يتناول المقال العدوان الإسرائيلي على لبنان في نيسان/ أبريل 1996، المسمى "عناقيد الغضب". فيطرح عدداً من "الأسئلة الساذجة"، ويجادل الذريعة الإسرائيلية بأن العدوان اقتصاص من صواريخ الكاتيوشا التي تطلقها المقاومة على المستعمرات الإسرائيلية، ويعرض حال "الشريط" اللبناني المحتل، ويجادل في الأسباب الإسرائيلية للإبقاء على هذا الشريط.
"لأننا بلاد صغيرة! لأننا بلاد صغيرة!"
إحدى شخصيات رواية "دروب الحرية"
لجان بول سارتر
- بين الحقوق التي يطيب للبنانيين اليوم أن يتمسكوا بها حقهم في السذاجة.هم يعلمون بأنهم ليسوا سذّجاً في الواقع؛ إذ كيف يسعهم أن يحفظوا للسذاجة مكاناً في نفوسهم بعد كل ما عاينوه وعانوه في مدى ربع القرن الأخير؟ غير أنهم محتاجون، وهم يتأملون في أحداث نيسان/أبريل الأخيرة وفي ذيولها المستمرة، إلى كثير من السذاجة حتى يتمكنوا من طرح الأسئلة الصائبة. وهم أصحاب حق، لا ريب فيه، في أن يستعيروا، طلباً لتلك السذاجة المرغوب فيها، عقول أطفالهم الذين أُحرقوا في كل من قانا والنبطية والمنصوري. هم أصحاب حق في مهلة يعلنون فيها برائتهم من ضرورات السياسة الكبرى ونظام العالم الظاهر، ويصوغون فيها الأسئلة التي تميلها هذه البراءة عليهم قبل أن يباشروا – إذا باشروا – رحلة النظر في هذا النظام وتلك الضرورات. ولا يزال الجنوبيون أَوْلى اللبنانيين بهذه السذاجة – ولا يزالون بين أبعدهم في الواقع – لأنهم أهل الأطفال الذين رآهم العالم مزقاً وفحماً ورؤوساً صغيرة محطمة، لأنهم، بعد ذلك، أصحاب البيوت التي دُكّت إلى الأرض ومادة القوافل المذعورة التي رحلت نحو الشمال. على أن أفضلية الجنوبين هذه تبقى محدودة – وهم يريدونها محدودة – لأنهم التقوا، في الشمال، لبنانيين أحسنوا التمييز بين مستوى الوحدة المفروض ومناطق الخلاف القائم أو المحتمل، فلم ينقسم لبنان حول دمه مرة أُخرى. أمّا الأسئلة الساذجة، فمن بينها ما يلي: لمَ لا ينسحب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني فتغيب النار عن جانبي الحدود بعد أن تضمن غيابها الدولة اللبنانية والأمم المتحدة وكل من تلزم ضمانته من أطراف أُخرى؟ لمَ كان على اللبنانيون أن يتحملوا بقاء الاحتلال، ولم يكون عليهم أن يدفعوا ثمناً ما، أيّاً يكن، لاستعادة أرض هي أرضهم إذا كانوا لم يبدأوا أحداً بالحرب ولم يعتدوا على أحد؟ وإذا كان قد وجد من قاتل، في ما مضى، من الأرض اللبنانية (وهو ما فعلته المنظمات الفلسطينية)، وإذا كان يوجد اليوم من يستثمر قتال اللبنانيين للاحتلال فهل يصح أن يحمل لبنان – بمدنيّيه أولاً – تبعه هذا الاستثمار ما دام ضحية لهذا الاحتلال؟ إذا كانت إسرائيل لا تقاتل إيران، التي تمسك بجانب من مقاليد المقاومين الأيديولوجية والسياسية والعسكرية، ولا تقاتل سورية، التي تمسك بجانب آخر من مقاليدهم السياسية والعسكرية، ولا تقاتل الجيش اللبناني لأن الدولة اللبنانية لا تقاتلها، ولا تصل يدها – يد إسرائيل المشهورة بالطول – إلى مفاصل الجهاز المقاوم ومواطن قوته، فهل يجوز لها أن تعتبر مئات الألوف من الأهالي العزّل مجرد حاصل سخيف للطرح يسهل التنكيل بهم للإبقاء على الاحتلال، بعد تقليص تكلفته، بغية المقايضة به في المفاوضة الإقليمية؟ هذا بعض من أسئلة ساذجة يجوز للبنانيين أن يطرحوه حين ينظرون في أساس الوضع الذي هو وضعهم من زمن طويل، غير أنهم طرحوا أيضاً أسئلة أُخرى جرت على ألسنتهم من تلقائها وهم يحصون الساعات ويعدّون، مع مرورها، قتلاهم وجرحاهم ودمار بيوتهم وأرزاقهم، ويعاينون أحوال مهجريهم، ويرون هذا كله يربو ويزداد فظاعة من يوم إلى يوم بينما المفاوضات السياسية تتلكأ في الإفضاء إلى نتيجة ووقف للنار يطول انتظاره. ذلك بأنه كان يكفيهم أن ينظروا إلى هذه المفاوضات بعين كل ضحية جديدة تسقط لهم كل ساعة حتى يروا فيها، أولاً وأخيراً، معرضاً شاسعاً لوقاحة العالم، ولقد أتيح لهم وقت يفيض عن حاجتهم ليتجولوا بين أرجاء هذا المعرض وينظروا في زواياه كلها. وجاءت أسئلتهم، خلال هذه السياحة، أشد سذاجة، وبالتالي أكثر حدة، من تلك التي كانوا يطرحونها قبل افتتاح المعرض...
