الأنصاري. "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي" (بالعربية)
النص الكامل: 

تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي

محمد جابر الأنصاري. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.

 

كلّما عصفت بالوطن العربي عاصفة جديدة، تسارعت الأبحاث والنظريات بشأن فكرة القومية العربية وإمكان قيام الوحدة العربية. ومن هذه الأبحاث ما يُبلسم النفس بالآمال، ومنها ما هو سوداوي قاتم، بحجة الموضوعية. واليوم يطالعنا محمد جابر الأنصاري بكتابه الجديد الذي يبحث في قضية الوحدة العربية والتجزئة لكن بنظرية "جغرافية موضوعية"، إن صح التعبير. فالتجزئة، في رأيه، لم تكن وليدة الاستعمار فحسب، بل كان لعامل الجغرافيا أو "الفراغ الصحراوي بين الحواضر العربية" دور مهم في هذه التجزئة. كما أن الأنصاري يدعو إلى ضرورة المحافظة على الدولة القطرية، وإن لم تصل السلطة فيها إلى مستوى الدولة، كنقطة انطلاق إلى الوحدة الشاملة.

أما هدف الكتاب فهو "لفت انتباه الوعي العربي إلى أن الأزمات السياسية المتلاحقة التي يعانيها العرب ليست وليدة الحاضر الراهن وحده، وليست نتاج لحظاتها الآنية المنعزلة؛ وإنما هي أعراض لتراكم واقع موضوعي طويل الأمد، تداخلت فيه عوامل المكان والزمان والتكوين الجمعي؛ أي بكلمة أُخرى: "عوامل الجغرافيا والتاريخ والتركيبة المجتمعية العامة المتوارثة، والممتدة إلى عمق الحاضر المُعاش في مختلف مظاهره وأعراضه التي يعانيها عرب اليوم." (ص 7). وبناء عليه، يعتبر الأنصاري أن العرب لم يعرفوا أنفسهم إلى اليوم؛ لأنهم غير موضوعيين في مناقشة الأزمة العربية، وذلك بسبب أبحاثهم ونظرياتهم الأيديولوجية. وفي رأيه "ليس صحيحاً أنه لا ثقافة بلا أيديولوجيا، وإنما الصحيح أنه لا أيديولوجيا فاعلة ومتماسكة دون ثورة ثقافية معرفية تتقدمها... وتقودها... وتقربها من أفق الحقيقة" (ص 8). غير أن الأنصاري لم يوضح لنا مرتكزات هذه الثورة وأسسها، إنه يريد فقط نبذ الأيديولوجيا، أو "نقد الواقع"، لكن ليس تغييره.

جاء الكتاب في أربعة أقسام تضمنت ثمانية فصول.

عالج في الفصل الأول، "أعراض الأزمة: امتداد الماضي في الحاضر" كيف أن الفجوة بين المواطنين والأمراء بعيدة في التاريخ العربي – الإسلامي، وكيف أن الأمل بإصلاح واقع الحال السياسي آخذ في التضاؤل عصراً بعد آخر، ومحاولة بعد أُخرى، ودولة بعد دولة، لذلك فإن معظم المسلمين من مختلف الفرق فوّضوا الأمر في النهاية إلى الله، وأخذوا ينتظرون – بطريقة أو بأُخرى – ظهور المهدي المنتظر الذي سيأتي ليملأ الدنيا عدلاً بعد أن مُلئت ظلماً (ص 19). ويرى الأنصاري أنه على الرغم من التسامح والصفح اللذين يمتاز بهما العرب، فإن العنف الدموي كان ديدنهم في سياسة الدولة حتى بين أقرب المقربين، ويربط ذلك بظهور الدولة الإسلامية، فيلاحظ أن عرب الجاهلية لم يتجرأوا قط على مهاجمة مكة المكرمة والتعرض للكعبة المشرفة، "لكن طبيعة الصراع السياسي الحضاري في الدولة الإسلامية أدت إلى قيام جيش الخلافة الأموية بضرب الكعبة بالمنجنيق." ويتفق الأنصاري مع محمد عبد الجابري في أن السياسة تسربت إلى كثير من جوانب الفكر الإسلامي الديني والفلسفي، ولوّنته بألوانها، ووظّفته لأغراضها. وصرفته عن اهتماماته الفكرية الخالصة (الجابري، "تكوين العقل العربي"، ص 346). وبناء على ذلك يخرج الأنصاري بنتيجة تقول إنه على الرغم من الوحدة العضوية العميقة للحضارة العربية الإسلامية ولدار الإسلام، فإن هذه الدار تجزّأت سياسياً منذ وقت مبكر، ومع عدم وجود قوى مسيطرة عليها في ذلك الوقت "تتآمر من أجل تجزئتها" (ص 23).

