تتناول الدراسة مسألة توزيع الموارد بين المواطنين العرب واليهود في إسرائيل، وتركز على ثلاث موارد اقتصادية هي المياه، وناطق النفوذ للسلطات المحلية، والميزانيات العادية للسلطات المحلية استناداً إلى فرضية أن الدولة ستكون حيادية لا تتحيز أو تنحاز إلى أي مجموعة عرقية، بل تحافظ على مصالح جميع المجموعات المقيمة في ظل سيادتها. وتخلص الدراسة إلى أن التوزيع غير المتساوي للموارد الاقتصادية الثلاث يظهر دور الحكومة أو الدولة غير الحيادي، وأن توزيع الموارد مرتبط عضوياً بالانتساب العرقي للمجموعة السكانية أو البلدة التي تخصص الموارد لها. وفي الحالة الإسرائيلية، فإن الحكومة أو الدولة فضلت المجموعة العرقية اليهودية على العربية، وبالتالي لا يمكن اعتبار إسرائيل دولة ذات سمة تعددية، وهذا ما ينطبق أيضاً على المصداقية الديموقراطية المزعومة فيها.
مقدمة
سنحاول، بدايةً، توضيح معنى التعددية او ما يقابله بالانكليزية pluralism، وكذلك توضيح ما نقصده من استعمالنا كلمة موارد (resources)، ثم نحاول الربط بين المفهومين. ويقودنا هذان التوضيحان الى السؤال الجوهري المطروح: هل دولة اسرائيل دولة ذات صبغة تعددية، كما هو الأمر بالنسبة الى بلجيكا وسويسرا وكندا، على سبيل المثال لا الحصر؟ فاذا كان الجواب نعم، او كان الجواب لا، فهذا يثبته شكل توزيع الموارد بين مواطنيها. فالتعددية هنا يشار اليها عند الحديث عن مجتمع مكون لدولة فيها مجموعتان عرقيتان او أكثر. والدولة عبارة عن مؤسسة "حيادية" لا تتحيز او تنحاز الى اية مجموعة عرقية، بل تحافظ على مصالح جميع المجموعات المقيمة في ظل سيادتها. وأكثر من ذلك، فهي تقوم أيضا بدور تقليص الصراعات والمنافسات بين المجموعات العرقية، وذلك للمحافظة على استمرار الاستقرارية.
ولغرض بحثنا، نريد ان نتبنى مفهوم "الحيادية" الموازي للتعددية، وذلك عند حديثنا عن توزيع الموارد بين المواطنين العرب واليهود في اسرائيل. فاذا كانت اسرائيل دولة ذات صفة تعددية، فيجب ان تأخذ موقف "الحيادية" وتوزع الموارد بين جميع مواطنيها بالتساوي، ويجب ألا تقتطع موارد مجموعة معينة وتخصصها لمجموعة اخرى مجاورة.
سنختار ثلاثة موارد اقتصادية هي: المياه، ومناطق النفوذ للسلطات المحلية، والميزانيات العادية للسلطات المحلية. وسنرى كيف توزع هذه الموارد بين المواطنين العرب واليهود، في منطقة لواء الشمال المتمثل في الحالة الدراسية هنا. وتجدر الاشارة الى ان اختيارنا هذه الموارد الثلاثة هو لكونها تُقَرَّر جميعها من قبل حكومة الدولة، ولا يمكن للمواطن العربي او اليهودي عادة دور مؤثر في اتخاذ القرار بشأن حجم الموارد المخصصة وشكلها.
لقد حاول الباحثون الاسرائيليون في دراساتهم تصوير اسرائيل أنها دولة تعددية وديمقراطية، واستعملوا تحليلات مختلفة لاعطاء فرضياتهم مصداقية. وتأتي دراستنا اليوم لطرح بديل ومفهوم آخر، إذ نقول للباحثين الاسرائيليين ان اسرائيل ليست ذات صبغة غير تعددية فحسب، بل انه لا يمكنها ان تحتوي على صفة التعددية قطعيا، حتى لو أرادت ذلك. وسنثبت هذا من خلال الإِحصاءات الرسمية لحكومة دولة اسرائيل.
