بيروت بين زمنين: ما قبل الانفجار وما بعده
Date:
3 août 2021
Auteur: 

أن تسمع خبراً عاجلاً عن انفجار وقع للتو في مدينة بيروت، أو أن تقرأ وتشاهد خبراً كهذا، لهو أمر مألوف إلى حد ما في مدينة أنهكتها الانفجارات من كل حدب وصوب، من داخلها ومن خارجها. في أحداث كهذه تجهز نفسك لسماع مزيد من التفاصيل في نشرات الأخبار المسائية، أو في الساعات اللاحقة على وقوع الحدث، وتبدأ التكهنات تعتمل في ذهنك؛ ربما يكون التفجير استهدف شخصية عامة، سياسية أو إعلامية، وربما يكون تفجيراً إرهابياً، أو قد يكون قصفاً إسرائيلياً.

 

لوحة للفنان سيروان باران

 

لكن في مساء الرابع من آب ٢٠٢٠ لم يكن الموضوع يحتمل التأجيل، وخصوصاً أنني لم أكن في بيروت يومها بسبب قيود السفر التي فُرضت نتيجة الجائحة. فقد توالت الأخبار بصورة مكثفة ومتناقضة، في الوقت نفسه، عن الانفجار، ولا سيما خلال اللحظات الأولى لوقوعه. فانتشر مراسلو ومراسلات محطات التلفزة اللبنانية والعربية والعالمية في المناطق المحيطة لموقع الانفجار، وبدأوا يبثون الأخبار العاجلة ويتحدثون مع المارة باعتبارهم شهود عيان على الحدث؛ فمن هؤلاء من تحدث جازماً عن سماعه هدير طائرة مقاتلة إسرائيلية، أو مشاهدته لها في الأجواء اللبنانية، ومنهم من جزم أنه شاهد أو سمع صوت صاروخ إسرائيلي. كذلك بدأت وسائل الإعلام تبث صور رجال ونساء وأطفال جرحى ينزفون في الشوارع وعلى الأرصفة، وفي الخلفية أصوات سيارات الإطفاء والإسعاف. ولم يكن يخفى على كل مَنْ يتابع مظاهر الارتباك والخوف والدهشة والقلق على وجوه الإعلاميين.

حاولت التماسك والاتصال بمجموعة من الصديقات والأصدقاء والزميلات والزملاء من أجل الاطمئنان عليهم، وبصعوبة بالغة تمكنت من الحديث مع البعض منهم بسبب الضغط الكبير على شبكتي الاتصالات والإنترنت؛ أحد الأصدقاء أصيب بجروح طفيفة جراء تطاير الزجاج على شرفته، وصديق آخر أصيب وزوجته أيضاً جراء تطاير الزجاج، وصديق ثالث لم يتمكن من متابعة حديثه معي إذ لم يكن قد استوعب بعد حجم الضرر الذي أصابه، وصديق رابع تعرض جزء من منزله للدمار. أمّا الزملاء في المؤسسة، ففي معظمهم كانت الأضرار لديهم طفيفة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مبنى المؤسسة وموجوداتها.

اتصلت أيضاً بحارس المبنى حيث أقطن للاطمئنان عليه، فأعلمني بأن أضراراً لحقت بشقتي مع أنها بعيدة كثيراً عن المرفأ. بعد هذا الاتصال، وكان قد مر نحو ساعتين إلى ثلاث ساعات على الانفجار، بات لدي شبه يقين بأن ما حدث ليس انفجاراً عادياً.

أصابني الذهول والخوف والارتباك من هول ما كنت أشاهده على شاشات التلفزة، ورحتُ أفكر بأولئك الذين كانوا في محيط موقع الانفجار، من طواقم الإطفاء والإسعاف إلى الناس العاديين أبناء هذه المدينة الذين رأوا مدينتهم تنفجر أمامهم، ومنهم مَن خسر أهلاً وأحبة وأصدقاء، ناهيك بدمار المباني والأحياء السكنية والتراثية، كما في مار مخايل والجميزة، والمستشفيات وبعض دور السينما والمسارح والمتاحف.

لقد كان هذا الانفجار، بحسب توصيف الصحافة والخبراء، أحد أضخم الانفجارات في العالم، إذ يوازي بقوته التفجيرية انفجاراً نووياً، ولا يزال لبنان بشكل عام، وبيروت بشكل خاص، يعانيان جراء تداعياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تتفاقم يوماً بعد يوم، ولا سيما أنه تزامن مع انهيار اقتصادي اندلعت في وجهه انتفاضة شعبية في 17 تشرين الأول 2019، بالإضافة إلى تدهور الوضع الصحي في ظل تفشي جائحة كورونا، الأمر الذي سرّع الانهيار وفاقم الأزمات التي كان يعاني جراءها الشعب اللبناني.

