تذكَّرت
التاريخ: 
04/05/2020
المؤلف: 

"أعيدُ مشاهدة شريط فيديو لعرسٍ قديم!"

ذاك كان جوابي على سؤال صديق: ماذا تشعر في هذه الأيام الأولى لعزلٍ يسمونه حبساً جماعياً؟

هجمت نحوي صور عالية الجودة، لذكريات منع التجوّل الكثيرة والطويلة، منذ الصباح الأول لهذا الحبس الذي نعيشه الآن، في مدينة النور والظل. ويعيشه نصف سكان المعمورة.

تدفقت الصور نهراً بكل تفاصيلها إلى مخيّلتي، وخصوصاً عند رؤيتي طفلًيّ قربي - على غير عادة- بملابس النوم بعد الفطور، جالسان على الأريكة، أعينهما ساهمة نحو نور الصباح الربيعي المتدفق من النافذة الكبيرة لشقتنا، محمّلة بأسئلة تكبُرهم بكثير.

حينها، وحينها فقط رأيت نفسي مرتين وبوضوح. وجدتهما بحاجة إلى سماع أي شيئ. ووجدتني أخبرهما دون أن أشعر، بعض القصص  الجميلة من تلك الذكريات. لم لا؟ وباب الروح مفتوح على مصراعيه الآن.

 تذكّرتُ، أن أيام الحبس القديم تلك هي ما جعلني أكتشف الرسّام في داخلي…

أخبرتهما كيف كتبت في رسالة إلى بنت الجيران التي كنت متيّماً بها حينذاك: "أنني أحلُم بأن أكون فناناً يوماً ما، وأن يكون مرسمي في باريس."

وكيف حَشَوْتُ تلك الرسالة، وهرَّبتُها بين صفحات رواية من الروايات، التي كنا نتبادلها فيما بيننا. طبعاً، لم يأتِ هذا من عبث، وإنما من تأثير الكتب المترجمة إلى اللغة العربية في مكتبة البيت، إذ كنت منكباً على قراءتها لقتل الملل والوقت في البداية، فصارت جسراً من الأمل يربطني بالعالم الخارجي.

ثم شرحت لهما  باللغة البسيطة التي يمكن لأطفال استيعابها، أن هذا ليس غريباً، وخصوصاً إن أراد الإنسان تحقيق ما يريده بقوة. وفسَّرت لهما بأبسط ما يمكن، ما نفهمه عن مؤسس علم النفس الحديث "سيغموند فرويد" عن قوة العقل اللاواعي. وكيف أن ما نريده في أعماقنا سيتحول إلى أنفسنا، إلى الأفضل أو الأسوأ… أو العكس. أي يمكننا أن نقول إن ما صار عليه أحد الأشخاص في الواقع، هو أعمق رغباته.

لم يُدهشني حينها أنهما استمتعا وأتيا إليَّ بأيدٍ مفتوحة واحتضناني، ثم ذهبا مباشرة صوب الكتب والرسم، ليتركا عينيّ ترتدان داخلي ساهمتان نحو النور.

تذكّرتُ، أن حبسنا القديم لم يكن خوفاً علينا، وإنما كان خوفاً منا.

حبس من دون أي خيط  ضوءٍ -ولو رفيع- يتسرب من خلال الشبابيك المغلقة قسراً. بلا أي صوتٍ، لآخر يصفق لنا عبر نافذته عند الثامنة مساء من كل ليلة. أكثر من ذلك، كيف استمروا واستطاعوا -منذ أربعة عشر عاماً- تفصيل حبس بحجم بلد بأكمله. بل، حجب الشمس بأكملها.

تذكّرتُ، أنه منذ تلك الليالي، بدأت تلازمني صعوبة في النوم، مترافقة أحياناً برغبة شديدة في الاعتراف. ما جعل الأحلام تأتي مكثفة ومركبة، فالليالي هي الأسوأ دائماً، حين تسكنك الوحدة. والأرق، شيطان لا نظير له. فالذين يستطيعون النوم بسهولة، لا يمكن لهم فهم هذا الوحش. في تلك الليالي الطوال، أدمنت لعبة الاعتراف -ليس بخطأ ما كنت قد أقترفته مسبقاً- وإنما بأشياء أريد لو بإمكاني اقترافها وبشدة. فحلمت ذات ليلة، أنني كاهن كلما أتاهُ أحدهم محمَّلاً باعتراف، تنتابه تلك الرغبة عينها، فيقول في نفسه: هناك فرق بين أن يموت الإنسان صغيراً في السن أو أن يموت كبيراً. ثم اعترفَ أنه ليس مقتنعاً بأن الناس يموتون صغاراً لأن الرب يحتاج إلى ملاك آخر.

كم كنت طفلاً محظوظاً بمكتبة أبي التي منحتني بحراً من الأحاسيس والكلمات والصور، أكتشفها وأكتشف دواخلي من خلالها. فكانت الباب الوحيد المفتوح في بيتنا للضوء، حيث لا يمكن لكل جنود الأرض العثور عليه.

تذكّرتُ، كم كان الرسم سلوىً ما بعدها سلوى، وموسيقى تعلو وترنو بي بعيداً لتبدد ألوان الصمت.

كيف كان للرسم سلطة تبني سككاً وجسوراً وتمد طريقاً لروحي وجسدي فوق الخراب الرمادي، حيث لا ألوان.

"فمن كنت سأكون بلا".. هذا البحر وهذا الخراب.

ما تذكرته أيضاً وللمرة الأولى، وقد بدا واضحاً جلياً لي في هذا الحبس الجديد: أنني مشتاق إلى باريس.

هنا، والآن وأنا الساكن في قلبها. وشمسها تلك هي التي تتدفق عليّ من هذه النافذة الكبيرة، حيث أجلس مراقباً نظرات طفلَيَّ الراجعة نحوها ونحوي في آنٍ.

قررت عندها أن أذهب سريعاً إلى مرسمي الصغير في حارتي. هذه المرّة، بلا خوف من جندي يتربص بي منذ الطفولة ليطلق عتمته نحو صدري.

الذكريات أفضل عادة مما كانت وقت حدوثها…

 

الصورة من تصوير ابن الفنان (زياد زعرب، ٨ سنوات) من نافذة البيت خلال الحجر، ٢١ نيسان ٢٠٢٠.

عن المؤلف: 

هاني زعرب: تشكيلي فلسطيني مقيم بباريس.