الاطار النظري
اتخذت تعريفات الدولة، ودور الدولة، وعلاقتها بمواطنيها، قسطا كبيرا من دراسات الجغرافيين السياسيين وغيرهم. فجونستون (1985) أشار الى ان أنماطا مختلفة للمجتمعات تستوجب أهدافا مختلفة؛ وعليه فان لهذه المجتمعات مطاليب مختلفة لتكوين دولة (جونستون، ص 164). أما أوتس (1972)، فقد حصر وظيفة الحكومات العصرية في ثلاثة مجالات:
- تخصيص موارد اقتصادية لمواطنيها بصورة ناجعة.
- إقامة اسس متساوية في توزع الدخل على السكان.
- ضمان مستوى نمو اقتصادي مقبول لجميع المواطنين، والعمل على استمرار الاستقرار. ومن هذا المنظار، يعتبر باديسون (1983) الدولة أنها عبارة عن "جسم حيادي" وأداة سياسية لضمان الاستقرار لمواطنيها (باديسون، ص 7).
هنالك مفهوم مضاد لمصطلح "الدولة" يقول ان مجرد احتواء الدولة على أجسام بيروقراطية مكونة من مجموعات ذوات ايديولوجية ومصالح متنوعة، فان الدولة لا يمكنها ان تبقى سمسارا حياديا (neutral mediator)، إذ ان الحيادية تتلاشى عندما تسيطر مجموعة المؤسسات على الدولة، وتعمل هذه المؤسسات باستمرار على السيطرة على رأس المال واحتوائه (بيكر، 1984). وتوازي مجموعة المؤسسات هذه أيضا، في مفهومنا للدولة، مجموعة عرقية عندما هي أيضا تحتوي (من مفهوم الاحتواء والسيطرة) مؤسسات الدولة، وتضع قوانين لتحافظ على سيطرتها على مجموعات اخرى. من هنا، لا يمكننا ان نتكلم في مفهوم حيادي للدولة. وهنا أيضا تكمن المقابلة بين اسرائيل وجنوب افريقيا: ففي جنوب افريقيا وُضعت اسس مؤسسية وقوانين ونظم في جهاز الدولة للمحافظة على مصالح البيض، وفي اسرائيل قوانين مشابهة معروفة للمحافظة على مصالح المجموعة العرقية اليهودية.
لا أريد ان اتحدث هنا عن هذه القوانين، بل اريد ان انفرد باتجاه آخر لتوضيح فكرة ان اسرائيل كدولة لا يمكنها ان تكون "حيادية"، حتى لو أرادت ذلك. وعليه، فلا يمكننا ان نتكلم في ديمقراطية وتعددية في الحالة الاسرائيلية.