من ناحية أُخرى، فإن الطبيعة التعددية الصراعية للعشائر والفرق في المجتمع العربي جعلت هاجس الخوف من الفتنة يعلو دائماً إمكان التسامح مع المعارضة التي كانت هي الأُخرى ميّالة إلى التطرف والعنف. من هنا كان الخيار في واقع الحياة السياسية بين القبول بالاستبداد أو التعرض للفتنة، لا بين الاستبداد أو الحرية. ويرى الأنصاري أن هذا الاضطراب الذي شمل الحياة السياسية في الدولة العربية الإسلامية منذ نشأتها يجب أن يُردّ في النهاية إلى خلفيته التاريخية الواقعية قبل الإسلام وفي التاريخ العربي القديم، وألاّ يكون مقصوراً على مجالات كلامية ونظرية بين دعاة الدولة ومعارضيها في الإسلام، من قائلين إن الإسلام دين ودولة، ومن قائلين إنه دين في الأساس (ص 27). وربط الأنصاري بين هذه القاعدة والخلفية التاريخية السياسية وبين تجارب العرب في السياسة والدولة والأحزاب والمعارضة في العصر الحديث، قائلاً إن الإرث السياسي العربي هو "إرث مثقل بالأعباء والإشكالات، خصوصاً أن العرب المحدثين لم يرثوا عصر المجد السياسي العربي وإنما كانوا بتكوينهم المجتمعي التاريخي، نتاج قرون طويلة من الحكم المملوكي المستبد والسلطة المملوكية المستوردة من مناطق رعوية بعيدة عن المنطقة العربية..." (ص 30).

ونتيجة كل ذلك نصل إلى "الحقيقة الواضحة" بأن السلطة في أزمة، وكذلك المعارضة والدولة والثورة والحركات الشعبية، سواء من حيث الوعي السياسي أو الأداء السياسي، ولن "نتوصل إلى معالجة مجدية لجذور معضلتنا السياسية إذا ظل من هم خارج السلطة يكتفون بتعليق كل المشكلات على شمّاعة السلطة من دون النظر في عمق التكوين السياسي الذي يحكم الجميع والذي سيتحكم في أية معارضة تأتي إلى السلطة كما حدث لمعارضات كبيرة تسلمت السلطة فصارت أسوأ من السلطة ذاتها" (ص 32).

لكن، هل هناك أسباب أُخرى لهذا التأزم المزمن للحياة السياسية عند العرب؟ في رأي الأنصاري، نعم، وهو التحدي المكاني. ومن أبرز مفارقاته أنه بينما تعيش الأمة العربية في وسط العالم، وبين القارات، وتتعرض لمؤثرات غير منقطعة من المناطق المحيطة بها، "فإن هناك – بالمقابل – قطيعة مكانية داخلية بعيدة الأثر بين الأقطار والمناطق والأقاليم العربية لم يُلتفت إليها علمياً وقومياً في الوعي العربي... إن هذه القطيعة المكانية تتمثل في دور الفراغات والفواصل والحواجز الصحراوية الشاسعة الممتدة بين معظم الأقطار العربية..." (ص 38).

