بُلاّطة. "شهادة الأوفياء: أطفال فلسطين يعيدون خلق عالمهم" (بالإنكليزية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

              خرج أطفال فلسطين على المألوف. وربما كانوا هنا الاستثناء الوحيد في العالم، طوال التاريخ الحديث والمعاصر.

لقد دأب الكبار على رعاية الأطفال، وإيلائهم الاهتمام الكبير، من أجل توفير الصحة والسعادة والثقافة لهم. بينما دأب الأطفال على رد الجميل عندما يكبرون، وحين يكون الكبار قد شاخوا وغدوا بحاجة إلى الرعاية.

إلا أطفال فلسطين المحتلة، الذين آتوا أُكلهم قبل أن يشتد عودهم، ويشبّوا عن الطوق. ولا نقصد هنا تلك الحجارة التي يرشقها أطفال الضفة الغربية وقطاع غزة، بغزارة، في اتجاه جنود الاحتلال. حتى أنه أمكن القول إن هؤلاء اندفعوا إلى مقدم الصفوف في الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الراهنة، فغدا مشهد الأطفال الفلسطينيين، وهم يلاحقون المحتلين باللعنات والحجارة، المشهد الرئيسي في هذه الانتفاضة.

بل إن مساهمة أطفال فلسطين لم تتوقف عند قذف الحجارة، بل تعدته إلى شهر الفُرُش في وجه الاحتلال الإسرائيلي؛ فخرجت لوحات هؤلاء الأطفال لتضيف إلى مقاومتهم الاحتلال بالحجر، بعداً فنياً وثقافياً وطنياً.

وبمجرد اندلاع الانتفاضة، اندفع بعض الفلسطينيين من الولايات المتحدة الأميركية في اتجاه الضفة والقطاع، كي يجمعوا هذه الرقع الصغيرة التي زينتها أنامل الصغار الرقيقة بتلك اللوحات البسيطة في مظهرها، الغنية في جوهرها. وقد انكب عليها الفنان التشكيلي الفلسطيني، كمال بُلاطة، بكل حبه لوطنه وشعبه، في منفاه في الولايات المتحدة الأميركية، فكان هذا الكتاب – الوثيقة، الذي يقع في 120 صفحة من القطع المتوسط، والذي يلفه غلاف ذو ألوان زاهية، وذوق فني رفيع. وخيراً فعل الناشر باختياره الورق المقوى للغلاف، كي يضمن له عمراً أطول. وقد قدم الكاتب الأميركي جون بيرغر للكتاب، بمقدمة ضافية رشيقة.

كتبت مادة الكتاب، أصلاً، باللغة الإنكليزية، قبل أن يترجمها فواز طرابلسي – كل في الصفحة نفسها – إلى العربية، بينما ترجمتها ليان فايلي إلى الفرنسية، على النحو نفسه.

وقد تصدرت الكتاب جملة مفادها "أن بعض ريعه سيرصد لمؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في القدس، وذلك لتشجيع التربية الفنية للأطفال الفلسطينيين، الذين يعيشون في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي."

وضم الكتاب بين دفتيه زهاء ثمانين لوحة لأطفال الانتفاضة، كلها بالألوان الطبيعية، عدا واحدة تم تصويرها بالأبيض والأسود. ولا نعلم ما الحكمة في استثناء هذه اللوحة اليتيمة. وأُلحقت هذه اللوحات بخمس لوحات قديمة، نسبياً، كان رسامون من خارج دائرة الأطفال قد أنجزوها؛ وثمة ما يشير إلى أن الصغار استوحوها، أحياناً، أو تأثروا بها كثيراً. كما تم تعزيز هذه اللوحات وتلك بنحو عشرين صورة فوتوغرافية لمظاهر عسف الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع، من ترويع الأطفال والشيوخ، إلى ضربهم ومطاردتهم وقتلهم، ناهيك بنسف البيوت. هذا، فضلاً عن خمس وأربعين صورة فوتوغرافية أخرى لأنشطة ووجوه فلسطينية. فهذه الصور وتلك هي لمحات من عالم أطفال الانتفاضة، و"هي بمثابة الصدى لصوت الطفل الفلسطيني وراء عمله الفني"، على ما يقرر – بحق – المؤلف في مقدمته لكتابه.

