عوامل المحافظة والتغيير في مواقف الليكود
كلمات مفتاحية: 
الحكومة الإسرائيلية
حزب الليكود
مفاوضات السلام
إسحق شامير
نبذة مختصرة: 

يوم خطت حكومة الليكود خطوتها التاريخية بدخول مفاوضات مع الفلسطينيين، دخلت سياسة الليكود مرحلة جديدة. لكن التنبؤ بأن هذا قد يقود إلى حل سلمي يحتاج إلى دراية بالرزمة العقائدية التي حملها رئيس الحكومة يتسحاق شمير معه عندما وصل إلى مدريد. فالعقائد المترسخة في الليكود تحدّ من سلطة زعيمه.

النص الكامل: 

مقدمة

في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1991، أي يوم خطت حكومة الليكود الإسرائيلية خطوتها التاريخية – وإنْ لم تكن خطوة غير قابلة للعكس – بدخول مفاوضات مع الشعب الفلسطيني، دخلت سياسة الليكود مرحلة جديدة. لكن التنبؤ بأن هذا قد يقود إلى حل سلمي، يحتاج إلى دراية بالرزمة العقائدية التي حملها رئيس الحكومة، يتسحاق شمير، معه عندما وصل إلى مدريد. فالليكود حزب راسخ في العقائدية، والعقائد المترسخة فيه تحدّ من سلطة زعيمه.

وتمارس طاقات الحزب البشرية، المكونة من وزرائه وأعضاء لجنته المركزية وأنصاره الانتخابيين، على شمير تأثيراً يكاد يضاهي تأثير العقيدة. وليس لأي وزير من وزراء الليكود أن يرجو البقاء في منصبه من دون أن يأخذ في الاعتبار آراء من قدّمنا ذكرهم، علماً بأن هذه الآراء يمكن أن تكون مختلفة اختلافاً كبيراً عن أيديولوجية الليكود الرسمية.

والعامل الثالث هو الانتخابات الإسرائيلية العتيدة. لقد تقرر إجراؤها في 23 حزيران/يونيو 1992. ومع أن استطلاعات الرأي العام أظهرت باستمرار تفوق الليكود على العمل، فإن هذا التفوق ليس كافياً لمنح السيد شمير هامشاً واسعاً فيما يتعلق بصنع القرار السياسي.

هذه العوامل كلها تجعل من العسير على المرء أن يتنبأ تنبؤاً دقيقاً بالاتجاه الذي سيتجه الليكود إليه عند أي مفترق طرق سياسي. إذ إنه في استجابته لضغوط متناقضة، من المحتم أن تتأرجح سياسته – ولا سيما في الأشهر المقبلة – بين التصلّب التام وهبات المرونة (اللفظية على الأقل).

غير أن الثابت، في أية حال، هو أن شخصية يتسحاق شمير الصدامية، التي ينسب الرأي العام الغربي إليها الكثير من سلوك إسرائيل السياسي في الآونة الأخيرة، ليست وحدها ما يتحكم في صوغ الاستراتيجية الإسرائيلية؛ إذ تخفف عوامل بنيوية قوية من حدّتها. وشمير، وإنْ يكن قد ثُبِّت مؤخراً في منصبه من قبل حزبه، فهو مضطر إلى تقاسم السلطة مع المعتقدات والمؤسسات المستلهمة من مؤسسي الليكود منذ جيلين من الزمن، مثله في ذلك مثل من سيخلفه من زعماء الليكود.

أيديولوجية حزب الليكود

              أود أن أرى نزاعنا مع العالم العربي يتحول إلى خلاف بشأن الحدود، وإلى تباين في وجهات النظر بالنسبة إلى الحدود... أنتم تعرفون آرائي. أنا لا أؤمن بالتسوية الإقليمية.

(يتسحاق شمير، التلفزة الإسرائيلية،

24 تموز/يوليو 1991)

جذور الصراع بيننا وبين أمة العرب، البالغ تعدادها مائتي مليون شخص،عميقة التغلغل تاريخياً ونفسياً. فما نسمّيه حبرون يسمونه الخليل، وما نسميه إشكلون يسمونه المجدل، وما نسميه أورشليم يسمونه القدس. ونحن لا نتعامل مع خلاف بشأن الحدود، بل مع صراع على الوجود...

(بني بيغن، "حرب الخليج"،

بالعبرية، 1991)

              في السنوات الأخيرة الماضية، أبدى مراقبو شؤون الشرق الأوسط ميلاً متزايداً إلى التشديد على أوجه الشبه بين حزبي الليكود والعمل، منافس الليكود الوحيد الحقيقي بشأن السلطة. لكن هذا الادعاء لا يصحّ بالتأكيد من الناحية الأيديولوجية. فمن المهم جداً أن ندرك أن الليكود، خلافاً لحزب العمل الإسرائيلي، لم يكن قط حَيِيّا في الإعراب عن مطامحه الإقليمية. ولعل أبرز حقيقة مميزة لأيديولوجيا الليكود، ماضياً وحاضراً، وضوح موقفه عندما يتعلق الأمر بهدفه النهائي، وهو: إسرائيل الكبرى، التي يحكمها اليهود، إلى الأبد.

والتناقضات لا تبرز إلا في شأن الوسائل الموصلة إلى هذه الغاية، وفي شأن علاقة إسرائيل النهائية بجيرانها. هل يجب أن يكون الاعتماد على القوة، أم على الاستيطان، وهل يمكن لأي من هذين أن يثمر سلاماً في نهاية المطاف؟

إن جذور فكر الليكود متأصلة في تطور الحزب على مدى تاريخه. فالليكود، وليد حركة بيتار التي تأسست سنة 1923 في بولندا اليمينية الوطنية، على يد المحامي فلاديمير جابوتنسكي، لم يزل إلى حد بعيد حزباً يناضل من أجل قضية وحيدة. وقد جهد من أجل أن يحقق فوراً، ومن دون أي تقييد، ما وصفه زعيمه بـ"حق الشعب اليهودي غير القابل للتصرف في أرض إسرائيل كلها."[1]

كان جابوتنسكي أقل اهتماماً بالمسائل الاجتماعية، فرفض فكرة الصراع الطبقي، ورفض الفاشية أيضاً باسم "المثل العليا الليبرالية للقرن التاسع عشر."[2]  وخلافاً للاعتقاد الشائع، فإن اتصالاته غير المباشرة بموسوليني لم تكن تهدف، فيما يبدو، إلا إلى إثارة غيرة البريطانيين، وإنْ كان بين أتباعه أناس – كزعيم حركة ليحي أبراهام شتيرن – ممن أعجبوا إعجاباً عميقاً بالنظام الفاشي الإيطالي. وبعد زيارة لروسيا الستالينية في العشرينات، عاد جابوتنسكي أشد تمسكاً بالرأسمالية. ومع ذلك، وباستثناء دعوته إلى إعانة أُسر أصحاب المتاجر الفقراء من اليهود الراغبين في الهجرة إلى فلسطين، يوم لم يكن حزب العمل يستورد إلا الشبان السليمي البنية، فإن الرجل لم يُعْنَ إلا بالأرض، ولم يشغل باله بتقسيم العمل في المجتمع.