زرت بيروت بعد مرور ثلاثة أشهر على وقوع الانفجار، وتتالت زياراتي لها (خمس مرات خلال عام)، وفي كل زيارة كنت أجد الأوضاع أكثر سوءاً من سابقتها، وكلما ظننت أن الوضع وصل إلى خواتيمه كلما اكتشفت مع كل زيارة أن لا قعر لهذا الانهيار.

المشهد الثقافي والفني اللبناني لم يكن بمنأى عما جرى، فقد تأثر كما سائر القطاعات الأُخرى، وبات يعاني من شح التمويل، اذ تغيرت أولويات التمويل وذهبت اكثر بالاتجاه الاغاثي، وعزوف مجتمع المثقفين والفنانين العرب والعالميين عن بيروت، ناهيك بتضرر العديد من مباني المؤسسات الثقافية والفنية والمتاحف جراء الانفجار، وبالتالي توقفت عن العمل وانصرفت إلى إعادة الترميم.

عام كامل مر على انفجار المرفأ، ومنذ ذلك الحين لا حدود للانحدار، أو كما يقال لا قعر له؛ وفي كل يوم يصحو المواطن اللبناني على وضع مأساوي أقسى من اليوم السابق، سواء فيما يتعلق بسعر صرف الدولار، أو عدم توفر الأدوية والمحروقات وغيرها من السلع الضرورية في الأسواق، والانقطاع شبه الدائم للكهرباء؛ فقد تحولت بيروت من مدينة مشعة بالحياة إلى مدينة مظلمة، وإلى مدينة متسخة بسبب عدم رفع النفايات لأيام من شوارعها، حتى الواجهة البحرية باتت تعاني جراء العتمة، ولم يعد روادها قادرون على ممارسة رياضة الجري هناك، أمّا القطاع الصحي فلم يعد قادراً على التعامل مع الحالات الصحية البسيطة، فكيف بالحالات المعقدة، ولا سيما أن مواجهته للجائحة قد أنهكته طوال هذا العام.

لم تعد هذه بيروت التي نعرفها، ولا حتى تشبه بيروت التي عرفناها بشيء؛ بيروت معارض الكتب ودور النشر، بيروت صناعة السينما والمسرح والصحافة والمعارض الفنية والمحاضرات والمؤتمرات، بيروت المقاهي والحانات والنقاش الفكري بين مختلف الآراء والتوجهات، بيروت ملتقى التيارات الفكرية المتنوعة، بيروت التي تستقبل كل زوارها بحفاوة.

تكاد بيروت تكون المدينة الأخيرة والملاذ الأخير في عالمنا العربي التي تحتمل الرأي الآخر وتتقبله، ولا يضيق أفقها به، والتي تفتح ذراعيها لاحتضان مشهد ثقافي عربي وعالمي يعيد حفظ وجودنا على خارطة الثقافة العربية والعالمية.

على الرغم من قتامة الصورة، فإن ما جرى ويجري في بيروت ليس قدراً، وعودة بيروت إلى وهجها وحيويتها وصورتها التي نعرف ما هي إلاّ مسألة وقت مقرون بكثير من الوفاء من أصدقاء بيروت ومحبيها، أفراداً ومؤسسات.

والسؤال هنا لماذا هذا التفاؤل؟ وهل هذا ممكن؟ والجواب نعم، لان بيروت وعلى الرغم مما حل بها منذ انفجار المرفأ، فإنها استمرت في عطائها الثقافي والفني، واستعادت معارضها ومسارحها ودور السينما فيها نشاطاتها ودورها الفني والثقافي ولو بشكل غير كامل، على الرغم من الأضرار التي أصابتها وقلة إمكاناتها، كذلك استمرت صحفها في الصدور، وحافظت مؤسساتها البحثية ودور النشر فيها على الإنتاج.

إن الوفاء لبيروت يُترجم ان تتخذ مجالس أمناء ومجالس الإدارات قرارات بالصمود والاستمرار في أداء مهامهم وواجباتهم والإبقاء على مراكزهم في لبنان، وتحديداً في بيروت، وعدم نقل أعمالها ونشاطاتها إلى عواصم أُخرى. فبيروت تستعيد وهجها بالوفاء والصمود وبالاستمرار.

هذا هو الوقت الملائم لنرد القليل من الجميل إلى بيروت التي أعطتنا الكثير.