غزّة من الكابوس إلى الفيروس
التاريخ: 
10/09/2020

كان فقط ينقص صاحبة البحر الأزرق انتشار وباء كورونا حتى يكون في الإمكان القول إن هذه البقعة الجغرافية ذات المساحة الضيقة والكثافة السكانية التي لا مثيل لها في العالم اجتمعت فيها دون سائر بقع الأرض جملة مصائب ثلاثية الأبعاد من أزمات اقتصادية وأمراض اجتماعية واختناقات سياسية بفعل الاحتلال والحصار والإغلاق والانقسام ونتائج ذلك وآثاره الكارثية من قهر وفقر وتَغوُّل شبح البطالة وعفريت العنف الأسري وطابور العاطلين عن العمل وعن الزواج وعن المستقبل وعن الأمل.

تفصيلات قاسية صادمة ومؤلمة لنحو مليوني نسمة، ومليوني مشكلة ومليوني مأساة لا تبدأ من التحقيق مع الشمعة القاتلة ومسؤوليتها عن احتراق الصغار واحتراق قلوب الكبار على الصغار ولا تنتهي عند روايات الفقر والإفلاس وتكدّس الناس في الأبراج وفي مربع الكلمات المتقاطعة في المخيمات ودائرة الحجر الصحي ونشر ثقافة الكحول وثقافة الكمامات ورواية البلاء في زمن انقطاع الكهرباء، ناهيك عمّا يخلفه العدوان الصهيوني المتواصل في عدوانه اليومي بصورة مباشرة أو غير مباشرة وما يترتب عليه من آثار قاسية تضيف أعباء جديدة ومريرة في جميع الصعد الحياتية والمعيشية والاقتصادية للأفراد والتجمعات التجارية والشركات والمصانع وجميع فئات المجتمع العاملة في مناحي البر وفي "إسبست" المخيم وفي موج البحر، علاوة على حالات الاكتئاب النفسي التي تصل ذروتها إلى مستوى الكفر بواقع الحال إلى اتخاذ قرار إنهاء البقاء سواء من نجح بالهجرة أو من ينجح بالانتحار ليكتمل المشهد بتقنية سيئة الجودة من البؤس والمعاناة على وجه قطاع غزة وملامحه الممتدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أقسى الكيماوي إلى أقسى السرطان إلى أقسى غسيل الكلى إلى أقصى الحرمان.

وسط هذا المشهد الغزيّ المأزوم يبدو أن غزة كما يقول د. فضل عاشور قد "خسرت معركة الكورونا فقد كان التحدي ألاّ تدخل الكورونا أصلاً القطاع لأنه عدا ذلك سيكون الأمر لفترة زمنية سيئاً جداً ومخيفاً جداً"، وقد كان، إذ انتشرت الكورونا بين السكان وفي أماكن متعددة في أرجاء القطاع من دون تحديد المصدر المباشر لنقل العدوى والذي لا يخرج في كثير من سيناريوهات عن حركة المعابر والاحتكاك مع العاملين والقادمين والمغادرين من وإلى القطاع، إذ يبدو من الصعب وضع أي خريطة لانتشار الوباء فهو ينتشر في أماكن متفرقة، وعدد من يتم اكتشافهم عبر الفحص يومياً بات يقترب من 100 إلى 120 حالة خاصة في مناطق الازدحام.

الإصابات في قطاع غزة منذ آذار/ مارس الماضي وصلت إلى 1269 حالة بحسب نشرة وزارة الصحة الفلسطينية حتى العشر الأوائل من أيلول/سبتمبر الحالي بينهم 89 حالة تعافٍ وتسع وفيّات.

وتشير التقديرات إلى زيادة متوقعة ومتصاعدة في عدد الإصابات، وخصوصاً أن هناك بعض المناطق في القطاع غير ملتزمة وهي بذلك لا تؤذي فقط نفسها، بل سائر مناطق القطاع ولذلك يتم اكتشاف بؤر جديدة يومياً، ولا أحد لديه القدرة على السيطرة على هذا الوباء الذي ينتشر بآليات تبدو غير مفهومة. وفي مكان مكتظ وفقير كغزة من الصعب توقع صمود الأوضاع في مواجهة الوباء، كما يصعب الصمود طويلاً في تحمل الإجراءات اللازمة لحصر الفيروس.

