الشريط الحدودي في لبنان الجنوبي: نظرة محلية
كلمات مفتاحية: 
الحرب الأهلية في لبنان 1975-1990
جنوب لبنان
شريط حدودي
درع أمني
العلاقات الفلسطينية - اللبنانية
تهديد لبنان
نبذة مختصرة: 

تستند الدراسة إلى سلسلة من المقابلات أجرتها ليندا بتلر مع الكاتب في حزيران/ يونيو 1991. وهي تشتمل على العناوين الفرعية التالية: الوجود العسكري الفلسطيني؛ الحرب الأهلية؛ الاجتياحات الإسرائيلية وتعزيز "الحزام الأمني"؛ الحزام الآن؛ عالم من الالتباسات. ويخلص إلى أن اللبنانيين يبدون متفائلين في شأن فرص التسوية السياسية في بعض الأحيان، ومحبطين في البعض الآخر.

النص الكامل: 

إذا أردنا أن نفهم ما جرى لذاك الجزء من لبنان الجنوبي، الذي أصبح "الحزام الأمني"، وجب أن نعود إلى مأساة فلسطين سنة 1948. فلقد طُرد، أو فرّ، الألوف من الفلسطينيين في ذلك الحين عبر الحدود إلى لبنان، وكان معظمهم من منطقة الجليل. وكان لسكان لبنان الجنوبي، المسيحيين منهم والمسلمين، علاقات تقليدية وثيقة في مجالات العمل والتجارة والصداقة، وحتى التصاهر، بسكان فلسطين الشمالية. بل إن معرفتهم بمدينتي حيفا وعكا كانت لا تزال أوثق من معرفتهم ببيروت. أما الأسواق الأسبوعية في لبنان الجنوبي – وكانت تباع فيها، لا المنتوجات الزراعية فحسب، بل المصنوعات المحلية أيضاً – فكان من أسباب ازدهارها الزبائن الفلسطينيون، بينما كان عدد من اللبنانيين يعمل أو يتعاطى التجارة الصغيرة في شمالي فلسطين، وقد استوطن البعض منهم حيفا وعكا. وكانت إحدى النتائج غير المتوقّعة لقيام إسرائيل تشجيع المزيد من التكامل الوطني في لبنان، من خلال إعادة توجيه النشاط الاقتصادي في الجنوب نحو الشمال. أما هجرة أهل الريف من الجنوب، فقد بدأت هي الأخرى على نطاق واسع بعد سنة 1948، وذلك بسبب ما أسفر عنه ضياع فلسطين في المجال الاقتصادي، لجهة فرص العمل وحركة الأسواق.

وقد كان لمأساة فلسطين تأثير عميق في سكان لبنان الجنوبي. وعندما وصل الفلسطينيون لاجئين، وجد كثيرون منهم العون والمأوى بين ظهراني السكان المحليين. وعلى الرغم من إنشاء عدد من المخيمات في الجنوب، فإنه لم يظهر أي مخيم في المنطقة الحدودية التي تمتد من العرقوب في الجبال الشرقية إلى جوار صور على شاطىء البحر. لكن الألوف من المعدمين الفلسطينيين استوطنوا هذه البقعة من الأرض، وعملوا في الغالب في الزراعة، وخصوصاً في زراعة التبغ. وعلى سبيل المثال، استوطن المئات من الفلسطينيين بلدتي، بنت جبيل، حيث كانت لهم علاقات طيبة بالسكان، حاشا ما نلحظه في العادة من توتر بين العائلات والعشائر.

لكن في الخمسينات، ولأسباب أمنية، ومن أجل الحد أيضاً من عمليات التهريب التي كانت قد نشطت بين الجليل ولبنان الجنوبي بعد قدوم اللاجئين، اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بنقل الفلسطينيين من المنطقة الحدودية، ومنعتهم من الوصول إلى القرى القريبة من الحدود إلاّ بتصريح عسكري. وكان من المفترض، في المبدأ، ألا يستوطنوا سوى تلك القرى التي كانت تبعد عشرة كيلومترات عن الحدود، أو نحو ذلك. وما زلت أذكر أنني شاهدت، وأنا صبي، الفلسطينيين يغادرون بلدتنا قاصدين الاستيطان في منطقة صور.

وبين سنة 1948 وسنة 1968، كانت المنطقة هادئة إجمالاً عدا بعض عمليات القضم التي مارستها إسرائيل على الحدود، إذ كانت تزيح العلامات الحدودية عشرين متراً هنا وخمسين هناك، وتتعدى على الأراضي الزراعية، من دون تمييز بين المسيحيين والمسلمين، غير أنه لم تقع حوادث عنف تذكر 

الوجود العسكري الفلسطيني

              بدأت الغارات التي شنّتها المقاومة عبر الحدود اللبنانية – الإسرائيلية على نطاق ضيّق قبل حرب حزيران/يونيو 1967. لكن بدايات التنظيم العسكري الفلسطيني تعود إلى المرحلة التي تلت تلك الحرب، حين غادر الفلسطينيون مخيماتهم، وبدأوا إنشاء القواعد في المناطق المتاخمة للحدود، فأدى هذا الأمر إلى اضطراب علاقتهم بالجيش اللبناني وإلى صدامات عدة بينهم وبينه. ثم أدى، في نهاية المطاف، إلى اتفاقية القاهرة في تشرين الثاني/نوفمبر 1969، وهي التي منحت الحق في واقع الأمر للفلسطينيين في شن العمليات على إسرائيل من الأراضي اللبنانية.

              وهكذا عاد الفلسطينيون، مع نهاية الستينات، ليدخلوا المنطقة التي فرض عليهم مغادرتها قبل ذلك بعقد وبعض العقد من السنين. وعادوا هذه المرة بزيّ عسكري، وبصفتهم أعضاء في منظمات مسلحة، لا لاجئين مع عائلاتهم. والجدير بالذكر أنهم لم يحاولوا إقامة قواعد لهم في القرى المسيحية، كما أنهم لم يستوطنوا القرى المذكورة، في سنة 1948. بل هم ثبّتوا قواعدهم في الغالب في منطقة العرقوب السنيّة، وهي التي أطلقت عليها الصحافة العالمية فيما بعد اسم "أرض فتح". كما أنهم أقاموا، على نطاق أضيق، قواعد لهم في المناطق الشيعية حول الطيبة والخيام وفي نواحي مرجعيون وفي جوار بنت جبيل.

              ولم يكن من المستغرب أن يلقى هذا الوجود الفلسطيني الجديد تأييداً من الجانب القابل للتعبئة من السكان، وهو طبعاً الأقلية. غير أن هذا الوجود اكتسب أيضاً بعض الشعبية في صفوف الجمهور الذي كان آنئذ تحت تأثير التيار القومي العربي المضطرم. ولا جدال في أن السكان المحليين قبلوا مبدأ الكفاح الفلسطيني، بعد أن كانوا شهدوا بأم العين أطوار مأساة فلسطين، وشاركوا في مرارة هزيمة سنة 1967. لكنهم، على الرغم من المشاعر الطيبة حيال القضية الفلسطينية، فقد كانوا في معظمهم يعارضون الوجود العسكري الفلسطيني في المنطقة. إذ كانوا يرون في هذا الوجود خطراً عليهم، وكان طبيعياً أن الجمهور المنغمس في هموم يومه بدا أميل إلى حفظ استقرار الوضع القائم، مهما يكن سيئاً، منه إلى مخاطر المغامرات غير المضمونة العواقب. وبدا أيضاً أن هذا الجمهور لا يصير قابلاً للاستنفار إلا إذا تولت أمر استنفاره سلطة لا جدال في شرعيتها، أو استنفره غياب واضح لمثل هذه السلطة. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين وحلفاءهم المحليين كانوا يحتوون على بذرة لمثل تلك السلطة، فإنها لم تكن تملك إمكانات نموّ تؤهلها لتعبئة جمهور السكان. من جهة أخرى، كانت القوة الوحيدة القادرة على التصدي للظاهرة العسكرية المتفاقمة هي قوة الجيش اللبناني. بيد أن الناس، في معظمهم، كانوا يرون فيه أداة في يد دولة مركزية فاسدة، ومنحازة، وغير آبهة لمصير المناطق الحدودية.

              وبسبب من فقدان الشعبية، فإن الجيش الذي كان المسيحيون يسيطرون على مراكزه القيادية، لم يكن في وسعه أن يحشد حوله المعارضين للوجود العسكري الفلسطيني في المنطقة. كذلك، فإن الموازين التقليدية للنظام السياسي اللبناني، مع ما داخلها من قلق إزاء ردات الفعل الشعبية في بيروت وغيرها من المدن البعيدة عن منطقة الحدود، حدّت من دور السلطة المركزية وأدت إلى إصابة الجيش بما يشبه الشلل. أما الزعماء المحليون التقليديون، الذين كانوا يرتبطون بدوائر الحكم بدرجات متفاوتة، فقد أصابههم الشلل هم أيضاً، وأصبحوا تحت رحمة الوجود الفلسطيني المسلح.

              وأدى التنافس بين النُخب المحلية، ومعه قراءتها لموازين القوى الجديدة، إلى توجه البعض منها نحو طلب الرعاية من المنظمات الفلسطينية؛ هذا بينما لاذ البعض الآخر منها بالصمت. وكان هذا الوضع هو الذي منع، في الغالب، ظهور مشاعر السكان المحليين الحقيقية، وهي كانت مشاعر دقيقة ومعقدة، في مقاربتها لهذا الوضع الجديد.