مَنْ منْ أهالي المنصوري ربّى أولاده حتى تعلو على جماجمهم، ذات يوم موعود، حظوظ حزب العمل في كسب الانتخابات الإسرائيلية؟ وهل عاش ضحايا النبطية الفوقا ما عاشوه من أعمارهم موعودين بيوم تُقصف فيه هذه الأعمار ليتجدد بقصفها الغرام بين بيل كلنتون ويهود الولايات المتحدة؟ وهل شقي أهالي شقرا في المغتربات لتمهَّد، مع تمهيد بيوتهم الفخمة بالأرض، مكانة لائقة لإيران في الآفاق الجاري رسمها للشرق الأوسط؟ وهل كان ملائماً أن تجبل أشلاء أهالي صديّقين بدماء أهالي قانا حتى يستقيم المزيج ما بين المصالح الأميركية والمصالح الفرنسية (بل الأوروبية عموماً) في هذا الجزء من العالم؟ وهل اشترك أهالي القْلَيلَة يوماً في أية انتخابات نيابية (أو بلدية) شامية حتى تُعدّ دمشق أُوْلى من عاصمتهم بأن تكون مسرح مفاوضات مدارها حياتهم وموتهم، وحتى تعتبر قيادتها مكلفة التصرف في مصالحهم وخاضعة، بعد ذلك، لمحاسبتهم؟ وما الذي سيفعله بوريس يلتسين لإيذاء أهالي رشكنانية ما دام أنه غاضب لاستبعاد بلده من اللجنة المكلفة أن ترعى التقيد بـ "تفاهم نيسان/أبريل"؟ ما هي – أخيراً – جناية المقيمين على هذه التلال المتواضعة أو في تلك الأودية الوادعة أو في هذا الشريط الساحلي النحيل حتى تُعتبر قراهم وبلداتهم وحقولهم وبساتينهم (وهي كلها نقطة في بحر العالم) "أرض ميعاد" لهذه الحرب العالمية وبساتينهم (وهي كلها نقطة في بحر العالم) "أرض ميعاد" لهذه الحرب العالمية الصغيرة.
- لا يوجد، على الأرجح سذّج – باستثناء الأطفال الذين لم تتسع أعمارهم بعد لكل الدروس الملائمة – لا في الجنوب اللبناني، على الأخص، ولا في لبنان، جملة. فالسذّج تَيسّر لهم وقت كاف لم ينقرضوا في ربع القرن الأخير. اللبنانيون يعلمون (نحن نعلم) بأن الأسئلة أعلاه ليست هي الأسئلة التي يطرحها من يريد أن يأكل عنباً، بل قد تكون الأسئلة التي يطرحها من يريد أن يتلقى المزيد من الصواريخ ولما كان اللبنانيون لا يعوزهم الذكاء إجمالاً (وإن كان جملة عيوبهم أنهم يبالغون، أحياناً، في تقدير ذكائهم)، فإنهم اختاروا، لطرح الأسئلة المذكورة، وقتاً ملائماً، وهو الوقت الذي كانت الصواريخ تجتاح فيه منازلهم ومرافقهم في أية حال. بيد أن اللبنانيين كانو عالمين، على الدوام، بأن أذكياء العالم، القريب منهم والبعيد، حينما ينظرون اليوم في ما جرى بعد مدريد، يبدأون عادة بالقول: "إن سلام الشرق الأوسط وما يليه من مصالح استراتيجية يقتضيان كلاهما أن يفوز شمعون بيرس وحزبه بانتخابات الكنيست المقبلة." ثم يتدبرون أطفالاً غير أطفالهم ينذرونهم للقتل طلباً لهذا المأرب السامي. هذا يقوله (ويفعله) كثيرون، أولهم بيرس نفسه. أمّا إذا كان الأذكياء يقفون عند قطب الصراع الآخر – في طهران مثلاً – فهم يقولون: "إن المفاوضات الآيلة إلى تسوية عربية – إسرائيلية هي الآن في مأزق. وهي، في أية حال، مساق بين مؤدّياته عزل النظام الإيراني ثم السعي لضربه. لذا كان تصعيد العنف، سواء أكان مسرحة القدس وتل أبيب أم الجنوب اللبناني والجليل