فاسرائيل ربما تكون الدولة الوحيدة في العالم التي توجد داخلها "دولة ثانية" مقبولة من أغلبية سكانها وحكومتها. وهذه الدولة هي المؤسسات الصهيونية التي نشأت قبل قيام الدولة، وما زالت قائمة ـ مثل الوكالة اليهودية ودائرة الأراضي وغيرهما. وهذه المؤسسات مسيطرة على أملاك الدولة من ارض ومياه وغير ذلك. فمثلا، ان أكثر من 90٪ من الأراضي هو ملك لدائرة الأراضي. وتملك الوكالة اليهودية ثلث المياه، وهنالك مؤسسات اخرى تملك موارد اخرى. وهذه المؤسسات، إيديولوجيا وسياسيا واجتماعيا، تعمل فقط لمصلحة اليهود "وبالتحديد لمصلحة اليهود"، ولا تتدخل ولا تريد ان تتدخل في مصالح غير اليهود. من هنا، فلا نصيب للعرب من الموارد الموجودة في حيازة هذه المؤسسات. وتمثل قضية الضابط الدرزي من قرية جت في الجليل الذي أراد استئجار بيتين فارغين لولديه الضابطين، في مستعمرة غيته المجاورة ورفض طلبه بسبب ان هذه البيوت تابعة للوكالة اليهودية، وأن الوكالة ممتنعة من الاعتناء بأمور غير اليهود، أفضل برهان وترجمة لروح الأبرتهايد السائد في اسرائيل. ويمكننا عمليا القول ان اسرائيل، كدولة وحكومة، فقيرة من ناحية الموارد الاقتصادية الموجودة تحت سيطرتها مباشرة، لو قابلنا ذلك ببعض الدول الأخرى. ان أغلبية الموارد توجد عادة في يد الدولة، وتعمل الحكومات الديمقراطية عادة على تأميم الموارد والمشاريع الاقتصادية لتضعها في متناول يدها. أما ما تعمله حكومة اسرائيل، على ما يظهر، فهو عزل للموارد وتسليمها للأجسام الصهيونية، وذلك كي تضمن استمرارية استغلالها للعنصر اليهودي في المدى الأبعد، وطبعا يمكنها ـ ولو نظريا ـ حرمان المواطنين العرب منها.
ان نصيب المواطنين العرب من الموارد الاقتصادية يأتي، عمليا، من الموارد القليلة المتبقية في يد الحكومة. ويمكننا القول هنا ان المورد الاقتصادي الضخم نسبيا، والمتبقي في يد الحكومة، هو الجيش. وهذا المورد أيضا تقتصر الاستفادة منه على اليهود ـ فأنا هنا لا اقصد قضية التجنيد بالأجر كمورد، بل اقصد ما يُعرف في الولايات المتحدة بـ Military Industrial Complex-MIC؛ فجهاز الجيش يضم صناعات عسكرية وتكنولوجية تعتمد آلاف العائلات عليها، وهذا المجال من العمل محصور باليهود ومقتصر عليهم فقط.
التوزيع غير المتساوي للموارد الاقتصادية
نختار فيما يلي ثلاثة موارد اقتصادية للمقابلة بين ما يخصص ويوزع على المواطنين العرب واليهود، ونعطي أمثلة عينية من منطقة لواء الشمال.
المياه
منذ نشوء الصهيونية كحركة استعمار سياسي، فان مورد المياه كان مبدأ عندها لتحديد إطار المناطق التي أرادت استعمارها (نجم، 1990). ومفهموم حدود ارض اسرائيل يعرف عادة بحدود الأنهر. وعندما عينت حدود فلسطينية، بعد الحرب العالمية الأولى، طالبت الحركة الصهيونية بحدود مياه.
ان اهمية المياه كمورد اقتصادي تكمن في تحديدها مستوى خصوبة الأرض. وقد تكون موردا ذا صفة استراتيجية عسكرية عندما يكون هذا المورد نادرا. كذلك تكمن اهمية المياه في إقامة المستعمرات الزراعية وغير الزراعية.
بحسب دراسة رجا الخالدي (1988) بلغت مساحة الأراضي العربية المروية في اسرائيل 2,6٪ من مجموع الأراضي المروية الكلي في البلد. فعلى الرغم من ان العرب في البلد يزرعون 20٪ من مجموع الأراضي الزراعية، فان نصيبهم من المياه هو 2,3٪ وفق إحصاءات سنة 1978 (رجا الخالدي، ص 72، 76). أما بحسب آخر إحصاء زراعي رسمي أُجري سنة 1981، فقد صنفت 69 قرية عربية كقرى زراعية، وشكل هذا الرقم 13,8٪ من مجموع القطاع القروي الزراعي في البلد، لكن نصيبها من مخصصات المياه هو 0,4٪ كما يشار اليه في الجدول رقم (1). لقد أجرينا مقارنة بين نصيب القطاع الزراعي للمياه في البلد الواحد، وفي الوحدة الزراعية الواحدة، فوجدنا أرقاما مذهلة: في الوسط القروي اليهودي 136,8 ألف كوب جميعه مخصص بالمعدل للقرية، و67,1 ألف كوب في الوسط القروي العربي. وكذلك 41,000 كوب للوحدة الزراعية في الوسط اليهودي، بينما نصيب الوسط العربي 1500 كوب للوحدة الزراعية (دولة اسرائيل 1985، ص 8 ـ 9).