              وفي الوقت ذاته، كان الفلسطينيون ينجرّون نحو التناقضات المحلية. فالمنظمات اليسارية والوطنية اللبنانية، أي الشيوعيون ومنظمة العمل الشيوعي والبعث وحركة القوميين العرب وما إليها، كانت تتنافس فيما بينها من أجل رقعة نفوذها المحدود نسبياً في المنطقة، على حساب الزعماء التقليديين. لكن في حين أصبحت هذه المنظمات اللبنانية، بفضل السلاح والدعم من الفلسطينيين، أقوى نفوذاً وأكثر سطوة، فإنها غدت في الوقت ذاته أكثر عزلة عن الكتلة الشعبية الأساسية. فهذه باتت ترى في التنظيمات المذكورة خطراً على بنيان السلطة التقليدي في القرى، وبالتالي على الاستقرار السياسي.

              نضيف هنا أن الفلسطينيين لم يتصرفوا على الدوام تصرفاً حكيماً في هذا المجال، فبدلاً من التوجه مباشرة إلى السكان عامة، راح يتزايد اعتمادهم على حلفائهم المحليين.

              في هذه الأثناء، لم يبق الإسرائيليون مكتوفي الأيدي وهو يرون الفلسطينيين ينمّون وجودهم العسكري، ويبدأون شنّ العمليات عبر الأراضي اللبنانية، بل باشروا شنّ الغارات على المخيمات الفلسطينية نفسها أولاً، ثم على القواعد العسكرية المقامة بعيداً عن المخيمات، وخصوصاً في منطقة العرقوب. وكانت هذه الاعتداءات تشتمل في الغالب على قصف مدفعي، وأحياناً على الغارات الجوية. ولم تقع أولى المعارك البرّية إلا في أيار/مايو 1970؛ وهذه كانت معركة العرقوب التي ما زالت ذكراها حيّة في المنطقة بسبب المقاومة التي جرت هنالك. (وكان التكتيك الفلسطيني إجمالاً هو الانسحاب وقت الهجوم عوضاً من مجابهة إسرائيل مع عددها وعتادها المتفوقين).

              بعد ذلك التاريخ بشهر تقريباً، قصفت إسرائيل بلدة بنت جبيل، وهي من أكبر بلدات المنطقة، فسقط عدد من السكان المدنيين بين قتيل وجريح. ومنذ ذلك التاريخ، تصاعدت الاعتداءات على القرى من خلال الغارات الجوية والهجمات البرية الهادفة إلى قتل الفدائيين أو أَسْرهم. وفي أيلول/سبتمبر 1972، جرى اجتياح محدود فدخل الجيش الإسرائيلي الجنوب بقوات كبيرة، رداً على قتل الرياضيين الإسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ. وقد بقيت القوات الإسرائيلية أربعين ساعة، ثم انسحبت بعد أن قتلت نحو 140 شخصاً، بينهم 80 مدنياً. وقد أغار الإسرائيليون، في الغالب، على الفلسطينيين أو على اللبنانيين الذين زعموا أنهم على صلة بهم، لكنهم كانوا بين الحين والآخر يقومون بعمليات لا هدف لها سوى إرهاب السكان المدنيين، وحملهم على الاعتراف بثمن القبول بالوجود الفلسطيني.

              وتحت تأثير القصف الإسرائيلي والضحايا بين صفوف المدنيين، بدأ التعاطف المحلي، أو ما تبقى منه، مع الفلسطينيين والمنظمات اللبنانية بالتلاشي. ومع استمرار الغارات الإسرائيلية، بدأ أهل القرى بالضغط على المنظمات الفدائية بغية حملها على الانسحاب من قراهم. وأخيراً، وفي أوائل سنة 1972، طلبت الحكومة اللبنانية من الفلسطينيين، وبعد تلقيها عدة عرائض من قرى الجنوب، الانسحاب من المناطق الآهلة. ولم يتقيّد الفلسطينيون بهذا الطلب إلا جزئياً، فاتجهوا إلى البقاء في القرى ذات الأهمية الاستراتيجية، أو حيث كان للمنظمات اليسارية والوطنية وجود على درجة كافية من القوة. وحتى المواقع التي انسحبوا منها، تمركزوا في مواقع محاذية لها، بحيث أضحت القرى "التي تم الانسحاب منها" تقع في "زنّار من نار" لأن الإسرائيليين كانوا يقصفون المناطق المحيطة بها قصفاً عنيفاً، ليلة في إثر ليلة.

              هكذا إذاً، عند أواسط السبعينات، كانت العلاقات بين الفلسطينيين والسكان المحليين قد تدهورت، وكان السبب الرئيسي القصف الإسرائيلي وما تعرض له السكان المدنيون من عقاب. أما السبب الثانوي، فكان تمزيق البنى التقليدية في القرى بسبب دعم الفلسطينيين للأحزاب اليسارية والوطنية ضد الزعماء.

              بالإضافة إلى ذلك، كان الاضطراب الذي يصيب الفلسطينيين من جراء التغيّر في مشاعر السكان نحوهم، يفضي إلى زيادة الوضع سوءاً، إذ يحملهم على اعتماد أسلوب متسلّط في التصرف زاد كثيراً في غضب الناس. فهم كانوا يقيمون الحواجز، ويتحكمون في تحركات الناس "لأسباب أمنية". وبسبب من كل هذه الأمور، فقد الفلسطينيون الجزء الأكبر من الدعم في صفوف الأهالي. وذاك أمر يجب أن نعيه كي نفهم ما حدث بعد سنة 1975.

الحرب الأهلية

              اندلعت الحرب في لبنان في نيسان/أبريل 1975، غير أن الجنوب بقي هادئاً نسبياً مدة تزيد على العام. والواقع أن الجنوب تأثر في المراحل المختلفة من هذه الحرب، واتخذ ذلك التأثر – في الغالب – صورة تضخُّم القرى ثم انكماشها مرة بعد مرة. فقد كان عدد أهل هذه القرى، الذين كانوا يسكنون في بيروت وضواحيها، يوازي عدد من بقي منهم في قراه. وكان معنى هذا أنه كلما تجدد العنف تدافع الألوف من المهجرين إلى قراهم طلباً للأمان، ثم عادوا أدراجهم من جديد إلى بيروت في أوقات الهدوء.

              وانتهت هذه المرحلة الهادئة نسبياً في الجنوب في صيف سنة 1976، وبدأت مرحلة حاسمة فيما يختص بإنشاء "الحزام الأمني" لاحقاً. ففي أوائل آب/أغسطس، وقبل أسبوعين أو أقل من سقوط مخيم تل الزعتر الفلسطيني، دهمت القوات المسيحية اليمينية ضواحي بيروت الشمالية المكتظة بالشيعة، أي النبعة والدكوانة وبرج حمود، وطردت أهاليها وسقط كثير من الضحايا. وكانت الهجرة نحو الجنوب تذكّر بقيام الساعة؛ فقد شملت عشرات الألوف من المهجرين، وكانت النبعة وحدها تؤوي 200,000 نسمة معظمهم من الجنوب، وهم تدفقوا على قرى لم تكن مهيأة لاستقبالهم. ففي بنت جبيل، على سبيل المثال، تضخم عدد السكان – وهو في العادة ما بين 12 ألفاً و13 ألفاً من المقيمين – ليبلغ 24 ألفاً في غضون شهر، وهو ما أسفر عن مشاهد مروّعة كوجود خمسين شخصاً في بيت ذي غرفتين، وأشخاص ينامون على السطوح وفي الحدائق وعلى الشرفات، وفي كل مكان تقريباً. وما زاد في مرارة الوضع، الاعتقاد السائد أن المنظمات الفلسطينية وحلفاءها اللبنانيين الموكّلين الدفاع عن هذه الضواحي، لم يدافعوا عنها حقاً في إبّان الهجوم الأخير؛ فازداد أيضاً شعور الناس بأنهم خذلوا من جانب قوى كان يُنظر إليها في الماضي على أنها حامية لهم.

              وبينما كانت القرى الشيعية تنوء بمن تدفق إليها من المهجّرين، برزت ظاهرة أخرى كان لها أبعد الأثر في رسم مستقبل المنطقة، وهي تدفق مئات من الجنود المسرّحين الذين أخذوا يعودون إلى قراهم المارونية الحدودية بعد تفسّخ الجيش اللبناني طائفياً؛ وهو أمر بدأ يحدث في أوائل سنة 1976. وكان ثمة عدد من هذه القرى ينتشر على طول الحدود، منه علما الشعب في الغرب، ودبل وعين إبل والقوزح ويارون ورميش في الوسط، والقليعة ومرجعيون في الشرق. وهذا القرى الزراعية في معظمها، والفقيرة في الغالب، كانت تتميز بالأعداد الكبيرة من شبّانها الذين كانوا يخدمون في الجيش. والواقع أن أغلبية جنود الجيش اللبناني كانت تنتمي إلى المناطق المحرومة في الأطراف. وفيما يختص بالمسيحيين، كان هذا يعني مناطق عكار في الشمال، والبقاع الشرقي، وقرى الجنوب الأقصى. وقد زاد في توجه هذه القرى نحو التعسكر ظهور قوة مساندة، معادية ضمناً للفلسطينيين – هي "أنصار الجيش" – إلى الوجود قبل اندلاع الحرب الأهلية. وعقب استيلاء جيش لبنان العربي بقيادة أحمد الخطيب على الثكنات، عاد الجنود المسلحون الغاضبون إلى قراهم، وكانوا قد بلغوا آنئذ درجة عالية من التسيّس والانغماس في الطائفية، بل في غلو التعصف، وذلك في خضم الاستقطاب المتصاعد من جراء الحرب. فقد كانوا يشعرون بالمرارة حيال الفلسطينيين، وهم القوة الضاربة العظمى في صفوف المعسكر المواجه، وحيال حلفاء الفلسطينيين من لبنانيين كانوا مسؤولين، في نظرهم، عما شهده الجيش من عصيان.