الأعلى، أمراً مطلوباً لإحكام المأزق وبشير خير لنتنياهو. وليس بعيداً أن يتمخض المأزق عن ضربة قاضية تأتي على جهود التسوية برمتها فترتد بعد ذلك إلى حالة المواجهة (التي لا تزال إيران تقف فيها) دولٌ خرجت منها أو هي على أهبة الخروج." فإذا كان الأذكياء مقيمين لا في موقع قطبي متطرف بل في موقع التجاذب واشتباك الخيوط (في دمشق مثلاً)، قالوا: "إن تصعيد العنف ليس إحكاماً لمأزق المفاوضات، بل هو مخرج من المأزق. ذلك بأنه حين تضحي التهدئة مطلباً ملحّاً لأهل الحل والعقد فسيدركون مرة أُخرى أن معظم وسائل التهدئة في يدنا ما دام أن حركة المقاومة لا يسعها أن تكون طليقة، على ما قد تهوى طهران، ولا غير مأذونة. ولن يحل هدوء لا يقربنا من مطالبنا في المفاوضات." ونقع، أخيراً، على أذكياء ساقهم سوء الطالع إلى هوامش التسوية وما يتبعها من أسواق وهم يرون لأنفسهم حقاً في نصيب من المتن. هؤلاء هم، مثلاً، الروس لم ينسوا ماضياً قريباً والفرنسيون الذين لم ينسوا ماضياً أبعد قليلاً. وهم استبقوا بؤر نفوذ وسبل مخاطبة موزعة بين إيران والعراق... ولبنان، وغيرها. هؤلاء يقولون "إن المأزق المشار إليه دليل على أن الولايات المتحدة لن تقوى على النهوض وحدها بالعبء الذي تنامى – على مدى الأعوام الأخيرة – إصرارها على النهوض به منفردة. لذا كانت الشراكة في الخروج من المأزق ورعاية الهدوء مدخلاً إلى شراكة أوسع نطاقاً وأعم نفعاً للشركاء العائدين." هذه مدارات لخطب ذكيّة يلقيها أذكياء – أو يلقون كلاماً يشي، مداورة، بمضمونها – وهي لا تشبه، في شيء، ما ذكرناه من أسئلة اللبنانيين الساذجة حتى الخَرَق. فهل هي القذائف ومشهد المجازر والدمار ذهبت بصواب اللبنانيين؟
كان من شأن هؤلاء أن تجري ألسنتهم بخطاب ذكي من طراز هذه الخطب. فهم من طينة البشر ولا يتورعون عن إيذاء من يؤذيهم بل أيضاً عن إيذاء من يتوخون من إيذائه منفعة ما، وإن كان لم يمسسهم بضرر. لكن اللبنانيين شعب صغير، ضعيف الوسائل، وهم لا يملكون الإضرار إلا بأنفسهم تقريباً. لذا لا تتجاوز رغباتهم في الأذى مستوى النيات. والحال أن العالم – بنظامه الجديد، على الأخص – يزعم أنه لا يحاكم النيات، أكانت مجهورة أم مكنونة، وإنما هو يحاكم الأفعال. هذا الامتناع من اعتبار النيات سبباً للمحاسبة ليس كرماً من أقوياء العالم، بل هو – هو أيضاً – "سياسة واقعية". فلولاه لكان على الأقوياء أن يعاقبوا مئات أو آلافاً من ملايين المدنيين في بلاد العالم كافة. وهذا عبء ثقيل حتى على الأقوياء، وليس في الإقبال على حمله فائدة. واللبنانيون الذين تصير صفتهم المدنية محل التباس حين ننظر إلى ما فعله بعضهم ببعض في الأعوام العشرين الأخيرة، يعودون بخلاف ذلك أَولى الناس يُعتبروا جميعهم، تقريباً، من المدنيين، حين ينظر إليهم من الخارج. فهم لا يقاتلون أحداً خارج بلدهم، وحتى جيشهم لا يقاتل. ولذا، فإن كل أذى ينزل بهم من الخارج – أيّ خارج – إنما هو عدوان بحت عليهم – أي عدوان على مدنيين – وليس، في أية حال، ردّاً لعدوان هم البادئون به.
