نقاش صاخب بين عزمي بشارة واليسار الصهيوني
كلمات مفتاحية: 
عزمي بشارة
اليمين واليسار
الصهيونية
الدين والدولة
القومية العربية
حل الدولتين
عملية السلام
نبذة مختصرة: 

يتناول هذا الملف المقابلة التي أجراها الملحق الأسبوعي لصحيفة "هآرتس" مع عضو الكنيست عزمي بشارة والتي أثارت أصداء قوية في الوسط السياسي والأكاديمي اليهودي، وعلق عليها كثيرون من الكتاب والقراء اليهود والعرب، من مختلف ألوان الطيف السياسي. ويتضمن الملف نص المقابلة ومسألة التسوية التاريخية بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وحق العودة، والدولة ثنائية القومية، وفكرة دولة اليهود والقومية العربية إلخ. كما تتضمن المقابلة ردوداً لكل من: يسرائيل هاريل (قنبلة بشارة)؛ ويهوشواع بورات (عزمي بشارة: شكراً جزيلاً)؛ ويرمياهو يوفال (ابن العم الروحي لغولدا )؛ وميرون بنفنيستي (الشاعر والفيلسوف)؛ وألكسندر يعقوبسون (من غولدا إلى بشارة)؛ وأمنون راز ـ كروتسكين (الدين الصهيوني)؛ وتعقيب من بشارة ("شوربة "ديماغوجية).

النص الكامل: 

 

نشرت صحيفة "هآرتس"، في ملحقها الأسبوعي الصادر بتاريخ 29/5/1998، مقابلة مطولة مع عضو الكنيست عزمي بشارة، أجراها معه الصحافي أري شفيط. وقد أثارت المقابلة صدى قوياً في الوسط السياسي والأكاديمي اليهودي، وعلق عليها كثيرون من الكتّاب والقراء، اليهود والعرب، من مختلف ألوان الطيف السياسي. ونظراً إلى أهمية الآراء الواردة في المقابلة، وما أثارته من ردات فعل قوية، تنشر "مجلة الدراسات الفلسطينية" فيما يلي النص الكامل للمقابلة، ومقتطفات مختارة من التعليقات عليها، وتعقيب عزمي بشارة على التعليقات، مع الإشارة إلى أنه تعمّد تجاهل التعليقات التحريضية الهوجاء الصادرة عن أفراد ينتمون إلى معسكر اليمين، واكتفى بالتعقيب على التعليقات الصادرة عن يساريين أو ليبراليين.

المقابلة[1]

■ عزمي بشارة، قبل خمسين عاماً بالضبط قمنا، نحن الإسرائيليين، بدفعكم أنتم الفلسطينيون إلى الفرار من أجزاء من هذا البلد بما فيها تلال شيخ بدر التي أُنشىء عليها مبنى الكنيست حيث نجلس أنا وأنت في مكتبك لنتبادل أطراف الحديث. فهل أنتم مستعدون الآن بعد 50 عاماً للصفح عنا بسبب ذلك؟

□ أجل. أعتقد أن هناك إمكاناً لمسامحتكم ولديّ، بصورة شخصية، استعداد لأن أمد يدي وأقول إنني قد سامحتكم. لكن المسألة ليست مسألة شخصية. لذلك لست مستعداً لقبول أن يأتي إليّ يهودي من اليسار، مثقل بمشاعر الذنب ليطلب الغفران، مثلما لا أقبل مجيء الألمان مع مشاعر الذنب التي يحملونها إلى الإسرائيليين ليطلبوا منهم الصفح. أنا أعتقد أن ما يحسم الأمور هنا هو المسألة السياسية. وهذه المسألة تتطلب حلاً سلمياً وعادلاً يقوم على التسوية التاريخية. ومثل هذه التسوية يجب أن يشمل لا فقط الاعتراف الرسمي بالإجحاف الذي أُلحق بالشعب الفلسطيني، بل أيضاً التعهد بالقيام بالحد الأدنى الضروري لإزالته.

■ ما هو هذا الحد الأدنى؟ ما الذي يجب أن تحضره إسرائيل إلى طاولة المفاوضات من أجل فسح المجال للتسوية التاريخية بين الشعبين؟

□ أمران اثنان. على المستوى الأول، ينبغي لإسرائيل أن تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والتسليم بوجود الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية. أمّا على المستوى الثاني، فيجب أن توافق على حل مشكلة اللاجئين؛ عليها أن تعترف بالظلم الذي لحق باللاجئين، وأن تقوم بالحد الأدنى من أجل إصلاحه على أساس الاعتراف بالارتباط بين اللاجئين وقراهم. ومسألة كيفية التعبير عن هذا الارتباط مطروحة على بساط المفاوضات. الفلسطينيون من جهتهم يجب أن يجلبوا إلى هذه التسوية التاريخية جاهزية، وهي متوفرة الآن، للاعتراف بماضي اليهود والاعتراف بأنهم طوردوا في أوروبا، ولذا فإن استعمارهم الكولونيالي يعتبر استعماراً ذا خصوصية مميزة. كما أن على الفلسطينيين أن يعترفوا بأن هناك الآن قومية يهودية – إسرائيلية تملك الحق في تقرير مصيرها.

■ لنفترض لحظة أن يوسي بيلين انتُخب لرئاسة حكومة إسرائيل، ولنفترض أنه يقترح على الشعب الفلسطيني الصفقة التالية: خذوا حق تقرير المصير الكامل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي المقابل اعطونا تنازلاً عن حق العودة إلى داخل حدود إسرائيل السيادية. فهل ستكون هذه الصفقة مقبولة لديك؟

□ من جهتي، هذا الاقتراح ليس عادلاً. أنا لا أقول إن على كل فلسطيني أن يعود إلى قريته أو بيته اللذين سكنهما ذات مرة، وأعتقد أيضاً أن أغلبية الفلسطينيين لن ترغب في العودة. لكن يجب إعطاء الفلسطينيين هذا الحق، وهو مذكور في عدد لا يحصى من قرارات الأمم المتحدة، كما أنه مسألة حقوق شخصية وإنسانية لكل لاجئ على حدة. لذلك لا يمكن التنازل عنه. حتى م.ت.ف. لا تستطيع التنازل عنه؛ فحق العودة هو حق شخصي يجب أن يعطى لكل لاجئ كي يقرر بنفسه ما إذا كان يريد تجسيده، أو الحصول على التعويضات. لا عرفات ولا أبو مازن يملكان أي إمكان للتنازل في هذه القضية باسم اللاجىء المسن من صفد الذي يقطن في مخيم اليرموك، ولا حتى في مقابل التعويض السياسي الذي سيعطى للسلطة الفلسطينية.

■ هل سيكون في إعطاء حق العودة إلى الدولة الفلسطينية، التي ستقوم في الضفة الغربية وقطاع غزة، حل لمشكلة اللاجئين؟

□ هذه فكرة عبثية. أولاً، الضفة الغربية بكاملها لا تستطيع استيعاب هذه الأعداد الكثيرة من الناس. لكن هناك، علاوة على ذلك، عبثية مطلقة في أن تقول للاجىء الفلسطيني الجليلي، الذي لم يزر قط الضفة الغربية، إن مشكلته ستحل من خلال العودة إلى الضفة الغربية. فقبل سنة 1948، كانت علاقة هذا الفلسطيني بنابلس أو بالخليل أضعف من علاقته ببيروت أو بدمشق. فكيف تأتيه الآن لتقول له إن في إمكانه أن يعود من دمشق أو بيروت إلى نابلس؟ إن هذا لسخيف.

■ هل تقول إن مشكلة حق العودة لا تقل أهمية، بل تفوق في أهميتها قضية حق تقرير المصير؟

□ بالنسبة إلى عدد من سكان المناطق، وإلى قسم من المؤسسة الرسمية للسلطة الفلسطينية، ربما يكون الجواب سلبياً. لكن بالنسبة إلى ذلك القطاع من الشعب الفلسطيني المقيم بالشتات، وخصوصاً أولئك الموجودين في مخيمات اللاجئين، فإن حق العودة أهم من حق تقرير المصير. والحركة الوطنية الفلسطينية نشأت، في نهاية المطاف، كحركة لاجئين وحركة عودة. وهي لم تكن حركة تقرير مصير في دولة تقوم على جزء من فلسطين. لذلك فإن حل الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية لا يعني الكثير للفلسطينيين المقيمين بسورية ولبنان وبأماكن أُخرى. وهو لا يحل المشكلة التي تؤلمهم منذ خمسين عاماً. إن الميل الإسرائيلي السائد هو التعامل مع قضية اللاجئين كمسألة منتهية، لكنها ليست كذلك. فهذه القضية سبقت تاريخياً قضية الدولة. وقبل طرح قضية إقامة الدولة الفلسطينية اعترفت الأسرة الدولية وشعوب الغرب بأن هناك مشكلة لاجئين عادلة. وقد كان هذا أول اعتراف يحظى به الفلسطينيون في سنة 1948. ومنذئذ واصلت الأمم المتحدة مصادقتها على قرارها بهذا الشأن في كل عام. ولذا يتوجب الجلوس والتفاوض في هذه القضية. ومن الواضح أنه لا يمكن حل مشكلة اللاجئين في الضفة وغزة، لكن من الواضح أيضاً أنه إذا أُنشئت هنا دولتان – فلسطينية ويهودية – فإن عودة اللاجئين ستشكل صعوبة. لذا إن كنا نبحث عن حل عادل تماماً ففي الإمكان أن يتجسد فقط في إطار ثنائي القومية. وفي داخل مثل هذا الإطار يمكن لليهود أن يعيشوا في الضفة والقطاع، بينما يمكن مَنْ يشاء من اللاجئين أن يعود إلى داخل الخط الأخضر.

■ ما تتحدث عنه هو كيان سياسي واحد ثنائي القومية بين النهر والبحر؟

□ أجل. وأنا لا أرفض الحل الموقت: دولتين لشعبين. إلا إنه يمكن أن يكون موقتاً فقط، وفي إطاره يصبح مفهوماً أن أي مستوطن لا يستطيع البقاء في المناطق. لا تستطيع الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة تحمل مستعمرة واحدة، لكني أعتقد أن الإطار يجب أن يكون، في نهاية المطاف، ثنائي القومية. فقط في إطار الكيان الواحد لن تشكل المسألة الجغرافية عائقاً مبدئياً. وفي هذا الإطار يمكن لجزء من اللاجئين أن يعود، ويمكن أن تتوفر هنا حلول عدة؛ فمن الممكن اتباع الطراز البلجيكي في إطار ثنائي القومية على كل المساحة، مع برلمانيين وطنيين منفصلين وبرلمان أعلى واحد. وفي الإمكان اتباع وجود كيانين سياسيين ديمقراطيين، لكن العلاقة بينهما ليست علاقة بين دولتين منفصلتين، وإنما علاقة قريبة جداً، على صعيد الحدود والجوازات والتبادل التجاري. في نهاية المطاف، يجب أن يكون هذا البلد فلسطين كلها بالنسبة إلى كل فلسطيني، وأن يكون إسرائيل كلها بالنسبة إلى كل إسرائيلي. يجب أن يكون التقاسم بين الكيانين محدوداً.

