الحراك الفلسطيني الموحد.. سرديات جديدة للخلاص من الاستعمار
التاريخ: 
31/05/2021

إذا ما حاولنا التفكير في الموجة الاحتجاجية الحالية التي انطلقت من أم الفحم كبداية، ولاحقاً في القدس، وانتشرت في مناطق فلسطين التاريخية كلها، فمن الممكن التفكير فيها كجزء من عملية التفاوض بشأن سرديات مقاومة متعددة في الفضاء العام وشرعية المقاومة نفسها؛ فبدايةً مثلت في لحظة الحراك صراعاً بين تصورات متعددة بالتوازي مع كونها صراعاً ضد الاستعمار؛ إذ ظهرت موجات جديدة من المقاومة والاشتباك تعتمد على نمط معرفي مختلف، وكان هذا واضحاً، على سبيل المثال باعتمادها على التكنولوجيا من خلال التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي كفضاءات عامة بديلة. وثانياً، لا يمكن فهم التطلعات من أجل الحرية بمعزل عن فهم الصراع بين التصورات المتعددة للخلاص من الاستعمار، وبالتالي يمكن التفكير في الحراك أو حتى في المطالب البسيطة للحياة العادية باعتبارها سرديات معرفية بديلة من نموذج حراك سابق أثبت انتكاسته في السنوات المنصرمة. أمّا الحراك الأخير فقد انقلب على هذا النوع من السرديات القديمة، معتقداً أن هذا الخطاب السابق غير كافٍ ويجب أن تكون السردية الجديدة مبنية على أساس فهم مختلف لمعنى الخلاص من الاستعمار، ولمعنى الحرية، ولشرعية الشباب الفلسطيني في تقرير جدوى الاشتباك وتنظيم الحراك.

وهنا يمكن التفكير في أن صراع الشباب من أجل الظهور في الفضاء العام، ومن أجل حقهم في المكان، وحريتهم وخلاصهم من الاستعمار، استند أيضاً إلى اعتقادهم أن سردياتهم المعرفية لها الحق في أن تكون شرعية في الفضاء العام في ظل تغييبها لأعوام، وهذا ما كان واضحاً من خلال اعتمادهم على التكنولوجيا كما أوضحنا سابقاً، وأيضاً من خلال طبيعة الشعارات التي اختلفت عن الشعارات التقليدية، واعتمدت في إيمانها على فهم تورُّط المنظومة الاستعمارية في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الفلسطينية، ولم تقتصر على فهم سياسي مجرد من تبعياته؛ وأيضاً حاولت جعل الأحزاب والتنظيمات جزءاً من حراك لا فائدة منه؛ وبالتالي من نافل القول أنه لم يكن هنالك محاولة انسلاخ عن الاستعمار فقط، بل حتى عن سردية وخطاب المقاومة السابق، ولعل هذا ما أدى إلى خلق اهتمامات جديدة لدى بعض فئات الشباب الفلسطيني والعربي تتعلق بالإيمان أكثر بالاستثمار في التكنولوجيا وأنماط التواصل التي أحدثها التطور العلمي، أو بالأحرى محاولة تطويعها في خدمة سردياتهم وتصوراتهم ومطالبهم. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى أن السردية الشبابية الجديدة لم تكن مفصولة عن الكل الفلسطيني، بمعنى أنها لم تحتكر الحراك، بل حاولت إبراز نفسها من خلال ضم الكل الفلسطيني، وهو ما كان واضحاً مثلاً في أن هذا الحراك الحالي هو الذي دفع الأحزاب بمختلف تصنيفاتها إلى المشاركة السياسية فيه ودعمه، إذ لم تكن الأحزاب هذه المرة هي منظِّمة الحراك، بل كانت جزءاً منه، ولعل هذا كان واضحاً مثلاً في استخدام عبارة "دعوات شبابية إلى الإضراب"، أو "دعوات شبابية إلى الاشتباك"، أو "دعوات شبابية إلى التضامن"، إذ أخذ الشباب زمام المبادرة والانطلاقة والتحشيد.

تجلت هذه السردية الشبابية الجديدة في استخدام التكنولوجيا كأداة (كما ذكرنا) في عدة مستويات، الأول، في التحشيد للكل الفلسطيني للحراك، وهو ما كان واضحاً في أم الفحم كبداية، وفي القدس بصورة أوضح، وفيما بعد انتقل إلى مناطق فلسطين التاريخية كافة، وهو ما ساهم في تجاوُز حدود الجغرافيا الاستعمارية وخلق حراك موحد ومتزامن. ثانياً، ساهم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الحراك على مستوى عالمي تجلى في نشر عدة "هاشتاغات" أصبحت الأولى عالمياً، الأمر الذي دفع الكثير من الفنانين والرياضيين والمؤثرين إلى التضامن مع القضية الفلسطينية على حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ملاعب كرة القدم، وفي الفضاءات العامة، وهو ما أثار صخباً إعلامياً إزاء السياسات الاستعمارية الإسرائيلية. ثالثاً، ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً منصة "إنستاغرام"، في إيصال الأحداث في حي الشيخ جرّاح بصورة واسعة جداً في ظل غياب الإعلام العالمي عنها في البداية، إذ ساهم تضامن مؤثِّرات ومؤثِّرين عرب، من خلال انضمامهم إلى فيديوهات البث المباشر على إنستاغرام مع ناشطات وناشطين في حي الشيخ جرّاح، في زيادة ملايين المشاهَدات للأحداث. وبحسب الصحافي والمختص في وسائل التواصل الاجتماعي ياسر عاشور، في لقاء مباشر على إنستاغرام مع منصة "ألترا صوت"، ساهم هذا الأمر في وصول قضية حي الشيخ جرّاح إلى ملايين المشاهدين في الوطن العربي والعالم، وهو ما دفع الإعلام العالمي والعربي إلى تغطية الأحداث، إذ جاءت هذه التغطية التلڤزيونية للأحداث، بحسب عاشور، بعد انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي  كانت وسائل التواصل هي الأساس في نقل الأحداث وانتشارها.

لكن في الوقت نفسه (ولعل هذا خير دليل على ما سبق) كان هنالك محاولات ناجحة نسبياً وأُخرى غير ناجحة من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والحكومة الإسرائيلية لاستعادة هذا الفضاء ومراقبته وفرض شروطها عليه من جديد، وهو ما كان جلياً في حجب حسابات فلسطينيات وفلسطينيين، ناشطات وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب محاولاتهم فضح جرائم الاستعمار الإسرائيلي. ولم تكن الحكومة الإسرائيلية بريئة من هذا الأمر، إذ تم عقد اجتماع بين وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس ومديرين تنفيذيين في موقعيْ فايسبوك وتيك توك لمناقشة ضرورة حذف ما قال أنه "محتوى يحرض على العنف، أو يشجع على الإرهاب وينشر معلومات مضلِّلة."

إلّا إن المهم في هذا الحراك بصورة رئيسية، هو أن هذه الهبّات على اختلاف مناطقها، مثلت صراعاً على خلق تصورات جديدة، بالتوازي مع كونها صراعاً مع السلطة الاستعمارية، واتبعت منهج فهم جديد، كانت ركيزته الشباب، لكنه ضم الكل الفلسطيني، وبذلك مزق حدود الجغرافية الاستعمارية، وأوجد تصوراً فلسطينياً جامعاً وموحداً، يعطي الشرعية لكافة الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ورسم تصوّر لكيفية خلاصهم من الاستعمار وانتزاعهم حريتهم.

عن المؤلف: 

نور الدين أعرج: خريج علم اجتماع وصحافي فلسطيني.