وقد ظلت هذه النظرة الأحادية الجانب تسم الليكود طوال عقود عدة من السنين لاحقاً. فمن ذلك أن الليكود يوم تسلم زمام السلطة سنة 1977، لم يكن يضم أحداً من ذوي الخبرة الحقيقية أو حتى مجرد الاهتمام بالاقتصاد، واضطر على عجل إلى استقدام الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان من أجل رسم السياسة الاقتصادية. إلا إن أفكاره المرتكزة على حرية التجارة بالعملات الأجنبية، والحد من الدعم المخصص لبعض القطاعات، أدت إلى كارثة، ورفعت التضخم إلى ما يقارب 500%، وبعد ذلك عقبتها سياسات متناقضة. والحزب، وإنْ يكن ملتزماً تحويل الاقتصاد كلياً إلى اقتصاد قطاع خاص، فإن العديد من شركات القطاع العام لا يزال يتلقى الدعم الرسمي من أجل الحفاظ على مستوى العمالة، ولا سيما في قواعد الليكود الانتخابية في مدن الإعمار. وفي التربية، ألغى الليكود حال تسلّمه السلطة الرسوم المكروهة المستوفاة في المدارس الثانوية، لكنه عاد إلى فرضها لاحقاً.

أما خصوم اليمين في أحزاب ماباي وأحدوت هعفوداه ومابام، التي اتحدت لاحقاً لتشكل حزب العمل، فقد امتلكوا دائماً جدول أعمال أوسع. وقد ناضل هؤلاء في البداية من أجل إنشاء دولة يهودية في فلسطين تكون بمثابة مكان آمن يتحول اليهود فيه إلى مجتمع تسوده المساواة، ويقوم على قاعدة من العمال والفلاحين – وهذا مثال مستوحى من [الأفكار السائدة في] روسيا ما قبل الثورة. وبعد التخلي  بالتدريج عن هذا المشروع من جراء اللامبالاة العامة، ابتداء من الخمسينات، اعتمدوا خياراً آخر هو خليط من دولة الخدمات والهمّ الأمني.

أما التوسع إلى كل إسرائيل التوراتية أو معظمها، فقد كان أمراً يسعون لتحقيقه بين الفينة والفينة بالوسائل العسكرية، لكن ذلك لم يُعترف به في أيديولوجيتهم. وكانت الفتوحات التي يقومون بها تدرج في سياق الانتشار الدفاعي.

في هذا الشأن، كان اليمين أكثر انسجاماً. فيوم حوّلت منظمة بيتار نفسها سنة 1948 إلى حزب حيروت (الحرية)، لدخول معركة الانتخابات الإسرائيلية الأولى، اختار زعيمه مناحم بيغن استمالة قلوب الناخبين الإسرائيليين بإدانة دافيد بن – غوريون لقبوله قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. وراح بيغن يرعد في أنحاء البلد قائلاً لمستمعيه: "أرض آبائنا لا تقبل التقسيم. وكل محاول لقسمتها ليست إجرامية فحسب بل باطلة أيضاً. إن من لا يقر بحقنا في الوطن كله لا يقر بحقنا في أي جزء منه."[3]

بعد أربعين عاماً بالضبط، في سنة 1988، عاد الليكود (التكتل)، وهو الاسم الذي اتخذه حيروت بعد اندماجه مع بعض الأحزاب اليمينية الأخرى سنة 1973، إلى توكيد الفكرة نفسها في بيانه الحزبي:

إن حق الشعب اليهودي في إرتس يسرائيل*  حق أبدي ولا يقبل الجدل، وهو مرتبط بحقنا في الأمن والسلام. إن لإسرائيل حق المطالبة بالسيادة على يهودا والسامرة وقطاع غزة. وسيحين وقت تطالب إسرائيل فيه بهذا الحق، وتحققه. كل خطة تنطوي على تسليم أجزاء من أرض إسرائيل الغربية إلى حكم أجنبي، كما يقترح التجمع العمالي، هي تنكر لحقنا في هذا البلد...

وعندما ردّ رئيس الحكومة يتسحاق شمير، في حزيران/يونيو 1991، على الضغوط الأميركية بقوله للجنة الشؤون الخارجية في الكنيست الإسرائيلي: "نعتقد أن يهودا والسامرة وغزة أجزاء لا تتجزأ من دولة إسرائيل، وسنناضل من أجل وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ"، فهو إنما كان يكرر سياسة الحزب العامة.[4]

لم يغير حيروت / الليكود قط برنامجه الأساسي إلا بالنسبة إلى قضية واحدة: الأردن. إن المخلصين للحزب ما زالوا يُنشدون، في جميع المناسبات الرسمية نشيد بيتار الذي يبتدىء بالكلمات التالية: "للأردن ضفتان، وكلتاهما لنا." غير أن هذا بات يعني أقل مما كان يعني من قبل. فبعد أن امتص حزب حيروت في سنة 1955 حزباً آخر، هو حزب الصهيونيين العموميين، اصبحت "وحدة أرض إسرائيل" التي يلتزمها الحزب، فيما يتعلق بالأردن، "مبدأ" أكثر من كونها "هدفاً".[5]  كما أن إشارات شمير الأخيرة إلى رغبته في ترتيبات أمنية مع الأردن، تتجه إلى الوجهة نفسها.

"أرض إسرائيل التاريخية"

              ولكن، لئن كان بعض شخصيات الليكود البارزة، ولا سيما رئيس الحكومة شمير، يستعمل عبارات مرنة نسبياً مثل: "النزاع بشأن الحدود"، أو العبارة الجديدة: "هوامش أمنية معقولة"،[6]  فإن هذه إنما تنطبق على مناطق لا تعدُّ جزءاً من أرض إسرائيل، لأنها لم تكن داخلة تحت حكم العبرانيين القدماء. وهذا ما جعل أمر الانسحاب من سيناء الذي أصدره بيغن سنة 1982 ممكناً من الوجهة الأيديولوجية، وربما ينطبق هذا على مرتفعات الجولان، التي يبدو أن ثمة اختلافاً في شأنها داخل الليكود.

