي قد تشهد تجمعاً أو اكتظاظاً للمواطنين، على غرار قصر رام الله الثقافي أو مجمع رام الله الترويحي، وقسمت المدينة إلى 16 منطقة بدلاً من 6، لتسهيل الوصول إلى الناس من خلال عناوينهم المرتبطة بمنظومة GIS متطورة. وقد نظمت البلدية فعالية لإحياء ذكرى يوم الأرض الذي يوافق 30 آذار/مارس 2020، فقامت بتسيير مركبة تبث الأغاني الوطنية لتجوب أحياء المدينة، ودعت البلدية المواطنين إلى المشاركة من بيوتهم وأن يهتفوا معاً للأرض والإنسان. كما أطلقت بلدية رام الله مبادرة جديدة، ضمن فعاليات مهرجان ربيع رام الله، تحت شعار "خلي بيتك أخضر"، والتي جاءت حفاظاً على تقليد سنوي بما يتماشى مع طبيعة الوضع الاستثنائي وحرص البلدية على التواصل مع المواطنين وإشراكهم في فعاليات تساهم في تعزيز الإيجابية ورفع الروح المعنوية، فأعلنت أنها ستقدم للراغبين في المشاركة مجموعة من الشتول لزراعتها في منازلهم، الأمر الذي لقي ترحيباً واضحاً في الأوساط المجتمعية، ودعم مساعي البلدية للاقتراب من الجمهور، وساهم في دعم التصورات المحيطة برام الله كمدينة تشاركية حيث الجميع للواحد والواحد للجميع.
أمّا بلدية البيرة، فيبدو أن جهودها للتعامل مع الأزمة لم تكن حاضرة بقوة على غرار رام الله، من الناحية الإعلامية على أقل تقدير. ويظهر أن المؤسسة البيرواية لم تستطع الاقتراب من المواطنين وملامسة همومهم ومخاوفهم كجارتها، فصفحة بلدية البيرة على الفيسبوك لا تشتمل على فعاليات ونشاطات افتراضية، ودورها يقتصر في ظاهره على الخدمات الأساسية كجمع النفايات، وتعقيم بعض المرافق العامة والشوارع في أحياء المدينة. ويشار هنا إلى أن الخلافات التي تسيطر على العلاقة بين أعضاء المجلس البلدي في البيرة، والتي ظهرت إلى العلن بقوة في أواخر العام الماضي، انعكست على أداء البلدية، وعلى علاقتها بالمجتمع المحلي وتراجع هيبتها، بالضرورة. لكن يمكن القول عموماً إن البلدية تمكنت مؤخراً من تشكيل صندوق للطوارئ بهدف مساعدة من هم بحاجة من المتضررين بفعل الجائحة، ورفدت الصندوق بمبلغ 50 ألف شيكل مضافة إلى دعوة الجمعيات التي لديها القدرة والإمكان للمساهمة في دعم الصندوق، وإلى تسهيل الاستفادة من قوائم المحتاجين لديها في الوصول إلى المتضررين. كما تم وضع رابط على صفحة البلدية على الفيسبوك يتيح للمتضررين تسجيل أسمائهم لتشملهم قوائم المساعدات. ومن ناحية أُخرى قامت بلدية البيرة، ضمن إطار العمل المجتمعي والتطوعي وبقرار من وزارة الحكم المحلي وبالتعاون مع وزارة شؤون المرأة، بتشكيل لجنة طوارئ نسوية مختصة بالعمل المجتمعي والتطوعي، وتعنى بمساعدة الفئات المتضررة في ظل الجائحة، وتتركز جهودها في تعزيز وتمكين النساء في مدينة البيرة، من خلال الإرشاد والتثقيف النسوي القائم على تكريس وحدة النسيج المجتمعي وتعزيز أواصر التكافل والاندماج الاجتماعي والاهتمام بشؤون فئات المجتمع كافة، وبالتحديد فئات ذوي الحاجات الخاصة والعائلات المستورة وكبار السن، واتخاذ قرار بإقامة إفطار رمضاني لعدد من المسنين والمسنات في المدينة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن جمهور البيرة يبدو منقسماً وغير راضٍ بالعموم عن مخرجات البلدية وسلوكها، وخصوصاً