السيناريو الأكثر سوداوية هو التفشّي الكامل للوباء في قطاع غزة وارتفاع منحنى الإصابات ووصولها إلى مستوى القمة، وهو الأمر الذي تتم محاولة تفادي الوصول إليه باتخاذ وتشديد مزيد من الإجراءات. والسيناريو ذاته الذي قد يدفع قادم الأيام الجهات المختصة إلى اعتماد سياسة الحجر المنزلي في مرحلة انتشار الوباء، وخصوصاً في ظل عدم قدرة استيعاب الجهاز الصحي على التعامل مع سيناريو كهذا على الرغم من جهود الطواقم الطبية المبذولة على أعلى المستويات.

ومن هنا تأتي الدعوة الدائمة والمستمرة من الجهات المعنية للمواطنين إلى ضرورة الالتزام بـ"إجراءات الوقاية من الفيروس" وتشديد هذه الإجراءات بصورة خاصة لـ"كبار السن وأصحاب المناعة الضعيفة والأطفال" وسط فرض حظر التجوال في محافظات غزة بدرجات متفاوتة. وبحسب خريطة الوباء ما زالت محافظتي غزة والشمال تتصدران المشهد في ارتفاع أعداد الإصابات يومياً وتشديد الإجراءات في كلتا المحافظتين.

لا شك في أن كورونا ضاعفت أزمات العديد من المدن التي تنمو فيها الحياة بشكل طبيعي، بَيدَ أن واقع قطاع غزة اللامنطقي واللاطبيعي بحكم نكبة الانقسام الممتدة منذ سنة 2007 وآثارها في تزايد الأزمات التي تتكاثر فيه يومياً يُضفي خصوصية على حاضر القطاع ومستقبله في استيعاب هذا الكابوس وكيفية التعامل مع الفيروس والسيطرة عليه.

وربّما من نافل القول هنا الإشارة إلى إنه وقبل انتشار كورونا في العالم كانت الأمم المتحدة قد حذرت في كثير من تقاريرها الصادرة في السنوات الماضية من أن قطاع غزة سيكون "غير ملائم للعيش" و"غير صالح للحياة" و"غير صالح للسكن" بحلول سنة 2020 ما لم تتخذ إجراءات عاجلة لتحسين إمدادات المياه والكهرباء وخدمات الصحة والتعليم والصرف الصحي. وهذه الإجراءات التي تحدثت عنها الأمم المتحدة قبل سنوات كضرورة لإنقاذ غزة واستعادتها لأدنى بديهيات الحياة الآدمية بات تحقيقها اليوم أولوية عاجلة وفورية في ضوء انتشار الوباء وتفشّيه الذي يُخشى من تصاعد وتيرته بصورة يصعب على الجهاز الإداري المُسيطِر على غزّة السيطرة عليه، ومن هنا تأتي أهمية تدخل الحكومة الفلسطينية الحالية برئاسة د. محمد اشتيه كما حدث مؤخراً من زيارة الوفد الوزاري إلى قطاع غزة وهذا هو الدور الطبيعي للحكومة والذي يجب أن يجري بشكل دوري وتواصل دائم على قاعدة توحيد السياسات والإجراءات، وتحمُّل الحكومة مسؤولياتها الأخلاقية والوطنية مباشرة تجاه المحافظات الجنوبية جميعها في قطاع غزة، الجزء الذي لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، وهذا يستدعي تمكين الإخوة في حركة "حماس" الحكومة من ممارسة صلاحياتها وأخذ دورها وبسط ولايتها في غزة لأن الحِمل ثقيل على كاهل أي تنظيم، وكون الحكومة الفلسطينية الأقدر على مخاطبة لغة العالم وما يترتب على ذلك من فتح المعابر ورفع للحصار بما يساهم في حل كثير من القضايا والملفات العالقة وتخفيف العبء عن المواطنين في القطاع إلى حين التشكيل المفترض والمُزمع لـ"حكومة الوحدة الوطنية" المأمولة ارتباطاً بمخرجات لقاء الأمناء العامّين في رام الله-بيروت ومدى نجاحه عبر اللجان التي تم تشكيلها في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه وما تضمنه البيان الختامي من تأكيد التوافق على العيش في ظل نظام سياسي واحد وسلطة واحدة وقانون واحد، والتأسيس لرؤية استراتيجية للشراكة تمهيداً للانتخابات العامة في الضفة والقطاع.