- وما دام موضوعنا ههذا حملة إسرائيل الأخيرة على لبنان، فلنخرج مرة أُخرى على الموضوع. فهذا موضوع لا يتضح معناه ومداه بتمامهما إلا بالخروج عليه. توحي تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنه لولا عمليات المقاومين لكان لبنان وإسرائيل معاً في ألف خير، ولأمكن مشكل قائم بينهما بما يُرضي الجهتين. ويميل العالم إلى الظن – لقصر ذاكرته ونظره – أن ما أنزله الاحتلال الإسرائيلي من أضرار بلبنان لا يتجاوز 170 قتيلاً سقطوا في نيسان/أبريل الماضي، ومعهم 350 جريحاً ومئات أو آلاف من البيوت المدمرة (لم يكتمل إحصاؤها بعد) ومحطتان أساسيتان لتوزيع الكهرباء وجسور كثيرة ومرافق مختلفة.وقد يتذكر العالم اجتياح سنة 1993 الجوي، لأن "تفاهم تموز/يوليو 1993"ذُكر كثيراً في أثناء التفاوض على تفاهم نيسان/أبريل الأخير. هاتان الحملتان يقدمهما الإسرائيليون على أنهما اقتصاص من صواريخ كاتيوشا أُطلقت على الجليل. وبين اللبنانيين كثيرون – نحن منهم – يدينون ضرب المدنيين والأهداف المدنية (وقد ذاقوه وخبروه مليّاً) أينما يكن المدنيون وتكن الأهداف. على أن الدينونة هذه لا تسوغ نسيان عشرات من المدنيين اللبنانيين قتلهم الغارات الإسرائيلية في عامين وأشهر فصلت ما بين تموز/يوليو 1993 ونيسان/أبريل 1996، أي في مدة كانت الكاتيوشا فيها قابعة في مخابئها. ولا تسوّغ الدينونة أيضاً نيسان مئات من القتلى المدنيين سقطوا في الغارات الإسرائيلية على لبنان بين الانسحاب الإسرائيلي من أقسام من الأراضي اللبنانية، ابتداء من صيف سنة 1983، وحملة تموز/يوليو الآنفة الذكر. وقد كانوا يسقطون عادة – وفي ركابهم الجرحى والعمران – لا ردّاً على كاتيوشا استهدفت الجليل (فإن هذا كان على الدوام شذوذاً لا قاعدة) بل اقتصاصاً من عمليات مقاومة للاحتلال جرت في نطاق الأراضي اللبنانية. وليس من ريب في أن احتساب الضحايا في مقابل الضحايا في مقابل الضحايا أمر مقيت في أية حال. لكن بشاعته تتضاعف حين يجري مقلوباً، فتظهر كل حملة إسرائيلية جديدة وكأنها حملة تبجح بأن كل قتيل إسرائيلي يساوي عشرة أو مئة من القتلى اللبنانيين. وهو ما يوحي بمثله تصريح إسرائيلي حديث العهد بأن قطع الكهرباء عن كريات شمونه لا يعدله إلا قطع الكهرباء عن بيروت ..
هذا ونحن لا ننسى طبعاً 19,000 قتيل لبناني وفلسطيني أكثريتهم الساحقة من المدنيين سقطوا في اجتياح سنة 1982 وحده، ولا ان هذا الاجتياح كلف لبنان ما يوازي عمل أهله جميعاً مدة ستة أشهر. ولا ننسى أيضاً آلافاً أُخرى من الضحايا سقطت بين سنتي 1968 و1982 (وهي مرحلة العمل الفلسطيني المسلح في لبنان) وواكب سقوطها جرحى ومعوقون ودمار كبير، جلبها قصف منتظم واجتياحات واسعة عدة، أخصها بالذكر اجتياح سنة 1978، الذي أعقب احتلالاً لا يزال يرزح تحته حتى اليوم نصف الجنوب اللبناني وجانب من البقاع الغربي.
على ان ذكر الحملات والغارات وعمليات القصف والتفجير ( في الأحياء المدنية المكتظة) وحوادث النسف والاغتيال والخطف والاعتقال والتعذيب والترهيب لا تستنفذ كلها وصف "الحضور" الإسرائيلي الدائم على الأرض اللبنانية، وهو قد دخل اليوم عامة التاسع عشر. هذا الحضور لا تلخصه مجزرة قانا (على فظاعة ما جرى في قانا)، ولا تشكل النار إلا صورته الظاهرة. هذا الحضور له اسم بسيط؛ إنه الاحتلال.