              هذه، إذاً، هي خلفية التدخل الإسرائيلي المتفاقم والذي أخذ يزداد جرأة وعدوانية على أكثر من صعيد. في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، كان الإسرائيليون قد شرعوا في استغلال ظاهرة الاختلال الطائفي في المنطقة الحدودية، وحاولوا إقامة شبكة من المخربين من المسيحيين والمسلمين. لكن هذه الجهود بقيت محدودة جداً، ولم تعمد إلى لعب ورقة الطائفية جدياً إلا بعد اندلاع الحرب الأهلية.

              فكان أن سعت أولاً لتطبيق سياسة "الجدار الطيب"، التي كانت تستهدف القرى المارونية في المكان الأول، وإنْ لم تكن محصورة بها؛ فوُزِّع الغذاء والمؤن، وقُدمت الخدمات الطبية الطارئة للمهجّرين، وقُبل بعض المرضى اللبنانيين في المستشفيات، وذلك بعد انهيار الخدمات الطبية اللبنانية. وسرعان ما أُعطي بعض الفراد، من هذه المنطقة المحطّمة اقتصادياً، الإذن في العمل داخل إسرائيل.

              على صعيد آخر، كثّف الإسرائيليون اتصالاتهم بالقرى المارونية الحدودية. وكانت القرى المذكورة تعيش، حتى ذلك الحين، بسلام مع جيرانها المسلمين، فيتبادل أهلها الزيارات في المآتم وأيام التعزية، كما في الأفراح والأعياد الدينية. وأذكر وأنا فتى في بنت جبيل، كيف كان الشباب يمشون إلى قرية عين إبل المجاورة لاحتساء كأس من الجعة (التي كانت ممنوعة في القرى الشيعية)، وللتفرّج  على الصبايا يتمشّين على طرقات القرية في أماسي الصيف. وعلى الرغم من أن المسيحيين بدأوا يشاطرون أصدقاءهم الشيعة وزعماء الشيعة المحليين مخاوفهم من الوجود العسكري الفلسطيني المتعاظم، فإن العلاقات بين الطائفتين بقيت ممتازة على امتداد العام الأول من الحرب.

              وسرعان ما اتضح أن إسرائيل كانت تهدف إلى سلخ القرى المارونية عن محيطها الإسلامي. ولم تكن أية قرية منها تبعد أكثر من ثلاثة كيلومترات عن الحدود، الأمر الذي سهّل أعمال التموين والتسليح لفتح جبهة جديدة ضد الفلسطينيين. ومن أجل تطبيق هذه السياسة، كانت إسرائيل تعمل من خلال حزب الكتائب، الذي كانت تسانده سراً منذ بدء الحرب. وكان للحزب المذكور وجود محدود في كل قرية من هذه القرى.

لكن، حتى مع اعتبار الاستقطاب المتزايد واحتدام المشاعر المناهضة للفلسطينيين من جراء الحرب، وحتى بعد اتجاه القرى نحو التعسكر وتدفق أعداد من الجنود المسلحين العاطلين إليها، ظهر أن استيلاء إسرائيل على القرى الحدودية من خلال عملائها الكتائبيين المحليين لم يكن دوماً أمراً هيّناً. صحيح أن بعض القرى، كالقليعة مثلاً، رضخت بسرعة للهيمنة الإسرائيلية؛ فالقليعة، وفيها نحو 400 جندي مسرّح – وهو عدد ضخم جداً في قرية يسكنها 3000 نسمة – أضحت على درجة عالية جداً من التعبئة العسكرية. وفي الوضع الذي كان سائداً آنئذ، قد يكون انتاب أهل القرية الخوف من العقاب بسبب ولائهم لكميل شمعون*، الذي كان يُعتبر عدواً لدوداً في صفوف الحلف الفلسطيني الإسلامي اليساري. وهذا الأخير كان له وجود كبير في الخيام، وهي بلدة مجاورة.

في الطرف الآخر كانت هناك قرية عين إبل، وهي قرية جميلة جداً ومزدهرة نسبياً، تعيش في المقام الأول من التحويلات المالية التي تصل إليها من مهاجريها في الخليج. كانت عين إبل على درجة أقل كثيراً من سائر القرى المارونية تعبئة عسكرية، وكانت تقيم صلات لائقة مع الفلسطينيين، وكان هؤلاء بدورهم يضمنون وصول التموين من الطحين والبنزين والوقود وما شابه إلى القرية. ولم يكن الأهالي راغبين قط في حدوث أية قلاقل. أما العناصر الكتائبية القليلة في القرية، فلم تكن قوية ولا منظمة بما يكفي لفرض سياسة معادية لمحيطها وللفلسطينيين. لكن خلال صيف سنة 1976، أُرسلت قوة طليعية كتائبية، قوامها 15 عنصراً مسلحاً تسليحاً ثقيلاً، بالبحر من جونيه في الشمال المسيحي إلى حيفا في إسرائيل ومن ثم، بشاحنات إسرائيلية، إلى عين إبل. ولدى وصولهم، جمعوا أهالي القرية كافة في مبنى البلدية وأعلنوا عزمهم على فتح جبهة ضد الفلسطينيين بمساندة إسرائيل. وذهبت اعتراضات الأهالي القوية الغاضبة (وقد تملّكهم القلق من قدوم الحرب إلى عقر دارهم) أدراج الرياح. فقد كان الوافدون مسلحين حتى أسنانهم. ثم أنهم تمكنوا، مستثمرين بعض المنافسات، من مباشرة توزيع السلاح على بعض الشبان العاطلين عن العمل والراغبين في التوجه إلى إسرائيل للتدريب؛ هكذا سقطت عين إبل تحت سيطرة إسرائيل.

أما في رميش فقد كانت المعارضة أوهى، وذلك بسبب التقاليد العسكرية، وهي هنا أكثر رسوخاً. كان في رميش 100 جندي ودركي مسرَّح، على الأقل، بعد تفسّخ الجيش، كما أن "أنصار الجيش" كانوا قد ثبّتوا اقدامهم فيها. وكذلك كان الأمر في دبل إلى ذلك كانت كلتا القريتين متورطة في سياسة "الجدار الطيب" الإسرائيلية، حتى قبل ذلك الزمن. هكذا، أي من خلال التلاعب بمخاوف الأقليات ومَواطن الضعف في زمن الحرب الأهلية، نجحت إسرائيل وحلفاؤها الكتائبيون في إنجاز ما عجزت عنه المنظمات اليسارية والوطنية في مواجهتها الزعماء التقليديين في القرى الشيعية بالاستناد إلى الفلسطينيين. وعند نهاية صيف سنة 1976، كانت القرى المارونية كافة قد وقعت تحت سيطرة إسرائيل.

وفي أيلول/سبتمبر، بدأ بعض العناصر المسلحة من القليعة، بمساندة من إسرائيل، سد الطريق إلى مرجعيون، حيث كانت توجد ثكنة للجيش اللبناني كانت آنئذ تحت سيطرة جيش لبنان العربي الذي يسانده الفلسطينيون. في تلك الأثناء، أيضاً، وقعت حوادث عدة أُلقي اللوم فيها، ضمناً، على الفلسطينيين ولو من دون دليل، فزاد ذلك في التوتر. وفي أواخر أيلول/سبتمبر 1976، وقع صدام في عين إبل بين المسلحين الفلسطينيين وبعض العناصر المسلحة المحلية. وبينما كانت هذه الحادثة في طريقها إلى تسوية سلمية من خلال التحكيم التقليدي على أيدي أعيان كل من عين إبل وبنت جبيل، سقطت فجأة، ومن دون سابق إنذار، أولى قذائف الهاون على بنت جبيل آتية من جارتها المارونية؛ فالذين جاؤوا لفتح الجبهة فتحوها فعلاً. وعلى الطرف الآخر من المنطقة، أي في الشرق، حدثت الظاهرة نفسها عندما بدأت القليعة قصف جارتيها الخيام والطيبة. كان قصف القرى الشيعية من قبل جاراتها المسيحية يمثل نقطة اللارجوع. وفي تشرين الأول/أكتوبر 1976، كانت القرى المسيحية قد انعزلت تماماً عن محيطها.

وعلى امتداد القصف الذي بدأ في أيلول/سبتمبر، عيّن الإسرائيليون الرائد سعد حداد، وهو ضابط في الجيش اللبناني من مرجعيون، لتنسيق الجهود العسكرية والميليشيات المحلية التي كانت آنئذ ما زالت مشتتة. كانت وحدات من القرى تعمل باستقلال بعضها عن بعض في الواقع، على الرغم من أنها كانت جميعها خاضعة لأوامر إسرائيل عن بعد، من خلال المراكز الكتائبية المحلية المتقدمة. وفي تشرين الأول/أكتوبر انتزع رجال حداد، بدعم من إسرائيل، ثكنة مرجعيون من أحمد الخطيب، وأقاموا فيها قيادتهم العامة. وهذه كانت بدايات ما أصبح فيما بعد جيش لبنان الجنوبي. منذ ذلك الحين، شرع حداد في تركيب هيكلية هذه القوة، وكان يسانده في هذا المسعى إثنان أو ثلاثة من الضباط المسرَّحين من الجيش اللبناني. غير أن قيادة الوحدات أُسندت، في الغالب، إلى ضباط صف ممن تقدموا سريعاً في الرتب، مختزلين سلم الترقية.