■ بحسب البرنامج السياسي لحزبك يجب أن يكون هناك صلة وارتباط بين مهجّري الداخل وقراهم؟

□ لا يوجد هنا قضية سياسية، وإنما مسألة حقوق المواطن، لكن هذه أيضاً مسألة يتوجب تسويتها. في إقرت وبرعم هذا واضح، وأيضاً في سحماتا والغابسية، وغيرها من الأماكن في الجليل. في تلك الأماكن التي توجد فيها قرى مدمرة ولم يستوطنها أحد آخر، يجب أن يفسح المجال لمن يريد أن يعيد بناء القرى من جديد. ولنتذكر أنه منذ قيام إسرائيل لم تبن قرية عربية واحدة جديدة، ولا حتى مدينة. وأنا لا أدعي أن التجمعات الجديدة يجب أن تقام مكان القديمة تماماً، ولا أعتقد وجوب إزالة كيبوتس أُقيم على أراضي مدينة مدمرة، لكن يجب السماح لسكان القرى ببناء شيء لأنفسهم. يتوجب الاعتراف بحقوقهم، وإعطاؤهم الإمكان لتجسيدها.

لا يمكن حدوث سلام صهيوني

■ هل توجد الأراضي المحتلة، بحسب رأيك، شرقي الخط الأخضر فقط؟

□ كمفهوم سياسي نعم. أمّا كمفهوم ثقافي – تاريخي فلا؛ ففلسطين كلها محتلة. لكن عندما يقول غاندي [رحبعام زئيفي] ورفول [رفائيل إيتان] إن كل شيء سيان، وإن الخليل مثلها مثل يافا، فإنهما يقولان هراء. إنهما يخلطان المفاهيم. ومع أن الأمر سيان من جهة ما، إذ إن فلسطين كلها محتلة تاريخياً، إلا إن ثمة فارقاً من الناحية السياسية بين الاحتلال والاحتلال الثاني. فنحن الفلسطينيين نعترف بأنه نشأت منذ الاحتلال الأول – وإن كان بصورة مجحفة – قومية ذات حق تقرير المصير. ونحن نقبل هذا الأمر. كما أننا ندرك أن هناك إجماعاً دولياً بشأنه. لكن من المهم أن يدرك الإسرائيليون أنه عندما يوافق الفلسطيني على حدود سنة 1967، فإنه لا يتلقى هدية من الإسرائيليين. فهو يقدم تنازلاً ضخماً، ذلك أن من الواضح للفلسطيني أنه محق في كل شيء، وأن كل شيء يعود إليه. ومع ذلك، وفي سبيل الحل الوسط، فإنه مستعد لأن يقبل، بصورة ما، حدود الرابع من حزيران/يونيو.

■ هل تعتبر أن لحدود سنة 1967 قدسية ما؟

□ لا توجد أي قدسية. غير أن حدود سنة 1967 هي حدود الحل الوسط الذي يبدي الشعب الفلسطيني استعداده لإقراره مع إسرائيل. وبناء عليه، فإن كل محاولة لإبقاء أجزاء من الوطن الفلسطيني كما هو معرّف الآن – أمّا الوطن التاريخي الفلسطيني فهو أوسع كثيراً – تحت السلطة الإسرائيلية، ستؤدي إلى استمرار الصراع. وحتى لو وجد من يوقع هذا التنازل أو ذاك، فإن الصراع سيستمر، وكل سلطة فلسطينية توافق على ذلك لا يمكنها أن تبقى سلطة شرعية.

■ هل يمكن حدوث سلام صهيوني؟ سلام مع الدولة الصهيونية؟ سلام لا يقوم على أساس تحرير إسرائيل من الصهيونية؟

□ يجب التمييز هنا بين الحل الوسط التاريخي وبين التسوية. فالتسوية يمكن إبرامها حتى من دون حل وسط تاريخي. وهذا ليس أمراً عصياً. فهناك تسويات في العالم. لكن التسوية أمر محدود بمداه الزمني ويعوزه الجانبان الخلقي والتاريخي. التسوية تقوم على أساس ميزان القوى. وهذا في رأيي ما أراده رابين، وهو، في رأيي أيضاً، لم يكن محقاً. كما يمكن أن تتم التسوية التي تسعى لأن تكون عادلة نسبياً، بأن تأخذ في الاعتبار علاقة الاحتلال بالخاضع للاحتلال، التي أرادها بيرس. لكن في الحالتين لا يدور الحديث إلا عن تسوية. وهذا حسن. لكنك لا تستطيع أن تعقد تسوية وتتوقع سلاماً مع كل العالم العربي ولفترة جديدة في التاريخ. هذا جزء من جدالي مع اليسار الصهيوني، إذ إنه لا يستوعب هذا. وهو لا يتحدث عن مشكلة سنة 1967، كأن مشكلة سنة 1948 غير قائمة، وكأنه لا يمكن الحديث عن مشكلة سنة 1948 إلا في الأكاديميا لا في السياسة. وهذا خطأ، طبعاً. خطأ جسيم. ذلك بأنك إذا سألتني إن كان يمكن حدو صلام صهيوني فإن جوابي هو أنه يمكن حدوث تسوية. وربما حتى تسوية عادلة نسبياً، لكن ليس سلاماً شاملاً ونهائياً. ليس نهاية للصراع. وما سيحدث في مثل هذه الحالة هو أن الصراع ضد الصهيونية سيستمر بأشكال أُخرى. يمكن أن يتحول من صراع قومي إلى صراع مدني، ويمكن أن يؤدي هذا بالذات إلى أن يغدو دورنا، كعرب من مواطني إسرائيل، الدور الأهم. فالصراع عندها سيصبح في الأساس صراعنا.

■ إذا كان افتراضك أن الصهيونية حركة كولونيالية (استعمارية)، وإذا كنا نعرف أن حل الصراعات الاستعمارية كافة هو حل التحرر من الاستعمار، أفلا ينبع من ذلك، بحسب نهجك، أن حل الصراع العربي – الإسرائيلي يجب أن يكون حل التحرر من الصهيونية؟

□ إذا كنا نتحدث عن الصراع القومي، فإن الحل هو التحرر من استعمار المناطق المحتلة في الضفة وغزة. أمّا إذا كنا نتحدث عن المسألة المدنية، فحلها هو تحرر إسرائيل من الصهيونية؛ بمعنى أن تكف الدولة عن سلوكها كأنها الحركة الصهيونية. فهي لم تعد حركة، وإنما دولة تدعي أنها ديمقراطية. معنى ذلك أن الأساس المنظم للدولة يجب أن يكون مدنياً، لا قومياً. ومعنى ذلك إلغاء المكانة الخاصة للنزاع اليهودي، وإلغاء المكانة الخاصة للصندوق القومي، وإلغاء قانون العودة، ومعنى ذلك تحويل إدارة أراضي إسرائيل إلى إدارة أراضي المواطنين.

■ أو تغيير العَلَم أيضاً؟ أو تغيير النشيد القومي؟

□ أنظر، موقفي من هذا العلم ومن النشيد القومي سلبي. فهما لا يمثلاني، وإنما يمثلان شيئاً يرفضني. لكن إذا ما تغير مضمون الدولة فأنا مستعد لأن أتعايش مع بعض الرموز التي تعني شيئاً مهماً للأغلبية، وذلك على أمل أن تتغير هذه الأمور أيضاً مع مرور الزمن. لكني لا أبدأ مطالبي من دولة إسرائيل بأن تغير علمها، على الرغم من أن هذا العلم لا يمثلني في أي حال، ولا يمكنه أن يمثلني.

■ هل تعتبر فكرة دولة اليهود فكرة عنيفة أساساً؟ وهل أنت مستعد اليوم لأن تقبل إسرائيل – دولة – اليهود ككيان شرعي؟

□ بالتأكيد، هذه الفكرة فكرة عنيفة؛ فالصهيونية، في الأساس، لم تكن حركة تحرير قومي، وإنما حركة وضعت لنفسها هدف إقامة دولة بأغلبية يهودية في بلد فيه أغلبية عربية. لقد كانت حركة أرادت أن تحوّل اليهود إلى أمة من خلال إقامة دولة يهودية. ولهذا الغرض فقد اعتمدت ممارسات كولونيالية، وكانت جزءاً من المشروع الكولونيالي (الاستعماري) في الشرق الأوسط. صحيح أن الاستعمار الصهيوني كان يختلف عن الاستعمار البريطاني أو الفرنسي أو الألماني، إلا إن ممارسات الصهيونية كانت استعمارية، كما أن الصهيونية رأت نفسها جزءاً من المشروع الاستعماري. من الواضح تماماً أنك إذا كنت تستوطن بلداً ليس بلدك، وإذا كنت تريد أن تحقق حقوقك السياسية على حساب شعب آخر، فإنك ملزم بأن تستخدم العنف. فأنت لا تستطيع أن تحوّل بلداً ذا أغلبية عربية إلى بلد ذي أغلبية يهودية من دون عنف. وفي هذه الحالة، فإن العنف يغدو جزءاً لا يتجزأ من مشروعك. وينبع من ذلك، طبعاً، أن يقاوِم السكان العرب الأصليون بالعنف.

في هذا الجانب، كان زئيف جابوتنسكي، من جهته، محقاً تماماً في مقالته عن الجدار الحديدي. ومن هنا، فإن فكرة دولة اليهود في رأيي هي من الناحية التاريخية غير شرعية، وإذا كنت تسألني فأنا لست مستعداً لأن أمنح إسرائيل شرعية تاريخية. ومع أن الفكرة الصهيونية لم تكن عنصرية، بمعنى التمييز بين العناصر المختلفة، إلاّ إنها كانت تقوم، بالتأكيد، على أساس تجاهل السكان الأصليين، والنظر إلى الآخرين ككائنات دونية. والمقصود ليس الفلسطينيين فقط، بل أيضاً الشعوب العربية بأسرها، والشرق بأسره، بل حتى اليهود الشرقيين.

لكن، وفضلاً عن ذلك، فأنا ملزم اليوم بالاعتراف بحقيقة أن الصهيونية نجحت في أن تبلور هنا جمهوراً يهودياً إسرائيلياً له اليوم الحق في تقرير المصير. وهكذا فإنه حتى لو لم يكن لإسرائيل قبل 50 عاماً حق في الوجود – وفي رأيي لم يكن لها حق في الوجود – فإن لها اليوم شرعية ما، تنبع من حقيقة أنه تبلورت هنا قومية يهودية – إسرائيلية محورها اللغة العبرية.

■ هل يعني هذا أنك تعترف بوجود شعب يهودي يستحق دولة خاصة به؟

□ إذا كنت تسأل عن شعب يهودي في العالم فالجواب لا. أنا لا أعترف بوجود شعب يهودي واحد في كل العالم. وأعتقد أن اليهودية دين لا قومية، وليس للجمهور اليهودي في العالم أي مكانة قومية. ولا أعتقد أن لهذا الجمهور الحق في تقرير المصير. كما أني لا أعتقد أنه كان هناك قومية يهودية في أوروبا قبل ظهور الصهيونية. فيهودية ذاك الحين لم تكن حتى مجموعة سكانية دينية موحدة. لقد كانت سلسلة من المجموعات السكانية الدينية حاولت الصهيونية تحويلها إلى شعب من خلال إقامة هذه الدولة.