وعند مقارنة إحصاءات المياه بين العرب واليهود، في لواء الشمال لعام 1986/1987، الخاصة بـ 23 سلطة محلية عربية و14 سلطة محلية يهودية، كما هو مبين في الجدول رقم (2)، يظهر هذا الجدول بوضوح انه حتى اصغر مخصصات المياه التي أُعطيت لسلطة محلية يهودية (يوكنعام عيليت) ما زال أكبر، بكميته، من أكبر مخصصات مياه أُعطيت لسلطة محلية عربية (كفر ياسيف). هذا وان معدل مخصصات المياه الـ 14 سلطة محلية يهودية في لواء الشمال هو 2,8 ضعف كمية المياه التي خُصصت لثلاث وعشرين قرية عربية ورد ذكرها في الإِحصاءات الرسمية.
أما الخريطة رقم (1)، فهي مبنية على الإِحصاءات الواردة في الجدول رقم (2)، وتشير أيضا بوضوح الى ان هنالك شكلا جغرافيا مميزا لتوزيع المياه. ففي وسط الجليل تقل المخصصات لأنه يحوي تجمعا عربيا عاليا نسبيا. وفي الأطراف تكبر المخصصات بسبب وجود المستعمرات اليهودية. والمقارنة أيضا واضحة جدا في وسط الجليل، حيث توجد سلطات محلية يهودية مثل كرميئيل، والناصرة العليا، ومغدال هعميك؛ فهذه السلطات تأخذ نصيبا من المياه أكبر من نصيب جاراتها العربيات.
ان هذا الشكل من توزيع موارد المياه بين العرب واليهود، لا يمكن ان ينتج من سياسة "حيادية" تنتهجها السلطات الاسرائيلية، بل ان المياه كغيرها من الموارد تستعمل أداة ضبط سياسي واقتصادي. وهي توزع بحسب أفضليات تضعها السلطات الاسرائيلية التي تميز بموجبها لمصلحة المواطن اليهودي على حساب المواطن العربي في غالب الأحيان.
مناطق نفوذ السلطات المحلية
ان منطقة نفوذ سلطة محلية او بلدية عبارة عن منطقة تعين من قبل وزير الداخلية، وتكون عادة محيطة بالقرية او المدينة. وداخل نطاق هذه المنطقة تستطيع السلطة المحلية، بموجب تفويض رسمي من السلطة المركزية، إجراء مشاريع تطويرية.
اننا نعتبر مناطق النفوذ للسلطات المحلية موردا اقتصاديا مهما، وأن السلطة المركزية او الحكومة هي التي تقرر نطاق المنطقة المخصصة للنفوذ، وذلك بحسب اعتبارات تنسجم مع روح مفهوم سياستها. واننا نرى أيضا ان سياسة تعيين مناطق النفوذ للسلطات المحلية العربية في البلد تنسجم أيضا مع سياسة تجزئة الأرض العربية، وبالتالي تؤدي الى مصادرتها. فهذا التعيين هو أيضا نوع آخر من المصادرة او ضبط استغلال المواطنين العرب لأرضهم المملوكة.
لقد قمنا بمسح جذري لملكية ثماني قرى عربية في الجليل من جداول الحقوق والملكيات الموجودة في المجالس المحلية العربية، وحددنا على الخريطة مناطق النفوذ. وهذه القرى هي: عيلبون، كفر مندا، دير الأسد، كفر ياسيف، دير حنا، الرامة، ابو سنان، مجد الكروم. وقد تبين بوضوح انه جرى ما يسمى بالانكليزية عملية gerremandering، اي تقسيمات الى وحدات إقليمية لمصلحة جماعة معينة (أنظر ملحقات 1 ـ 8).