إن محل اختلاف ساسة الليكود ليس ما ينطوي عليه الاحتفاظ بمرتفعات الجولان، المفيدة استراتيجياً، من مزايا. فهذا واضح جلي، وإنْ لم يكن أمراً يقينياً مفروغاً منه عند الخبراء العسكريين. فمن ذلك أن الجنرال يوسي بيليد، لمّا التحق بالليكود فور إلغاء التعبئة العامة في أيلول/سبتمبر 1991، هاجم بشدة أولئك الذين يعتبرون المرتفعات أقل أهمية لأمن إسرائيل.  لكنْ من المهم أيضاً أن بيليد قيّد موقفه بالقول إنه لا بد من إعادة النظر في كلامه بعد خمسة عشر عاماً؛ ففي المسائل العسكرية لا يسمح التطور التكنولوجي طبعاً بأية أحكام مسبقة.

ومن جهة أخرى، يبدو أن وضعية الجولان السياسية، من حيث علاقتها بإسرائيل الكبرى، أقل وضوحاً جداً. إن الحال تبدو أول وهلة بسيطة جداً: فالكنيست قد ضم المرتفعات سنة 1981 فعلياً (de facto) ببسط سيادة القانون الإسرائيلي عليها، استجابة لاقتراح فاز بأصوات اليمين وأصوات معظم نواب حزب العمل. لكن هذا ليس مثل ضمها رسمياًَ كما حدث بالنسبة إلى القدس الشرقية.

وكي يلتزم الليكود التزاماً أيديولوجياً بقاء السيادة الإسرائيلية في المرتفعات، لا بد من أن تكون هذه المرتفعات تاريخية؛ ومعنى ذلك عند الليكود أن يرد ذكرها في موضع ما من التوراة. ولذلك، عندما وصف يتسحاق شمير، في خطاب ألقاه في 26 تموز/يوليو 1991، مرتفعات الجولان بأنها جزء من "أرض إسرائيل التاريخية"، تسبّب بشيء من الدهشة.[7]  فالواقع أن ليس ثمة إشارة [في التوراة] إلى قيام حكم للعبرانيين في المرتفعات نفسها، وإنْ يكن ثمة ذكر في سفر التثنية (4: 43) لملاذ آمن يدعى الجولان، أُنشىء للعبرانيين الذين يقتلون شخصاً عن غير قصد.*

لذلك لمّا أعلن روبي ريفلين من نواب الليكود – في الأسبوع نفسه – أن "الجولان ليس لإسرائيل"، لم يُكْرَه على الاستقالة مثلما أُكره نائب آخر هو موشيه عميراف، الذي تحدّى حظر الحزب عقد لقاءات مع [أعضاء في] منظمة التحرير الفلسطينية. فقد كان في وسع ريفلين أن يبيّن أن الجولان لا يظهر في خريطة الإرغون المبنية على التوراة، ولذلك استطاع أن يجمع حوله نفراً من نواب الحزب في الصفوف الخلفية في الكنيست. ولم يكن هؤلاء من الحمائم، بل كانوا مثله من الصقور، لكن من الصقور ذوي الاطلاع الجيد على العهد القديم.

وعلى الرغم من المظاهر، فإن هذا ليس سجالاً دينياً، فلقد تشكل الليكود باعتباره حزباً دنيوياً، وإنْ يكن حزباً تشوبه مسحة روحانية / رومنطيقية مميزة للنزعات القومية في أوروبا الشرقية والوسطى فترة ما قبل الحرب العالمية.[8]   فالمطالبة بالأرض استناداً إلى التوراة لا تُلزم المطالِب، من وجهة نظر الليكود، بأن يكون مؤمناً بالله متعبداً له، مثلما يجب بحسب العهد القائم بين الرب والشعب اليهودي. فزعماء الليكود لا يصلّون إلا عندما يريدون استمالة المتدينين من شركائهم الائتلافيين في الداخل، أو استمالة الجوالي اليهودية في الخارج. إن زعماء غوش إيمونيم يتحدثون عن "الأماكن المقدسة"، لكن "أرض إسرائيل التي للشعب اليهودي" ليست، في نظر معظم قادة الليكود، سوى مكان تحتفظ إسرائيل بوثائق ملكيته.

الاستيطان في مقابل القوة

                        يتعلق الانعطاف الأيديولوجي الكبير الأوحد، الذي قام الليكود به، بالوسائل لا بالغاية المرجوة من ورائها. إن فلاديمير جابوتنسكي، ومناحم بيغن ويتسحاق شمير – في أوائل حياتهما السياسية – لم يكنّوا غير الازدراء لمحاولة اليسار تعزيز حقه في فلسطين من خلال إنشاء المستوطنات. فالاستيطان، في نظر بن – غوريون، كان الصورة الوحيدة للصهيونية الحقة. لكن الشبان الذين كانوا يقسمون يمين الولاء لخصومه اليمينيين على توراة وبندقية، إنما كان يُتوقع منهم البقاء في تل أبيب أو في القدس، لا الانتقال إلى الريف.

كان اليسار يرى الاستيطان حاسماً على أكثر من نحو: لمّا كان إنشاء مسكن على أرض خالية يعطي صاحب المسكن حقاً في ملكية الأرض، بحسب قانون الانتداب البريطاني، فقد بات الاستيطان طريقة لتوسيع أراضي اليهود بصورة قانونية. وكان الاستيطان أيضاً، على حد قول زعيم الهاغاناه إلياهو غولومب، طريقة "لتعويد العرب على فكرة أننا سنحكم هذا البلد." أما اليمين، فقد كان ينبذ هذين المسعيين باعتبارهما أسلوبَ عمل متدرج [لإقامة الدولة] جديراً بالازدراء.

لقد رفض جابوتنسكي بشدة فكرة الاستيطان. وكان يذهب إلى أن القوة وحدها قمينة بدعم مطالب اليهود الإقليمية، لأن "العالم لا يفهم إلا لغة الدم." الإقناع غير ممكن، لذلك لا بد من القوة العاتية للتغلب على مقاومة أهل البلد الأصليين.[9]

وقد أتاحت منظمتا الإرغون وليحي لأنصار جابوتنسكي وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ لفترة أعوام قليلة.