لكن ما أعترف به، فعلاً، هو ذاك الشعب اليهودي – الإسرائيلي الذي أوجدته الصهيونية هنا. وأنا لا أقبل التاريخ الصهيوني، لكني ملزم بالاعتراف بثماره. فلا مفر. لقد ولدت هنا أجيال، ونشأت هنا لغة وأدب وثقافة. وعلى الرغم من أن الطفل القومي الإسرائيلي ولد بصورة غير مشروعة، فإنه لا يسعني أن أقول عنه إنه غير موجود، وإن لا حقوق له. وأنا لا أصر إلا على ألاّ تجد حقوقه تعبيرها بشكل عدواني، وألاّ يستغلها كي يمس الأطفال الآخرين ويضرّ بهم ويأتي على حسابهم.

■ هل أنت مستعد لأن تقبل، أن للأطفال اليهود – الإسرائيليين وللأطفال العرب – الفلسطينيين حقوقاً متساوية في هذا البلد؟ وأن الحديث يدور هنا بشأن صراع بين عدالة وعدالة أُخرى، بين حق وحق آخر؟

□ لا. لا يوجد أي تماثل بين حقوق الطرفين، لا يوجد هنا حقان على قطعة الأرض ذاتها. لا أوافق على ادعاء اليسار الصهيوني هذا، لأنه وقع هنا مع ذلك صراع استعماري. لقد هاجرت إلى البلد هنا مجموعات من المهاجرين من البلاد المتعددة، ووضعت أيديها على قطعة أرض كانت تعود إلى شعب آخر. حتى لو كانت القومية اليهودية – الإسرائيلية اليوم غير إشكالية. فلا يوجد أي وجه شبه بين الأمة العربية والادعاء بوجود أمة يهودية. ولا يوجد أي وجه شبه في الحقوق بين فلسطينيين هُجّروا من أراضيهم قبل خمسين عاماً، وبين جماعة متخيَّلة هُجّرت من البلد قبل ألفي عام. وهكذا، فإنه يوجد هنا تماثل بين حقين مختلفين. إذ إن وزن الحقوق في الجانب الفلسطيني أثقل كثيراً. ونحن ملزمون بأن نقول ذلك ولا سيما في هذه المرحلة التي يدعي فيها اليمين، طوال الوقت، أن إسرائيل وحدها هي التي تتنازل، أمّا الفلسطينيون فلا يتنازلون عن أي شيء. لكن، في الواقع، عمّ تتنازلون أنتم؟ عن أرضنا. إنكم لا تفعلون سوى أن تعيدوا إلينا جزءاً يسيراً مما كان لنا، مما سرقتموه منا. أخذتم مئة دونم والآن، عندما تعيدون عشرة، تريدون شيئاً في المقابل لأنكم أنتم وحدكم تعيدون. لكن ما الذي تعيدونه؟ سرقتم مئة، وبعد ضغط دولي وبعد انتفاضة تتبجحون بطيبتكم إذ تعيدون إلينا عشرة.

المتدينون سيسيطرون على الصهيونية

■ أنت تقول أنك تقبل حق تقرير المصير لليهود – الإسرائيليين. أمّا فعلاً، فإنك إذ تقترح دولة مواطنين في حدود سنة 1967، مضافاً إليها عودة اللاجئين، مضافاً إليها اعتراف بالأقلية القومية العربية، وكل ذلك إلى جانب دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي وسط منطقة عربية، فإن ما تعترف به نظرياً لا يمكن أن يقوم عملياً. ففي هذه الظروف لن يكون ممكناً تجسيد حق تقرير المصير لليهود – الإسرائيليين، وعملياً لن يكون ممكناً وجود دولة قومية لهم؟

□ حق تقرير المصير لم يكن مطلقاً في أي يوم من الأيام. لقد كنت مستعداً لأن أتنازل عن حق تقرير المصير في البوسنة وفي يوغسلافيا بصورة عامة، والذي أدى تجسيده إلى وقوع الكثير من المظالم هناك. ولهذا فإني أعتقد أنه لم يكن لليهود في البلد سنة 1948 حق في تقرير المصير. وإذا كان ثمة حق كهذا فقد أدى، في الواقع، إلى الكثير من المظالم التي لست مستعداً لقبولها. أمّا الآن فنحن نتحدث عن دولة قائمة؛ وعلى الرغم من أنني كنت معارضاً في الماضي لقيامها، فإن ما نحاول عمله الآن هو إعادة بعض العدالة إلى العلاقات بين الشعب الإسرائيلي والشعب الفلسطيني. ومع كل ذلك فثمة هنا أغلبية يهودية قومية تعبّر عنها الدولة. ويمكن، في حال قيام دولة ثنائية القومية في المستقبل، أن يجد حق تقرير المصير تعبيره بشكل آخر. وهذا بالتأكيد حق مشروط وغير مطلق.

■ هل يوجد إطلاقاً إمكان لاعتراف فلسطيني بالصهيونية، أم أن مجرد التفكير في مثل هذا الاعتراف سخيف؟

□ إن التفكير في مثل هذا الاعتراف سخيف. كما أنني أعتقد أن الوقت حان كي يتحرر اليهود أنفسهم من قصة الصهيونية الغربية هذه. وأنا لا أقول هذا فقط أن تجسيد الصهيونية جرى على حسابنا، نحن العرب الفلسطينيين، بل أيضاً لأن في الصهيونية شيئاً بنيوياً غير سليم، كان موجوداً فيها حتى قبل أن تأتي البلد، وقبل أن تسلب أول فلسطيني. إنه التطابق بين الدين والقومية، وهو أمر جنوني ولا يوجد في مكان آخر في العالم.

وأعتقد أن ما نراه اليوم في إسرائيل هو أن الصهيونية القديمة كحركة العمل قد أفلست. أفلست لأنها انتصرت، إذ إنها بنجاحها في إقامة دولة حديثة هنا قد أنهت مهمتها التاريخية. أمّا الآن، فإن سياقاً جديداً ينشأ أمامها، بعيد الأثر، ويتمثل في تصهين الأصوليين وتدين اليمني. والنتيجة هي ثورة حقيقية. النتيجة هي تكوّن كتلة جديدة، أصولية – قومية أكثر تبلوراً مما يعتقد، وأنا أصفها بالفاشية اليهودية. وهذه القوة، بالغة الدينامية، تواصل درب الصهيونية القديمة، لكن من دون التنور ومن دون العقلانية التي تميزت بهما من قبل.

وهكذا، فإن ما يجري الآن لا يصدق؛ فالصهيونية تحاول لا إلحاق الهزيمة بالقومية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً بالقومية الإسرائيلية التي أوجدتها هي بذاتها. فهي، في الواقع، غير مستعدة للاعتراف بأنها أوجدت هنا شعباً عبرياً منفصلاً. وعندها، وعلى الرغم من كل انتصاراتها، وعلى الرغم من أنها نجحت في أن تبني هنا مجتمعاً متطوراً يبلغ معدل دخل الفرد فيه 18 ألف دولار في السنة، فإن الصهيونية تقوض، في الواقع، أسسها هي ذاتها. وما يظهر هو أن هذه الحركة فشلت، في الواقع، في تحقيق الهدفين الأساسيين اللذين وضعتهما نصب أعينها: أن تخرج من الغيتو، وأن تكون أمة ككل الأمم. ولأنها لم تأخذ في الحسبان وجود الشعب الفلسطيني، فإنها أوجدت هنا غيتو جديداً يوجد في وضع عنف مستمر مع محيطه. ولأنها لم تنجح في أن تفصل الدين عن القومية فإنها لم تنجح في أن تحول اليهود إلى أمة ككل الأمم.

وهكذا فإن ما نراه في نهاية المطاف، على الرغم من كل البنى التحتية المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، هو أن الثقافة السياسية الإسرائيلية تغدو متخلفة أكثر فأكثر، ويمينية أكثر فأكثر، ودينية أكثر فأكثر، وعنصرية أكثر فأكثر. وثمة تحلل إلى قبائل وطوائف وتيارات دينية. وما ينجم عن هيرتسل بعد مئة عام هو النقض التام لما أراده هيرتسل من تلك الدولة اليهودية المتطورة: ما ينجم هو غيتو ديني.

■ هل معنى هذا أنك تقترح علينا التحرر من الصلة بالشعب اليهودي في الشتات؟

□ ما أقوله هو إنكم طورتم هنا ثقافة ثرية جداً، مركبة ومتنوعة ومثيرة للاهتمام جداً، وإطاراً سياسياً بات له صفاته المميزة. وبناء عليه، فإن من السخف أن تتنازلوا عن ذلك كله لتعودوا إلى الموضوع اليهودي، وتتحدثوا، طوال الوقت، باسم ذاك الشعب، هناك، غير الموجود في واقع الحال. وأعتقد أنه إذا لم تغيروا الاتجاه، وإذا لم تتحرر العلمانية الإسرائيلية من الصهيونية، فإنها ستخسر المعركة ضد الكتلة الأصولية – القومية. فالمتدينون سيسيطرون على الصهيونية، ولا شك لديّ في ذلك. أمّا أنتم فستفقدون حداثتكم، وستسيطر عليكم طبيعة التفكير الديني وغير العقلاني. وبناء عليه، فإنه لمصلحتكم أيضاً، لا لمصلحتنا فقط، يجب استبدال الملعب اليهودي بملعب جديد، مدني – ليبرالي. وإذا لم تفعلوا ذلك، وإذا لم تتحرروا من الصهيونية، فإنكم ستخسرون في المنافسة مع المتدينين. ينبغي لكم أن تدركوا أن هذا هو الحد. انتهى!! الصهيونية العلمانية أنهت وظيفتها.

اغترابي في الكنيس هائل

■ مع ذلك، فإنك عندما تجلس في هذه المؤسسة تشارك بنفسك في كل ما في المشروع الصهيوني؟

□ صحيح. هذا هو تناقض العرب في إسرائيل. هذا هو تناقض عزمي بشارة في دولة إسرائيل. وإذا قال لك عزمي بشارة إنه لا يوجد هنا تناقض فقل له: أنت كاذب. إذ لا يمكن القول "أنا عربي فخور وإسرائيلي مخلص في الوقت ذاته." هذا هراء. يوجد تناقض هنا وهو ليس تناقضاً عقلياً، وإنما تناقض يفرضه الواقع. مع ذلك فأنا أعتقد أن دورنا هو تحويل هذا التناقض إلى دوافع بناء. يتعين علينا أن نتناول هذا التناقض وأن نجعله قاطرة، قوة دينامية قوية جداً تغير وجه الواقع؛ السير حتى النهاية في القضية الفلسطينية من جهة، والسير حتى النهاية في القضية المدنية الإسرائيلية من الجهة الأُخرى. علينا أن ندفع إلى الأمام قضيتنا والقضية الليبرالية – الديمقراطية في الوقت نفسه، وعد التباكي. عدم التباكي على أننا ممزقون بين هويتنا أو أننا نسقط بين كرسيين. بل على العكس، يجب ألاّ نتنازل وألاّ نتلوى، وأن نطالب بالمساواة المدنية الكاملة، وأن نكون، كعرب، جزءاً فاعلاً في الديمقراطية الإسرائيلية.