خلال هذه المرحلة أيضاً، جرت أولى الخطوات الهادفة إلى "تنظيف" المناطق التي وُجدت فيها قوى فلسطينية أو إسلامية كانت تفصل ما بين البقع المارونية الحدودية في الغرب والوسط والشرق. فعلى سبيل المثال، كان التجول بين دبل وعين إبل أو رميش يقتضي المرور بقرية حانين الشيعية التي كان فيها وجود فلسطيني ووجود لبناني بعثي. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1976، تم الاستيلاء على حانين من قبل القوات المسيحية، بدعم ومساندة من إسرائيل، وطُرد الأهالي ودمرت القرية تدميراً كاملاً. ولم يبق في هذه القرية اليوم، بعد أن كان يأهلها 3000 نسمة، سوى منزل وحيد أُعيد بناؤه ويسكنه المختار العجوز وامرأته. كذلك، كان المرور من رميش في الوسط إلى قرية علما الشعب المسيحية في الغرب، يقتضي عبور قريتي يارين ومروحين السنّيتين. فتم تدمير كلتي هاتين القريتين وطرد أهاليهما في ذاك الخريف أيضاً (لاحقاً، أي بعد بضعة أعوام، سُمح للأهالي بالعودة وإعادة البناء فعاد البعض منهم). أما قريتا مارون الراس والقنطرة الشيعيتان، فقد نزل بهما المصير ذاته. أدّت هذه العمليات إلى تعزيز المناطق المارونية المعزولة، غير أنه بقي ثمة بقع من الأرض يسيطر الفلسطينيون والمسلمون عليها، وتفصل الأجزاء التي تسيطر إسرائيل عليها، بعضها عن بعض. وكان على الربط ما بين هذه المناطق المعزولة أن ينتظر اجتياح سنة 1978.

طوال سنة 1977 بأسرها لم يتوقف القصف قط. ففي الوقت الذي فتح الموارنة والإسرائيليون الجبهة الجديدة، عاد إلى المنطقة العديد من الفلسطينيين الذين كانوا قد انسحبوا من القرى في أوائل السبعينات تحت الضغط الشيعي، فأدت هذه العودة إلى توتر جديد في العلاقات الفلسطينية – الشيعية. وعند حلول سنة 1977، كان الجانب "الفلسطيني الإسلامي التقدمي" يضم الفلسطينيين من الفئات كافة، والعراقيين، وبعض رجال ميليشيا الإمام موسى الصدر* القادمين من مناطق أخرى، والحزب القومي السوري من جبل لبنان. أما رجال الميليشيات اللبنانية المحلية، فقد اختفوا اختفاء تاماً تقريباً بعد أن بدأت الحرب فعلاً، وكانت حجتهم في الكثير من الأحيان أنهم ملزمون بمرافقة عائلاتهم إلى مناطق آمنة.. لم يعودوا منها قط. والواقع أن المنطقة الحدودية كانت تفرغ من سكانها بسرعة، تحت وطأة القصف الإسرائيلي الشديد. فبنت جبيل مثلاً، وهي التي ارتفع عدد سكانها ليبلغ 24,000 نسمة في آب/ أغسطس 1976، لم يبق فيها سوى 400 نسمة بعد هذا التاريخ بأشهر معدودة. أما الخيام الإسلامية بأغلبيتها، وهي بين أكبر وأغنى البلدات في جبل عامل، وكان عدد سكانها 20,000 نسمة قبل الحرب، فقد أضحت فارغة هي الأخرى. وأما القلة التي صمدت من أهلها في وسط الخراب، فقد طُردت بالقوة سنة 1978. وبدأ الإسرائيليون باستخدام هذه المدينة المهجورة ميداناً للتدريب والمناورات العسكرية، فدارت فيها معارك وهمية للدبابات والعربات المصفحة بين مبان متداعية لا سقوف لها، مزَّقتها قذائف المدفعية. (بعد سنة 1981، سمح للأهالي بالعودة إلى الخرائب التي كانت منازلهم، وعاد فعلاً بضعة آلاف باشروا العمل في إعادة البناء).

وتجدر الإشارة إلى أن القرى المسيحية صمدت بصورة أثبت ضد موجة الهجرة، ويعود السبب في الغالب إلى أن أهلها كانوا يعرفون أن وجود إسرائيل سيمنع غزوهم. كان عليهم أن يصمدوا أمام قصف المدافع فقط، بينما واجهت القرى الشيعية لا القصف فحسب، بل أيضاً خطر الاجتياح والمجازر، ولم تُعدم السوابق لتنبيهها إلى ذلك.

الاجتياحات الإسرائيلية

وتعزيز "الحزام الأمني"

              ظهر "الحزام الأمني" إلى الوجود عقب اجتياح آذار/مارس 1978، عندما تدفقت القوات الإسرائيلية إلى لبنان، وهدفها المعلن احتلال حزام عرضه عشرة كيلومترات إلى الشمال من الحدود لمنع الهجمات الفلسطينية على إسرائيل. لكن عوضاً من ذلك، استمرت القوات تتقدم حتى وصلت إلى نهر الليطاني، فاحتلّت أكثر من عُشر مساحة أراضي لبنان. وبسبب ضغوط دولية قوية اتخذت شكل قراري مجلس الأمن ذَوَيْ الرقمين 425 و426، اللذين يدعوان إلى انسحاب إسرائيلي فوري من الأراضي اللبنانية كافة، وإلى قيام قوة سلام خاصة تابعة للأمم المتحدة (يونيفيل)، انسحبت إسرائيل جزئياً، وعلى مرحلتين. لكنها عشية انسحابها الأخير، في حزيران/يونيو 1978، سلّمت حزام الكيلومترات العشرة الباقي إلى الميليشيا التابعة لها بقيادة سعد حداد. وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلي "انسحب" رسمياً، فإنه لم يكن خافياً على أحد أن جيش لبنان الجنوبي كان "يُكثَّف" بالجنود الإسرائيليين، وأن الضباط الإسرائيليين كانوا حاضرين حضوراً دائماً. وقد مُنعت قوة الأمم المتحدة (يونيفيل) من دخول المنطقة. وهكذا وُلد "الحزام الأمني".

              كان السكان المحليون قد قاسوا الأمرين خلال اجتياح سنة 1978. فقد اندفع الجيش الإسرائيلي، يُرشده بعض أعضاء الميليشيات ممن عُرف انهم ينتمون إلى قرى مجاورة، إلى داخل القرى الشيعية، ناشراً الرعب والفوضى. ففي بنت جبيل جمع الإسرائيليون 400 شخص هم الذين بقوا في البلدة، وحشروهم حول بركة المياه. وقد فُرض عليهم البقاء هناك ثلاثة أيام في العراء، تحت حراسة مشددة، بينما فتّش الإسرائيليون وحلفاؤهم كل بيوت البلدة تفتيشاً دقيقاً، ونهبوا ما نهبوا، وحطموا ما حطموا في طريقهم. وقد نسفوا كل بيت وجدوا فيه أثراً للوجود الفلسطيني مهما يكن شكله، غير آبهين لكون هذه البيوت قد صودرت من دون موافقة أصحابها. كذلك دُمّر معظم الأبنية الرسمية. وتكرر هذا السلوك في أرجاء لبنان الجنوبي المحتل كافة. ووجد عشرات الآلاف من الناس أنفسهم بلا مأوى، وقُتل كثيرون، أُعدم بعضهم من دون أدنى سبب؛ فقد أُردي سبعون مدنياً غير مسلحين، في مجزرة في مسجد الخيام.

              في الأسابيع التي تلت الاحتلال، سُمح للسكان الذين هربوا من الاجتياح بالعودة، بالتدريج وفي مجموعات صغيرة، إلى قراهم المدمَّرة. وعادت جماعات منهم بعد أن فقدت القدرة على احتمال العيش تحت الخيام وفي المساجد والمدارس. وقد اضطر عدة آلاف منهم إلى التخييم تحت الشجر عند مدخل صيدا الشمالي، وكان موسم الشتاء البارد لم ينته بعد. وفي كل القرى، تم الفحص بدقة عن هويات جميع العائدين، بمساعدة الميليشيات المحلية التي كاتت تجيد عملها هذا كونها تعرف جيرانها ومواطنيها تمام المعرفة.

              أما قيام "الحزام الأمني"، فقد جعل من الضروري أن يُعاد تنظيم جيش لبنان الجنوبي على نحو بارز. إذ كان هذا الجيش حتى ذلك الحين قوة مارونية بأكملها تقريباً، وتضم شباناً محليين معظمهم من الفارّين من الجيش اللبناني، وبعضهم من ميليشيا الكتائب ومن الذين جُنّدوا في أوقات لاحقة. وقبل الاجتياح، كانت إحدى المشكلات المهمة التي واجهتها هذه القوة تتمثل في إحجام الوحدات المحلية عن الخدمة في أية منطقة خارج نطاق قراها. ومع قيام الوضع الجديد، أصبح من الضروري للغاية إنشاء وحدات متحركة بهدف السيطرة على المنطقة بأسرها. لذا بوشرت حملة مكثفة للتجنيد والتدريب استهدفت الشيعة أيضاً، ولم تكن غايتها زيادة أعداد هذه القوة فحسب، بل العمل أيضاً لردّ الاتهام عنها بأنها قوة مارونية خالصة تدير منطقة إسلامية بأغلبية سكانها.

              تم التجنيد من خلال "لجان القرى" التي أُقيمت بإشراف الإسرائيليين في كل قرية، بعد الاجتياح. وكان المطلوب من هذه اللجان المحلية أن تنظّم الخدمات الاجتماعية كي تحل جزئياً محل البلديات التي كان أكثرها متوقفاً عن العمل. وكان أعضاء هذه اللجان يعملون أيضاً مخبرين. وفيما يختص بالتجنيد، كان جيش لبنان الجنوبي هو الذي يحدد العدد المطلوب من المجندين الجدد، ثم يحدد لكل لجنة حصتها بحسب عدد سكان القرية.