وقد تعمد المؤلف المزاوجة بين الصورة والكلمة، من أجل بلورة "وجهة نظر تطمح إلى نقل رسالة هؤلاء الأطفال إلى العالم، بحسب تفسير المؤلف نفسه.

ويستند بلاّطة في تقديمه الكتاب إلى روبرت كولز، في تأكيده "أن الوضع السياسي للشعب، يصبح الصورة اليومية لنفسية الطفل." ولعل في هذه الجملة الذكية المكثفة، بعض ما يفسر ظاهرة "أطفال الحجارة" في الضفة الغربية والقطاع المحتلَّيْن.

وجهد بلاّطة كي يقرأ لوحات هؤلاء الأطفال، ونجح في ذلك إلى حد يثير الإعجاب والتقدير. وتمكّن من إلقاء ضوء كاف على المخزون التعبيري للرموز والإشارات التي توفرت في هذه الأعمال الإبداعية.

أما جون بيرغر فيشير، في تمهيده للكتاب، إلى "أن لغة الرسم الأولى اعتمدت على قاعدة بيولوجية أكثر مما اعتمدت على قاعدة ثقافية"، وأن الطفل يتأثر عادة بتجربته، من دون تجارب الآخرين. وفي هذا ما يفسّر وضوح رسوماته.

ويعرض بيرغر لأعمق المشاهد في نفس طفل كل من الضفة والقطاع، ويحددها في: الاعتقال، وعصب عينيّ المعتقل، وقتل الأطفال. أما المكان، فلا شيء يمكن أن يمسحه من عقل الطفل. فالأرض هي المحور الرئيسي للصراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، وهي هدف كل منهما، في الآن نفسه.

وهذه اللوحات هي – في رأي جون بيرغر – رسالة من أطفال الانتفاضة إلى العالم. وتزيد أهمية هذه الرسالة بعد أن منع الاحتلال الإسرائيلي المصورين الصحافيين من تصوير فعاليات الانتفاضة وحالات العسف الإسرائيلي. وجاء هذا المنع بناء على نصيحة أسداها للحكومة الإسرائيلية السياسي الأميركي الداهية، هنري كيسنجر، بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من اندلاع الانتفاضة.

ويبدأ كمال بلاّطة دراسته بواقعة خالد أكر، الذي قاد طائرته الشراعية مساء 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، وأنجز بها عملية جسورة ضد معسكر حربي إسرائيلي، شمال فلسطين المحتلة؛ وحملت عمليته الفدائية هذه اسم "عملية قبية"، تخليداً لذكرى شهداء مذبحة قبية، التي كان نظمها "جيش الدفاع الإسرائيلي"، ضد مدنيين فلسطينيين عزّل من أهالي قرية قبية في الضفة الغربية، في 13 تشرين الأول/أكتوبر  1953. ولعل من فضول القول إن هذه العملية الفدائية كانت في مقدم مفجّرات الانتفاضة الفلسطينية الراهنة. ولا يقلل من أهمية هذه العملية الفدائية أن بطلها لم يكن فلسطينياً، فاندفاعه هنا جاء تأكيداً جديداً لعروبة قضية فلسطين.

وكان المؤلف قد ذكر أن الفدائي الشهيد البطل، خالد أكر، هو فتى فلسطيني، بينما هو شاب سوري، من مواليد مدينة حلب، شمال سوريا. على أن هذه الهنَّة الهيِّنة لا تقلل من القيمة الاستثنائية للدراسة التي قدمها المؤلف لرسومات أطفال الانتفاضة، والتي رأى أنها تتجاوز الأحداث الجارية إلى الأرض، وظاهرة الاحتلال والحلم بالسلام.

ويحشر الأطفال في رقعهم الكثير من التفاصيل، ويقفون للاحتلال بالمرصاد؛ فكلما عمد إلى قطع المياه رد الأطفال برسم الكثير من الينابيع، التي تتدفق المياه منها. وكلما قتل جنود الاحتلال طفلاً أو شيخاً فلسطينياً، طفق الأطفال الفلسطينيون يرسمون لوحات الأعراس، حيث تتجلى العلاقة الأبدية بين الفلسطيني والأرض.