- ذلك بأن الاحتلال[1] وضع يتجاوز نطاقه ومدى آثاره كل عمل عسكري موقت، بالغاً ما يلغ من العنف. شاهد العالم هجرة نحو ثلاثمئة ألف جنوبي في نيسان/أبريل الماضي نحو صيدا وبيروت والجبل، وحتى الشمال البعيد. لكن العالم لا يتذكر إلا نادراً أن نصف الجنوب محتل منذ ثمانية عشر عاماً وشهرين، وأن هذا الاحتلال قد توسع واستبقى شطراً جديداً من هذا الجنوب بعد اجتياح سنة 1982 والانسحابات الجزئية التي تلته، واستبقى معه شطراً من البقاع الغربي. فكان أن ازدادت مساحة المنطقة المحتلة مذ ذاك عن عُشر الأرض اللبنانية. هذه المنطقة كان يقيم فيها عند بدء الحرب اللبنانية عُشر سكان لبنان أيضاً. فهي، باستثناء المدن الكبيرة وضواحيها، بين أكثر مناطق لبنان اكتظاظاً بالسكان في الأصل.واليوم بقي فيها ما لا يصل إلى مئة ألف من المقيمين؛ أي أن عدد الذين اضطروا إلى النزوح عنها يربو عن مئتي ألف. وبادئ بدء شُطبت منها اثنتا عشرة قرية عن الخريطة. ولعل أقرب السبل إلى إدراك حالها النظر في ما آلت حال مدنها الصغيرة إليه: حاصبيا إلى الخيام ومرجعيون إلى بنت جبيل فإلى جزين. فقد بقيت الخيام مثلاً خالية تماماً أعواماً عدة بعد الاجتياح. ويقيم فيها اليوم نحو أربعة آلاف ساكن، يقابلون نحواً من خسمة عشرة ألفاً كانوا فيها سنة 1975. وهذه مقابلة لا يتم معناها إلا حين نتذكر أن السكان في هذه المنطقة كانوا يتضاعفون مرة كل عشرين عاماً تقريباً، على الرغم من نزيف الهجرة "العادية". ففيها نقع – كما في سائر مناطق الأطراف – على أعلى معدلات الزيادة السكانية في البلد. ومع ذلك، تبقى الخيام – وفيها السجن السيّئ الصيت الذي أنشأه الإسرائيليون سنة 1985 – أحسن أخواتها حالاً. ففي بنت جبيل، التي كانت تقاربها حجماً سنة 1975 وبلغ تعداد المقيمين فيا أكثر من 24 ألفاً حين عاد إليها أهلها المهجرون من ضواحي بيروت في صيف سنة 1976، لم يبق اليوم إلا نحو نحو ألفين من المقيمين الدائمين. وأمّا جزين وقضاؤها (وفيه أكثر من 40 قرية – ما عدا المزارع – أكثرية سكانها الساحقة من المسيحيين)، فيشهدان كارثة سكانية تامة المعاني؛ إذ هبط عدد المقيمين فيهما معاً (في البلدة وفي قرى القضاء) إلى آلاف معدودة من الناس ... إلخ، ... إلخ.
معنى هذا أن ما شهده العالم من تهجير اتخذ صورة الموجة الضخمة لأهالي المناطق المقصوفة في أثناء حملة نيسان/أبريل الأخيرة يقابله وضع تهجير ثابت (قريب إليه من حيث الحجم) في المنطقة المحتلة. وأمّا الأسباب فهي المنطقة المحتلة. وأمّا الأسباب، فهي ههنا خلاصة لصورة الاحتلال: اختناق النشاط الاقتصادي في منطقة يطرح الانتقال منها وإليها مشكلات معقدة؛ الإرهاب السياسي وحالات الاعتقال الموقت والمتعادي والموت تحت التعذيب؛ فساد الإدارات المحلية المعينة وسيادة الميلشيا والمافيات المستظلة علاقاتها بسلطات الاحتلال؛ التجنيد الإجباري في الميليشيا وهو يحمل الأهالي على تهريب أبنائهم قبل أن يبلغوا سن التجنيد، والهرب معهم في الغالب؛ خوف المقيمين من الحساب عند الدولة اللبنانية أو المقاومة المسلحة إذا خضعوا لاستدراج السلطة المحتلة وأتباعها إلى التعاون، وهو خوف ينتهي إلى التخيير بين النزوح والاحتباس في المنطقة المحتلة، كما في سجن؛ التخريب المنظَّم، وأخيراً لا آخراً، للعلاقات بين الجماعات الطائفية، في هذه المنطقة المختلطة، وذلك برعاية تكوين طائفي معين لجهاز القمع الميليشيوي ثم تسليطه على قرى ذات صفة طائفية مغايرة...