عند مقارنتها برام الله التي يعتبرون أنها أقرب إلى الناس، وربما أن سكان البيرة، ومعهم بعض أعضاء المجلس البلدي، مغيبون عن قرارات البلدية المتعلقة بمعالجة الأزمة. كما يظهر أن بلدية البيرة لم تكن قادرة على فرض النظام في المدينة، وقد ذكر رئيسها أنه تم رفع توصية إلى الجهات المختصة بضرورة إغلاق سوق الخضار "حسبة البيرة"، الذي يفتقر إلى توفر الشروط الصحية الملائمة، ليصار في 6 نيسان/أبريل 2020 إلى إغلاق السوق بقرار من محافظ رام الله والبيرة. من ناحية أُخرى، يبدو أن المشهد المتسم بشدة القرب المكاني بين المستعمِر والمستعمَر، والذي ساهم في الحد من توسع البيرة وتمددها، قد ساهم في ظل الجائحة برسم صورة مختلفة لهذه الثنائية، فقد كانت البيرة تشهد نزول المستعمِرين من المستعمرات القريبة ودخولهم إلى شوارع المدينة وقيامهم بمحاولة نشر المرض عن طريق البصق على مقابض سيارات المواطنين الفلسطينيين، الأمر الذي يظهر أنه يحظى برعاية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، إذ قامت قوات من الجيش الإسرائيلي في 5 نيسان/أبريل 2020 بإنزال عدد من العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل الخط الأخضر والمستعمرات الإسرائيلية –حيث يتفشى المرض- في الوديان القريبة من حي سطح مرحبا المحاذي لمستعمرة "بسجوت" المقامة على أراضي البيرة، بعد قطع التيار الكهربائي كما أفاد سكان المنطقة، وذلك بهدف تهريبهم إلى المدينة دون الالتزام بقرار الحكومة الفلسطينية الذي يقضي بفرض الحجر المنزلي على هؤلاء العمال في حال عودتهم، منعاً لانتشار الوباء.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الصور المتباينة لإدارة الأزمة والتعامل مع الجائحة، والاختلاف في مساعي وطرق تقديم الدعم للمتضررين، وتوجهات البلديات المتأرجحة بين القول بضرورة تقديم المساعدات العينية للمتضررين أو الاكتفاء بتفعيل دورها الخدماتي –وما يترتب على ذلك من تصورات ودرجات متفاوتة من الرضى المجتمعي والعلاقة مع الجمهور- ليست حكراً على محافظة رام الله والبيرة، أو على مدينتي رام الله والبيرة، بل هي جزء من سلوك مؤسسي ومجتمعي متعلق ومتأثر بصور التضامن والمسؤولية الجمعية وعادات التكافل والتكاتف المجتمعي المألوفة والتي تمتد إلى العديد من المدن والقرى والبلدات في المحافظات الفلسطينية من جنين إلى الخليل، على اختلاف سماتها وتقاليدها وبناها المجتمعية والعائلية، على الرغم من تباين هياكلها الحضرية التي ما انفكت تتأرجح بين الحداثي والتقليدي. لكن يبقى السؤال المطروح هنا عن المدى الحقيقي الذي يمكن لهذه الممارسات والمساعدات أن تساهم من خلاله في دعم قائمة المتعففين الذين انضموا إلى دائرة الفقر في ظل الجائحة، والذين لا تشملهم القوائم التقليدية وقواعد البيانات المعتمدة لدى المؤسسات والجهات الرسمية قبل الأزمة، والتي جرى الاعتماد عليها بشكل واضح في تقديم المساهمات الإغاثية. وربما يكون من الضروري كذلك مناقشة طبيعة ومصدر الدعم الذي تتلقاه المؤسسات والجمعيات الخيرية لمواجهة الجائحة، من جهة هل هو تبرع إضافي من القطاع الخاص، أم إنه مجرد تدوير وإعادة توجيه للموازنات والمساعدات الموجودة أصلاً قبل كورونا؟