■ هل تشعر بالتناقض، بصورة شخصية، في حياتك هنا، في عملك في الكنيست؟

□ يومياً. يومياً أشعر بهذا التناقض، وأحياناً عدة مرات في اليوم. ذلك بأنني في الواقع، من جهة، مفعم بالتقدير للكنيست، إذ يجري هنا عمل برلماني مدهش ومرتب. وأعتقد أن ثمة القليل من البرلمانات مثله في العالم. وأنا أقدر هذا. وفي مقاطع معينة فإن الديمقراطية الإسرائيلية مدهشة، وهناك ما يمكن تعلمه منها. لكن من جهة أُخرى فإن اغترابي هائل، وهو أساسي تماماً. ذلك بأن كل شيء هنا غارق في هذه الرمزية اليهودية التي تنبذني خارجها؛ آيات من التوراة، والأحاديث عن القدس، وصورة هيرتسل. وأحياناً، في الجلسات الاحتفالية بالذات، أجد نفسي مضطراً إلى أن أتمسك بالطاولة كي لا أنفجر وأصرخ، وإلى أن أتمالك رباطة جأشي. أنا لا أحب من يفسد الاحتفالات. فهذا لا يخلف سوى طعم مر، ولا يغير في الأمر شيئاً. لكن هذا صعب عليّ. أنت لا تتصور كم هو صعب.

■ احتفالات يوم الاستقلال الخمسين كانت مشكلة؟

□ طبعاً، طبعاً. فأنت تدرك ماذا يعني لي هذا اليوم، إنه يوم الخراب لشعبي. وأنا لا أجلس غارقاً في حزن الحداد لأني لا أؤمن بالحداد. لكن من الواضح أن هذا لا يشكل بالنسبة إليّ يوم عيد. كما أني أعتقد أن كل عربي يحتفل به هو شخص مشوه، خلقياً ونفسياً، شخص انفصل عن تاريخه، انفصل عن ثقافته، انفصل عما جرى لشعبه، شخص فقد عموده الفقري القومي والإنساني.

لكن في بعض الأحيان تظهر الصعوبة في مواضع غير متوقعة بالذات، في المواضع التي ننجح فيها. لقد كانت أصعب لحظة لي هنا بالذات بعد أن بدا أن هناك أملاً بأن ننجح في إدخال بعض التعديلات على قانون "الشاباك" (مصلحة الأمن العام – الاستخبارات) الجديد. وعندها أدركت فجأة أن في كل دولة ليبرالية، دولة المواطنين، فإن قانون الشاباك هو خطوة إلى الأمام. هو إخضاع الأجهزة السرية للقانون. إن هذا أمر لم يحدث حتى في بريطانيا سوى منذ زمن قريب. وإذا كانت هذه هي الحال فيجب أن أُثني على ذلك، وأن أؤيده. لكن في نهاية المطاف لا يمكنني، كعربي، أن أؤيد، قانون الشاباك. قل أنت – كيف يمكنني أن أؤيد قانون الشاباك؟

■ وهل أثار قسم الولاء هذه المعضلة أيضاً؟

□ تردت طوال أسابيع. فقد كان في وسعي أن أقول إني مشغول في ذاك اليوم، لكنني في النهاية قررت ألاّ أتملص، وأن هذا ثمن يجب أن أدفعه. فإذا كنت أريد الاندماج والمساواة، وإذا كنت أريد أن تتسع هذه الديمقراطية لتشملني أيضاً، وإذا كنت أريد أن أناضل في سبيل أن تكون هنا دولة مواطنين وأن نحظى بالاعتراف كأقلية قومية، فيجب أن أدفع هذا الثمن. لكني كنت في غاية التوتر ذلك اليوم، كنت متوتراً مثل "الزمبرك".

وإذا سألتني الآن ما هي الصيغة الدقيقة للقسم فإني غير متأكد أني أتذكرها. وأنا أفضل ألاّ أتذكرها. ويخيّل إليّ أنها "مخلص لدولة إسرائيل وقوانينها." وليس لديّ مشكلة مع "قوانينها". ففي الكنيست أستطيع أن أناضل من أجل تغيير هذه القوانين. أمّا "الإخلاص لدولة إسرائيل"؟ فما هو الإخلاص لدولة إسرائيل؟ للقيم الأساسية التي قامت عليها؟ لتهويد العمل؟ لخلاص الأرض؟

■ صورة جمال عبد الناصر معلقة على جدار غرفتك هنا في الكنيست، وكذلك على أحد جُدُر مكتبك في الناصرة!؟

□ عندما نشأت في الناصرة، في بداية الستينات، كنا أناساً مهزومين، ومهانين. وكان كثيرون منا لاجئين في بلدهم، وكنا كلنا معزولين عن العالم العربي، عن محيطنا الثقافي الطبيعي. كنا نعيش داخل نوع من الحصار المهين، داخل البقايا التي خلفها المجتمع الفلسطيني في إثر ضربة سنة 1948. وعندها وعلى حين غرة ظهر هذا الصوت من الخارج، والذي أنصت إليه الناسـ يدوي من المذياع الصغير في قراهم التي لم تصل إليها الكهرباء، فغي كل أرجاء العالم العربي. وقد قال هذا الصوت إننا جزء من أمة قوية وعظيمة من المحيط إلى الخليج. وكان هذا الصوت ذاته قوياً ومدهشاً. وفجأة شعرنا بأننا لسنا ذاك الطفل المضروب المسكين، بل أن لدينا أخاً كبيراً يمكن الاعتماد عليه، أخاً كبيراً تخافه إسرائيل نفسها خوفاً شديداً، ولعله هو الذي سيعلمها الدرس أخيراً. وهكذا فقد تماثلتُ جداً مع شخصية عبد الناصر وأقواله.

وعندما كان عبد الناصر يخطب كان بيتنا، الذي كان فيه التلفاز الوحيد في الحي، يبدو كالسينما. ما كانت أمي لتستطيع الاستماع إليه من دون أن تذرف الدموع. ربما كان، من ناحية، نوعاً من صلاح الدين بالنسبة إلينا. لقد كان لي عدة أبطال: صلاح الدين، وعبد الناصر، ولينين. كما كانت لدي تصورات أن يأتي الجيش الأحمر فيحررنا. وقبل سنة 1967، تعززت هذه التوقعات جداً. ولا أعتقد أني حلمت في حينه بأن تمحى إسرائيل، أو بأن يختفي اليهود. لكني رغبت جداً في أن ينتصر العرب، في أن تتغلب القومية العربية على إسرائيل، في أن تصلح الظلم. رغبت في أن ينتصر الطيبون على الأشرار.

ولهذا السبب، فإن الصدمة بعد هزيمة سنة 1967 كانت عظيمة جداً. وأتذكر أبي محبطاً تماماً ولا يذهب إلى العمل عدة أيام. وأتذكر الإحساس الحقيقي بالحداد الذي ساد البيت. فجأة بات واضحاً أنه انتهى خلاص. لن تختفي إسرائيل، وأنها ليست ظاهرة إمبريالية بسيطة كالجزائر أو فيتنام، وأن الأمة العربية لا تزال أمة متخلفة. وعندما أعلنت الأخبار أن عبد الناصر مات أخذ والدي المذياع الصغير الذي أُذيع النبأ منه وألقى به إلى الأرض فحطمه وشتم. ومنذئذ إلى حين وفاته لم يرغب في الحديث عن إسرائيل على الإطلاق. ما كان ليحتمل كل هذه الهزائم العربية. أراد فقط أن يموت بهدوء.

■ هل كان تجربة سنة 1973، بالنسبة إليك، تجربة مصححة؟

□ مصححة جداً، جداً جداً. قصيدة توفيق زياد عن العبور الكبير عبّرت عن مشاعرنا جميعاً. فلم نكن نحب السادات قط، وفجأة جاءت هذه المفاجأة الإيجابية. لقد أعاد هذا الأمر إلينا عزتنا، وصرتنا الذاتية القومية. وقد غدا التضامن مع م.ت.ف. دفعة واحدة مشروعاً مفتوحاً. وألقى عرفات خطابه في الأمم المتحدة وكان خطاباً جميلاً قال فيه: أنا قوي، في يد أحمل البندقية وفي الأُخرى غصن الزيتون، وقد جئت كي أصنع السلام لا من موقف الهزيمة بل من منطق القوة. لقد كان كل هذا نتيجة سنة 1973، نتيجة العبور. وعندها أيضاً بدأت، وكنت لا أزال طالباً في الثانوية، أنشطُ كثيراً، نظمت اللجنة القطرية الأولى للطلاب العرب.

■ هل حدث هنا نوع من الانتقال من الهوية العربية إلى الهوية الفلسطيني المستقلة؟

□ حتى سنة 1967، كان الأمر الوحيد الذي في وسعنا الاتصال به هو القومية العربية. ذلك بأنها هي وحدها التي وضعت مسألة فلسطين على رأس القائمة، وجعلت منها رمزاً. وفي المقابل، أخذت الهوية الفلسطينية بعد هزيمة سنة 1967 تتعزز أكثر فأكثر. لكني أرى نفسي اليوم أيضاً عربياً – فلسطينياً. فلسطينيتي لم تسبق عروبتي في أي يوم من الأيام. ولا أعتقد أن النزعة القطرية الفلسطينية هي الحل الممكن، وبالتأكيد ليست الحل الوحيد، وذلك مثلما لا تعتبر النزعة القطرية الأردنية أو السورية أو العراقية هي الحل.

■ هل المفهوم الفلسطيني، كمفهوم منفصل ومنقطع عن المفهوم العربي، اختراع يهودي؟

□ إنه اختراع سايكس – بيكو. لكن ثمة محاولة إسرائيلية ثابتة نجدها سواء في اليسار أو اليمين لتجاهل وجود أمة عربية واحدة. فأمة عربية واحدة، بالنسبة إلى الإسرائيليين، هي الخيار الأخطر. إنهم يخافونها ولا يحبونها. أمّا الفلسطينيون فإنهم أمر يمكن التعايش معه، وكذلك الأردنيون والسوريون والمصريون. مع كل من هؤلاء يمكن صنع سلام منفرد. أمّا مع الأمة العربية الكبرى فلا يمكن صنع السلام، لأنها تثير مقاومة شديدة جداً. أنا لا أؤمن بأن هناك ثقافة فلسطينية مميزة، ومنفصلة. لا يوجد أمر كهذا. فالفوارق داخل الثقافة الفلسطينية لا تقل حجماً عن الفوارق بين الثقافة الفلسطينية والسورية مثلاً. وكذلك ما هو مشترك بين الجليل والقدس لا يفوق ما هو مشترك بين الجليل ودمشق. وهكذا فالموجود هنا هو ثقافة عربية، ولغة عربية، وأدب عربي، وأنان قومية عربية.

بناء عليه، فأنا أعتقد أيضاً أن عليكم أن تدركوا أن الحل الوسط التاريخي يجب أن تصنعون لا مع الفلسطينيين فقط، بل أيضاً مع العرب كلهم. من قبيل التبسيط الشديد القول إن لب الصراع هو قضية فلسطين، وإذا ما حللناها ينتهي كل شيء. هذا خطأ، خطأ جسيم ينبع من أنه لا يزال في إسرائيل حتى اليوم عداء متأصل للتوجه نحو التحديث والديمقراطية في العالم العربي، وللأماني المشروعة للأمة العربية في أن تقيم لنفسها أي نوع من مبنى الأمة. وعليكم أن تتحرروا من ذلك. عليكم أن تدركوا أننا في العالم العربي نهاني مشكلات الطائفية والحمائلية، وأن القومية العربية الواحدة يمكنها أن تحل هذه المشكلات وأن تتيح لنا أن نكون محدثين. لا يسعنا أن نطور هوية سورية، ولبنانية، وأردنية، وفلسطينية، نحن بحاجة إلى هوية عربية. والانجذاب إلى ذلك عظيم جداً.