تبين هذه العملية بصورة واضحة سياسة إخراج الملكية الفردية للأراضي العربية قدر الامكان خارج نطاق منطقة النفوذ، وإدخال أراض تابعة للدولة (او بالأحرى اصبحت تابعة للدولة) داخل نطاق مناطق النفوذ. وهنا تجدر الاشارة الى ان تحديد مناطق النفوذ يأتي في الدورة الأولى لأول رئيس مجلس محلي، وهو عادة يعين من قبل السلطة، ولم يكن منتخبا من قبل السكان. في خلال هذه الفترة، تقوم السلطة المركزية بالتعاون مع "وكيلها" رئيس المجلس المحلي المعين، بتعيين مناطق النفوذ، واضعة أمام أعينها في المكانة الأولى مصلحتها، ومن دون ان تلقى معارضة ملموسة من قبل الرئيس الذي زُرع أصلا لهذا الغرض او لغرض مشابه.
يمكننا ان نلخّص سياسة تعيين مناطق النفوذ بأنها جاءت لخدمة هدفين: 1) ان إخراج أراض ذات ملكية عربية خارج نطاق نفوذ القرية يعني، أيضا، ضمّها الى مجلس محلي يهودي مجاور او الى مجلس إقليمي يهودي. وهذا الأخير يستفيد من جباية الضرائب المفروضة عليها، ويمكنه ان يصادر ما يقارب 40٪ من هذه الأراضي لأغراض تطويرية، وعن طريق قوانين خاصة تخوله فعل ذلك من دون دفع تعويضات؛ 2) ان إخراج مناطق معينة او اقتطاع أجزاء من أراضي قرية معينة وضمها الى قرية اخرى هو أيضا توفير منفعة مباشرة للقرية الأخرى على حساب الأولى، وخصوصا عندما تحتوي هذه الأرض المقتطعة مصالح تجارية، وصناعية، ومنتزهات، ومطاعم. ويعود كل هذه المصالح بالمنفعة الاقتصادية على القرية او المدينة التي تقع في سلطة نفوذها. ان أفضل مثال عيني هو تعيين حدود مناطق النفوذ بين الناصرة العليا والناصرة العربية، والذي تشير الخريطة رقم (2) اليه، حيث ان المناطق المقامة عليها مكاتب الحكومة ومصانع الدودج ومستوصف شبرنساك ومعسكر قيادة لواء الشمال، موجودة كلها في النطاق الجغرافي لمدينة الناصرة العربية، لكنها اقتُطعت وضُمت الى مناطق نفوذ الناصرة العليا (فلاح 1989، ص 7).
ان هذا النمط من التوزيع في شكل مناطق النفوذ بين مدينتين، لا يمكن ان يكون ـ على سبيل المثال ـ بين مدينتين يهوديتين متجاورتين. وعليه، فان وجوده في منطقة الناصرة، وبين مجموعتين عرقيتين مختلفتين، هو أيضا برهان آخر على ميزة اللاحيادية التي تتصف دولة اسرائيل وحكومتها بها.
الميزانيات المخصصة للسلطات المحلية
تأخذ السلطات المحلية في اسرائيل ميزانياتها من مصادر مختلفة، ومنها الضرائب المفروضة على الخدمات المقدمة للسكان، والضرائب المفروضة على المصالح التجارية والصناعية. وهنالك مصدر آخر هو ما تخصصه الحكومة سنويا؛ فالمبلغ الذي تخصصه الحكومة هو المصدر المهم جدا من وجهة نظر التطوير الذي تريده الحكومة لهذه البلدة او تلك، او التطوير الذي لا تريده لهذه البلدة او تلك. والمبدأ نفسه ينطبق أيضا على المجموعات العرقية القاطنة في هذه البلدات.