أما حيروت، فكان عليه أن ينتظر عقوداً عدة من السنين قبل أن يتمكن من استعمال القوة بحرية في دولة إسرائيل. وقد كان من أوائل أعمال بن – غوريون الحكومية إغراق سفينة إمداد الإرغون بالسلاح، ألتِلينا. وإذ أحرز لنفسه بذلك احتكار وسائل العنف، حرص على الاحتفاظ بها. فكان المتعاطفون مع حيروت في الجيش يُحال دائماً بينهم وبين الترقي إلى رتب تمكّنهم من المشاركة في صنع القرار العسكري.

لذلك كان لكلام زعماء اليمين الناري الملتهب – طوال 29 عاماً – رنّة خاوية ثم تلاشت بالتدريج كاشفة عن عجزهم. ولمّا وصل الليكود أخيراً إلى السلطة، سنة 1977، تفجر العنف اللفظي لفترة وجيزة، إلا إنه سرعان ما خمد خلال أشهر قليلة بفعل زيارة السادات؛ إذ لم تكن لغة الدم رداً لائقاً على خطاب الرئيس المصري أمام الكنيست.

وأخيراً، عندما جرّب الليكود العنف باجتياح لبنان سنة 1982 – ذلك الاجتياح الذي أُطلق عليه اسم بليغ الدلالة: "عملية السلام للجليل"، وليس إسماً أكثر عدوانية – انتهت المحاولة بكارثة عسكرية وسياسية.

ومنذ ذلك الحين، ابتعد الليكود في خطابه، إجمالاً، عن "لغة الدم". وأصبحت هذه اللغة ملك دعاة اليمين المتطرف: رحبعام زئيفي، وغيئولا كوهين، ورفائيل إيتان. أما داخل الليكود، فإن أوفى دعاتها وأكثرهم انسجاماً مع نفسه، هو أريئيل شارون. لكنه، في هذه الأيام، يمضي معظم أوقاته في تركيب المساكن الجاهزة المستوردة، على قمم التلال في الضفة الغربية.

والواقع أن الليكود قد تبنّى، منذ وصوله إلى السلطة سنة 1977، المدّ الاستيطاني وكأنه هو الذي ابتكر فكرته.

وبحلول سنة 1981، كان استياء حزب العمل من ادعاء مناحم بيغن أنه ملتزم الاستيطان أكثر من خصومه، قد بلغ ذروة دفعته إلى نشر إعلان انتخابي يفند مزاعم بيغن. وقد جاء فيه: "أن الليكود إذ يطلعنا على خرائط دعائية مرقّشة بالنقط، إنما يحاول إيهامنا بأنه قد أنشأ 144 مستوطنة جديدة"؛ و"هذه مثلها مثل بيانات أخرى لليكود، محض خداع. فهذه النقاط، في معظمها، إما أنها ليست مستوطنات وإما أنها ليست جديدة. والواقع أن 34 فقط من هذه النقاط مخطط لها أن تكون مستوطنات دائمة. وهناك 27 نقطة أخرى كانت قد تمت الموافقة عليها، أو شُرع فيها في إبان حكم العمل...".

لكن المعارضة محقّة جزئياً فقط. ذلك بأن الليكود كان قد أنشأ 64 مستوطنة فقط بين سنة 1977 وسنة 1981، أي أكثر مما أنشأ حزب العمل في العقد السابق بأسره. وإن وجود 150 مستوطنة اليوم، بعد 14 عاماً من حكم الليكود، لهو من الأمور التي يركز عليها في مساعيه لتطوير علاقاته العامة الداخلية – خلافاً لما عليه الحال بالنسبة إلى مساعيه في مجال علاقاته بمن هم خلف المحيط الأطلسي.

أما القوة، في المقابل، فلم تعد مستحبة لديه في خطابه السياسي، فبينما اعتاد أعضاء بيتار أن ينشدوا: "سنخلق بالعرق والدم عرقاً من الرجال، أقوياء وشجعاناً وقساة"، أي المثال الذي أوجزه مناحم بيغن بعبارة: "اليهودي المقاتل"،[10]  فإن استخدام إسرائيل الحقيقي للعنف قد بات أدنى نبرة، لا أمام الرأي العام الأجنبي فحسب، بل أيضاً في الدعاية السياسية الداخلية.

الأمن أم السلام؟

              إن الأمن، ذلك المطمح المنقوش على راية حزب العمل الإسرائيلي، لا مكانة مستقلة له في تفكير الليكود، بل هو جزء من ثنائية. ففي رأي بيني بيغن، الذي يقوم بدور المنظر الأيديولوجي الرسمي للحزب، على الرغم من بعض الخلافات القليلة الطارئة بينه وبين رئيس الحكومة الذي لم يكتب قط شيئاً، تقوم الصهيونية على أساسين: "حق اليهود في الأمن القومي." ويدعي بيغن "أنه من هذا المزيج ينشأ برنامج إسرائيل السياسي، المستند إلى منع قيام أية سيادة أجنبية إلى الغرب من نهر الأردن..."[11]

وابن مناحم بيغن صريح في شأن كون الاستيطان غير مستلهم من هموم أمنية: "ليس للمستوطنات (في يهودا والسامرة وقطاع غزة) أية أهمية من الوجهة الاستراتيجية، بل هي تمثل عقبة؛ عقبة لا يمكن تخطيها في وجه إقامة أية دولة عربية مستقلة إلى الغرب نهر الأردن."[12]

لا شيء من هذا يعمي بيغن – ولا أي زعيم من زعماء الليكود الآخرين – عن مزايا العمق الاستراتيجي الدفاعية. ولم تغير حرب الخليج هذا المنظور، على الرغم من أن خسائر إسرائيل فيها كانت طفيفة للغاية، فالخطر الأساسي على إسرائيل، كما يراه بيغن، لم يزل هو الهجوم البري الكثيف، الذي لا يمكن إلا أن تجعله صواريخ جو – أرض أشد وطأة.