والآن، فإن تطور الاتصال يسير في هذا الاتجاه. فطفل في الناصرة وطفل في العراق وطفل في المغرب، جميعهم يشاهدون برامج الأطفال ذاتها التي يبثها القمر الصناعي السعودي. وبرامج الحوار المهمة هي عربية على العموم، وكذلك الصحف ذات النفوذ، هذا هو الاتجاه؛ وهو الضمانة الوحيدة لعدم تحلل المجتمع العربي إلى عناصر دينية واجتماعية وسياسية منفصلة.

قومي عربي وناصري جديد

■ كيف تصف نفسك: قومياً عربياً؟ ذا نزعة عربية واحدة؟ ناصرياً جديداً؟

□ قبل كل شيء أنا إنساني. من ناحيتي الكل ينبثق من إنسانيتي. وأنا ديمقراطي، ليبرالي. وعندما أتحدث عن دولة مواطنين فهذا ليس مجرد وسيلة لمماحكة إسرائيل. أنا أريد، في الواقع أن تكون الدول العربية دول مواطنين. لكن نعم، أنا أتخذ لنفسي الأوصاف كلها التي ذكرتها. أنا مؤمن بأن الأيديولوجيا القومية والهوية القومية والانتماء إلى الهوية القومية شروط ضرورية كي يمر المجتمع بالحداثة. أنا لا أجد أي تناقض بين هذه الأوصاف وبين ليبراليتي. وهكذا أنا قومي عربي. نعم، أنا لا أخجل من ذلك. وحين أحاضر في المدارس العربية فهذا ما أقوله للطلاب: لا تخجلوا من كونكم عرباً، ولا تحسبوا أن الحداثة هي الإسرائيلية. ذلك بأن هناك حداثة عربية، وهي مثار للفخر والاعتزاز. وهذا هو أيضاً سبب رؤيتي لنفسي ناصرياً جديداً، على الرغم من كل الانتقادات التي أوجهها اليوم إلى عبد الناصر – حين أصغي اليوم إلى خطاباته أفاجأ كم كانت ساذجة وسطحية؛ ومع ذلك أجد أنه كان البطل السياسي المعاصر الوحيد الذي أنجبته الأمة العربية من رحمها في القرن العشرين. إن المشروع الناصري كان، في أساسه، مشروعاً متنوراً جداً. لقد حاول إحداث تطور في القاعدة والمجتمع ومؤسسات الدولة، وحاول إقامة صناعة حديثة وجيش حديث وسلطة القانون. تحدث عن الكرامة الجريحة للعرب الذين يريدون أن يكونوا أمة مثل باقي أمم العالم، ويشعرون بأنهم استغلوا، وسلبت ثرواتهم، وشرذموا إلى كل أصناف الإمارات والممالك. وهكذا، وعلى الرغم من انتقاداتي له، وعلى الرغم من أنه فشل، فإنني بالتأكيد أرى المشروع الناصري مشروعاً ملائماً وجديراً. إنه المشروع العربي الوحيد في هذا القرن. لذلك أعتقد أنه يجب ألاّ نبدأ من الصفر. لقد كان هناك شيء ما لدى عبد الناصر انقطع في منتصف الطريق ويجب العودة إليه ومواصلته على نحو ديمقراطي وانتقادي. أنا أؤمن بأن ما يجب فعله الآن هو أن نأخذ الفكرة الناصرية ونصلها بالقضايا الديمقراطية والحداثة، وبالتكنولوجيا وأبعاد السوق وقواها. وأنا أؤمن بأن هذا الميل آخذ في التطور، إذ إنه بعد أن يدخل الإسلام السياسي في الأزمة التي بانت بشائرها من الآن، ستتحول هذه الفكرة إلى نزعة المستقبل.

■ هل تستطيع أن تتصور حلاً سياسياً عربياً شاملاً؟

□ نعم. بالتأكيد. لكن في هذه المرة لن يتم ذلك بالقوة، وإنما بوسائل ديمقراطية فقط. لقد ولّى عهد بسمارك. من الممكن أن تكون البداية التعاون الاقتصادي والعلمي العربي، وأي شيء يكفل ألاّ تكون الحدود بين الدول العربية شديدة إلى هذا الحد. وفي السياق، ربما يحدث أي شكل من الوحدة بين الدول الديمقراطية مثل أوروبا. ربما يتم تشكيل برلمان مشترك، واتحاد اقتصادي. وحين يحدث ذلك ستضطر إسرائيل إلى الاختيار، مثل السويد والنرويج، بين أن تدخل إطار الوحدة العربية هذا وبين أن تبقى خارجه.

■ هل إسرائيل، بحسب وجهة نظرك، قلعة صليبية تؤدي المجريات الطبيعية في المنطقة، ومتغيرات الحياة، والتطبيع، والمواطنة، إلى تقويض قوتها شيئاً فشيئاً؟ هل إحساسك هو أنه كلما مر الوقت ضعف تفوق القوة القادمة من وراء البحار في مقابل التعاظم الطبيعي لأمة أبناء البلد؟

□ إن الاستعارة الصليبية قائمة حتى اليوم في الوعي العربي ومعروفة على نحو خاص. هناك خطاب حافظ الأسد الذي قال فيه إن الصليبيين صمدوا 200 عام، إذاً فلننتظر ونرى. لقد نظرت إلى هذا الخطاب تحديداً كدليل ضعف، لأن من يلقي خطاباً كهذا فإنه يقول إنه لا يستطيع أن يحرر الجولان، لذلك فإنه مستعد للانتظار. وأنا مؤمن بأن سورية ربما تستطيع الانتظار مئتي عام، لكن الشعب الفلسطيني لا يستطيع. وهكذا فإن هذه الاستعارة التاريخية، من ناحيتي، غير مقبولة. إن المرحلة مختلفة، والمبنى السياسي مختلف. حينذاك لم يكن ثمة أمة عربية، والدول الصليبية لم تكن أمة حديثة مع أسلحة ذرية. حتى إن مصطلح الحدود لم يكن حينذاك قائماً، وكذلك مصطلح الدولة. ولكن ثمة وجه شبيه بالغزو، وبوجود أجنبي، وباحتلال غير عادل، وباستخدام الرموز الدينية. كل هذا قائم بالتأكيد. من هذه الجهة، فإن الاستعارة صحيحة. فهناك إشباع بالرموز والاستعارات الدينية، وهناك أيضاً غزو إلى أرض الميعاد. وفي كلتا الحالتين لم يؤخذ أبناء البلاد في الحسبان: هناك ذبحوا، وهنا أُبعدوا. وما يحدث الآن هو أن الصهيونية نفسها تعزز الأسس الصليبية لوجودها. ومثلما هو الأمر في الحالة الصليبية فإن كل شيء سيحدث حول القدس. وكلما عدتم إلى الأسس التوراتية وإلى الإيمان بأرض الأجداد فإنكم بأنفسكم تحولون إسرائيل إلى دولة صليبية. لكنني لست مستعداً لأن أنتظر صلاح الدين مئات الأعوام. أنا أعتقد أن من يريد الانتظار هو نفسه الذي لا يريد أن يفعل شيئاً، ويتوقع أن يقوم التاريخ بأداء المهمة عنه ويحل مشكلاته. ومن هذا المنطلق فإن صلاح الدين بالنسبة إليّ ليس خياراًَ. من ناحيتي لا يوجد مثل هذا الخيار. 

تعليقات

قنبلة بشارة*

 انفجرت قنبلتان في نهاية الأسبوع. القنبلة الأقل خطراً، الباكستانية، أصابت الإسرائيليين من ضعاف الأعصاب بالهستيريا والخوف على الحياة، وأفقدتهم صوابهم، مثلما حدث لهم خلال الأزمتين العراقيتين. بينما القنبلة الأخطر فعلاً، قنبلة عزمي بشارة، الذي أعلن – وهناك ما يؤكد تماماً إعلانه – أن الأمة العربية لن تكون في يوم من الأيام مستعدة لأن "تمنح إسرائيل شرعية تاريخية"؛ هذه القنبلة لم تلق نصيبها من الاهتمام من جانب أولئك الذين وجهت إليهم مباشرة [المقصود بذلك "اليسار" الإسرائيلي] [....].

إن أمر وجود هاتين القنبلتين معروف منذ فترة طويلة، لمن له عينان في رأسه. بالنسبة إلى الأولى، النووية، فإن لدى إسرائيل وسائل منع استباقية ورد عملياتي [....]. وفي المقابل يوجد، حتى في أوساط الجيش الإسرائيلي، ارتباك عميق تجاه مؤامرة الأغيار لإبادة إسرائيل بواسطة السلاح الخلقي – الفكري، من خلال زعزعة إيمانها بعدالة طريقها وثقتها بنفسها [....].

مَنْ يرى في أراضي يهودا والسامرة منطقة محتلة، وفي بناة عناتوت وشيلا وتكواع مستوطنين استعماريين، مثل الفرنسيين في الجزائر، يفتقر بداية إلى الأسلحة الروحية – الخلقية التي هي أهم، بما لا يقاس، من الطائرات والصواريخ في هذه الحرب المصيرية – حرب الحق (التي هي أخطر من القنبلة الإسلامية في المدى البعيد). وهذه الأسلحة [....] لا يمكن شراؤها من ترسانة الأسلحة الأميركية، أو إنتاجها في المصانع الحربية الإسرائيلية. إنها موجودة فقط في المخابىء العميقة والأبعد غوراً في التراث والتاريخ اليهوديين، اللذين حاول، بنجاح ملموس، قسم من مؤيدي عزمي بشارة الذين خاب أملهم به أن يقتلعوهما ويحلوا محلهما ثقافة مدينة – ليبرالية ضبابية، وسطحية الجذور، لا تستطيع آبارها المتصدعة أن تستوعب المياه الكافية لمجابهة ادعاءات العدل العربي.

[.......].

عندما اختفت الحجّة الخلقية، واستُبدل الحق بمقتضيات الضرورة البراغماتية المفتقرة إلى الرؤية والإيمان، وذلك من أجل التوصل إلى "حل"، تجدد الاعتراض العربي أيضاً على نتائج حرب 1948 [....]، وبدأت مطالبات عرب إسرائيل بالانفصال تكتسب قوة نوعية [....].

عزمي بشارة – شكراً جزيلاً![2]

 

قدم عضو الكنيست عزمي بشارة خدمة كبيرة، في المقابلة التي منحها لملحق "هآرتس" [....]، إذ أكد حقائق يرفض كثيرون بيننا تصديق وجودها.

 أولاً، أبرز طابع منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها حركة لاجئي سنة 1948، الذين يسعون قبل كل شيء لتجسيد "حق العودة" إلى أماكن سكنهم الأصلية داخل إسرائيل. بل إن تجسيد هذا الحق يتقدم، بحسب قوله، على رغبتهم في دولة مستقلة. وعندما كان إسرائيليون طيبون يصطدمون في الماضي بمثل هذا الموقف من جانب ناطقين فلسطينيين آخرين، كانوا يردون بهزة كتف قائلين: "مجرد كلام"؛ فالفلسطينيون تنازلوا عن حق العودة منذ زمن بعيد. ومن المثير للاهتمام أن نرى كيف سيردون هذه المرة.