              ولم يكن من المستغرب أن أول الذين انضموا إلى هذه القوة كانوا من أكثر العناصر في المجتمع المحلي هامشية وتعرّضاً للازدراء. وكان البعض منهم قد خدم من قبل في المنظمات الفلسطينية، أو في تلك التابعة لها، فقبلهم الإسرائيليون بعد مدة وجيزة من الاعتقال و"إعادة التأهيل"، الذي كان يعني في العادة الضرب المبرح. لكن التجنيد كان، في الغالب، أمراً صعباً. فقد عمدت العائلات إلى إرسال أبنائها من ذوي "السن العسكرية" إلى أقرباء لها خارج المنطقة. وحتى يومنا هذا لا تزال الصفوف الثلاثة الأخيرة من المدارس الثانوية تشتمل، في أغلبيتها العظمى، على البنات. وكثيراً ما واكب الأهل أبناءهم، الأمر الذي ساهم في إفراغ المنطقة من سكانها.

لاحقاً، اكتشف الإسرائيليون طرقاً لمجابهة الإحجام عن الالتحاق بجيش لبنان الجنوبي. ففي أوضاع اقتصادية صعبة للغاية، بدأ العمل بنظام جديد يسمح لواحد من أعضاء عائلة كل جندي بالعمل في إسرائيل. وكان الدفع يجري هناك بالدولار، ولكن من الممكن أن يكسب العامل أجراً مقداره 300 دولار شهرياً أو نحو هذا المبلغ، عوضاً من معدل للأجر في جنوب لبنان كان يتراوح بين 30 و40 دولاراً (بالليرات اللبنانية). هذا المبلغ، بالإضافة إلى راتب الجندي البالغ 150 دولاراً من دون احتساب العلاوات، كان يمنح العائلات مدخولاً قدره 450 دولاراً بالعملة الصعبة، في زمن كان راتب الوزير اللبناني 300 دولار تقريباً.

إضافة إلى العامل الاقتصادي، فقد أثّر في حملة التجنيد هذه بعض الاعتبارات المتعلقة بالسلطة والنفوذ داخل القرية. فإذا تم إقناع إحدى العائلات بالسماح لواحد أو أكثر من أبنائها بالالتحاق بجيش لبنان الجنوبي، فإن العائلات التي تنافسها قد تشعر بالخطر أو بأنها أصبحت بلا حماية. وبالنظر إلى الموازين السياسية المحلية الدقيقة، السائدة بين العائلات، كان يكفي أن يلتحق عدد صغير من شبان إحدى العائلات بهذا الجيش كي تُشجِّع العائلات الأخرى بعض عناصرها هي على الالتحاق به.

وكان ثمة عوامل أخيرة تتصل بالعلاقات الطائفية وبموازين المكانة بين القرى. ففي إثر الاجتياح مباشرة كانت وحدات هذا الجيش، التي أُرسلت إلى القرى الشيعية "لحفظ القانون والنظام"، تشتمل في الأعم الأغلب على عناصر من قرية مارونية واحدة، أو من قريتين على أبعد تقدير. فبنت جبيل، مثلاً، كانت تجوبها دوريات تشتمل على عناصر من قريتي دبل ورميش المجاورتين، وكان هذا الأمر يثير الضغائن إثارة خاصة. وكان العامل الطائفي يزيد في حدة الأمور. وفي هذه المدة من الزمن، ظهرت مرارة عميقة بسبب تعامل الموارنة مع الإسرائيليين، والقصف الماروني للقرى الشيعية، والدور الذي قامت الميليشيات المارونية به خلال الاجتياح. وبالإضافة إلى ذلك، فإن جنود جيش لبنان الجنوبي لم يكونوا موارنة عاديين، بل كثيراً ما كانوا قد أُوصلوا إلى درجة بعيدة من التعصّب ضد المسلمين خلال الحرب، وتجذَّر هذا التعصّب من جراء تجاربهم خلال الحرب. وكثيراً ما كانوا ذوي خلق سيّىء، إذ أضافوا إلى سائر أسباب الشكوى منهم أن بعضهم لم يتصرف تصرفاً لائقاً حيال فتيات القرى. وهذا لم يكن أمراً يُسمح به؛ فانساق القرويون إلى المطالبة بأن تكون لهم قواتهم الخاصة في قراهم. وكان الافتراض الذي تأكدت صحته، إلى حد بعيد، أن القرويين قد تكون لهم بعض السيطرة على قوات تتألف من أبنائهم، لأن هؤلاء كانوا مقيَّدين بشبكة العلاقات والمحظورات التقليدية.

وهكذا، ومنذ أواخر السبعينيات، فإن العناصر الأساسية في وحدات جيش لبنان الجنوبي في القرى الشيعية باتت عناصر محلية، على الرغم من أن الضباط هم في أغلبيتهم العظمى من المسيحيين. وحتى يومنا هذا، ليس ثمة أية عناصر شيعية في هيكلية قيادة جيش لبنان الجنوبي. أما في الكوادر الوسطى فأعدادهم محدودة، ويملكون سلطات محدودة على مستوى القرية، أو تجمع القرى. غير أن الشيعة يمثلون، بحسب مصادر مختلفة، 40% إلى 50% من الجنود. وهذه نسبة كبيرة، غير أنها تتضاءل عندما نتذكّر أن الشيعة يمثلون نحو 80% من السكان.

ومع وجود جيش لبنان الجنوبي وشبكات المخبرين في كل مكان، سرعان ما تمت تهدئة "الحزام الأمني". والواقع أن المقاومة كانت ضئيلة هناك. فكما رأينا أعلاه، كانت المنطقة الحدودية قد شهدت نزوح سكان كثيفاً خلال القصف الذي استمر طوال الشهور الثمانية عشر السابقة، عندما تم تدمير كل قرية ظهرت فيها أية بوادر للمقاومة، أو كان وجودها يعترض الطريق إلى إحدى جاراتها من القرى المسيحية. فالدمار الشامل الذي حل ببلدات إسلامية كبرى، أو ببلدات أخرى مختلطة، كالخيام ومرجعيون وبنت جبيل، كان له تأثير عميق ومدمّر في الحياة في القرى المجاورة. فضلاً عن ذلك، فإن الشبان الذين كانوا في عمر يسمح لهم بالمقاومة غادروا، في معظمهم، المنطقة خلال الأيام الأولى من الاحتلال، لتفادي التجنيد في جيش لبنان الجنوبي.

وعندما قامت إسرائيل باجتياحها الشامل في حزيران/يونيو 1982، تدفقت قواتها عبر "الحزام الأمني" من دون عائق. غير أن القتال كان شديداً عندما وصل الجيش إلى مشارف بيروت، وقد قُتل الآلاف من المدنيين وسقطت على بيروت أطنان لا يصدق عددها من القنابل والقذائف. وقررت عائلات عديدة من تلك التي نزحت عن المنطقة الحدودية، بين سنة 1976 وسنة 1978، العودة إلى قراها. وكان رأيها أنه لمّا كان نصف البلد قد وقع تحت الاحتلال، فلم يعد ثمة بأس في عودتهم إلى قراهم حيث قد يكونون في أمان على الأقل.

وقد يصحّ القول أن كثيرين من الشيعة في الجنوب تنفسوا الصعداء في الأيام الأولى من الاجتياح. فقد ملّ الناس الحرب، وملّوا حكم الميليشيات من فلسطينية ولبنانية، وملّوا الانقسامات داخل البلد. وقد خُدع الناس لفترة من الزمن بتصريحات الإسرائيليين عن حل لبناني مرتقب بعد تصفية الوجود الفلسطيني المسلح، وبالوعد بقيام سلطة مركزية قوية تضمن إدخال البلد في عهد جديد من الوفاق الوطني وحل الميليشيات، على أن تنسحب إسرائيل بعد ذلك فوراً. وكان هناك أيضاً شعور متناقض بأن الاحتلال الإسرائيلي قد ينهي القصف الإسرائيلي: أي أن إسرائيل قد تريح اللبنانيين من إسرائيل.

لكن الأهلين سرعان ما اكتشفوا خطأهم. وكما في سنة 1978، كانت عمليات التفتيش والاستجواب مستمرة وعشوائية. فقد فُرض على أهالي القرى أن يتجمعوا – وفي بعض الأحيان لعدة مرات في اليوم – من أجل "إثبات الهوية"، وفُرض عليهم الوقوف ساعات عدة تحت الشمس المحرقة. وحدثت أيضاً حوادث تخريب لا مسوغ لها، وحوادث عبث بالمقدسات. ومرة أخرى تم تفجير البيوت للاشتباه في أنها كانت تؤوي عناصر ميليشوية، وهو ما ضخم طوابير المشرّدين. ومرة أخرى أُلقي القبض على مقيمين كثر، ونقلوا إلى جهات مجهولة، من دون أي سبب ظاهر. فالمئات من الذين عادوا إلى قراهم الأصلية هرباً من مسرح الحرب في الشمال، وخصوصاً من الذين كان لهم نوع من الماضي السياسي، أُلقي القبض عليهم فوراً ونقلوا إلى مخيم أنصار أو إلى مخيمات أخرى في الأراضي الإسرائيلية. (أما عمليات الاعتقال في المناطق المحتلة حديثاً، وفي صفوف الفلسطينيين، فقد كانت طبعاً أوسع كثيراً). وباستثناء من قبض عليهم والسلاح في أيديهم، خلال التقدم الإسرائيلي نحو بيروت، والذين يُفترض أن مدة اعتقالهم كانت غير محددة، فإن مدة الاعتقال كان لا يمكن التنبؤ بطولها أبداً. فقد يُفرج عن المعتقل بعد بضعة أيام من الاستجواب السطحي، أو قد يكون نصيبه أن يقبع في جحيم المخيم بضعة أعوام، أي إلى حين إغلاق هذا الأخير. ولم تجرِ أية محاكمات قط. فكل شيء كان يجري في العادة وفق مزاج الضابط ورأيه في شكل السجين ونمط حديثه وما كان يتفق أن يُعرف عنه.