إن هذه الفكرة الفرضية المحورية التي يدور الكتاب حولها، إضافة إلى فكرة أهمية وجود الدولة القطرية وتقويتها للانتقال إلى دولة الوحدة. ولهذا نرى المؤلف ينتقي الشواهد الطبيعية والفكرية والاجتماعية من أجل إثبات هذه الفرضية، ويحاول أيضاً إعادة تفسير الأحداث والظواهر التاريخية بناء عليها. وبناء عليها أيضاً يصل إلى النتيجة التالية: "هكذا لم يقتصر أثر هذه الظاهرة التصحرية – طبيعياً واجتماعياً، مكانياً وزمانياً – على العصور العربية القديمة، فقد عانته الحضارة والدولة في العصر الإسلامي إلى حد كبير، حيث كانت إجهاضاتها المتعاقبة تعود القهقري بمنشآت الحضارة ومؤسسات الدولة عصوراً إلى الوراء، الأمر الذي أدى إلى إجهاض الحضارة الإسلامية قبل أن تستكمل نموها الطبيعي وتستنفد طاقاتها الإبداعية... وكذلك الدولة بحكم ارتباطها بالأرض والمركز... تعرضت لحالة نشوء وتحلل مستمرين... بحيث لم يشهد التاريخ الدولة على امتداد الوطن العربي... وذلك ما يمكنه أن يفسر لماذا لم تقد دولة عربية موحدة في هذا العصر... ولماذا يتدنى مستوى الأداء العربي في إدارة الدولة وممارسة السياسة..." (ص 39).

ومن أخطر خصوصيات المكان العربي هو الصراع والتقابل والتفاعل بين أعرق مراكز الحضارة وأجدب مناطق البداوة، فالتمييز بين البدو والحضر، وبين أهل الوبر وأهل المدر، كان سمة في الوعي العربي القديم منذ بدايته. ومع الإسلام اتّخذ موقفاً مميزاً بالغ الدلالة وهو انتصار الإسلام المطلق لنظام الحياة الحضارية المدينية ضد انفلات الحالة الرعوية المتبدية (ص 43). غير أن الانتصار للحياة الحضارية لم يقوِّها ويجعلها متماسكة ومتضامنة اجتماعياً للدفاع عن نفسها ومقوماتها الحضارية وإقامة سلطتها السياسية وتأمين قوتها العسكرية. لذلك ما زالت هذه الظاهرة من أخطر نقاط الضعف الأساسية في الحاضرة وفي بنية المجتمع الحضري الأهلي العربي حتى الآن. وبذلك بقيت الأسر الحضرية الحاكمة عالة على غيرها، بحسب تعبير ابن خلدون؛ فالذين ينتجون لا يحكمون، والذين يحكمون لا ينتجون. ومن هذه المفارقة التاريخية، يرى الأنصاري، "إمكانية فهم وتفسير غياب أي تطور ديمقراطي تمثيلي باتجاه مشاركة القوى المنتجة في المجتمع الأهلي العربي، بدرجة أو بأُخرى، في العملية السياسية." (ص 52). والمفارقة العجيبة أن الحواضر والمدن ومجتمعاتها الأهلية المدينية لم تخرج من تحت السيطرة الرعوية إلا بوجود القوة الأوروبية الاستعمارية في البلاد العربية. وهنا تمكنت المدينة العربية من إنشاء المدارس والجامعات الحديثة وتطبيق النظم العصرية، وتكوين الأحزاب السياسية ذات اللون الليبرالي، وقاومت الاستعمار – وطنياً. لكن سرعان ما انكشف ضعف هذه البنية المدينية العربية بعد الاستقلال، وسرعان ما تسربت إلى قمة السلطة والقوة فيها العناصر والقوى والعصبيات الريفية، وهي عناصر ظلت مهملة ومضطهدة من الحكام في المدن، فأقامت حكمها "الشعبوي" على أهل المدن التي اضطرت عناصرها وكوادرها المتعلمة إلى الهجرة. وهكذا تم "ترييف" المدينة العربية مؤخراً، بعد "استعمارها" في فترة سابقة، و"بدونتها" سياسياً في عهود أسبق (ص 55).