إن عزمي بشارة، في سياق حديثه، يقرر بجزم أن القومية اليهودية مصطنعة ومتخيَّلة، لأنه لم يكن لها جذور قبل ولادة الصهيونية. وكل من يقرأ نصاً عبرياً، كتبه اليهود خلال آلاف السنين، يتضح له إلى أي حد كان الوعي الإثني لـِ"شعب إسرائيل" قوياً. وجرت ترجمة هذا الوعي إلى مصطلحات قومية عصرية قبل ولادة الصهيونية. وكان أبرز من فعل ذلك الحاخامات [يهودا] ألقلعي و[تسفي] كاليشر من جهة، وتسفي غريتس وشمعون دوبونوف، من جهة أُخرى.

ويتساءل المرء إن كان عزمي بشارة سمع بحزب البوند اليهودي، الذي كان معادياً للصهيونية بشدة، وتوصل مع ذلك إلى تأكيد الوجود القومي الثقافي لليهود في تجمعاتهم الكبرى في أوروبا الشرقية من دون صلة بالدين، بل من خلال شجب الدين كلياً. إذا كان الدين السمة المميزة الوحيدة للوجود اليهودي، كما يدعي عزمي بشارة، فما الذي جعل كل تلك الأعداد الغفيرة من اليهود تلتف حول ولاء البوند، وتجعله أكبر قوة يهودية في بولندا عشية الحرب العالمية الثانية؟

في المقابل، لا تزال أسطورة الأمة العربية الواحدة تعشش في وعي بشارة. ولم يِكُفْ عبد الناصر عن أن يكون محط إعجابه، وحظيت الناصرية، التي أفلست فكرياً واقتصادياً وعسكرياً، فجأة بمخلص.

القومية اليهودية "متخيَّلة" [....]، لكن على ماذا تقوم النظرية "الواقعية" جداً القائلة بوجود أمة عربية واحدة، ستتحد في يوم من الأيام؟ على شيء لا يوجد ما هو أكثر خرافية منه – إنه وحدة اللغة العربية، المزعومة.

[.......]

سرَّني أن أعرف أن عزمي بشارة يعترف بوجود قومية عبرية – إسرائيلية، وهو يقول إن التماهي اليهودي على أساس ديني يشكل خطراً على بقائها. ومن الجدير أن يخطو خطوة إضافية، ويعترف بأن خرافة الوحدة العربية ليست إلا غطاء رقيقاً لمفهوم الأمة الإسلامية التقليدية، وأن على من يخشى اشتداد قوة الدين اليهودي في دولة إسرائيل، أن يناضل بالمقدار نفسه ضد اشتداد قوة التعصب الديني الإسلامي في محيطنا، وضد المفاهيم التي يطرحها.

ابن العم الروحي لغولدا[3]

[.......]

يصف [الصحافي]، الذي أجرى المقابلة، عزمي بشارة بأنه صاحب نظرية متماسكة منطقياً. لكن عملياً تظهر أقواله أنه مملوء بالتناقضات والإنكارات [....]. وتذكرنا تناقضات عزمي بشارة بالتناقضات التي يجدها هو نفسه في الصهيونية العلمانية – الليبرالية؛ إلا إن عزمي بشارة أكثر جموداً في مذهبيته، وإنكاراته شبيهة بإنكارات غولدا مئير ومناحم بيغن فيما يختص بالفلسطينيين [....].

[....]. إن عزمي بشارة ليس مستعداً للاكتفاء بأن يطلب منه "يهودي من اليسار يشعر بالذنب" الصفح. وبذلك يصيب نقطة الضعف لدى كثيرين في اليسار ما بعد الصهيوني، الذين يفكرون في الأمور من زاوية خلقية، لا تاريخية. إنه يطلب – وله الحق في ذلك – تعويضاً سياسياً. وإليكم شروط الحد الأدنى لديه: إلغاء الطابع اليهودي – الصهيوني لدولة إسرائيل؛ إرجاع لاجئي سنة 1948، كل واحد إلى منطقته؛ دولة فلسطينية بحدود سنة 1967 كمرحلة موقتة؛ ينبغي لليهود أن يعترفوا ليس فقط بهوية فلسطينية منفصلة، بل أيضاً بالقومية العربية بصيغة عبد الناصر؛ ومن ناحية أُخرى، ينبغي لهم أن يفهموا أنهم ليسوا شعباً، وإنما هو دين فقط، كما يقرر عزمي بشارة بالنسبة إليهم، وأن يسلموا بعدم وجود حقوق قومية تبعاً لذلك.

يقول عزمي بشارة كل هذا معلناً، في الوقت نفسه، أنه "قبل كل شيء إنساني." وما ينبع لديه من هذا الموقف "الإنساني" هو أن لا حق للشعب اليهودي في تقرير المصير أو التحرر القومي، لا قبل دمار يهود أوروبا ولا بعده. حتى الييشوف اليهودي – الفلسطيني في سنة 1948 لم يكن له الحق في تقرير المصير. إن عزمي بشارة مستعد لأن يمنح التجمع السكاني اليهودي – الإسرائيلي الموجود حالياً فقط هذا الحق، لكنه يعترف بأنه لا يعرف كيف ينسجم تجسيد هذا الحق مع باقي مطالبه، إذ إنه يطالب بدولة وحيدة وواحدة في كل "المساحة التاريخية" لفلسطين (والأردن، كما يبدو)، يضيع فيها الطابع اليهودي، ويُستوعب فيها الملايين من ذرية اللاجئين الفلسطينيين، وتكون جزءاً من العالم القومي العربي الذي يبشر عزمي بشارة به بحماسة قومية ناصرية. ويدل هذا على أن الحق الذي منحه ليهود إسرائيل هو مجرد شعار، ولا ينطوي على أية جدية.

يكثر عزمي بشارة من الاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة (أساساً فيما يتعلق بمسألة عودة اللاجئين) كمصدر معياري، بل حتى خلقي، لكنه يتجاهل قرار الأمم المتحدة المبدئي الخاص بالموضوع مدار البحث، وما ينجم عنه. لقد اعترف قرار التقسيم الصادر في سنة 1947 بحق تقرير المصير ليهود أرض إسرائيل، وأوجد الأساس المعياري للحل، المتمثل في دولتين، والذي لا يزال نافذ المفعول إلى الآن. إن عزمي بشارة يرفض الأمرين، ويواصل بذلك السير في طريق جبهة الرفض، التي بدأت بحرب سنة 1947 وانتهت بأوسلو. ولذا فهو يستخدم قرارات الأمم المتحدة بصورة انتقائية [....].

كما أن عزمي بشارة يبلبل القراء بشأن ما سيحل محل الدولة اليهودية – الصهيونية التي يريد إلغاءها. فتارة يطالب بـ"دولة مواطنين" لا صفة قومية أو دينية لها، وتارة يقترح "دولة ثنائية القومية" مع برلمانين اثنين. والهدف النهائي لعزمي بشارة، في الواقع، هو دولة فلسطينية واحدة، تشكل جزءاً من الأمة العربية الشاملة، فيها أقلية يهودية تتمتع – إن أمكن ذلك – بحكم ذاتي. لكن دولة قومية عربية، مع حكم ذاتي لليهود كمجموعة ذات هوية متميزة، تتناقض مع شعار "دولة مواطنين"، التي من المفروض أن يقف فيها الفرد في مقابل دولة مجردة من أية هوية جماعية، ومن أية صفة إثنية أو دينية أو قومية.

وهنا يجدر أن نشير إلى أن دولة مواطنين كهذه هي يوتوبيا ليبرالية لو توجد في أي وقت من الأوقات، ولا يوجد نموذج لها في أي مكان (يوتوبيا: لا مكان) [....].

[.......]

لقد أنكرت غولدا مئير وجود شعب فلسطيني. وهذا تفكير كولونيالي، ينكر وجود الآخر والحقوق النابعة منه. وعزمي بشارة، ابن العم الروحي لغولدا، ينكر وجود شعب يهودي. وهذا ليس مجرد جهل. فالدكتور عزمي بشارة ليس جاهلاً. إنه يعرف أسس الحقائق. لكن أقواله لا ترد كحجج في سياق نقاش تاريخي، وإنما كأحكام أيديولوجية. إنه يعرف أن اليهود يعتبرون أنفسهم شعباً، لكنه ليس مستعداً لقبولهم بهذه الصفة (لأن هذا سيقوض حججه)، وللك فإنه – هو الغريب، والخصم – يُبيح لنفسه حق تقرير هويتهم نيابة عنهم، من خلال إلغاء وعيهم الذاتي [....].

لا يمكن في مقال قصير تحليل تناقضات عزمي بشارة جميعها. لكن يمكن الإشارة إلى ما يقوم في أساس معظمها. إنه التناقض بين استخدام خطاب النظرة الإنسانية وحقوق المواطن العالمية وبين عالم المفاهيم القومية. وفي هذا، كما ذكرنا أعلاه، تناقضات شبيهة بتناقضات الصهيونية العلمانية – الليبرالية، إلا إن عزمي بشارة أكثر جموداً في مذهبيته وأكثر أحادية في نظرته. إن قوميته شوفينية تجاه اليهود، وإمبريالية تجاه العرب. وفي الحالتين يرفض الاعتراف بالوجود المنفصل، والمتميز، للآخر القائم قبالته. فبحسب عزمي بشارة، يجب إلغاء القومية اليهودية وحقوقها كي تستطيع القومية الفلسطينية أن تتجسد [....]. وبالنسبة إلى الشعوب العربية، فإن عزمي بشارة يفرض عليها من الأعلى قومية عبد الناصر كنموذج معياري ملزم، وقسري، فحواه إلغاء التعددية العربية التقليدية وقمعها [....].

الشاعر والفيلسوف[4]

شكلت ذكرى أحداث "النكبة [1948] مناسبة لمفكرَيْن فلسطينيين بارزين لتخليص الدرس التاريخي الذي استخلصاه من أحداث الأعوام الخمسين الأخيرة، ولبسط صورة المستقبل. والاثنان – الشاعر محمود درويش والفيلسوف عزمي بشارة – ليس أنهما مثقفان يمتلكان قدرة فائقة على التعبير فحسب، بل هما أيضاً متضلّعان من العمل السياسي، ولذلك تعكس أقوالهما أكثر من مجرد آراء مثقفَيْن منقطعَيْن عن الواعق [....].

أقوال محمود درويس قيلت في ختام مهرجان جماهيري في رام الله في يوم "النكبة". ولم يعلق أحد عليها في إسرائيل لأن أحداً لم يهتم بترجمتها إلى اللغة العبرية[5] أمّا أقوال عزمي بشارة [....]، فقد أثارت صدى قوياً.

