وما زلنا مستمرين
التاريخ: 
31/05/2021
المؤلف: 

يعمل الاحتلال على امتلاك كل شيء حتى الإنسان باعتباره شيئاً أيضاً، وعليه، يستعمر الأرض ومَن يعيش عليها، وذلك من خلال محاربة وجوده الإنساني وتملُّك روحه، في عملية الغزو الثقافي التي يعمل الاحتلال الإسرائيلي ضمنها على فرض روايته في نفس الفلسطيني وروحه بهدف تذويت الأخير لها، وهذه الرواية تصرخ ببشاعة الفلسطيني وعنفه ولاإنسانيته وتخلّفه ورجعيته، بينما تصرخ بتقدم "الإسرائيلي" وتحضّره وثقافته وعلمه، والأهم من ذلك أنها تصرخ بقوته وسيطرته وحتمية بقائه على أرض فلسطين، وأن لا مجال للفلسطيني أن يتقدم إلاّ من خلال"الإسرائيلي" والتماهي معه.

تبنّي الفلسطيني وتذويته لهذه الرواية يُنتج سلوكيات متلائمة معها بقدر معين، على سبيل المثال لا الحصر، العنف والجريمة اللتان عززهما الاحتلال وغذّاهما، تحديداً بين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948، من خلال نشر السلاح والمخدرات وممارسة سياسات التضييق عليهم، بل وخنقهم في أحياء فقيرة ممتلئة بجرائم القتل وفرض الخوّات، وذلك لإثبات رواية الاحتلال التي تجرد الفلسطيني من إنسانيته وتصفه بالعنيف والقاتل والمتخلف واللاإنساني، الأمر الذي  يمنح الاحتلال الشرعية في التسلط عليه، ليس فقط من خلال فرضها عليه، بل حتى من خلال طلبه ذلك، لأن الفلسطيني في هذه الحالة يكون قد رضخ لهذه الرواية وبدأ يعيش ضمنها ويتصرف بالتلاؤم معها ليصبح شريكاً في صوغها من خلال ممارسته العنف والقتل ضد أبناء شعبه.

وعليه، نجد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948 يطالبون بتدخّل شرطة الاحتلال للحد من الجريمة داخل المجتمع الفلسطيني على مدار أعوام عديدة، وهذه المطالب هي امتداد للخطاب الحقوقي المتمحور بشأن تحقيق المساواة بالسكان اليهود داخل دولة الاحتلال، والذي تنادي به أغلبية الأحزاب السياسية في هذه الأراضي، ومن داخل الكنيست، أي من قلب منظومة الاحتلال، وبطبيعة الحال لم يحقق هذا الخطاب الحقوقي شيئاً، بل على العكس؛ إذ إن عنصرية القوانين التي تُسَنّ في ازدياد مستمر، وآخرها قانون القومية.

وقد قوبل هذا الخطاب بإهمال، وبمزيد من عنف شرطة الاحتلال ضد المجتمع الفلسطيني في الداخل، حيث قُتل في بداية السنة، وتحديداً ليلة 2/1/2021، الشاب أحمد حجازي من طمرة على أيدي الشرطة بحجة ملاحقة المجرمين، وبتاريخ 29/3/2021 قُتل الشاب منير عنبتاوي على أيدي الشرطة أيضاً، وهو من ذوي الحاجات الخاصة من مدينة حيفا. فشرطة الاحتلال تستسهل إطلاق النار على الفلسطينيين حتى لو كان بإمكانها تفادي ذلك. وفي إثر ذلك خرجت العائلات والشبان والشابات الى الشوارع منذ بداية هذه السنة احتجاجاً على العنف والجريمة وتواطؤ شرطة الاحتلال الإسرائيلي مع عصابات الإجرام، وضد الاعتداء على المتظاهرين، وتركّز هذا الحراك في مدينة أم الفحم التي واجهت سلسلة عنيفة من جرائم القتل. 

وربما كان هذا الحراك، الذي عمّ الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948 في الأشهر الأولى من العام الجاري، شرارة البداية وتمهيداً لكسر الصمت إزاء كل جرائم الاحتلال في كل بقعة فلسطينية. فالحياة تحت الاحتلال لها نتائج أليمة، وأهمها تجزئة وحدة الشعب الفلسطيني، ليس فقط وفق التقسيمات الاستعمارية المعمول بها حالياً بفعل الحواجز العسكرية بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والحصار المفروض على غزة والحالة القانونية الخاصة بالفلسطينيين في القدس، بل تجزئة المجزأ أيضاً، لكن ذهنياً، إذ يفقد الفلسطيني الشعور الجمعي تجاه شعبه ويبدأ بالنظر إلى العالم بأعين فردانية لا تمتد إلى أبعد من مدينته أو قريته، أو حتى عائلته أحياناً.