وبالانتقال إلى القسم الثاني من الكتاب: "فصام العرب بالدولة القطرية"، نرى المؤلف يناقش في الفصل الرابع الوعي الملتبس بالدولة القطرية وجذوره في الفصام السياسي، فيعتبر أن الوعي العربي والإسلامي يعاني التباساً وخلطاً مفهومياً، عميق الأثر، بين مفهوم "وحدة" الحضارة العربية الإسلامية أو "دار الإسلام"، من حيث هي "وحدة" عقيدية وتشريعية وقيمية وثقافية قائمة على أسس تاريخية ومعنوية حقيقية مشهودة في حياة العرب والمسلمين، وبين مفهوم "وحدة" الدولة العربية الإسلامية، من حيث هي تصوّر مثالي للوحدة السياسية قارب التحقق في فترات قصيرة من  التاريخ العربي الإسلامي، ثم ما لبث أن ابتعد عن واقع التاريخ الذي قام في أكثر عصوره، وإلى الآن، على تعدّد الكيانات السياسية والدول. إلاّ إن ذلك التصور المثالي للوحدة السياسية ظل يتمازج ويتماهى مع مفهوم "الوحدة" الحضارية من ناحية، ومع مثال "وحدة الأمن والجماعة" في المبادئ الإسلامية من ناحية أُخرى، ليباعد بين الوعي العربي وضرورة إدراكه لواقع تاريخي ومجتمعي شديد التعقيد، له قوانينه وآلياته الموضوعية الخاصة به، بما يغاير المبادئ والمثل والتصورات، وهي القوانين والآليات التي أدّت إلى تعددية الكيانات السياسية في واقع التاريخ العربي والإسلامي، وجعلته يسير في منحى مختلف عن المنحى المثالي لتصوّر الوحدة السياسية الشاملة، وذلك منذ الحروب الأهلية المبكرة بين كبار الصحابة في صدر الإسلام، وانشقاق دولة الخلافة منذ القرن الأول للهجرة وهي في أوج قوتها على الصعيد الخارجي، من دون أن تواجه قوى دولية معادية لها في ذلك الوقت "تتآمر" على تجزئتها.

وبهذا الكلام أسقط الأنصاري كل ما قيل عن أن حالة التجزئة العربية تآمر أو أنانية مصلحية لدى الحاكمين، وأرجعها إلى العوامل التاريخية والسياسية الآنفة الذكر. كما أنه ضرب عرض الحائط بالجهود والأبحاث كافة التي بحثت في أمر الوحدة والتجزئة. واعتر أن العرب "بدل أن يدرسوا الجذور التاريخية والعوامل الجغرافية والتكوينات المجتمعية لهذه التعددية القطرية، ويكتشفوا قوانينها وآلياتها وكيفية التعامل معها لتطويعها وتوجيهها للمصلحة القومية، والوحدة القومية في النهاية، فإنهم ظلوا مكتفين بشجبها وإدانتها، و'هجائها' بينما هم في واقع الأمر محكومون بذلك الواقع التعددي الانقسامي والصراعي دون القدرة على تخطيه وتجاوزه." (ص 90).

أما في الفصل الخامس: "بمنظور الواقع الفعلي للتاريخ والمجتمع: الدولة القطرية: تجزئة... أم... توحيد؟"، فإنه يحاول تأكيد مقولة أن الدولة القطرية الحالية وحّدت بعض المناطق والمدن العربية الحالية في هيكلية سياسية واجتماعية أكبر مما كانت عليه أيام الدولة العثمانية وما قبل، أو بمعنى آخر فإن هذه الدولة جمّعت بعض الكيانات الصغيرة المشرذمة والمبعثرة في كيان توحيدي أكبر وأفضل، وهذه خطوة نحو الوحدة الشاملة.