تلك هي حال "الشريط" اللبناني الذي تحتله إسرائيل. وليس هذا الشريط أمنياً ولا هو دفاعي، وإنما هو منطقة هجوم. وتزداد موافقة هذه الصفة له حين ننظر إلى الرسم الذي استبقي له بعد الانسحاب الإسرائيلي الأخير من سائر الأراضي اللبنانية المحتلة في ربيع سنة 1985. فهو رسم مختلف اختلافاً بيّناً عن ذاك الذي كان له بين اجتياح سنة 1978 واجتياح سنة 1982.
ليس هذا الشريط أمنياً، لأنه لا يحفظ، بأي معنى من المعاني، أمن المستوطنات الإسرائيلية الشمالية. وهو ليس دفاعياً ما دامت إسرائيل غير مهددة بأي اجتياح من هذه الجهة. بل إنه إذا كان أمن مستوطنات الشمال الإسرائيلية قد بقي مهدداً طوال الأعوام العشرة الأخيرة، فالسبب الأظهر والأهم في ذلك هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي لهذا الشريط. فقد كان صعباً جداً بعد رحيل المنظمات الفلسطينية عن لبنان في صيف سنة 1982 وانسحاب الجيش الإسرائيلي، بعد ذلك، بالتدريج، من الأراضي اللبنانية أن تواصل أية جهة لبنانية، أياً يكن ولاؤها، مقاتلة إسرائيل لو أن الانسحاب المذكور استّكمل إلى الحدود الدولية.
بيد أن إسرائيل لم تشأ، على الرغم من وضوح هذا الأمر، أن تضع حدّاً للاحتلال. وهي رفضت على الدوام أن تقبل قرار مجلس الأمن رقم 425، الذي ينص على انتشار قوات الأمم المتحدة إلى الحدود الدولية وعلي تسليم قوى الدولة اللبنانية الشرعية مسؤولية حفظ الأمن والنظام على حدودها الجنوبية، بدعم وتسهيل من المنظمة العالمية. وهي رفضت، بعد ذلك، أن تسهّل تطبيقاً تاماً لاتفاق الطائف المتمتع باعتراف دولي؛ إذ كان انسحابها، بموجب القرار الدولي نفسه، ركناً من أركان العملية التي رسم الاتفاق المذكور خطوطها. وحين انطلقت مسيرة السلام الإقليمي من مدريد سنة 1991، سايرت الولايات المتحدة التصور الإسرائيلي لإطار المسيرة المبدئي، فحالت، على الرغم من رعايتها القرار رقم 425 أصلاً، دون إدراجه بين القرارات الدولية التي يتشكل هذا الإطار منها.
- وللإبقاء – من جهة إسرائيل –على الشريط المحتل سببان هجوميان: الأول أن الشريط المذكور برسمة الأخير الذي أشرنا إليه، يتحكم فيما يصل إلى نصف الأراضي اللبنانية حتى مشارف بيروت، جاعلاً معظم طرقاتها ومرافقها تحت مرمى الرشاشات الإسرائيلية الثقيلة، فضلاً عن المدافع. وهو يتحكم، بين ما يتحكم فيه، في طرق إمداد رئيسية تسلكها القوات السورية المرابطة في البقاع وفي جانب من جبل لبنان. والواقع، من غير جدل، أن إسرائيل تؤثر مواجهة لبنان وسورية، متى واجهتهما، سلماً أو حرباً، وهما تحت وطأة هذا التحكم على مواجهتها وهما في منجاة منه. فإذا كان الوضع وضع مفاوضات، أمكن، تحت الوطأة المذكورة، فرض المطالب الإسرائيلية المتصلة بالأرض والمياه. إذ لا صحة لما يردده مسؤولون إسرائيليون كل مدة من أنه لا مطامع لإسرائيل في أرض لبنان ومياهه. فهذه المطامع تقوم أدلة حسية – لا تقديرية – عليها، أهمها أن إسرائيل اقتطعت منذ إنشائها إلى اليوم ما لا يقلّ عن مئتي كيلومتر مربع من الأراضي اللبنانية. وتقارب مساحة مزارع شبعا وحدها نصف هذا المجموع. هذه أراض ضُمت، ونصب الإسرائيليون أمامها شريط الحدود الشائك. فإذا لم يكن الإسرائيليون