لكنْ ليست هذه هي الحجة الأهم عند الصهيوني الأصيل، فيما يرى بيغن. "ففي وسع المرء طبعاً، إذا نظر إلى تلك الأجزاء من أرض إسرائيل التي حُررت في حرب الأيام الستة، أن يصفها من الناحية العسكرية بأنها 'عقد المواصلات، ومناطق للرصد، وممرات أساسية [لعبور القوات]'. لكن في وسعنا، ومن واجبنا أيضاً، أن نصفها على نحو آخر: فهذه هي الأودية التي مشى أجدادنا فيها؛ وهذه هي التلال التي باشر قضاتنا القضاء فيها؛ وهذه هي المدن التي ملك ملوكنا فيها؛ وهذه هي الأرض الصخرية التي داستها أقدام كهنتنا؛ وتلك هي الجبال التي من على قممها تكلم أنبياؤنا."[13]

فالأمن، بكلام آخر، ليس المفتاح الوحيد لفهم تفكير الليكود. إذ إن إحقاق حقوق مطلقة، وإعادة خلق التواصل الثقافي بالماضي، يحتلان مكانة لا تقل عن الأمن صدارة.

زد على ذلك أن زعماء الحزب، ولا سيما القادة العسكريين منهم، وإنْ كانوا ملتزمين جعل إسرائيل آمنة قدر ما هو مستطاع عسكرياً، فهم لا يعتقدون أن الأمن التام غاية يمكن بلوغها أصلاً. فهم يرون أن وضع الإسرائيليين، من حيث هم يهود محاطون بالأغيار [الأمم من غير اليهود]، وضع غير آمن في جوهره. فلا فارق، عند قادة الليكود، بين أعدائهم العرب وبين مهندسي الإبادة الجماعية من النازيين. وهكذا، كان في وسع مناحم بيغن الادعاء سنة 1982 أن البديل من قصف بيروت هو تريبلينكا [معسكر الاعتقال النازي]. كما كان في وسع قائد ليحي السابق يسرائيل إلداد، الذي بات اليوم صحافياً واسع الشعبية، الادعاء سنة 1988 أن "أبا جهاد ليس إلا صيغة فلسطينية لأدولف أيخمان [مهندس "الحل النهائي" للمشكلة اليهودية]."[14]  وكثيراً ما يردد يتسحاق شمير أن ما تعلّمه من الكارثة [الهولوكوست] هو ألاّ يثق بالأغيار أبداً.

أما تغير الزمان والمكان منذ أن وقعت تلك الحوادث المؤلمة، المشار إليها هنا، فالظاهر أنه لا يؤثر في مواقف الليكود، بل يبدو أحياناً كأنه يزيدها ثباتاً. ومن ذلك أن شمير لما سئل عن عدم حماسته للخطوات السورية تجاه إسرائيل، في تموز/يوليو 1991، أجاب حانقاً: "نحتاج إلى وقت للدراسة الوافية والتحقق والاختبار. نحن هنا في الشرق الأوسط، لا على برِّ الأمان...".[15]

السلام

              لقد كان اليمين الإسرائيلي دائماً على مستوى معين، أكثر واقعية في شأن ردة فعل جيرانه العرب، من الحركة العمالية وآمالها في سلام مبكر، على الرغم من تجريد الفلسطينيين من وطنهم. فمنذ سنة 1923، كتب جابوتنسكي: "إن عرب فلسطين لن يقبلوا بتحويل فلسطين العربية إلى بلد ذي أكثرية يهودية. وأنا لا أستطيع، عند تأملي الاستعمار في دول أخرى، أن أذكر حالة واحدة جرى فيها ذلك بموافقة السكان الأصليين. وسواء في ذلك أكان السكان الأصليون متمدنين أم غير متمدنين، وسواء أيضاً أكان المستعمرون متمدنين أم غير متمدنين، ولا قيمة لهذا ولا وزن له. فالأوائل لم يزالوا يقاتلون الثواني... والجدار الحديدي هو السبيل الوحيد للبقاء هنا."[16]

              لم يتسرب شيء من نظرة أكثر تفاؤلاً بالسلام إلى تفكير الليكود، إلا بعد توقيع اتفاقيات السلام الإسرائيلية – المصرية سنة 1982. والشعار السلبي القائل أن "الزمن إلى جانبنا"، ومعناه أن الدول العربية ستعترف بالتدريج بأرض إسرائيل، بات هو المعبّر عن الموقف العام في أوساط الليكود، وكأنه لم يعد ثمة حاجة إلى أن تفعل الحكومة الإسرائيلية أي شيء. وعندما سألت مجموعة من مساعدي بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، في كانون الأول/ديسمبر 1989، رئيس الحكومة شمير عن الخطوات التي ستخطوها إسرائيل من أجل حل نزاعها مع جيرانها، أجاب بأن لا مجال لأي مشروع إسرائيلي للسلام، لأنه ليس من شأن مشروع كهذا إلا أن يثير معارضة العرب.[17]

              لكن بحلول أيار/مايو من تلك السنة تقدم الليكود، بعد ضغوط أميركية، بخطة سلام تبنّاها شريكه  في الائتلاف الحكومي حزب العمل، ويمكن وصفها بأنها تعبِّر مع ذلك عن تفكير الليكود. وانطلاقاً من مقولة أن "إسرائيل تتطلع إلى السلام، وإلى استمرار العملية السياسية عن طريق المفاوضات المباشرة المستندة إلى مبادىء اتفاق كامب ديفيد"،[18]  كرّرت الوثيقة "لاءات" إسرائيل الثلاث: لا للدولة الفلسطينية، لا للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، لا لأي تغيير في أوضاع الضفة الغربية وغزة خلافاً لرغبة إسرائيل.

              ولا تشتمل الخطة على إشارة إلى النزاعات الإقليمية الجارية مع أي من الدول العربية، باستثناء الأردن. إن مكاسب إسرائيل المأمولة من العالم العربي تشتمل على: "الاعتراف؛ المفاوضات المباشرة؛ إنهاء المقاطعة؛ إقامة علاقات دبلوماسية وقف الأنشطة العدائية في المؤسسات والمحافل الدولية؛ التعاون الإقليمي والثنائي."