هنالك نوعان من الميزانيات في اسرائيل: ميزانية عادية، وميزانية غير عادية (او ميزانية تطوير). اريد ان اتحدث هنا عن الميزانية العادية السنوية فقط. لو قارنا آخر إحصاءات منشورة للسلطات المحلية العربية واليهودية، في لواء الشمال الذي يضم 41 سلطة محلية عربية و24 سلطة محلية يهودية، فان الجدول رقم (3) يشير بوضوح الى النتائج التالية:
بحسب معطيات الجدول، فان 95٪ من السلطات المحلية العربية، التي تضم 96٪ من سكان الواحدة والأربعين سلطة محلية في لواء الشمال، تحصل على معدل تخصيص للفرد في ميزانية السلطة بواقع أقل من 399 شيكلا، وأن 40٪ من السكان يحصلون على معدل تخصيص أقل من 199 شيكلا. وفي الوقت نفسه، لا توجد اية سلطة يهودية في الفئتين الأوليين ـ اي انه لا توجد اية سلطة محلية يهودية في لواء الشمال يحصل الفرد فيها على تخصيص أقل من 399 شيكلا. أكثر من ذلك، فان الفئة الثالثة المتمثلة في 400 – 599 شيكلا توجد فيها ثلاث سلطات محلية يهودية وسلطتان محليتان عربيتان، هما: كفر ياسيف، ونصيب الفرد فيها 403 شيكلات، وقرية دبورية ونصيب الفرد فيها 490 شيكلا، تقعان في أسفل السلم وأقل من باقي السلطات المحلية اليهودية الثلاث الواقعة في الفئة نفسها. ولو حاولنا ان نضع هذه الإِحصاءات على الخريطة (خريطة رقم 3)، فاننا نرى نمط التوزيع الجغرافي نفسه كما هو في خريطة توزيع المياه (خريطة رقم 1). بل أكثر من ذلك، فان السلطة لا تفرق في تعاملها بين سلطات محلية أغلبية سكانها من المسلمين او المسيحيين او الدروز، وعلى ما يظهر تعاملهم كلهم المعاملة نفسها، كونهم غير يهود؛ وهذا يعني ان مخصصات الفرد في مجالسهم أقل من المخصصات التي تقرها الحكومة للمجالس المحلية اليهودية.
هناك ادعاء رسمي سائد يبرر قضية صغر حجم الميزانيات المخصصة للمجالس المحلية العربية قياسا باليهودية. ومفاد هذا الادعاء ان الحكومة تدفع نصيبها بحسب نسبة نجاعة السلطات المحلية في جباية الضرائب من السكان؛ فوفق هذا الادعاء المزعوم، ان فشل رؤساء المجالس المحلية العربية خاصة والمجالس عامة، في إقناع السكان بدفع الضرائب بصورة كاملة وناجعة، يحمل الحكومة على الامتناع من دفع مبالغ أكثر من التي تخصصها في الوقت الحالي.
اننا نفند هذا الادعاء في ثلاث حقائق مترابط بعضها ببعض، وهي:
أولا: إذا وجدت هناك فوارق في دفع السكان العرب للضرائب، فهذا الأمر لا يعود الى فشل المجالس المحلية بل الى أسباب اخرى بنيوية وأكثر تركيبا؛ فتوزيع الموارد في الدولة في الأصل بصورة غير متساوية بين المواطنين العرب واليهود يضع السكان العرب في مستوى حياة أقل من السكان اليهود. وعليه، فان المقارنة في دفع الضرائب يجب أيضا ان تأخذ بعين الاعتبار مقارنة مستوى الحياة. في هذه الحالة، ربما يدفع العرب نسبة ضرائب أكبر من التي يدفعها اليهود لسلطاتهم المحلية.