يرغبون في ضم أي شبر من الأرض غيرها، كان استبقاؤها وحده سبباً كافياً، في عين بلد له مساحة لبنان الصغيرة، للحديث عن مطامع إسرائيلية في أرضه. وأمّا المياه، فإن الإسرائيليين (الذين لم يتيسر لجهة ما إلى اليوم أن تقطع بحكم في شأن ضخهم مياه الليطاني إلى أراضيهم) لا يفتأون دائبين في صوغ النظرية القائلة إن لليطاني والحاصباني (والأخير من روافد الأردن) خزاناً جوفياً واحداً، وإن لهم، بالتالي، حقاً في جانب من مياه الليطاني (وهو نهر يجري من منبعه إلى مصبه في الأراضي اللبنانية). وهم لا يفتأون يروجون أيضاً لنظرية "فائض المياه" اللبناني (وهو فائض وهمي)، معلنين استعداجاً للشراء لا يلبث أن ينكشف في المفاوضات عن رغبة في فرض البيع. فالحال أن هذا هو خط السلوك الإسرائيلي: الإعلان العام المتكرر عن أطيب النيات ثم ظهور آلاف التفصيلات التي "يقيم الشيطان فيها" عند الشروع في المفاوضات.
وأمّا السبب الآخر لإبقاء الإسرائيليين على حال الاحتلال، فهو يتصل باستقرار الجنوب اللبناني وتماسك الدولة اللبنانية. ذاك بأن السلطة المحتلة لا ترغب في هذا ولا في ذاك؛ فإسرائيل – قبل إيران وسورية، وعلى غرارهما – ترى في الجنوب اللبناني، بين ما ترى فيه، بؤرة توتر يمكن توظيف التصعيد أو الهدوء فيها للتأثير في مجرى المفاوضات الإقليمية و – قبل المفاوضات وخلالها – في مجرى الصراع الإقليمي. وهي تؤْثر، في هذا السبيل، أن تواجه دولة لبنانية متهالكة وضعيفة الوسائل وضيقة الحيلة. وقد كان من بين الأدلة على هذا كله، أن إسرائيل اشتركت خلال فترة 1990 – 1991 في اختيار "نوع" المقاومة التي "تحبّ" مواجهتها في الجنوب. فعبرت قوافل البغال المحمّلة ذخائر لمقاتلي حزب الله أمام خطوط "جيش لبنان الجنوبي" على تخوم إقليم التفاح ولم تحرك القوات الإسرائيلية ولا أتباعها ساكناً. وأمكن بذلك فك الحصار الذي كانت ميليشيا حركة "أمل" تضربه حول هؤلاء المقاتلين في الإقليم. ويسَّر ذلك إطلاق حركة الحزب، بعد أن كانت محصورة للغاية، في الإقليم المذكور ثم في الجنوب كله. هذه واقعة لمّا ينسها الجنوبيون. وتعليل هذه "الأفضلية" أن ميليشيا "أمل" كانت إذ ذاك آيلة إلى الحلّ، بموجب اتفاق الطائف الذي قبلته قيادتها، شأنها في ذلك شأن ميليشيات لبنانية أُخرى، وكان الطاقم السياسي المشرف عليها قد بات جزءاً لا يتجزأ من طاقم السلطة البنانية الجديدة. هذا بينما بقي حزب الله، بحكم انتمائه وخطه وشبكة علاقاته الإقليمية، بعيداّ جداً عن متناول هذه السلطة، قادراً عند اللزوم على تغليب دواعيه على دواعيها وعلى ضرب عرض الحائط بمستلزمات توطيدها ووحدتها السياسية. وقد غضّت إسرائيل الطرف عن "عودته" المظفرة إلى الجنوب ويسّرتها (مع علمها بشراسة إصراره على مقاتلتها وببأس مقاتليه وحسن تنظيمهم)، وذلك للأسباب التي ذكرنا لا لغيرها. ولا يستغرب هذا الموقف قطعاً من وصل إلى علمه تشجيع السلطات الإسرائيلية لحركة "حماس" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في أثناء مرحلة "الانتفاضة"، طلباً لإضعاف منظمة التحرير. فإن هذا، في دنيا السياسية، هو ما يطلق عليه اسم أخذ غموضه يسحر نفراً كبيراً من مثقفينا في الأعوام الأخيرة: البراغماتية.