              إنها خطة تعبِّر، من حيث إصرارها على كون إسرائيل غير مضطرة إلى التنازل عن سيادتها الفعلية على أرض إسرائيل من أجل الحصول على اعتراف الدول العربية بها، تعبيراً صادقاً عن نظرة السيد شمير إلى العالم. ولم يغيِّر دخول سوريا عملية السلام شيئاً حتى الآن في هذه النظرة. "أود أن أرى نزاعاً مع العالم العربي يتحول إلى خلاف بشأن الحدود، وإلى تباين في وجهات النظر بالنسبة إلى الحدود... أنتم تعرفون آرائي. أنا لا أؤمن بالتسوية الإقليمية" – هذا ما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية في التلفزة الإسرائيلية بتاريخ 24 تموز/يوليو 1991.[19]

              ولا توجد أدلة تشير إلى أن السيد شمير يتوقع فعلاً من الدول العربية أن تشاطره آراءه. وقد شدد عوزي بنزيمان، المحرر السياسي لصحيفة "هآرتس" في قطعة كتبها في الصحيفة بمناسبة عيد ميلاد شمير الخامس والسبعين، على أن شمير لم يزل، خلافاً لبيغن، متمسكاً بـ"عدم الاعتقاد بإمكان السلام."[20]

وبينما يشعر شمير، بصفته زعيم بلده، بأنه مضطر رسمياً إلى النظر في خيارات السلام، يشعر بعض شخصيات الليكود الأصغر سناً بأنهم أحرار في إرخاء العنان لتشاؤمهم الحربي النزعة. وقد عبر بني بيغن عن مشاعر كثيرين غيره يوم خلص، بعد حرب الخليج، إلى القول: "إن جذور الصراع بيننا وبين أمة العرب، البالغ تعدادها مائتي مليون شخص، عميقة التغلغل تاريخياً ونفسياً. فما نسميه حبرون يسمونه الخليل، وما نسميه إشكلون يسمونه المجدل، وما نسميه أورشليم يسمونه القدس. ونحن لا نتعامل مع خلاف بشأن الحدود، بل مع صراع على الوجود...".[21]

ومن الجدير بالملاحظة أنه يجب النظر إلى هذه الآراء، مع ذلك، باعتبارها تمثل التيار المركزي في حكومة ائتلافية تدعو إلى "مبادلة السلام بالسلام"، علماً بأن وزير الزراعة فيها رفائيل إيتان قد صرح: "إذا كان الأسد يريد السلام فليعطني الأرض – لكن الواقع أنه لن يتنازل عن شيء، لأنه لا يحتاج إلى السلام كما نفهمه نحن."[22]

أهمية الأيديولوجيا

              مع أن تفكير الليكود لم يزل يتمحور حول فكرة مركزية هي الأرض، فإن أيديولوجية إسرائيل الكبرى ليست العامل الذي جاء بالليكود فعلاً إلى السلطة، وزعماؤه يعرفون ذلك. فلقد استطاع الحزب الخروج من الصقيع الذي نفاه إليه بن – غوريون، والرأي العام، بفضل تطورات ثلاثة غير مترابطة:

أ)  السجال بشأن التعويضات

في أول انتخابات إسرائيلية فاز بيغن بـ 11,5% من أصوات جمهور معادٍِ، في معظمه، لنوع الوطنية الذي يدعو إليه، وبدا أنه مقدر له أن يبقى مغموراً سياسياً، لولا أن شرع دافيد بن – غوريون، سنة 1952، في مفاوضات مع المستشار الألماني، كونراد أديناور، بشأن تعويضات الحرب الألمانية. وعندئذ احتج بيغن بأن "كل ألماني سفاح نازي، وأديناور سفاح"، ولا يمكن أن تقبل إسرائيل ديّة من قتلوا. وهكذا، وجد نفسه على رأس كل معارضي التعويضات. وقد أفلح في تنظيم تظاهرة مناوئة لألمانيا ضمن 70,000 شخص. ومع أن الكنيست أيد بن – غوريون، فاتحاً الباب بذلك أمام حصول إسرائيل على مليارات من الماركات الألمانية، فقد برز بيغن من مجاهل الحياة السياسية بشرعية جديدة، وجماعة جديدة من المؤيدين.

ب) حرب الأيام الستة

              كان قرار حكومة حزب العمل القيام بضربة "وقائية" ضد الدول العربية، في سنة 1967، أول ما أذاق بيغن طعم الحكم. ذلك بأن بن – غوريون استمر في التعامل مع حيروت ومع الشيوعيين، باعتبارهم خارج الحظيرة. لكن خلفه، ليفي إشكول، شعر بأن من الأسلم أن يشرك الآخرين في المسؤولية عن المغامرة. وهكذا، قبل الحرب بفترة وجيزة، عين بيغن الذي كان يسيطر على 26 مقعداً من مقاعد الكنيست الـ 120، وزير دولة. وقد استقال بيغن من الحكومة سنة 1970، احتجاجاً على مشروع روجرز. لكنه أصبح منذ ذلك الحين شخصية سياسية محنّكة.

ج) الفساد في حزب العمل

فاز الليكود في انتخابات سنة 1977 بفضل فضيحة ارتشاء. فقد كان مؤيدو حزب العمل قد هجروه في إثر سلسلة فضائح فساد، وانضموا إلى الحركة الديموقراطية من أجل التغيير – وهي تجمع جديد لم تكن لديه سياسة حيال العرب – وقد جنى الليكود ثمار هذا الوضع.

وقد أتاح تضافر هذه الأوضاع لليكود أن يفوز بحصة كبيرة من أصوات الناخبين – 33%، أي 43 مقعداً من أصل 120 – كانت كافية لإزاحة حزب العمل [عن الحكم]. إلا إن قاعدة الليكود الانتخابية لم تعد، بعد سنة 1977، مستندة فقط إلى القوميين العلمانيين المتعصبين لإسرائيل الكبرى ممن خلقوه، بل إلى خليط من الناخبين. ويتراوح هؤلاء بين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة ممن نجو من الكارثة [الهولوكوست]، ومن اليهود الشرقيين الفقراء الناقمين على أعوام من فساد حزب العمل، وبين ضرب حديث من القوميين ذوي النزعة الصوفية وشبه الدينية. أما ما يجمعهم أكثر من اي شيء آخر، فهو فكرة متينة بات الليكود يمثلها اليوم: فكرة "القوة والعزة اليهوديتين".