هذه التجزئة جاءت ضمن سياسة فرّق تسُد التي يسعى المستعمِر من خلالها لتدمير شعور المستعمَر بالجماعة والانتماء إلى الطبقة المقهورة، وبالتالي ينغرس واقع التجزئة في أذهانهم ويتحكم في أفكارهم. لذا، لا يمكن للوحدة والانسجام أن يتحققا داخل الطبقة المقهورة إلّا في حال انغمست في النضال من أجل الحرية.

وهذا بالضبط ما حدث منذ بداية شهر أيار/مايو، عندما هتف شباب وشابات الناصرة واللد ويافا وحيفا وعكا وأم الفحم وكل المدن والقرى الفلسطينية في الأراضي المحتلة سنة 1948: "ما في حل وما في حل، إلّا بتركيع المحتل"، و"سيدي أعطاني مفتاح ووصاني عالشيخ جرّاح". بهذه الهتافات كسر الفلسطينيون الحواجز التي فرقتهم وتوحدوا في نضالهم من أجل الحرية. فكل تلك المحاولات التي تأتي ضمن سياسة الغزو الثقافي الممنهج لم تفلح في الوصول إلى جذور انتماء الفلسطيني إلى قضيته وهويته وتمسّكه بأرضه، ولربما نجحت في ظهور بعض الأغصان التالفة والأوراق الصفراء المترهلة، لكنها سقطت اليوم وعاد علم فلسطين يرفرف في سماء فلسطين التاريخية، العلم الذي مُنع الفلسطينيون من رفعه في القدس والأراضي المحتلة سنة 1948.

أسقطت هذه الهبّة شعارات المساواة والتعايش عندما انغرس الفلسطينيون في كل بقعة من فلسطين التاريخية في النضال من أجل قضيتهم الجمعية وإنسانيتهم، ولم يعد يُطلَق على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948 صفة "عرب إسرائيل" التي لم يختَرها الفلسطيني، لكنها فُرضت عليه  من دون قبوله، ويناضل من أجل كسرها، ولو كان هذا النضال في داخله، وهو يمقتها ويخجل منها عند تسليم جواز سفره في أي مطار في العالم، فهو لا يريد أن يتم تعريفه بأنه "عربي إسرائيلي"، لكن هذا الجواز فُرض عليه لأنه الوسيلة الوحيدة لإثبات وجوده في هذا العالم وبقائه في أرضه، ويقاوم هذا التعريف في كل وسيلة، فيلبس الكوفية الفلسطينية، ولو بين أبناء وبنات شعبه فقط، أو يرتدي سترة مكتوب عليها أي عبارة باللغة العربية أو أي شيء آخر يرمز إلى هويته. فعلى سبيل المثال، قد يكون شعور الفلسطيني لدى ارتدائه الكوفية في هذه الأراضي مختلفاً عن شعور الفلسطيني في الأراضي على حدود سنة 1967، ولا أقصد هنا الاختلاف في درجة الانتماء وحب الوطن، بل أقصد الشعور بالحاجة إلى إثبات شيء غير مثبت وغير معترَف به؛ ففلسطينية الفلسطيني ليست صفة مسلّماً بها في الأراضي المحتلة سنة 1948، فهو يشعر دائماً بأنه ملزَم بممارستها ولو على نطاق صغير ومحدود، أو في ذهنه فقط، إلّا إن ما نشهده اليوم هو ممارسة الفلسطيني لهويته الفلسطينية الجمعية في كل الميادين. 

انطلقت التظاهرات من كل قرية ومدينة في الأراضي المحتلة سنة 1948، ولم تكن تظاهرات خجولة يتقدمها رؤساء الأحزاب المترهلة لالتقاط الصور، بل كانت تظاهرات شعبية ضخمة قوبلت بقمع عنيف وتاريخي في هذه الأراضي، والذي جاء ضمن خطة واضحة لإخماد البركان الفلسطيني الذي شكّل مفاجأة وصدمة لدولة الاحتلال لاعتقادها أنها نجحت في أسرلة الفلسطينيين هناك، وفي تصويب بوصلة الوعي لديهم إلى مكان آخر خالٍ من ذكريات جمعية وسعي لنضال جمعي لتحقيق الحرية. 