ولدت المقاومة اللبنانية مع احتلال إسرائيل لبيروت في أيلول/سبتمبر 1982، وتطورت بسرعة في الجنوب مع حلول نهاية تلك السنة. أما المقاومة في المنطقة الحدودية، فكانت محدودة للأسباب ذاتها التي سادت منذ سنة 1978؛ أي فقدان العناصر الشابة، وسهولة التعرف على من تبقى منهم نظراً إلى النسبة المرتفعة جداً من المسنّين والمسنّات في المنطقة. وزاد الأمر تعقيداً تأثيرات أربعة أعوام من الاحتلال. لكن سكان هذه المنطقة، كما غيرهم في الجنوب، كانوا يعتزّون بما اعتبروه مقاومتهم هم. وقد شاركت أحزاب الحركة الوطنية السابقة كافة، والمنظمات الإسلامية، في هذه العمليات. لكن المقاومة كانت، بلا شك، جنوبية وشيعية في أساسها، فقد كانت المنظمتان الشيعيّتان أمل وحزب الله تبسطان عليها سيطرة واسعة. لكن تجدر الإشارة إلى أن السكان إجمالاً كانوا يتعاطفون أكثر كثيراً مع أمل من تعاطفهم مع حزب الله في تلك المرحلة. وكان حزب الله، كالحزب الشيوعي في أرجاء أخرى، منظماً تنظيماً جيداً ومتناسقاً داخلياً، لكنه لم يفلح في مدِّ نفوذه خارج حلقة أتباعه المباشرين، أي الحلقة التي كان التبشير يتم فيها. أما أيديولوجيته وتصرفاته، فكانت غريبة غربة واضحة عما يمكن أن يُسمّى ميول السكان الجماعية.

وكانت المقاومة ناجحة للغاية. فعلى امتداد عامين، كانت الخسائر الإسرائيلية قد وصلت إلى معدل لا سابق له، وهو مقتل جندي واحد كل يوم تقريباً. كما أن هذه الخسائر فاقت تلك التي حلت بالمقاومة. وهذا أيضاً أمر جديد وغريب. والإسرائيليون الذين كانوا يختالون في القرى والمدن خلال أيام الاحتلال المبكرة، اضطروا إلى أن يلجأوا أكثر فأكثر إلى الاختفاء. وفي نهاية الأمر، حققت المقاومة ما عجزت الجيوش العربية النظامية عنه حتى ذلك الحين، أي انسحاباً إسرائيلياً اضطرارياً من أراضٍ عربية محتلة.

في حزيران/يونيو 1985، أنجز الإسرائيليون المرحلة الثالثة من انسحابهم من الجنوب المحتل. أما المنطقة التي رفضوا الانسحاب منها، فقد سلّموها إسمياً إلى جيش لبنان الجنوبي. لكن، وكما كانت الحال سنة 1978، بقي الإسرائيليون – وإن بأعداد اقل – وكان وجودهم الدائم في المنطقة أكثر حذراً. أما فعالية المقاومة، فقد تضاءلت تضاؤلاً لافتاً بسبب عدد من العوامل التي لا يتسع المجال لخوضها هنا. بعد ذلك التاريخ، أضحت الخسائر الإسرائيلية في المنطقة غير ذات شأن. أما خسائر جيش لبنان الجنوبي، وهي أعلى قليلاً، فلم يكن يبدو أنها تحرم الإسرائيليين متعة النوم. ذلك بأن جنود الجيش الجنوبي تُدفع الرواتب لهم ليموتوا، وهم – كما في القول الشائع – "أكياس رمل" لإسرائيل.

أما "الحزام الأمني" في المدة التي تلت سنة 1985، فقد اضاف إلى المنطقة الحدودية، كما كانت في سنة 1978، منطقتين جديدتين في الشرق وفي الوسط الغربي. ومقارنة بشكل "الهلال" الذي كانت قد اتخذته المنطقة إلى الجنوب الغربي والشمال الشرقي، أضحى "الحزام الأمني" الجديد على شكل نعل الحصان تقريباً. فهو لم يعد مجرد منطقة عازلة تحمي الحدود الإسرائيلية، بل هو سمح للإسرائيليين بالإبقاء على رشاشاتهم الثقيلة، ناهيك بمدفعيتهم الميدانية، مصوّبة إلى قلب البقاع، وإلى جزء من جبل لبنان (أي المنطقة الدرزية والسنية في الغالب)، وإلى الجنوب بأسره، بما في ذلك صيدا والنبطية وصور. أخيراً، بقيت هذه المدافع مصوَّبة إلى جميع المخيمات الفلسطينية في المنطقة، فضلاً عن أن الطرق الحيوية الساحلية نحو بيروت والشمال ظلت مهددة بالقطع في أي وقت، شأن غيرها من طرق المواصلات التي تستخدمها القوات السورية المتمركزة في لبنان. وباختصار، ومقارنة بحزام سنة 1978، بات لـ"الحزام الأمني" الجديد قيمة هجومية أكبر كثيراً من قيمة سابقه بالنسبة إلى الإسرائيليين.

الحزام الآن

              على الرغم من عودة الكثيرين من أهل القرى إلى المنطقة الحدودية عقب اجتياح سنة 1982 (في بنت جبيل، مثلاً، ارتفع عدد السكان بالتدريج من أدنى معدل له، أي 400 نسمة، ليصل إلى نحو 600 نسمة)، فإن المنطقة ككل ما زالت تخسر أهاليها. وعدد سكانها يبلغ اليوم ما بين 130,000 نسمة و150,000 نسمة، وهو نصف مستوى ما قبل الحرب، وربع أو ثلث ما كان سيكون عليه لو تابع معدل النمو سيره الطبيعي انطلاقاً من أرقام سنة 1975. وعلى الرغم من أن الناس قد بدأوا يعودون إلى مناطق أخرى في لبنان، فإن عهد السلام الجديد لم يؤثر قط في المنطقة الحدودية التي تحتلها إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي. فالهجرة ما زالت مستمرة بلا توقف، وكثيراً ما تكون دائمة، وهي تتجه إلى الولايات المتحدة وأوستراليا وكندا وغيرها من الدول. والناس يغادرون المنطقة لأسباب شتى. ولعل السبب الأهم هو الجو السائد من الشك والشعور بأن الإنسان مُراقب، وبأن الحديث يجب أن يبقى مضبوطاً لينحصر ضمن الحدود الضيقة المطلوب رعايتها في تبادل الآراء (والحد الأقصى هو، على ما يبدو، التعبير عن تفضيل السيادة اللبنانية). فالمخابرات الإسرائيلية موجودة في كل مكان، من خلال شبكة المخبرين البالغة الاتساع. ولا شك في أن هذه الشبكة فعّالة. ومنذ قيام "الحزام الأمني" رسمياً سنة 1985، ازدادت العمليات ندرة في المنطقة وهي كانت نادرة دوماً. ويقتصر الأمر غالباً على التسلل من الخارج، لأن خلايا المقاومة التي أُنشئت داخل الحزام قد جرى تفكيكها بانتظام، وأُرسل أعضاؤها إلى سجن الخيام، ومازال معظمهم هناك.

              ولا يقل عن ذلك أهميةً العزلة القاتلة عن باقي مناطق البلد، والشعور بالحشر ضمن آفاق ضيقة خانقة. فحدود الحزام الأمني، وهي في الظاهر غير رسمية، هي في الحقيقة أكثر إرهاباً من الحدود بين معظم الدول ذات السيادة؛ فالأسلاك الشائكة منتشرة على جوانب بوابات العبور الثلاث أو الأربع. وكذلك نقاط المراقبة، التي تلحظ كل التحركات، تنتشر على الحدود. وقد نُشرت حقول الألغام في المناطق التي تصعب السيطرة عليها والتصاريح لغير المقيمين بالعبور إلى داخل المنطقة تُعطى عند نقاط العبور، وهي نقاط يحرسها جنود جيش لبنان الجنوبي، لا العناصر المختلطة من هذا الجيش والإسرائيليين كما في الأعوام الأولى. ولا تُعطى هذه التصاريح إلا لقلائل. وفيما عدا الموظفين الدوليين في منظمات، كاليونيسيف والصليب الأخمر وغوث الأطفال، لا يحاول كثيرون من خارج المنطقة الحصول على هذه التصاريح أصلاً. فالذين لهم أقارب ما زالوا يعيشون في المنطقة يُسمح لهم في العادة بالدخول، على الرغم من خطر التوقيف القائم دوماً، وصولاً – في عدد لا يستهان به من الحالات – إلى الاعتقال في سجن الخيام. وفي الماضي، كان على السكان المحليين أن يحصلوا على تصريح بدخول المنطقة، لكن الإجراءات الحالية تفرض الحصول على تصريح بالخروج.

              والفساد مستشر. وكل ما يحتاج المرء إلى أن يفعله في المنطقة الحدودية، كبناء بيت أو الحصول على ترخيص أو تصريح من أي نوع، يقتضي الحصول على إذْن من جيش لبنان الجنوبي. والدولة اللبنانية هي التي تمنح الأذونات في الظاهر، لكن لا يحدث شيء من دون موافقة جيش لبنان الجنوبي، ولا يتم شيء من دون رشوة. وقد سمح الإسرائيليون وجيش لبنان الجنوبي لحفنة من الناس بممارسة الاحتكار الفعلي في بعض مجالات التجارة، فنجمت عن ذلك ثروات كبرى.