لجنة الليكود المركزية

              أول ما أظهر إمكان التباين الشديد في الأولويات بين زعماء الليكود ومؤيديه، كان سلسلة من استطلاعات الرأي أُجريت في آب/أغسطس 1991. فقد دلت على أن أكثر من نصف ناخبي الليكود – ومثلهم من أعضاء لجنته المركزية – يميلون إلى الإقدام على تنازلات إقليمية، وهذا ما ساق بن درور يميني إلى الكتابة في صحيفة "معاريف" الموالية لليكود:

ثمة شيء من الخلاف في شأن النسبة المئوية الحقيقية. لكن التوجه العام واضح: فالأغلبية العظمى من الليكوديين مستعدة للتنازل عن قطاع غزة غداً، وحتى بحسب صيغة يوسي ساريد. وأقل من هؤلاء قليلاً مستعد أيضاً للمساومة بشأن ميراثنا في يهودا والسامرة. وكيفما نظرنا إلى القضية، فالليكوديون لا يتماثلون مع [آراء] الليكود؛ فهم يعتقدون أن الليكود سيكون أكثر حرصاً [من حزب العمل على المحافظة على مصالح إسرائيل] بسبب سياسته النشيطة في مجالي شؤون الأمن والمسائل الوطنية. لكنه، مع ذلك، سيوافق على الصلح. وهم لا يبكون عندما يسمعون الخطب الحماسية عن الحقوق التاريخية، ولا تقض مضاجعهم الانحرافات عن خط البيان السياسي للحزب. إنهم يريدون السلام، لكن من موقع القوة، ويعتقدون أن خير من يحقق لهم ذلك هو الليكود.[23]

وقد أُجري مسح للآراء أشمل تفصيلاً في الأسبوعين الثالث والرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1991، أي بعد مؤتمر مدريد، فجاء بنتائج تعزّز هذا الانطباع. لكنه ألقى أيضاً أضواء كاشفة على تعقيد المسألة. ذلك بأن معهد "داحف" [للاستقصاءات]، الذي يتمتع بسمعة حسنة، أجرى مقابلات مع 503 من أعضاء لجنة الليكود المركزية، لمعرفة آرائهم، فوجد لديهم درجة مدهشة من المرونة.

جواباً عن السؤال: هل يوافقون على تسوية إقليمية "في حال استطاع الفلسطينيون البرهنة على أنهم يريدون السلام الحقيقي"؟، قال 49% من المستفتين نعم، و46% لا، وقال 13% إنهم مستعدون للقبول حتى بإقامة دولة فلسطينية "إذا ما تبيّن أنها العقبة الأخيرة أمام السلام.

لكن لمّا كانت الأغلبية العظمى من أعضاء اللجنة المركزية قد ظلت على ارتيابها إزاء حقيقة نيات الفلسطينيين، فإن الحل الذي تود أن تعتمده إسرائيل إنما هو حل مختلف: 73% أيدوا الحكم الذاتي، ومال معظم هؤلاء إلى جعله حلاً دائماً.

وقد علَّقت صحيفة "يديعوت أحرونوت" اليومية، التي نشرت الاستطلاع في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1991، على ذلك قائلة: "في وسعنا أن نستخلص عبراً عدة من هذه النتائج: لجنة الليكود المركزية تؤيد عملية السلام؛ لأعضائها في معظمهم آراء معتدلة نسبياً، ولا يتبنون آراء الصقور المتطرفة؛ معظمهم أيضاً يقارب الأمور من وجهة نظر الأمن، لا من وجهة نظر أيديولوجية. لكن معظم الأعضاء ما زال يجد صعوبة في الاقتناع بأن الفلسطينيين يسعون فعلاً للتعايش السلمي مع إسرائيل."

هذا اللون من التفكير المتناقض، والمنحرف عن عقيدة الليكود الأصلية، هو ما ستضطر قيادة الحزب إلى أخذه في الاعتبار من الآن فصاعداً – هذا على الأقل إنْ كانت راغبة في أن تنتخب ثانية.

خاتمة

الأيام تتغير، وربما كان حزب الليكود الإسرائيلي يتغير معها. لا يزال الحزب الذي يحكم إسرائيل الآن متمسكاً منذ قرابة السبعين عاماً بالبند الرئيسي في أيديولوجيته، وهو التزام تحقيق إسرائيل الكبرى، وذلك في وجه التشكيك اليهودي أولاً، ثم في وجه الضغوط الخارجية لاحقاً. وعلى الرغم من أن اعتقاد الليكود العلماني بحق اليهود التاريخي في أنحاء البلد كافة – والمبني ضمناً على حق إلهي، وإلا فما سبب الاحتجاج به بعد 2000 عام؟ - يبدو غير متماسك إلى حد ما، فإن تصريحات قادة الحزب السياسية لا تفتقر إلى التماسك. وبالنظر إلى ولائهم لعقيدة تعتبر الأرض حقاً مطلقاً [لليهود]، فمن غير المتوقع أن يستجيبوا لأية مبادرة سلام عربية واقعية.

ومع ذلك فإن الليكود، وارث بيتار وحيروت، ليس جامداً تماماً من الناحية العملية. فقد تبنى أفكاراً جديدة مع مرّ الأعوام، ولا سيما أهمية الاستيطان، ونبذ فعلياً (de facto) فكرة قديمة أو اثنتين، مثل حق إسرائيل المطلق في الأردن. وقد تخلّص منذ مدة طويلة من تحريمه دخول التنازلات الإقليمية. ومن ذلك أن مؤتمر مدريد يُنظر إليه في إسرائيل باعتباره جزءاً من تطور أعم، لا انطلاقة جديدة كل الجدة.

ولعل الأهم في هذه التغيرات أن الليكود قد اكتسب قاعدة انتخابية جديدة، مختلفة جداً في طبائعها عن اليهود البولنديين المتشائمين، الذين تقاطروا للانضمام إليه. وهذه القاعدة الانتخابية الجديدة تسيطر اليوم على أهم هيئات صنع القرار في الحزب، كما أن آراءها أخذت تصطدم بصورة متسارعة بالحرس الليكودي القديم الذي ما زال قوي النفوذ.

كذلك، فإن وضع إسرائيل في المنطقة تغيّر هو أيضاً إلى حد لا يكاد العقل يصدقه، ولا سيما في السنوات الأخيرة فقد بات في وسعها كدولة شرق أوسطية أن تقيم مع العالم العربي علاقات ما كان جابوتنسكي ليجرؤ حتى على أن يحلم بها. وقد دلّ قرار مناحم بيغن، سنة 1982، بالانسحاب من سيناء وتدمير المستوطنات الإسرائيلية التي كانت قائمة فيها، على أن الليكود قادر – في بعض الأحوال – على استيعاب تطورات كهذه. والنقاش الجاري الآن في إسرائيل بشأن مرتفعات الجولان يؤكد هذا الانطباع.

ومع ذلك، ففي أوضاع مطلوب فيها من إسرائيل أن تنسحب من مناطق أخرى "تاريخية"، فإن ميل قادة الليكود هو إلى استجابة من نمط المنعكس الشرطي: إنهم يستلُّون فوراً التوراة والسلاح.