وكان من المتوقع أن تكون أقوال محمود درويش، التي تُليت أمام جمهور غاضب في رام الله المحررة، تحريضية ومتطرفة، وأن تكون أقوال عزمي بشارة، التي قيلت في جو هادىء وآمن في الكنيست، موزونة ومتوازنة. لكن، ويا للعجب، فإن كلام الشاعر المنفي – الذي مُنع من زيارة أمه – يحمل رسالة سلام، بينما كلام الفيلسوف عضو الكنيست يهيج الخصام، ويثير النفور حتى لدى الذين ينتقدون الصهيونية بحدة، ويستحدث جواً يبعد كل محاولة للتصالح، ويخدم المحرضين على تخليد العداء. من منهما يعبر عن مواقف الشعب الفلسطيني وتطلعاته: محمود درويش الذي يطالب بـ"منح الشعب الفلسطيني عدلاً نسبياً في وطنه"، من خلال تقسيم البلد وإقامة دولة ذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أم عزمي بشارة الذي يعلن أن حق العودة أهم من إقامة "دولة على جزء من فلسطين [....] ولا عرفات ولا أبو مازن يملكان أي إمكان للتنازل في هذه القضية"؟ من منهما يعبر عن مشاعر الفلسطينيين: محمود درويش الذي يقول: "كضحايا نحن نسعى لمنع تكرر الألم، بغض النظر عن هوية مرتكب الجريمة أو ضحيتها"، أم عزمي بشارة الذي يصر على إدانة جرائم "صهيونية حركة العمل القديمة"، ويذرف بعدش ذلك الدموع بسبب سيطرة "الفاشية اليهودية" التي تواصل السير في الطريق نفسه؟

صحيح أن كلام الاثنين ليس خفيف الوقع على الأذن الإسرائيلية. فكلاهما يروّج خرافة "الضحية"، الشائعة لدى الفلسطينيين، ومن أجل ذلك يمحوان السنوات الخمسين السابقة لسنة 1948. إن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية يبدأ، بحسب محمود درويش، مع إنشاء منظمة التحرير – وهذا يتيح تجاهل مساهمة الفلسطينيين في حدوث النكبة التي ألمّت بهم. كما أن بشارة يقرر بجزم أن "موضوع اللاجئين سبق من ناحية تاريخية موضوع الدولة الفلسطينية"، ويقصد بذلك، كما يبدو، أن الفلسطينيين لم يطمحوا في السنوات الخمسين السابقة لسنة 1948 إلى إقامة مثل هذه الدولة. لكن محمود درويش ينظر إلى الحركة القومية للخصم بصفتها عدواً شرعياً [....]. أما عزمي بشارة، في المقابل، فاختار أن يصور الصهيونية "كأمر جنوني – التطابق بين الدين والقومية – أمر لا يوجد في مكان آخر في العالم" [....].

ويوجه محمود درويش مناشدة حارة لإنقاذ عملية السلام، بينما يطرح عزمي بشارة مقولة باطلة مفادها "حل من دون تسوية تاريخية"، الهدف منها إظهار العملية الحالية بلا قيمة لأنها "ليست عادلة." وهو بذلك يساهم، عن قصد، في إفشالها لأنه يثير عمداً كل مشاعر العداء والخوف لدى اليمين الإسرائيلي، ويمده بذخيرة من أجل تدمير العملية السلمية [....].

تعليقات قصيرة من غولدا إلى بشارة[6] 

أعتقد أن اليهودية دين لا قومية، وليس للجمهور اليهودي في العالم أي مكانة قومية. ولا أعتقد أن لهذا الجمهور الحق في تقرير المصير [....]. وفي الواقع، من يريد أن ينكر بداية شرعية الحركة الصهيونية، لا مفر له من الإتيان بمثل هذا الادعاء الأخرق. لقد ولدت وكبرت في الاتحاد السوفياتي. وسجلت السلطات السوفياتية في بطاقة هوية والديّ، شأنهما في ذلك شأن ملايين اليهود الآخرين: "القومية: يهودي"، من دون أن تستشير عزمي بشارة. إنني لا أنتمي، ولم أنتمِ، في يوم من الأيام، إلى الدين اليهودي، مع كل الاحترام له؛ إنني أنتمي إلى الشعب اليهودي. ووزن وقيمة رأي عزمي بشارة في هويتي القومية هما تماماً كوزن وقيمة رأي المرحومة غولدا مئير في الهوية القومية للعرب الفلسطينيين.

الدين الصهيوني[7] 

"لقد ولدت وكبرت في الاتحاد السوفياتي. وسجلت السلطات السوفياتية في بطاقة هوية والديّ، شأنهما في ذلك شأن ملايين اليهود الآخرين: 'القومية: يهودي'، من دون أن تستثير عزمي بشارة. إنني لا أنتمي، ولم أنتمِ، في يوم من الأيام إلى الدين اليهودي، كع كل الاحترام له؛ إنني أنتمي إلى الشعب اليهودي." هكذا كتب ألكسندر يعقوبسون في تعليقه على كلام عزمي بشارة [....]. وليعقوبسون، طبعاً، الحرية الكاملة في أن ينتمي أو لا ينتمي إلى أي إطار مذهبي يختاره. لكن حقيقة أنه باسم الوعي القومي هاجر إلى أرض إسرائيل بالذات توضح الارتباط الكامل بين وعيه القومي، العلماني زعماً، وبين الأسطورة الدينية – الخلاصية المستندة إلى التوراة وطقوس الصلوات.

والمسألة بالتالي ليست، تحديداً، مسألة وجود قومية يهودية، إذاً أخذنا في الاعتبار أيضاً أن عزمي بشارة شدد على وجود شخصية قومية يهودية – إسرائيلية، واعترف بوضوح – خلافاً لما نسب إليه منتقدوه – بحقها في تقرير المصير. المسألة هي طابع هذه القومية، وخصوصاً مكانة البعد الديني – الخلاصي في تعريف الحركة الصهيونية.

إن هذا البعد الديني هو الذين يمكّن الحركة الصهيونية من تجاهل تاريخ هذا البلد، ووجوده الواقعي الملموس. إن البلد الذي اعتُبر الوطن القومي بقي مجرداً من أي تاريخ خارج حدود الأسطورة، وصُوِّر أنه أرض التوراة والأشواق. وما زالت برامج التعليم في المدارس تتجاهل خريطة البلد، وتطمس حقيقة أن إقامة دولة إسرائيل اقترنت بدمار الكيان الفلسطيني. وبقي الأمر على هذه الحال أيضاً عندما كان يعقوبسون مستشاراً لوزير التربية والتعليم أمنون روبنشتاين.

بالتأكيد لا يمكن استخدام حجة وجود قومية يهودية أساساً للتنصل من مشكلة اللاجئين، وللمطالبة حتى بمنع إثارة النقاش بشأنها. لقد شدد عزمي بشارة على أن الوضع لا يمكن عكسه، لكن مجرد إثارة الموضوع اعتبر اعتراضاً على الوجود اليهودي، وتعبيراً عن القومية. وذلك على الرغم من أن مسألة اللاجئين مدرجة في جدول أعمال أوسلو، ولا أحد أنكر أنه مسألة مفتوحة للنقاش.

في رأيي، هذا هو التحدي الأهم الوارد في المقابلة. والمسألة ليست الوجود اليهودي، وإنما كيف يمكن تعريف الوجود اليهودي على أساس الاعتراف بكون البلد ثنائي القومية، وعلى أساس الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك المسؤولية التاريخية عن مصير اللاجئين. لقد حدد عزمي بشارة المبادىء الأساسية المطلوبة لمصالحة حقيقية، تقوم على الاعتراف المتبادل والمساواة. وتظهر التعليقات المتعددة، والخلط بين المفاهيم لدى المنتقدين المتخاصمين، كم هو حيوي هذا النقاش.

التعقيب "شوربة" ديماغوجية[8] 

كنت آمل بأن تكون المقابلة التي أجراها معي آري شفيط، في هذا الملحق [....]، بداية حوار موضوعي بشأن المسائل التي تشكل، بحسب رؤيتي للأمور، نقطة الانطلاق، ومبادىء موجهة للنقاش بشأن الصراع العربي – الإسرائيلي. لم يكن محور المقابلة مواقفي من مسألتي الديمقراطية الإسرائيلية وبنية المجتمع الإسرائيلي، ولا آرائي في المجتمع العربي والنظم العربية. فمواقفي من هذه القضايا أبديتها في مناسبات كثيرة، خطياً وشفهياً، ويسعدني أن أعبر عنها في أية مناسبة قادمة.

مع ذلك شددت، في المقابلة، على أن مشروعاً ثقافياً – سياسياً مثل "دولة المواطنين"، التي أُطالب بها، ليس وسيلة لمماحكة إسرائيل، وإنما هو رؤية شاملة أرغب في أن أراها تتحقق أيضاً في الدول العربية. وهذا موقف ديمقراطي ليبرالي مبدئي، وليس مسعى تآمرياً لتفكيك دولة إسرائيل – كما ادعى عدد من الذين علقوا على المقابلة.

إن التعليقات، التي نشرت هنا وفي أمكنة أُخرى، أدهشتني. يتضح أن كثيرين من الذين علقوا على ما ورد في المقابلة لم يقرأوا، وربما لم يريدوا أن يقرأوا، ما قلته. وأحياناً شوهوا أقوالي عن قصد، لأنهم بذلك فقط يستطيعون أن يصوروني كأنني قومي عربي لا يعترف بحق إسرائيل في الوجود ويطمح إلى إبادتها. وبسبب ضيق المجال، سأكتفي هنا بالتعليق على عدة نقاط فقط.

من زاوية الرؤية القومية العربية، الجديد فيما قلته هو، تحديداً، الاعتراف بدولة إسرائيل على أساس حق تقرير المصير، الذي هو حق قومي حديث العهد وليس حقاً توراتياً أو قَبَلياً. وقد عبّرت عن هذا الاعتراف في المقابلة، وأرسيته على تحليل مسارات تاريخية. وهنا حتى العرب "المعتدلون"، الذين يحبهم اليسار الإسرائيلي كثيراً، يعترفون فقط على اساس حكم القوة، أي يعترفون بها كحقيقة قامئة. وهؤلاء هم أيضاً المعتدلون أنفسهم الذين لا يجرؤون على انتقاد أنظمتهم، التي ينظرون إليها هي أيضاً باعتبارها حقائق قائمة. ويبدو أن هؤلاء المعتدلين هم شريك مريح أكثر، يوفر، وعلى "اليسار" بالذات، عناء النقاشات بشأن مسائل خلقية بسيطة، وفكرية أكثر تعقيداً.

ويتضح أن الديمقراطية، والاشتراكية، والمبادىء الإنسانية، والاحتكام إلى المبادىء الخلقية، ليست [في نظر الذين ردوا على ما ورد في المقابلة] أموراً تهمّ العرب. وعندما يخوض عربي في مسائل كهذه، يُنظر إلى مساهمته أنها مناورة تضليلية يقوم بها قومي عربي ميئوس منه، وعلى العالم العربي أن يستمر في كونه كتلة جماهيرية يضطهدها حكام براغماتيون من الممكن التوصل معهم إلى حل.

لن أرد في تعقيبي هذا على التحريض الأهوج من جانب اليمين، والادعاء أنني أخطر من القنبلة النووية الباكستانية. إن ما فاجأني، في الواقع، كان تشويه أقوالي كأساس لمهاجمتي، بدلاً من مواجهتي بحجج عقلانية. البروفسور يرمياهو يوفال، مثلاً، يقرر (ملحق "هآرتس"، 12/6/1998) أنني أقترح الناصرية كنموذج معياري. ويتكرر الأمر في كل ما يتصل بتعاطي الردود على مسألتي اللاجئين والقومية العربية [....].

أحد التعليقات الأكثر استفزازاً كان تعليق ميرون بنفنيستي ("هآرتس"، 4/6/1998)، وليس فقط بسبب اللهجة الأبوية التي كُتب بها. بحسب رأيي، وكما أعربت عنه في المقابلة، فإن حق العودة الشخصي بالنسبة إلى الفلسطينيين في لبنان وسورية أهم من إقامة دولة فلسطينية. ويأتي بنفنيستي فيعلن، بصورة احتفالية، من خلال تشويه ما قلته، أنني أجريت مقارنة وتوصلت إلى النتيحجة المخيفة والمقلقة في نظره، أن حق العودة أكثر أهمية من تقسيم البلد إلى دولتين. لماذا، أصلاً، يتعين علي أن أجري مثل هذه المقارنة؟ وهل لا يستطيع بنفنيستي، في الواقع، أن يميّز في حديثي عن مسألة الشرعية بين المستويات الثلاثة التي أشرت إليها في المقابلة: عدم شرعية إسرائيل في نظر الفلسطينيين في سنة 1948؛ الشرعية الممنوحة لها الآن بفعل حق تقرير المصير؛ الرغبة [الإسرائيلية] في الحصول على شرعية تاريخية بمفعول رجعي.