وتوكيداً لهذه المقولة، يعطينا الأمثلة الكثيرة بدءاً بالعراق وانتهاءً بليبيا وبلاد الشام واليمن. فهذه الدول، على الرغم من التجزئة العربية عامة، تعتبر توحيدية، ولها الفضل في تجميع الكيانات الصغيرة. "وهكذا فلا يمكن اعتبار قيام 'دولة' العراق عملية 'تجزئة' بمعيار الواقع المجتمعي الملموس، وعلينا أن نعترف ونقر الآن أن قيامها، هي وغيرها من دول قطرية عربية أُخرى كان من الوجهة التاريخية الواقعية خطوة توحيدية هامة لتعدديات وصراعات حالة 'التجزؤ الذري' التي كان يعانيها معظم المجتمعات العربية قروناً طويلة سواء داخل الإطار العثماني أو خارجه، وذلك لظروف موضوعية، تاريخية وجغرافية مجتمعية، عميقة الجذور..." (ص 108).

وفي رأيه، هناك نقطة أُخرى إيجابية تضاف إلى الدولة القطرية هي "أنها اجتازت بالمجتمعات العربية مرحلة الصراع التاريخي المدمّر والمشتت بين الحاضرة والبادية إلى مرحلة المجتمع الحضري (المدني) المستقر المتجاوز والمتخطي التعدديات العشائرية وقيمها ومسلكياتها وتصنيفاتها الاجتماعية وصراعاتها المزمنة وما انبثق منها من تعدديات مذهبية وطائفية وكيانية وحدودية."

وفي القسم الثالث من الكتاب: "مرحلة الدولة القطرية في سياق التاريخ العالمي"، يركز المؤلف على أن التاريخي الإسلامي لم يعرف "الإقطاع" على الطريقة الأوروبية الغربية، هذا الإقطاع الذي، في رأيه، يساعد في التوحيد القومي. ولذلك يزعم الأنصاري أن الدولة القطرية العربية لعلها ظاهرة تمثل في واقع الأمر من حيث الوظيفة والدور التاريخي ما يوازي مرحلة إقطاعية متأخرة كان لا بد منها في سياق تطور المجتمعات العربية، لتنقلها تاريخياً من التجزئة الطبيعية، الجغرافية والاقتصادية القائمة بينها، إلى وحدة المجتمع القومي التي يتطلبها منطق التشكيلات الاقتصادية – السياسية في العصر الحديث (ص 130).

وفي القسم الرابع: "استخلاصات نظرية وفكرية: سباق الأولويات"، يتساءل الأنصاري عما إذا كان يمكن بناء ديمقراطية راسخة قبل ترسيخ دولة "مكتملة النمو"؟ (الفصل الثامن)، فيصل إلى نتيجة مفادها أن الدولة القطرية "نواة" وتأسيس للدولة وللوحدة في وقت واحد، فلا وحدة (في السياسة) من دون مقومات دولة. لكن "يجب التنبه لأمر وهو أن الدولة القطرية الحالية في معظم بيئاتها وأقطارها ما زالت تمثل 'مشروع دولة' ولم تصل بعد، إجمالاً، إلى مرحلة الدولة المكتملة التكوين والنضخ والمؤسسات والتقاليد والنظم..." (ص 186). ولهذا، إذا كانت حركات المطالبة بالديمقراطية والتغيير السياسي – ثورياً كان أو سلمياً – تطالب بتغيير الأنظمة والحكومات، فيبدو أن منطق التطور التاريخي الموضوعي الخاص بعملية تأسيس السلطة والدولة في المجتمعات العربية يتطلب ويقتضي أولاً نضج مؤسسات الحكومات والدولة ومرتكزاتها في المرحلة الراهنة من دون تعجّل الانقلابات والتغييرات الجذرية، حتى إذا ترسّخت هذه المؤسسات والركائز ونضجت، أمكن حركات التغيير السياسي ضمنها وفي إطارها أن تحدث التغيير والتطوير المطلوبين ديمقراطياً وسياسياً وغير ذلك.

