حديث صحافي للسيد محمود عباس (أبو مازن) يرد فيه على إقرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في المطالبة بدولة، تونس
النص الكامل: 

ما هو تعقيبكم على إعلان رئيس الوزراء الإِسرائيلي يتسحاق رابين قبوله حق الفلسطينيين في التعبير عن طموحهم إلى دولة؟ هل لهذا الموقف صلة بالجولة السابعة من المفاوضات؟

بالتأكيد، إذ إن ما يقال على لسان رابين ذو صلة وثيقة بالجولة السابعة من المفاوضات. وأود القول مجدداً إن حق الفلسطينيين في تأسيس دولتهم المستقلة هو أبرز وأهم الحقائق السياسية المكرسة عالمياً في هذه المرحلة. هناك قرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة تعترف بهذا الحق، وهنالك أكثر من مئة وسبع دول تعترف به وتتعامل مع الشعب الفلسطيني على أساسه. الأمر هنا إذن لم يعد مجرد حق في المطالبة وإنما هو حق في التنفيذ.

إن رابين لم يأت بجديد حين أقر بحق الفلسطينيين بالمطالبة بدولة، لأنه في المكان ذاته يعلن إنكاره هذا الحق وعدم استعداده لتفهمه والتعامل معه. مع ذلك لا جدال في أن أقوال رابين يمكن أن تنطوي على خطوة متواضعة على طريق طويل.

مضى عام على بدء عملية السلام، والشعور العام في المناطق المحتلة وربما في العالم أيضاً، يتجه إلى التشاؤم أو إلى خيبة أمل. طرح هذا السؤال على رابين فأجاب بأن "المسؤول عن ذلك هو الجانب الفلسطيني الذي لم يظهر الاستعداد الكافي للبحث في حل المشكلة". كيف ترون الأمر من جانبكم؟

أوافق على الجزء الأول من السؤال. نعم هناك شعور بخيبة أمل بعد مرور عام على لقاء مدريد، لكنني أستغرب منطق السيد رابين الذي يحاول إلقاء المسؤولية على ظهر الفلسطينيين. ضاع عام كامل من عمر مسيرة السلام ورابين يعرف جيداً أن الذي أضاعه هو سلفه (يتسحاق) شمير صاحب سياسة إضاعة الوقت لعشر سنين ليتسنى له بعد ذلك فرض الأمر الواقع علينا وعلى العالم. والآن، لا أظن أن أحداً يصدق رابين بأن الوفد الفلسطيني ذهب إلى واشنطن لإِضاعة الوقت. إن المسؤول عن عدم إحراز تقدم نوعي في المسار الفلسطيني في فترة حكم رابين هو الجانب الإِسرائيلي الذي يتجاهل ورقتنا الفلسطينية وقدم ورقة مقابلة لا تتضمن الحد الأدنى من حقوقنا. إن هناك اختلافاً بين مقترحات رابين ومقترحات سلفه شمير، ولكن حتى الآن لا نستطيع القول إن هناك تقدماً جوهرياً من جانب رابين نحو نقطة لقاء جدية وراسخة يمكن أن يجري البناء عليها.

لكن رابين يعزو علاقة الفلسطينيين بتعثر المفاوضات إلى عدم إدراكهم معنى الفترة الانتقالية ومهماتها وإصرارهم على مناقشة مسائل تتعلق بالوضع النهائي؟

هو يقول ذلك، لكننا نعرف جيداً سيناريو عملية السلام، ونعرف حدود الفترة الانتقالية في الزمان وفي المضمون. إن مشكلة رابين هي أنه يريد منا أن نذهب معه معصوبي الأعين، ونحن لا نقبل بذلك إطلاقاً. حتى الآن لم يقدم شيئاً يذكر في ما يخص مرجعية الفترة الانتقالية، ولا حدود تنفيذ السلطة المحدودة عليها، إلى جانب أمور كثيرة أُخرى تقدمنا باستفسارات حولها ولم نتلق أي جواب. إن الغموض في المرحلة الانتقالية يراكم معضلات أمام الفترة الانتقالية. إننا نعمل على إجلاء الغموض وإنارة الطريق.

إن رابين يبدو غالباً مهتماً بجعل الانتقالية مدخلاً إلى صيغة نهائية تلائمه تماماً. ونحن بكل صراحة نقول: إن الانتقالية هي ممر إجباري أراد العالم لنا أن نمر به، ووافقنا على ذلك وها نحن نعمل من أجل أن يفضي إلى حقنا في تقرير المصير وبناء دولتنا المستقلة المرتبطة كونفدرالياً مع الأردن. إننا نفاوض من أجل هذا، ورابين يغرق الانتقالية بغموض مبالغ فيه على نحو يجعلنا نعتقد بأنه يسعى إلى تركيب الأمور في النهائية على نحو مختلف.