 كما أن الحديث عن مبدأ تقسيم البلد جرى في أثطر متعددة: مشروع التقسيم في سنة 1947، التقسيم – الفصل على غرار الأبارتهايد القائم حالياً؛ مبدأ الدولة الفلسطينية الذي ظهر في م.ت.ف. في السبعينات؛ التقسيم الديموغرافي الذي يقترحه اليسار الصهيوني؛ التقسيم كما يراه اللاجئون. إضافة إلى أن هناك إجماعاً إسرائيلياً على أن الدولة الفلسطينية التي ستقوم، إن قامت أصلاً، ستقوم على مساحات محدودة فقط، لا على مساحة الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة. إن أولئك الذين يؤمنون بتقسيم من هذا النوع مثلاً، والذي هو تقسيم شبيه بالأبارتهايد، هم من يستحقون اللوم خلقياً، وليس من حقهم توجيه اللوم إلى أحد. وبالمناسبة، منذ متى يؤمن بنفنيستي بأن التقسيم هو حل ممكن؟

إن كلتا القوميتين الفلسطينية واليهودية – الإسرائيلية نتاج حديث – مثل أية قوية أُخرى. وهذا لا ينتقص قَدْرهما. وليس من الضروري أن يكون عمر شعب من الشعوب ألفي عام كي يُعترف بحقه في تقرير المصير. إن حق تقرير المصير هو حق في السيادة في دولة، يا بروفسور يرمياهو يوفال، وليس حقاً في حكم ذاتي. وينطبق هذا على اليهود مثلما ينطبق على العرب. والبديل من الدولتين (عندما يصبح مثل هذا الحق غير ممكن) هو دولة واحدة ثنائية القومية. ولم أقل، في أي موضع في المقابلة، إنني أريد دولة فلسطينية وأيضاً دولة أُخرى ثنائية القومية.

إن الكيان الثنائي القومية، الذي هو في اعتقادي السبيل الوحيد لتعايشنا جميعاً معاً بسلام، يمكن أن يكون، كما قلت في المقابلة، في إطار دولتين قوميتين، بينهما علاقات وثيقة وحدود مفتوحة، أو في إطار كيان واحد ثنائي القومية، له برلمانان قوميان منفصلان وبرلمان أعلى مشترك. والطابع اليهودي لدولة إسرائيل مشتق من تصور كهذا. يجري الحديث في إسرائيل، بصورة عامة، عن الماهية اليهودية للدولة وعن طابعها الديمقراطي. وأقترح على الديمقراطيين اليهود أن يناضلوا من أجل أن تكون الدولة ديمقراطية في ماهيتها، أي دولة مواطنين، ويهودية في طابعها.

يمكن الافتراض، بمقدار كبير من المعقولية، أنه كان هناك شعب يهودي عتيق، عندما كان من الصعب التمييز بين دين إثني وشعب وقبيلة. لكنني لا أعتقد وجود قومية حديثة يهودية في كل أنحاء العالم. لقد وجد هذا النوع من القومية بالتأكيد في الجمعات السكانية اليهودية في بولندا وروسيا، لكن هذه القومية أصبحت سياسية في إطار الصهيونية، وليس عند [حزب] البوند، مثلاً. وكانت هذه القومية مرتبطة بزمان ومكان معيّنين، وأيضاً بالييديش وبالعبرية – لكن ما هو الرابط الذي كان قائماً بين يهود مراكش أو يهود العراق وبين هذه القومية. لا يمكن أن يكون سوى الدين. كما أن الرابط الذي يتجاوز الدين نشأ في دولة إسرائيل. إن الحركات القومية تستحدث أمماً حديثة، لا العكس.

إن القومية اليهودية – الإسرائيلية ليست القومية الوحيدة في العالم التي أُنشئت حول السمة المميزة الدينية. فباكستان أيضاً أُنشئت انطلاقاً من هذه السمة. لكن باكستان لا تدعي أنها دولة المسلمين، وهي لا توسع مفهوم الأمة كي يشمل المسلمين جميعاً. فالأصوليون الإسلاميون الباكستانيون هم من يفعلون ذلك فقط. بينما في إسرائيل، في المقابل، يدعي أساتذة جامعة ليبراليون ويساريون أيضاً، من دون أن يرف لهم جفن، أن كل من ينتمي إلى الدين اليهودي، حتى لو كان تهوَّد أمس، ينتمي إلى القومية اليهودية.

ويجدر بنا جميعاً أن نتذكر أن قومية (nationality) يهود الولايات المتحدة هي أميركية، وقومية يهود فرنسا هي فرنسية. ويخيّل إليّ أنهم سيكونون أول من سيحتج لو حاول البروفسور يرمياهو يوفال أو ميرون بنفنيستي أو يسرائيل هرئيل أن يفرضوا عليهم تسجيل القومية اليهودية في جوازات سفرهم. لقد حاولت الصهيونية أن تنشىء قومية، ونجحت في إنشاء قومية عبرية، لكنها ترفض الاعتراف بها. ولذلك يحتل الدين أكثر فأكثر مكاناً مهماً في تعريف المجموعة الإسرائيلية، وفي أساس الدولة.

لا توجد لديّ نيّة أو رغبة في أن أحدد لليهود هويتهم. وبالمناسبة، لا أعتقد أن من حق، أو وظيفة، البرلمان الإسرائيلي الذي أنا عضو فيه أن يحسم، على سبيل المثال، أمر مسألة من هو اليهودي. لكني أرى نفسي شريكاً في تحديد هوية الدولة، ومن خلال ذلك أدعو إلى فصل الدين عن الدولة. ومن كان يُفترض فيهم أن يحملوا لواء النضال من أجل ذلك أراهم يتقاطرون للدفاع عن الأمة اليهودية، أمة الملك داود. وعندما يتعلق الأمر بالعلمانية يدفعون ضريبة كلامية بكفاحهم من أجل تجنيد طلاق الييشيفات [المدارس الدينية]، وهذا مطلب إذا تحقق سيحول إسرائيل إلى دولة أقل علمانية، حتى أقل مما هي عليه الآن.

لم يحدث من قبل أن قيل في نقاش عام في إسرائيل كلام عار عن الصحة، يلامس حدود العنصرية وإنكار هوية الآخر، مثل الكلام الذي قيل في التعليق على موضوع وجود الأمة العربية. إن العالم العربي يمر بعملية توحيد ثقافي مدهشةن تزداد تسارعاً في عصر الاتصالات الإلكترونية وبرامج التلفزة التي تبثها الأقمار الصناعية التي لا تعترف بالحدود. وتتيح هذه العملية للمفكرين العرب، على الرغم من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة، التحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعن التعاون ضمن تقاليد الحداثة العربية.

قلت في المقابلة إن إسرائيل تعارض صنع السلام مع الأمة العربية، وإن من الأسهل عليها أن تتحدث عن نزاعات حدود مع دول عربية منفردة. وشوه الذين هاجموني في ردودهم أقوالي، مدعين أنني قلت إن السلام من ناحية الأمة العربية مستحيل. ويثير الاهتمام، بصورة خاصة، ردة الفعل الهستيرية التي يثيرها اسم عبد الناصر في أوساط اليسار الإسرائيلي. إن هذا اليسار مستعد لأن يسامح حتى البولشفية على جرائمها – وأخطاء عبد الناصر ونقاط ضعفه لم تكن قريبة من أخطاء البولشفية، فيما يتعلق بالحجم أو بالنمط – لكنه ليس مستعداً لتقويم عبد الناصر في إطاره السياسي والثقافي والتاريخي.

في الوضع القائم حالياً في العالم العربي، من الضرورات الحيوية أن تحلل القوى الديمقراطية، بصورة انتقادية، التجربة القصيرة للحركة القومية العربية. ومن المؤسف أن الديمقراطيين في إسرائيل ينظرون إلى هذا الجهد بعداء وجهل، من خلال تجاهل حلم التحديث الذي أوجده عبد الناصر، وتجاهل مكانة الطموح إلى التعاون والوحدة العربية في الثقافة العربية الحديثة. وربما من الضروري التذكير بأنه فيما يتعلق بمسألة الصراع العربي – الإسرائيلي، وأيضاً فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل ومن القضية الفلسطينية، كان عبد الناصر مستنيراً وواقعياً أكثر كثيراً من الحركة الوطنية الفلسطينية على اختلاف أجيالها.

إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين لم تُحلّ بعد. ومن اللافت للنظر أنه على الرغم من أن إسرائيل الرسمية اعترفت بها باعتبارها موضوعاً للتفاوض في مفاوضات الحل الدائم، فإن كثيرين ممن علقوا على ما ورد في المقابلة، بمن فيهم "اليساريون"، ليسوا مستعدين للتفاوض في شأن هذه المسألة. ومن واجبي السياسي والخلقي أن أثيرها في النقاش الإسرائيلي. ومرة أُخرى أُكرر أنني لم أقل، في أي موضع في المقابلة، إنه يجب إجلاء اليهود عن بيوت اللاجئين الفلسطينيين التي سكنوا فيها؛ ما قلته هو أن النقاش بشأن المسألة يجب أن يبدأ بالاعتراف بالصلة بين اللاجئين وبين قراهم ومدنهم التي أُجلوا عنها في سنة 1948.

للأسف، اختار كثيرون من الذين علقوا على المقابلة التركيز على هذه الكلمة أو تلك من الكلمات التي أثارت لديهم تداعيات صعبة، أو، كما فعل يرمياهو يوفال، خلطوا أقوالي بعضها ببعض وصنعوا منها "شوربة" ديماغوجية واحدة. وآمل بأن تشمل قراءة ثانية، موضوعية وأكثر انفتاحاً، مناقشة جدية للأفكار، وأن تؤدي إلى الحوار الذي أطمح إليه.

 

[1] نُشرت هذه المقابلة في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 29/5/1998، ثم نُشرت ترجمتها العربية في "المصدر" بتاريخ 11/7/1998. وقد أجرى المقابلة آري شفيط.

[2] "معاريف"، 8/6/1998.

[3] ملحق "هآرتس"، 12/6/1998.

[4] "هآرتس"، 4/6/1998.

[5] المقصود بذلك هو النداء الذي أذيع في الضفة الغربية وقطاع غزة بمناسبة الذكرة الخمسين للنكبة. وتجدر الإشارة إلى أن النداء وضعته لجنة غير رسمية مؤلفة من 50 عضواً يمثلون مختلف القوى والتيارات السياسية الفلسطينية (باستثناء حماس والجهاد الإسلامي). وهو لا يمثل بالتالي، آراء محمود درويش شخصياً، أو القيادة الفلسطينية. (راجع أدناه مقتطفات من النداء، صفحة 219 – 222).

[6]ملحق "هآرتس"، 5/6/1998.

[7] ملحق "هآرتس"، 19/6/1998.

[8] ملحق "هآرتس"، 19/6/1998.