أخيراً، لا بد من وقفة عند بعض النقاط التي لا يمكن التغاضي عنها. فإذا تركنا الأمور الشكلية والمنهجية في الكتاب، والتي هي كثيرة، بدءاً بالتكرار الممل، وانتهاء بالاستشهادات المطوّلة والانتقائية، نجد في تقديمه الأفكار بعض التناقضات؛ ففي القسم الأكبر من الكتاب نرى المؤلف يذكر الدولة القطرية ويصورها بأنها دولة مكتملة النمو، أو يعاملها هكذا، لكنه في نهاية الكتاب يصل إلى أنها لم تكتمل بعد، وبذلك وقع التباس الخلط بين "السلطة" و"الدولة". وأيضاً هناك الفكرة الرئيسية للكتاب، وهي التجزئة الموضوعية بفعل العامل الجغرافي والتاريخي، ونفي دور الاستعمار في التجزئة، لكنه يكرر أكثر من مرة دور الاستعمار كعائق أمام الوحدة (ص 116) و(ص 120).

والنقطة الثانية المهمة التي نتوقف عندها هي إغفال الشرخ النفسي الذي توجده هذه الكيانات بين الجماهير العربية؛ فالأمور ليست بهذه البساطة الموضوعية، وأصبح العالم اليوم، بفعل التقدم الثقافي والعلمي، قرية صغيرة، وليس هناك من عوائق تصد التواصل بين الأمم، فكيف الحال إذا كانت أمة واحدة، لا يفصلها في الحقيقة أي فاصل طبيعي مستحيل وصعب؛ فالفراغ الصحراوي الذي عمّمه الأنصاري على الوطني العربي ليس هو المستحيل، وإنما الشرخ النفسي الذي يترسخ عن طريق الدولة القطرية، من خلال التربية والسياسة والإعلام، هو المستحيل. فكلما تأخرت الوحدة يوماً ازداد الشرخ اتساعاً؛ فلماذا تغاضى الأنصاري عن هذه القضية، وهي قضية ثقافية، علماً بأنه يدعو في مقدمة الكتاب إلى الثورة الثقافية قبل الأيديولوجيا، فما هي هذه الثقافة؟ هل هي الثقافة العربية – الوحدوية أم أنها ثقافة قطرية – تجزيئية؟ وهل ننسى ما لهذه الثقافة من دور أساسي في الوحدة والتجزئة؟ وهل لنا أن نعرف منابع ثقافتنا الحالية والمستقبلية القريبة؟؟

ومن جهة أُخرى، صحيح أن الدولة القطرية وحّدت كيانات "ذرية" مشتتة، لكن الأصح أن هذا الشرخ النفسي والثقافي لم يكن موجوداً، ونستدل على ذلك من خلال التسميات والألقاب التي يتعامل الناس بها فيما بينهم، فلم نسمع مثلاً بلقب أو اسم "اللبناني" أو "السوري" أو "العراقي"، هذه التسميات التي فرضها علينا الغرب، بل إن التسميات كانت تعرف بحسب المدينة أو المنطقة، وهذا طبيعي لأنها أعرق وأقدم، ولأنها دليل على التمازج والتفاعل والتلاقي بين أبنائها. وكانت هذه الأسماء صفات تمييزية تعريفية أكثر منها دلالة على هوية سياسية.

وعلاوة على ذلك، كيف يفسر الأنصاري التجزئة الحالية في منطقة الهلال الخصيب، أو سوريا الكبرى؟ وما هي الصعوبات التي تعترض وحدتها الآن؟ وفي الوقت نفسه، كيف يفسر قيام الكيان الصهيوني في فلسطين بين الشطر الآسيوي والشطر الإفريقي من الوطن العربي؟

إن المؤلف يرى في الفكرة الأساسية للكتاب أن يحافظ على الدولة القطرية الحالية، بشكلها وسلطتها، فلا حاجة إلى الأيديولوجيا التي لا تفرزها الثورة الثقافية (!!) والثورة على واقع القمع السلطوي لا يجدي نفعاً الآن، بل علينا انتظار أن تقوى الدولة وتترسخ مفاهيمها الشوفينية – القمعية، وبعدها نقوم من ضعفنا لتغييرها، أو الأصح لـِ"ننقدها" وكأنه يريد أن يقول: إذا رأيتم الخطأ في عملكم اتركوه حتى يكتمل إلى النهاية، ومن ثم أعيدوا تهديمه.

السيرة الشخصية: 

أحمد مفلح: باحث فلسطيني.