وفي أية حال، لا يمسك حزب الله ومن هم وراءه وحدهم بمقاليد التصعيد في الجنوب اللبناني، بل إسرائيل أيضاً تمسك بهذه المقاليد وتعمد إلى التصعيد حين يلائمها ذلك. والتصعيد، حين لا يلائم الحكومة "العمالية" الإسرائيلية فهو قد يلائم جنرالات عادت طاعتهم لحكومتهم (بعد كارثة قانا السياسية) أمراً غير مؤكد هؤلاء يملكون "المبادرة" إلى ارتكاب "أخطاء" محدودة، وهم يردون على عمليات المقاومة، لا تلبث أن تؤول – باعتبارها تحدياً لتفاهم تموز/يوليو أو لتفاهم نيسان/أبريل – إلى إطلاق الكاتيوشا. والكاتيوشا هذه – حين تجد ذريعة للانطلاق في وضع يخمّن مطلقوها أنه ملائم – قد لا يردعها اعتذار من الحكومة الإسرائيلية ولا نصيحة من غيرها. ذاك يضيف فريقاً جديداً (هو الجنرالات المذكورون) إلى الأفرقاء الذين يسع كلاًّ منهم أن يجد دواعي خاصة به إلى نسف تفاهم نيسان/أبريل وإحراق الجنوب اللبناني مرة أُخرى.
على أنه ينبغي للطرف المستجد ألا يحملنا على إهمال الأطراف الأصلية. فهذه كلها لاتزال على سلاحها. وما كان عسر التوصل إلى تفاهم نيسان/أبريل إلاّ إشارة إلى ما سيلقاه من عسر إعمال هذا التفاهم. فقد أخذت الدلائل تترى على أن مصير هذا التفاهم قد لا يكون خيراً من مصائر اتفاقات وقرارات سبقته، منها القرار رقم 425 واتفاق 17 أيار/مايو و"إعلان مدريد": تبدأ بزفرة راحة وتنتهي بغصة مُرّة. من أين ستأتي الغصة هذه المرة؟ من تعثر مفاوضات السلام أم من تقدم مفاوضات السلام؟ من شعور إسرائيل بالضيق أم من شعور إيران بالحصار؟ من اضطرار الحكومة الأميركية إلى التزلف للكونغرس أم من المرارة الأوروبية والحرد الروسي؟ أم من أية انتخابات لا بد من إجرائها في دولة ما؟
- والغصة، في كل مرة، تصيب الجنوبيين ومعهم سائر اللبنانيين هم يميلون عند كل هدأة إلى وضع ذاكرتهم على الرف واستئناف الأمل. لكن شأناً من هذه الشؤون الكثيرة لا يلبث أن يردّ الذاكرة إليهم وهي ذاكرة عذاب طويل. ثم إن عندهم الاحتلال إذا غاب الدمار أو انحص والاحتلال خراب يعزّ نسيانه. وهم يسألون ما دخلهم في هذه الشؤون كلها، وهي منتشرة على مساحة العالم؟ ما دخلهم في مفاوضات السلام نفسها ما دام أنهم لم يخوّلوا صفة الفريق التام الأهلية فيها؟ ومن الذي اختارهم لمهمة الموت المقيم حتى يتيحوا مكسباً لسلطة من سلطات العالم أو يردوا خسارة عن أُخرى؟ ما هي جنايتهم عند الله أو عند البشر؟
أيار/مايو 1996
[1] أدين بجانب من المعطيات المتصلة بالشريط المحتل لمنذر جابر، الذي يعد دراسة مفصلة بشأن المنطقة المذكورة. راجع، لمزيد من الوقائع، مقالتين لكاتب هذه السطور:
- "جنوب 1976، زحف العداوات وأطر التضامن" في: أحمد بيضون، "ما علمتم وذقتم، مسالك في الحرب اللبنانية" (بيروت والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1990)، ص 168 – 197.
وصدرت لهذه المقالة ترجمة فرنسية بعنوان:
“L’Été 76 au Sud-Liban, Les cadres sociaux de solidarité face à la guerre,” in Ahmad Beydoun, Le Liban, itinénairesdansune guerre incivile, Ed. Karthala- Cermoc (Paris, 1993), pp. 131-157. “The South Lebanon Border Zone, A Local Perspective,” Journal of Palestine2- Studies, Vol. XXI/3, No. 83, Spring 1992, pp. 35-53.
وصدرت لها ترجمتان: فرنسية في:
,Revue d’étudespalestiniennes, No. 44 Été 1992 65-84 ، وعربية في: "مجلة الدراسات الفلسطينية،" العدد 9، شتاء 1992، ص 13-35.