وقد أشار المراقبون إلى أن هذا يثير مشكلة معينة. فإذا كان مثل هذا النمط من السلوك شائعاً بين المؤمنين الحقيقيين، فهو لا يليق بالضرورة بالحزب الحاكم في إسرائيل. فالليكود، كما كتب ماريوس شاتنر في تأريخه لليمين الإسرائيلي، "بات أكثر تنوعاً وجذرية، وتشبع إلى حد ما بلون من الصوفية كان غريباً عنه في ما مضى من زمنه. لكنه أصبح، مع ذلك، حزب الحكومة الذي لا بد له من النظر إلى أساطيره على هدي سلطته الحقيقية."

والعامل الذي قد يحمل الليكود على أن يقول بذلك، فعلاً، هو الرغبة الحقيقية في السلام بين صفوف الإسرائيليين، وضمنهم قواعده الانتخابية وأعضاء فروعه. فبينما كان الليكود، فيما مضى، يستمد قوته من صراحته في التزامه تجاه الأرض، فإن موطن ضعفه لم يزل عجزه عن تقديم حل للنزاع العربي – الإسرائيلي.

إن نصف ناخبي الليكود وأكثر يطالبون اليوم صراحة بحل كهذا؛ حل يعرفون حق المعرفة أنه سيقود إلى انسحاب من أرض إسرائيل، ويبدون مع ذلك مستعدين لتحمل ما يترتب على هذا الانسحاب من تناقض أيديولوجي.

إن كون الدعم المحدود – مهما يكن محدوداً – لهذه الفكرة داخل قيادة الحزب قد بات يأتي من الساسة الأشد قرباً إلى القواعد الحزبية، يدل على إمكان وجود أصوات إلى جانب المرونة.

لكن تبقى العوائق في وجه تغير كهذا هائلة. إن من شأن أية تسوية إقليمية حقيقية يقدم السيد شمير عليها أن تجرِّد الحزب من هويته؛ فهو لا يمثل، في شكله الحالي، شيئاً غير إسرائيل الكبرى النزَّاعة إلى الحرب.

ليس من ضرورة تدعو إلى بقاء الحال على هذا المنوال. فمن الممكن أن يُعدَّل موقف الليكود من الضفة الغربية وغزة تعديلاً شكلياً، كما حدث لموقف الحزب من الأردن، وأوجهه الاقتصادية. لكن هذه المهمة ما زالت في أوائل عهدها من اجتذاب المتطوعين واستهواء أي من عقول الحزب النيّرة. فقادة الليكود لا يتدافعون حقاً في التزاحم على دور أكثر منظّري الحزب اعتدالاً، حتى بعد مؤتمر مدريد.

يبقى الليكود في الوقت الحاضر، إذاً، ما يريده قادته أن يكون – حزب إسرائيل الكبرى "التاريخية" غير القابلة للمساومة. بل من الجائز أن يكون موقف السيد شمير الشخصي قد ازداد صلابة في إبان مؤتمر مدريد. فقد قال، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "هآرتس" في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1991: "لا مجال للتنازل عن الأراضي. أين سنكون إذا ما قدمنا التنازلات؟ الكل يريد أراضي منا، حتى ليخيل للمرء أننا قارة عظمى... لقد أعطانا وعد بلفور وطناً على ضفتي نهر الأردن."

إن مثل هذه الكلمات العاطفية قد نجح من قبل في توحيد صفوف المواطنين المترددين والمتعبين من الحرب، تحت راية السيد شمير. لكن الأصوات المتصاعدة من صفوف الليكود اليوم باتت تدلّ على وجود رغبة في شيء آخر، في نظرة أكثر عصرية وأوضح توجهاً نحو السلام. إن ما يريده أكثر أنصار الليكود حمائمية ربما ظل بعيداً جداً عن تلبية طموحات الفلسطينيين، لكنه بعيد بُعد عمر من الزمان عن آراء فلاديمير جابوتنسكي.

شباط/فبراير 1992

 

* باحثة في الشؤون الإسرائيلية، ورئيسة تحرير نشرة Israeli Mirror الصادرة في لندن.

[1]  Marius Schattner, Histoire de la Droite Israelinne (Editions Complexe, 1991).

[2]  Ibid.

[3]  مناحم بيغن، "في العمل السري" (بالعبرية)، (تل أبيب: مطبوعات هدار، 1987).

*  مصطلح "إرتس يسرائيل هاشليماه"، الذي يعني أرض إسرائيل الكاملة. أما عبارة "إسرائيل الكبرى" (Greater Israel) [الشائعة الاستعمال]، فلا معنى لها في العبرية. والذين يريدون الإشارة إلى إسرائيل ضمن حدود ما قبل سنة 1967، يستعملون عبارة "مِدينات يسرائيل" التي تعني: دولة إسرائيل.

[4]  "يديعوت أحرونوت"، 25/6/1991.

[5]  Schattner, op.cit.

[6]  "يديعوت أحرونوت"، 11/10/1991.

[7]  "معاريف"، 2/8/1991.

*  ورد في سفر التثنية (4: 43) أن النبي موسى أفرز ثلاثة مدن "في عبر الأردن نحو شروق الشمس لكي يهرب إليها القاتل الذي يقتل صاحبه بغير علم وهو غير مبغض له منذ أمس وما قبله. يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا. باصِر في البرية في أرض السهل للرأوبينيين وراموت في جلعاد للجاديين وزجُولان في باشات للمِنَسِّيين." (المترجم)

[8]  شلومو أفينري، "جذور في أوروبا الشرقية"، "هآرتس"، 18/5/1990.

[9]  The Autobiography of Vladimir Jabotinsky (Keter, 1936).

[10]  Menahem Begin, The Revolt (New York: Dell Pub. Inc., 1978).

[11]  "حرب الخليج" (مجموعة مقالات بالعبرية عن حرب الخليج)، القدس، 1991.

[12]  المصدر نفسه.

[13]  المصدر نفسه.

[14]  "يديعوت أحرونوت"، 4/4/1988.

[15]  يتسحاق شمير في مقابلة أجراها معه برنامج "موكيد" في التلفزة الإسرائيلية، بتاريخ 24 تموز/يوليو 1991.

[16]  Schattner, op.cit.

[17]  "هآرتس"، 13/1/1989.

[18]  خطة سلام الحكومة الإسرائيلية، 15 أيار/مايو 1991.

[19]  يتسحاق شمير في مقابلة متلفزة، مصدر سبق ذكره.

[20]  "هآرتس"، 2/11/1990.

[21]  "حرب الخليج"، مصدر سبق ذكره.

[22]  "معاريف"، 2/8/1991.

[23]  المصدر نفسه، 1/8/1991.