              على الصعيد الاقتصادي، تعيش المنطقة الحدودية في عزلة تامة عملياً. ولا حاجة إلى القول إنه لا يسمح لمنتوجات المنطقة بدخول إسرائيل، حتى لا تنافس المنتوجات الإسرائيلية. وثمة تقييدات مشددة أيضاً على "الصادرات" إلى مناطق أخرى من لبنان، إذ يلزمها أُذونات خاصة، لها إجراءات شاقة، ويجب الحصول عليها من جيش لبنان الجنوبي. كما يجب، في سبيل ذلك، دفع الرشوة والمكوس والضرائب. وحتى زمن قريب، وبعد خروج البضائع من منطقة الحدود، كانت عقبات كثيرة تعترض إيصالها إلى بيروت، من جراء عمليات التفتيش المتواصلة والضرائب في جميع الدويلات الصغرى التي كانت تحت سيطرة مختلف الميليشيات، والتي لم يكن يوحّدها سوى الريبة بكل ما هو آت من المنطقة الحدودية (إذ يجوز الافتراض أنه آت من إسرائيل). فالواقع العملي هو أن السوق الوحيدة في المنطقة الحدودية هي السوق الداخلية، وهي محدودة للغاية. وعليه، فإن الصناعات التي كانت قائمة من قبل، كصناعة الأحذية المهمة، والتي كانت تمدّ لا لبنان فحسب، بل أيضاً عدداً من الدول العربية بالأحذية العسكرية وصناعة الفخار ومنتوجات القش كالحُصُر والقبّعات، إما أنها توقفت كلياً عن العمل، وإما هي انتقلت إلى صور أو بيروت حيث يسع أصحابها العمل في أوضاع أفضل.

              والصعوبات ذاتها تواجه "الواردات". وبما أن الأغلبية العظمى من البضائع المصنّعة والعديد من المنتوجات الزراعية، وخصوصاً اللحوم، يجب أن تأتي من خارج المنطقة، فإن أسعارها مرتفعة جداً. فالبضائع والمنتوجات الواردة من شمالي لبنان، تضخع لتقييدات شتى. وهنا أيضاً يجب الحصول على التصاريح. والمنتوجات تخضع لضرائب عالية. وثمة تقييدات صارمة على عدد المركبات، من سيارات الأجرة والشاحنات، التي يُصرَّح لها بدخول المنطقة. من جهة أخرى، لا يوجد طبعاً اية تقييدات على المنتوجات الواردة من إسرائيل، لكن الناس يتفادون إجمالاً شراء المنتوجات الغذائية من إسرائيل، وهي في رأيهم دون المستوى المطلوب.

              في الوقت نفسه تدهورت تدهوراً خطراً، منذ سنة 1976، زراعة التبغ التي كانت المصدر الرئيسي للعيش في المنطقة. وهذا الأمر، مع ما واكبه من النتائج الاقتصادية الناجمة عن العزلة المفروضة على المنطقة، أدى إلى حالة اقتصادية راكدة للغاية. فالناس، في معظمهم، يعملون في الأعمال اليدوية (كالبناء مثلاً) والتجارة الصغيرة الحجم والزراعة، التي كثيراً ما تكون زراعة للتموين البيتي، هذا على الرغم من أن الزراعة في الخيام البلاستيكية قد بدأت بالظهور مؤخراً لتلبية حاجات السوق المحلية. وبعض السكان ما زالوا يتلقون الرواتب من الحكومة اللبنانية، بصفتهم أساتذة أو موظفين محليّين. وثمة مصدر آخر للمدخول، وقد انخفض بشدة منذ أزمة الخليج، وهو التحويلات من الأقارب العاملين في الخارج.

هذا ولا يسمح لسكان "الحزام الأمني" بالعمل في لبنان خارج المنطقة. لكن، وكما ذكرنا أعلاه، ثمة 4000 شخص إلى 5000 شخص (والأولوية هي لأقارب جنود جيش لبنان الجنوبي) ممن يتم نقلهم من إسرائيل وإليها يومياً عبر عدة نقاط عبور معيّنة مسبقاً. هؤلاء يعملون، في الغالب، في قطاع الخدمات كالمقاهي والفنادق والمطاعم، ويعمل عدد منهم في الزراعة، وبعضهم القليل في الصناعة. وفي إمكان سكان المنطقة أيضاً الحصول على تصاريح موقتة للسفر إلى إسرائيل. والكثيرون من سكان المنطقة يذهبون إلى تل أبيب للحصول على تأشيرات سفر (لأن القنصليات في بيروت لا تعمل) إلى دول في الخارج). ومن غرائب الأمور أن حصول اللبنانيين على تأشيرات سفر  في إسرائيل أسهل منه في بيروت أو دمشق، لأن السفارات الغربية تعتبر أن مجرد وجودهم في إسرائيل هو شهادة حسن سلوك. كذلك وبما أن "إلعال" (شركة الطيران الإسرائيلية) أرخص كثيراً من غيرها، فالكثيرون يستخدمونها للسفر من تل أبيب إلى الغرب، مع الاحتياط في إخفاء هذا الأمر.

عالم من الالتباسات

              إن إحدى نتائج الاحتلال المريرة هي الضرر الذي أصاب العلاقات بين الموارنة والشيعة في المدى الطويل، وهما جماعتان كانتا متشابكتين في نسيج واحد تمزّق الآن من جراء تركة ثقيلة من الخوف والكراهية من الجانبين. فمن الجانب الإسلامي، ثمة ذكريات التعديات الخطرة التي قام بها أعضاء الميليشيات المارونية إلى جانب إسرائيل خلال اجتياح سنة 1978 واجتياح سنة 1982، والإهانات التي ما زالت مستمرة على يد بعض العناصر المارونية في جيش لبنان الجنوبي. وعلى الرغم من أن الشيعة يفرّقون، في معظمهم، بين العناصر الجيدة والسيّئة، ويعلمون تمام العلم أن العمالة ليست ظاهرة مارونية حصراً (وأن العملاء في صفوف المسيحيين أيضاً هم أقلية)، فهناك مع ذلك المرارة الناجمة عن وضع أغلبية تحكمها أقلية، وينظر إليها على أنها تأتمر بأوامر إسرائيل. وقد زاد في الشعور بالخصوصية صعود التيار الإسلامي في الأعوام الأخيرة، ومردّه إلى الاعتزاز بالمقاومة الشيعية ضد إسرائيل من جهة، وإلى ازدياد المرارة ما بين الطوائف من جهة أخرى. ويبدو أن المشاعر الإسلامية في المنطقة هي الآن في تراجع، كما الحال في غيرها من المناطق.

              وفي الجانب المسيحي، ثمة شعور بأن المسلمين قد ساندوا الفلسطينيين وتسببوا بالحرب الأهلية، وتصوّر أن المسلمين يعوّلون على سوريا أو على غيرها من القوى الإسلامية. لكن هذه المشاعر لا تمنع وجود نوع من الاستياء حيال المعاملة المارونية للمسلمين في المنطقة. وعلى سبيل المثال، فإن رئيس بلدية عين إبل السابق رفض، منذ سنة 1978 حتى وفاته قبل بضعة أعوام، أن يعود إلى بنت جبيل حيث كان له أصدقاء يعدون لا بالعشرات بل بالمئات، وحيث كان يحظى باحترام الجميع ومحبتهم. وهو قد أفهم الجميع أنه لن يدخل بنت جبيل أبداً لأنه يخجل من الأعمال التي ارتكبها هناك بعض العناصر من قريته. وهذا الشعور ليس نادراً في صفوف المسيحيين.

              ولا جدال في أن ثمة احتمالاً لحدوث سفك للدماء في حال حدوث انسحاب إسرائيلي غير منسق، على الرغم من أن أعمال العنف قد لا تبلغ الحد الذي وصلت إليه في الشوف*  سنة 1983، بعد أن ألّبت إسرائيل الموارنة ضد الدروز، ثم انسحبت فجأة. لكن رأيي أنه في حال وجود قوة أمنية ملائمة تأتمر بأمر سلطة مركزية حازمة، عندما تنسحب إسرائيل، لن يحدث شيء. فالسكان لا يحقدون حقاً إلاً على حفنة من العملاء الذين ارتكبوا الجرائم الدموية. والناس، في الغالب، يميّزون ما بين الدرجات المختلفة من العمالة، ويتفهمون الأوضاع المخفّفة المختلفة.

              في أية حال، ثمة شعور بالنفور من "الغريب" بات يسود البلد بأسره، بعد كل ما حدث، ونوع من الحساسية حيال الجماعات التي تورطت في المأساة اللبنانية من فلسطينيين وسوريين وإيرانيين.. إلخ. وعلى العكس من الاعتقاد الشائع، بقي الشيعة يعتبرون الإيرانيين غرباء منذ البداية. ويبرز الإيرانيون باستمرار قصة صلاتهم التاريخية بهذه الطائفة، غير أن الناس اليوم يصعب أن تهتز مشاعرهم لمجرد أن شيوخاً من جبل عامل رحلوا في القرن السادس عشر إلى إيران لخدمة السلالة الصفوية. صحيح أن التقاليد المتوارثة تجعل الشيوخ – وخصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى عائلات علمية ذائعة الصيت – يلقون الترحيب في أرجاء العالم الشيعي كافة، وذلك لما تتمتع هذه العائلات به من احترام وإجلال كبيرين. غير أن الفارق شاسع بين هؤلاء الشيوخ الرحالة وبين المجندين الإيرانيين الذين ترسلهم حكومتهم اليوم لإنشاء قواعد مسلحة.