والمتتبّع لشخوص الإسرائيليين في لوحات أطفال الانتفاضة، يلاحظ أن هذه الشخوص دائماً جنود مدججون بالسلاح. وفي مواجهتهم – فوق الشطر المواجه من اللوحة – ثمة الأطفال الفلسطينيون بحجارتهم وراياتهم، تفصلهم المتاريس عن أعدائهم، بينما تظلل سحب الدخان والغاز المسيِّل للدموع ميدان المواجهة.

ويبخل الطفل بالألوان على الجنود الإسرائيليين الذين يرسمهم. إذ يكتفي الطفل باللون المعدني لوجه الإسرائيلي، واللون الرمادي لملابسه، بينما يغدق من الألوان على وجوه الفلسطينيين، وأجسادهم، وشعاراتهم.

على أن ثمة ملاحظات على هذا العمل التوثيقي التأريخي الفني الاستثنائي. وهذه الملاحظات لا تقلل من قيمة هذا الإنجاز، بل ربما تزيد في شموليته، وتأصيله، فيما لو كانت روعيت أصلاً:

  • فيا ليت المؤلف بدأ دراسته بلمحة تاريخية عن أوضاع أطفال فلسطين، في التاريخ الحديث والمعاصر، مع تركيز خاص على أوضاعهم المختلفة في ظل الاحتلال الإسرائيلي: اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، وثقافياً، وصحياً، إلخ...
  • مع ضرورة إلقاء الضوء الكافي على معاناة الأطفال الفلسطينيين، طوال عشرين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع (1967 – 1987)، وحتى اندلاع الانتفاضة.
  • وإلحاقها بما عاناه هؤلاء الأطفال، بسبب عسف الاحتلال الإسرائيلي، طوال أيام الانتفاضة.

فمن شأن هذه الأمور الثلاثة أن تضيء البعد الاجتماعي والسياسي والتاريخي للوحات الأطفال المعروضة في الكتاب، بعد كشف القهر الاستثنائي الذي مارسه الاحتلال، ولا يزال يمارسه، ضد أطفال فلسطين في الضفة والقطاع. فمن نافلة القول إن هذا القهر ساهم بقسط كبير في تشكيل مفردات هذه اللوحات. كما أن هذه اللوحات هي أحد أسلحة الأطفال في مقاومة الاحتلال، ومحاولة لثلم أساليب قمعه.

  • وربما كان مجدياً رصد التمايزات بين لوحات أطفال الانتفاضة – إنْ وُجدت – بين ساكني المدينة ونظرائهم في كل من القرية والمخيم. وإلا كان على المؤلف أن يترك للقارىء هذه المهمة، لكن بعد أن يدوِّن المؤلف مكان إقامة كل طفل صاحب لوحة، إلى جانب لوحته.
  • مع عقد مقارنة سريعة مع لوحات أطفال فلسطين كانوا رسموها، في مكان آخر، في زمان سابق، مثل تلك التي رسمها أطفال مخيم البقعة في الأردن، سنة 1968، وقامت الرسامة الفلسطينية منى سعودي بجمعها وتقديم دراسة عنها، في كتاب أصدرته قبل عشرين عاماً من كتاب بلاّطة. وقد اطلع الأخير عليه، حتى أنه اعترف لسعودي بالريادة في هذا المجال.

إن ثمة ما يبرر هاتين المقارنتين، وهما لا تقلان أهمية عن تلك المقارنة التي عقدها المؤلف، ضمناً، بين رسومات أطفال الانتفاضة ورسومات أقرانهم في أرجاء العالم.

              وبعد،

              فلقد جدل كمال بُلاّطة، في ضفيرة واحدة – وبحب عميق لوطنه وشعبه – ثلاث خصل متباينة متكاملة: الموروث الشعبي الفلسطيني (أمثال شعبية، ومواويل، وحكايات شعبية، وتطريز)؛ علم نفس الطفل؛ النقد التشكيلي. فكان هذا الكتاب، علامة أضاءت طريق التأريخ للانتفاضة، بطريقة فريدة