تردد أخيراً أن هناك "مشاحنات أخوية" بينكم وبين سوريا على مسألة التقدم المتفاوت في المسارات. هل نستطيع القول إن لقاء عمان الأخير أزال سوء التفاهم بينكما؟

إننا حريصون على أن يكون هناك تقدم متواز على كل المسارات. ودفعنا باتجاه تفعيل الإِطارات العربية المعنية بهذا الأمر منذ مؤتمر مدريد وما زلنا نضع هذا الأمر كمركز لجهدنا العربي. إننا لا نستطيع تجاهل الآخر. وفي مسألة من هذا النوع علينا كعرب أن نجلس ونتشاور ونستخلص أفضل السبل لجعل التقدم في مسار ما مساعداً على التقدم في المسار الآخر وليس بديلاً عنه أو ضاغطاً عليه. إن وفودنا تتشاور في واشنطن بانتظام، ووزراءنا يتشاورون ويجب أن تستمر الحركة في هذا الاتجاه، إذ إن الوقت الذي نعيش لا يحتمل مشاحنات، ولو أخوية. إنه يحتمل بل ويتطلب بشدة تفاهماً وتنسيقاً وتكاملاً في الأوراق والأداء والقوة.

عودة إلى إسرائيل ورابين. بقراءة متفحصة لتصريحات المسؤولين الإِسرائيليين في ما يتعلق بالمسار السوري نلاحظ أنهم لم يكتفوا بعد بإعلان وزير الخارجية السيد فاروق الشرع الاستعداد لقبول سلام شامل لقاء انسحاب شامل. ويعرض رابين في مواجهة ذلك شعار تطبيع شامل قبل تطبيق القرار 242. كيف ترون الأمور في هذا المسار؟

الموقف الإِسرائيلي يبدو لنا غريباً وغير موضوعي، بل يمكن القول أيضا أنه غير منطقي. إنهم (الإِسرائيليون) يريدون البدء مع سوريا من الآخر وهذا ما لم يحدث نظيره في أي مفاوضات على نزاع إقليمي. والغريب أن الإِسرائيليين يريدون كل شيء قبل أي شيء. ويحرمون الفلسطينيين على سبيل المثال من حق معرفة أي معلومة عن الخطوة التالية المتعلقة بمصيرهم. مع ذلك فإن الإِخوة السوريين كانوا أبلغونا أن موقفهم هو انسحاب شامل ليس فقط من الأراضي السورية وإنما من كل الأراضي العربية المحتلة لقاء سلام شامل ليس على الجزء السوري وإنما على المنطقة بأسرها. وهذا موقف نشجع الإِخوة السوريين على التمسك به.

إجاباتكم تبدد الانطباع بأنكم متفائلون، وهذا يبدو مختلفاً عن الأجواء التي سادت إثر وصول حزب العمل إلى السلطة في إسرائيل. هل ترون أن رابين تراجع عن وعوده أو أنه يعمل وفق اعتبارات جديدة وسياسة مختلفة؟

إن الفلسطينيين هم الشريك الأكثر عمقاً وتأثيراً في عملية صنع السلام، لذلك يخطئ (رابين) كثيراً لو ذهب باتجاه فرض الحل السياسي بقوة القمع مثلما يفعل الآن. إن للسلام مع الفلسطينيين أسساً وضوابط على الجانب الإسرائيلي ألا يتجاوزها حتى لو بدا له أنه واقعياً قادر على ذلك، منها مثلاً قرارات الأمم المتحدة ومنها أساساً الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني التي يفهم الفلسطينيون والعالم معهم أن جوهرها هو حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. منح رابين الفلسطينيين حق المطالبة بذلك. وهذا أمر جيد لكنه في السياق نفسه يعلن حق إسرائيل رفض طموح الفلسطينيين، ولا أدري ما الذي دعا رابين في هذه الفترة الحرجة إلى الاسترشاد بمسألة الأكراد والباسك لينكر على الفلسطينيين حق تقرير المصير. إن اتجاهاً كهذا ينبئ عن استعداد إسرائيلي، وحتى عن سلوك إسرائيلي يؤدي إلى إطالة أمد الصراع وليس إلى حله. إن الفلسطينيين الذين لم يربطوا أنفسهم بأية قضية أُخرى لا يوافقون على منطق رئيس الوزراء الإِسرائيلي، وأكثر من ذلك لا يطمئنون إليه.

إن من يريد بناء السلام مع الفلسطينيين الذين تجاوز عددهم خمسة ملايين نسمة لا يتحدث عن حقوقهم وقضيتهم بلغة كهذه. إننا نفاوض بجدية بالغة، ونعرف أصول اللعبة وحدودها وآفاقها، وندعو رابين إلى تفهم أفضل لنا وقبول أكثر وضوحاً لحقوقنا الوطنية. إن الفلسطينيين شعب متكامل وليسوا كما يقول مجموعة بشرية لا يعرف ما هي حقوقها الوطنية.