ثانيا: ان نقطة الانطلاق التطويرية للسلطات المحلية اليهودية في واقع بنيوي أفضل كثيرا من السلطات المحلية العربية. فبينما يقطن المواطنون اليهود في مستعمرات وبلدات بعد تجهيزها ببنية كاملة من شوارع وكهرباء وجميع المقومات الاقتصادية والحياتية، وفي هذه الحالة قد يكون هَمُّ رؤساء السلطات المحلية اليهودية إنعاش السكان والحرص على رفاهيتهم ورفع مستوى خدماتهم، فان السكان العرب يفتقرون في قراهم ومدنهم الى بنية تحتية كاملة؛ وعليه فان قسطا كبيرا من مجهود السلطات المحلية العربية يبذل في مصارعة السلطة بشأن إكمال البنية التطويرية. ولهذا الواقع تأثير في مستوى حياة السكان، إذ ان هنالك علاقة مباشرة بين وجود بنية تطويرية كاملة وبين مستوى المبادرات الاقتصادية المحلية التي هي أيضا مقوّم لرفع مستوى الحياة في البلد. وبكلام آخر، ان مماطلة السلطة في تقديم الميزانيات اللازمة لتطوير البنية التحتية، تعني أيضا عدم اهتمام السلطة برفع مستوى حياة السكان العرب. وعليه، فلا يعقل ان يطلب من السكان العرب دفع ضرائب لبلدياتهم ومجالسهم المحلية بنسبة تفوق نسبة مستوى الحياة الاقتصادية الحالية.
ثالثا: يوجد في مركب الميزانية العادية فئة دخل مصدرها المصانع والحرف التجارية الموجودة في البلد، وهذه الميزانية هي بمثابة مصدر دخل للبلد. فاذا كانت هنالك حقا نية لدى السلطة في تشجيع هذه الفئة من جباية الضرائب، الأمر الذي قد يساعد أيضا السلطة المركزية والمحلية في رفع مستوى الجباية من مصادر محلية، فان الطريقة الوحيدة لذلك هي تغيير كلي في شكل خريطة مناطق النفوذ للقرى العربية الحالية. وهذا يعني إدخال مصانع إقليمية ومصالح اقتصادية اخرى بمحاذاة مجمعات وقرى عربية وضمها اليها. وفي هذه الحالة، سوف تقتطع مناطق نفوذ من مستعمرات يهودية مجاورة، وهذا طبعا شبه مستحيل لأن تخصيص موارد لليهود مربوط هو أيضا بسياسة توزيع السكان، وتثبيتهم في مناطق آهلة بالعرب. من هذا المنطلق، فان السلطة موجودة بين خيارين: إما تشجيع الجباية المحلية من خلال تغيير مناطق النفوذ وتقليل نسبي لاعتماد السلطات المحلية العربية على ميزانيات الحكومة، وإما إبقاء الوضع على ما هو عليه، وهو استمرار اعتماد السلطات العربية على الجزء المخصص من الحكومة وعدم المس بمستوى دخل الميزانيات اليهودية المجاورة.
والواقع هنا ان السلطة اختارت الخيار الثاني الأفضل لها لضبط العرب اقتصاديا وسياسيا، وهي عمليا لا تريد ان لا تعتمد السلطات المحلية العربية عليها لأن لذلك أيضا أبعادا سياسية.