وعليه، نظّم المستوطنون أنفسهم في جماعات مسلحة لمهاجمة أي فلسطيني في الشارع بحماية الجهاز العسكري بكل وحداته، في محاولة منهم لإعادة بث مشاعر الخوف والرعب كما في عام النكبة؛ وهاجموا الأحياء والبيوت الفلسطينية، وتم اعتقال ما يفوق 1700 شاب وشابة خلال أسبوعين باستخدام أبشع وسائل التعذيب والضرب على الرغم من أن نسبة المعتقلين القاصرين كانت كبيرة، إلّا أنهم استخدموا في بعض الحالات الطائرات لمطاردة المتظاهرين لاعتقالهم.

ساهمت تلك الممارسات القمعية، وتحديداً في الأراضي المحتلة سنة 1948، في وضوح علاقة الفلسطيني بهويته الفلسطينية الجمعية، وتحديد رؤيته للمحتل الذي اعتاد رؤيته بقناع مدني، كالطالب في الجامعة، وجاره في السكن، وصاحب الدكان، والعامل في المطعم إلخ… فتعامُل الاحتلال مع هبّة الفلسطينيين هذه كانت بالوجه العسكري الحقيقي لهذه المنظومة، إذ خلع المحتل القناع المدني الذي استخدمه موقتاً وتصرّف بالضبط كمحتل، سواء بالزي العسكري أم لا، وهذا ما أدى إلى حسم ووضوح لدى الفلسطيني بعلاقته معه.

الإرهاب المنظم الذي استُخدم ضد الفلسطينيين في هذه الهبّة جاء لاعتبار الاحتلال أن ما يحدث في الأراضي المحتلة سنة 1948 هو الأخطر، لكن رد الفلسطينيين والفلسطينيات كان عبر الإضراب الشامل يوم الثلاثاء بتاريخ 18/5/2021، والذي لم يقتصر على الفلسطينيين في هذه الأراضي، بل في كل بقعة في فلسطين التاريخية تحت شعار "من البحر إلى النهر"، للتعبير عن التحام الفلسطينيين في النضال أينما كانوا، إذ خرج الجميع إلى الميادين يهتفون لغزة والقدس واللد وحيفا وأم الفحم ورام الله والخليل، ونقلت المحطات الإخبارية المشهد الفلسطيني يوم الإضراب من خلال شاشة مقسمة بين غزة ورام الله والقدس وأم الفحم وبيت لحم.

على الرغم من التهديدات التي تلقاها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة سنة 1948 بطردهم من العمل في حال إضرابهم، إلّا أنهم أضربوا، وفعلاً طُرد بعضهم، لكنهم قاموا بتنظيم أنفسهم في مجموعات تطوعية، ومن دون مقابل مادي، انضم إليها محامون ومحاميات للدفاع عن المفصولين من عملهم، وللدفاع عن المعتقلين والمعتقلات أيضاً، ومجموعات أُخرى لمساعدة المفصولين من العمل لإيجاد وظائف أُخرى، وفي السياق نفسه نشأت مجموعات تطوعية أُخرى من أخصائيين وأخصائيات في مجال الصحة النفسية والمجتمعية لدعم العائلات والمعتقلين، وامتد ذلك لتقديم الدعم النفسي لأهالي غزة بعد العدوان العنيف والوحشي، ومجموعات أُخرى شبابية للدفاع عن الأحياء والبيوت التي تتعرض لهجوم المستوطنين.

استعاد الفلسطينيون الشعور بقوتهم ووحدتهم على الرغم من كل محاولات القمع المستمرة التي لم تنجح في منع انتفاضهم من أجل أحياء القدس، كالشيخ جرّاح وسلوان المهددة بالإخلاء، والتي كانت الشعلة وانطلقت منها إلى المسجد الأقصى، ثم إلى كل شوارع فلسطين، ومن أجل شهداء غزة الذين بلغ عدد الأطفال منهم نحو 66 طفلاً وطفلة، وإبادة عائلات كاملة، ومن أجل يافا واللد وحيفا وكل المدن التي تعرضت لهجوم وحشي على بيوتها، وحتى لحرق البيوت على أيدي المستوطنين كما حدث في حي العجمي في يافا، والذي أدى الى حرق طفلين كانا داخل منزلهما عند الهجوم عليه وإحراقه، ومن أجل محمد حسونة الذي استشهد في إثر إطلاق النار عليه من مستوطن في مدينة اللد، والشهيد محمد كيوان الذي أطلقت شرطة الاحتلال النار عليه في أثناء قمع التظاهرات في أم الفحم، ومن أجل شهداء سلفيت ونابلس ورام الله والخليل وأريحا وجنين وطولكرم والقدس وبيت لحم. 

وما زلنا مستمرين، وما زلنا نتعلم معنى الحياة من تحت الركام في مدينة غزة.

عن المؤلف: 

ليان دريني: من الناصرة، أخصائية نفسية مجتمعية.