إنني أقول للسيد رابين ما قاله الرئيس عرفات: "تعال إلى سلام الشجعان" والشجاعة هنا تعني القرارات الحاسمة نحو سلام حاسم. إننا، أو إنني شخصياً على الأقل، ما زلت أشعر بالتفاؤل لأن فرص السلام لا تزال قائمة، ولا أنكر أن رابين يختلف كثيراً عن سلفه شمير ولكن دعونا ندقق في أمر هذا الاختلاف لئلا نضيع في العموميات والمصطلحات الجاهزة.

إن رابين يبدو جدياً أكثر، وظهرت هذه الجدية في العديد من المواقف مثل الموافقة على استمرار المفاوضات في جلسات مطولة، ووعده بتسريع الخطوات المؤدية إلى الاتفاق على المرحلة الانتقالية، وإعلانه تمسك حكومته بأسس مدريد. إن هذه المؤشرات مهمة، لكن المشكلة ليست في المؤشرات وإنما في كيفية ومدى جدية تجسدها على طاولة المفاوضات قبل أن نقول على الأرض.

إن رابين تقدم على شمير خطوات عديدة على طريق السلام لكنه ما زال بعيداً عنا، بل إنه بعيد حتى عن حلفائه الأميركيين الذين صاغوا مدريد وقدموا أوراق الضمانات، وبعيداً عن العالم الذي لا يتنازل عن الشرعية الدولية كمقياس وكأساس.

تفاؤلي راجع ليس إلى تصريح يصدر من هنا أو هناك ولكن لأن العملية بدأت، والفلسطينيين صاروا للمرة الأولى شركاء قانونيين وسياسيين وعمليين في صنع السلام وتوافرت لديهم الفرصة التاريخية لصنع مصيرهم.

تردد أخيرا أن هناك اتفاقاً فلسطينياً ـ إسرائيلياً توصلت إليه مصر في شأن تعديل صيغة مشاركتكم في لجان المفاوضات المتعددة الأطراف. هل حدث ذلك بالفعل، وكيف سنرى شكل مشاركة مبعوثيكم في اللجان؟

بالفعل، بذلت مصر من خلال وزير خارجيتها السيد عمرو موسى جهوداً فاعلة ليس فقط على صعيد صيغة مشاركتنا في لجان المتعددة، ولكن على نطاق أكثر اتساعاً وأكثر عمقاً، أي على مستوى عملية التسوية كلها. نعم هناك تطور معين باتجاه صيغة مشاركتنا، ودعنا لا نتعجل الأمور. فقريباً ستبدأ لجان المتعددة عملها، وسنرى معاً الوضع الجديد.

لكن وزير الخارجية الإِسرائيلي شمعون بيرس أعلن أن إسرائيل ستشارك معكم في اجتماعات اللجان بعد أن وافقتم على شروطها؟

نستطيع رؤية المسألة من زاوية أُخرى، أي أن نقول إنها (إسرائيل) هي في المقابل وافقت على شروط لنا، مثل مشاركة الفلسطينيين من خارج الأرض المحتلة في كل لجان إطارات (المفاوضات) المتعددة كطرف مستقل وعلى قدم المساواة مع الجميع، وهذا أمر بالغ الأهمية.

هل صحيح أن أحد شروط قبول مشاركتكم في كل اللجان عدم إثارة موضوع عودة اللاجئين؟

ليس من حق أي طرف أن يفرض على الفلسطينيين ما يمكن أن يطرحوا أو لا يطرحوا. إن مشكلة اللاجئين مشكلة قائمة ومتعاظمة، وهناك إشارة واضحة إليها في القرار 242 الذي تجري عملية السلام برمتها على أساسه وهناك أيضاً القرار 194. إن الحكومة الإِسرائيلية وافقت على المشاركة في مؤتمر السلام ويجب ألا تضع فيتو على أي موضوع بل عليها أن تتحدث عن كل المسائل بمسؤولية وإيجابية. ولو كان الأمر كما تقول، لماذا تكون هناك لجنة اسمها "لجنة اللاجئين". إننا معنيون والعالم كله معنا بإيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين.

أخيراً، إلى عقدتي العقد أو ما يحاول الإسرائيليون إظهاره باعتباره المستحيلين الرابع والخامس: القدس والاستيطان. هل طرأ جديد على موفقكم من هاتين المسألتين أما الجديد في الموقف الإِسرائيلي وهو الاستعداد للتفاوض في شأنهما في الفترة النهائية؟

أود هنا أن أتحدث عن هاتين المسألتين بجملة واحدة: لا سلام من دون القدس ولا سلام مع الاستيطان، هذا هو فهمنا ولا يوجد ما يدعونا إلى تغيير هذا الفهم أو المساومة عليه أو التساهل في الالتزام به.

 

المصدر: "الحياة" (لندن)، 26/10/1992. وقد أجرى الحديث مازن الصغير.

*محمود عباس (أبو مازن): عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.