تشير الخريطة رقم (4) الى ان نصيب الضرائب المدفوعة في الميزانية العادية والمستحقة من المصالح التجارية، موزع على ميزانيات السلطات المحلية العربية واليهودية. ان النمط الجغرافي لهذا التوزيع يشبه، الى حد كبير، توزيع المياه وتوزيع الميزانيات العادية، كما ورد في الخريطتين السابقتين (خريطة رقم 1 ورقم 3). هذا، وتظهر الخريطة بعض الاستثناءات في الوسطين العربي واليهودي، كما هي الحال في المطلة ويفنيئيل في الوسط اليهودي وعبلين وكوكب وابو سنان في الوسط العربي. فالمطلة مثلا تتمتع بجباية ضرائب من المصانع الموجودة في مناطق نفوذها، بينما تعتمد يفنيئيل على الزراعة ونصيبها من هذه الضرائب معدوم تقريبا. أما القرية العربية الوحيدة التي تتمتع بهذه الجباية فهي عبلين، وذلك بسبب وجود المنتزهات والمطاعم العربية ومزرعة الخنازير في حيز منطقة نفوذها. أما السلطات المحلية العربية الخاصة بكل من ابو سنان وكوكب ومعليا، فيصل مستوى الجباية فيها الى الصفر، وذلك لأسباب تعود بصورة مباشرة الى تعديلات في مناطق النفوذ في المحيط القريب منها؛ فمثلا محطة الوقود الواقعة في الطرف الجنوبي لقرية معليا لا تقع في مناطق نفوذ القرية، وقد ضمت الى منطقة نفوذ تابعة لمستعمرة يهودية مجاورة.
خلاصة
ان التوزيع غير المتساوي للموارد الاقتصادية، كالمياه ومناطق النفوذ والميزانيات الحكومية المخصصة للسلطات المحلية العربية واليهودية، يظهر بوضوح دور الحكومة او الدولة غير الحيادي، وان توزيع الموارد مربوط عضويا بالانتساب العرقي للمجموعة السكانية او البلدة التي تخصص الموارد لها. وفي الحالة الاسرائيلية، فان الحكومة او الدولة فضلت المجموعة العرقية اليهودية على العربية، ولذا لا يمكننا اعتبار اسرائيل دولة ذات سمة تعددية، وبالتالي فان المبدأ نفسه ينطبق على المصداقية الديمقراطية المزعومة فيها.
قائمة المراجع
- Becker, B. K. (1984). “The State Crisis and the Region Preliminary Thoughts from a Third World Perspective,” in: Taylor, P. and House, J. (eds.), Political Geography: Recent Advances and Future Directions. London & Sydney: Croom Helm, 81-97.
- Falah, G. (1989). “Land Fragmentation and Spatial Control in the Nazareth Metropolitan Area,” unpublished ms., earlier draft presented at GI Research Group in Political Geography on “The Urban Agglomeration as a Political Arena,” Amsterdam, June 4-7, 1989.
- Johnston, R. J. (1985). “Local Government and the State,” in: Pacione, M. (ed.), Progress in Political Geography. London & Sydney: Croom Helm, 152-176.
- Khalidi, R. (1984). “The Arab Economy in Israel: Dependency of Development in: Journal of Palestine Studies, 51, XIII/3, 63-86.
- Khalidi, R. (1988). The Arab Economy in Israel: The Dynamics of a Region’s Development. London & Sydney: Croom Helm.
- Nijim, B. K. (1990), “Water Resources in the History of the Palestine-Israel Conflict,” Geojournal, forthcoming.
- Oates, W. E. (1972). Fiscal Federalism. New York: Harcourt Brace Jovanovich.
- Paddison, R. (1983). The Fragmented State. The Political Geography of Power. Oxford: Basil Blackwell.
- State of Israel, (1985). Center Bureau of Statistics. Agricultural and Rural Census 1981, The Village in Israel. Jerusalem.
- ______, (1988). Central Bureau of Statistics. List of Localities, Their Population and Codes, 31 XII 1987. Jerusalem (in Hebrew).
- ______, (1989). Center Bureau of Statistics. List of Localities, Their Population and Codes, 31 XII 1988, Jerusalem (in Hebrew).
- ______, (1989a). Center Bureau of Statistics. Local Authorities in Israel 1986/87, Physical Data. Special Series No. 841. Jerusalem (in Hebrew).
- ______, (1989b). Center Bureau of Statistics. Local Authorities in Israel 1986/87, Financial Data. Special Series No. 860. Jerusalem (in Hebrew).