وفي سياق تجربة المحافظات الشمالية في التعامل مع وباء كورونا يجب التأكيد على أهمية العمل الموحد الجاد والمشترك بين شطري بقايا الوطن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في قطاع غزة لأننا من دون توفير وتحصين مناعة البيت الوطني الفلسطيني بالوحدة المأمولة، ومن ودون إحداث التوازن المطلوب بين صحة المواطن وبين دوران عجلة الاقتصاد ضمن إجراءات السلامة العامة ورفع وعي السلوك المجتمعي وتوفير الإغاثة العاجلة للموظفين وصغار التجار وعمال المياومة وفقراء الفلاحين والصيادين والباعة المتجولين وكل الحرفيين والسائقين والمُعدَمين، وتوفير معالجات اقتصادية طارئة وعاجلة لكل المتضررين سيكون من الصعوبة الحديث عن فكرة التعايش مع الوباء، وسنكون أمام مزيد من تردي وتدهور مجمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ومجمل القطاعات الصناعية والإنشائية والسياحية والقضائية والتعليمية والخدمية بصورة عامة، والقطاع الصحي بصورة خاصة الذي لا يستوعب أكثر من ألف سرير في كل مستشفيات قطاع غزة الأمر الذي يستوجب إيلاء ملف الصحة وقطاعه الأولوية في هذه المرحلة وكل المراحل بوصفه يفتقر إلى أدنى المتطلبات الصحية المطلوبة في الوضع الطبيعي فما بالنا بعد انتشار وباء كورونا وحاجة قطاع غزة المُلحة إلى المستلزمات الطبية الخاصة والأدوية  وأجهزة التنفّس وغرف العناية المركزة، وحاجات المشافي من أدوات وكوادر وأَسِرَّة ومعدات تكاد تكون شحيحة في القطاع قياساً بحجم الكثافة السكانية المرتفع والمتزايد وهو ما يستلزم بالضرورة تغليب مصلحة شعبنا والتعامل مع مواجهة هذا الوباء باعتباره التناقض الأساسي والرئيسي الذي يحتل الأولوية حالياً على ما عداه من تناقضات سياسية أو مجتمعية في سبيل الحفاظ على الإنسان الفلسطيني الذي يُشكل رأس المال الحقيقي في معركة الصمود والبقاء، والذي يُمثل إنهاكه إنهاكاً وتبديداً لكل قضايانا الوطنية المركزية الكبرى.

من هنا فإن الدعوة إلى وحدة النظام السياسي الفلسطيني وإنهاء مهزلة ونكبة الانقسام لم تعد من باب المناكفات أو تسجيل النقاط أو التّرف الفكري وحديث الصالونات والندوات والمهرجانات، أو تحميل المسؤوليات بقدر ما هي حاجة وضرورة لمصلحة هي المصلحة الوطنية العليا لشعبنا التي يتغنى بها الجميع، فقد آن الأوان منذ بعيد الزمان وبات مُلحاً ومفصلياً الآن إعلاء المصلحة الوطنية لشعبنا قولاً وفعلاً والكف عن التغنّي بها لحسابات حزبية ضيقة باتت مُستهلَكَة ومكشوفة، وأن تكون مصلحة وصحة أبناء شعبنا هي العليا فالإنسان السليم والوعي السليم هو خط الدفاع الأول وعنوان التحدي والمواجهة والصمود، ودون ذلك سنكون أمام بطنٍ جغرافي وَلاّد للبؤس والمرض والإحباط واليأس وفي أحسن الأحوال في السّجن الأكبر غير المسقوف على مستوى كوكب الأرض.

عن المؤلف: 

أكرم الصوراني: كاتب فلسطيني من غزة.