              يبقى أن الفلسطينيين هم الذين ينالون القسط الأوفر من لوم الناس ومرارتهم. فالجمهور، بطبيعته، يؤثر التفسيرات البسيطة. والظاهر أن الدور الذي يقوم الفلسطينيون به اليوم هو دور الفريق الذي تُفسَّر تصرفاته بأنها هي التي سبّبت ما حدث للبنانيين. والحق أن الفلسطينيين ارتكبوا من الأفعال كل ما يلزم ليشعر المرء بأن في وسعه أن يقول إنهم عيّنوا أنفسهم لهذا الدور تعييناً. قبل بضعة أعوام، قابلت خلال سفر إلى الخارج فلسطينياً مقرَّباً من منظمة التحرير كان، فيما مضى، مقيماً في لبنان. قال الرجل: "فعلنا ما فعلناه في لبنان. نحن نعرف أننا أنزلنا بكم الضرر، لكنه لم يكن ضرراً مقصوداً. ويجب ألا تحملوا ضغينة علينا. فما حدث لم يكن مرادنا. الضرر الذي ألحقناه بكم كان ظاهرة تابعة. كان عارضاً جانبياً." في ذلك الوقت، لزمتُ الصمت. وفيما بعد أسفت لأنني لم أقل له أن كلماته هذه قد تكون زادت الأمر سوءاً. ففحوى كلامه أن الضرر الذي قد أنزلوه بنا لم يحظ حتى بالانتباه والتأمل من جانبهم. أي أن المجتمع اللبناني، والجنوب على الأخص، لم يكن قط موضع اهتمام من الفلسطينيين. كانوا يركزون عنايتهم على بعض العناصر الموالية لهم بين السكان ممن كانوا، شأني أنا مثلاً، يؤيدون فتح الجبهة مع إسرائيل. ولم يقبلوا أن يعوا أن هذا الوضع سينتهي إلى غير مصلحة السكان المحليين، ناهيك بمصلحتهم هم. وآثروا اللجوء في أسوأ الأحوال إلى نوع من النسيان، وفي أفضل الأحوال إلى تصوّر خرافي للآراء في هذا المجتمع، قوامه أن العامليين عرب ومسلمون مثلهم، وأن لهم صلات تاريخية بفلسطين، وأنهم يكرهون إسرائيل، إلى ما هنالك. هكذا رفضوا مجرّد التفكير في نتائج أعمالهم. والبعض منهم، ممن بقي في لبنان، قد تعلم أشياء بعد ذلك. والبعض الآخر، ممن واجه ردات الفعل السلبية من الأهالي، وجد ملاذاً في اللامبالاة.

              لكن لا بد من القول أيضاً إن الشيعة، على الرغم من كل خيبتهم وغيظهم من الفلسطينيين، هم أول من يدرك السبب الأصلي لمحنة هؤلاء. فقد لازموا القضية الفلسطينية ملازمة وثيقة منذ بروزها، ولا يمكن لهم أن ينسوا ما شاهدوه. ثمة أيضاً موضوع الهوية. فالحال تشبه ما قد يحدث ضمن الأسرة الواحدة، إذ قد يُداخل العلاقات من البغضاء والمرارة أكثر مما هو محتمل بين هذه الأسرة والغرباء. بل قد يصل الأمر إلى حد سفك الدماء. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يمكن لعلاقات الهوية أن تنفصم. هكذا تبقى، على مستوى ما، معرفة عميقة متبادلة ومكتومة يسع المرء أن يفترض وجودها بيننا وبين الفلسطينيين. والأمر أكثر تعقيداً بين المسيحيين والفلسطينيين. فعنصر الهوية موجود هنا أيضاً، مهما يحاول البعض إنكاره. لكن احتمال العداء أقرب بسبب اختلاف الدين. أما العلاقات بالإسرائيليين فهي مختلفة تماماً، حتى بالنسبة إلى العملاء من الموارنة. فالإسرائيليون غرباء، وأجانب، على صورة لا يمكن للفلسطينيين أو للسوريين أن يكونوا فيها غرباء أبداً. الإسرائيليون هم "الآخر" على مستوى عميق غير قابل للتحول.

              على الإجمال، يكره الناس إسرائيل، المسيحيون منهم والمسلمون. بل إن هذا الأمر عامل توحيد. وفي صفوف المسيحيين لم يكن هناك أي تعاطف قط مع الإسرائيليين، بل غلب منطق الضرورة، لا غير. ويشعر المسيحيون بأنهم قد استُخدموا من جانب إسرائيل. فقد ضمنوا إسرائيل نوعاً من الهيمنة عليهم، وهم يعلمون تمام العلم أن الإسرائيليين يحتقرونهم. كما يعرفون أنهم منعزلون عن بلدهم، وأن ثمة علامة استفهام كبرى تتأرجح فوق مستقبلهم. وهم يعلمون أنه لن يكون من السهل عليهم، بعد كل ما حدث من خلال تشجيع إسرائيل ومبادراتها، أن يعيشوا حياة طبيعية مع جيرانهم. هذا الأمر لا يزال ممكناً، لكنه لن يكون سهلاً بعد أن فُقِد أو انكسر شيئ ما.

              في الوقت نفسه، عانى الشيعة ما لم تعانه أية جماعة أخرى، عدا الفلسطينيين، على يد إسرائيل. هم عانوا الوطأة الكاملة للاحتلال الإسرائيلي. ومشاعر الكراهية تجاه إسرائيل ليست أمراً نظرياً أو أيديولوجياً ينبع من أفكار العروبة أو من صورة الخير والشر، بل من حياة وتجارب مستمرة قوامها القصف والقهر والموت. ولقد مضى أكثر من عشرين عاماً على نشوء الخصام الخاص ما بين الشيعة وإسرائيل. على أن ذاك لا يعني أنهم يرحبون بفتح الجبهة مجدداً. فقد ولّى ذلك العهد إلى الأبد. وإذا ما فرح الناس في المناسبات النادرة التي تحدث فيها عمليات مقاومة يسقط فيها ضحايا في صفوف جيش لبنان الجنوبي أو الإسرائيليين (وذلك بشرط أن تحدث هذه العمليات بعيداً عن قراهم ولا تستدعي الثأر)؛ فهناك، على الإجمال، شعور متزايد بالخيبة حيال المنظمات الشيعية، وبالغضب من بعض العمليات (كزرع الألغام مثلاً) التي توقع الضحايا بين صفوف المدنيين. وهناك عامل جديد نشأ في الأعوام الأخيرة، وهو الإدراك الشيعي المتعاظم أن إسرائيل بات يتعذر طردها بالقوة وأن الاحتلال، إنْ كان له أن ينتهي، فذلك سيحدث من خلال المفاوضات السلمية.

              وإذا كان ثمة داع يدعو إلى الأمل في الجنوب اللبناني، فهو يكمن في الرغبة العارمة والعميقة في عودة السيادة اللبنانية. ففي التحليل الأخير، وباستثناء بعض المستفيدين الذين يسيطرون على التجارة في المنطقة الحدودية، ليس ثمة أحد يستفيد حقاً من الاحتلال. فحتى جنود جيش لبنان الجنوبي وأولئك الذين يعملون في إسرائيل يعرفون، حق المعرفة، أنه كان في استطاعتهم العيش والعمل على نحو طبيعي في بلدهم لو لم تكن المنطقة محتلة. وعلى الرغم من مرور الأعوام، فإن السكان لم يقبلوا الوضع القائم. من هنا الحماسة التي يبديها الناس حيال أية نتفة من  شائعة توحي بانسحاب إسرائيلي وشيك. وهم يدعمون توقعاتهم بشروح ونظريات معقدة ومطوّلة. من هنا أيضاً ميلهم إلى الاقتصار في تحليل كل حدث، إقليمياً كان أو دولياً، على استجلاء أثره المحتمل في إمكانات الانسحاب الإسرائيلي.

              هل اللبنانيون متشائمون أم متفائلون في شأن فُرص التسوية؟ هذا يتوقف على اللحظة المختارة، وعلى تقاطع الأحداث في الحاضر. فهم يبدون متفائلين في بعض الأحيان، ومحبطين في البعض الآخر. يبقى على الرغم من كل شيء أن الأمل، شأنه عند البشر جميعاً، هو عندهم الذي يطغى. ■

 

*   أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية في بيروت. وهذا المقال يستند إلى سلسلة من المقابلات أجرتها معه ليندا بتلر في نهاية حزيران/يونيو 1991. وقد نقلته هنا عن الإنكليزية "مجلة الدراسات الفلسطينية"، وسيُنشر في العدد المقبل من Journal of Palestine Studies.

*    كان كميل شمعون رئيس الجمهورية في إبان الحرب الأهلية سنة 1958. وكان مارونياً متشدداً ورئيساً لحزب الوطنيين الأحرار والميليشيا التابعة له، وعضواً في الجبهة اللبنانية – وهي تحالف للمنظمات المسيحية المحافظة بقيادة حزب الكتائب. وتوفي شمعون في سنة 1987.

*    الزعيم الشعبي ذو الشخصية الساحرة، ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ومؤسس حركة المحرومين مع جناحها العسكري – حركة أمل. وقد اختفى الإمام في ليبيا سنة 1978.

*    خلال احتلال إسرائيل للبنان، أدخلت ثم طوّرت وجوداً كتائبياً في منطقة الشوف التي تقع تقليدياً تحت سيطرة الدروز، وهي منطقة تضم خليطاً من الدروز والمسيحيين، وكانت حتى ذلك الحين من أقل المناطق تأثراً بالحرب الأهلية. وقد قتل نحو ألف مدني لبناني في القتال المرير والمجازر المتبادلة التي تبعت انسحاب إسرائيل المفاجىء في أيلول/سبتمبر 1983، وذلك بعد أن مدّت الميليشيات الدرزية والكتائبية بالسلاح.