مقالات ومقابلات: فلسطين.. أية دولة؟
كلمات مفتاحية: 
إعلان المبادىء بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت 1993
منظمة التحرير الفلسطينية
المستعمرات
إنشاء الدولة الفلسطينية
القدس
انسحاب القوات الإسرائيلية
نبذة مختصرة: 

في حين أن "إعلان المبادىء" لا يمثل بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية، قاعدة انطلاق لدولة فلسطينية وانسحاب إسرائيلي كامل وتخفيف السيطرة على القدس والمستعمرات، فإن الاتفاق يعني، بالنسبة إلى الفلسطينيين، انسحاباً كاملاً ونهائياً، ودولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.

النص الكامل: 

يتصور كثيرون أن النزاع الذي دام بين الفلسطينيين والإسرائيليين قرابة قرن من الزمن قد وصل أخيراً إلى نهايته عندما وقّع الجانبان في أيلول/سبتمبر الماضي، في حديقة البيت الأبيض، "إعلان مبادئ" يتعلق بإقامة "سلطة حكم ذاتي فلسطينية موقتة" في الأراضي المحتلة. وبدا كأن وضع الفلسطينيين قد شهد، بين عشية وضحاها، في وسائل الإعلام على الأقل، تحولاً كاملاً للفلسطينيين من شخصية الإرهابي والمفسد الدائم إلى شخصية من له حق في مكان تحت الشمس. وعلى العموم، ما زال من غير الواضح أي نوع من الأمكنة هذا الذي رُسمت حدوده سراً خلف الكواليس في أُوسلو (النرويج)، بعيداً عن وهج وعلانية واشنطن ودعايتها.

وبالتحليل الصحيح، يمكن العثور في الوثيقة على شيء ما لكل طرف، إذا ما نحن أطلقنا العنان للتخيلات في التأويل السياسي. وفي حين أن "إعلان المبادئ" لا يمثل، بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية، قاعدة انطلاق لدولة فلسطينية في المستقبل وللانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية، كما أنه لا يمثل أي تخفيف من السيطرة الإسرائيلية على أي جزء من القدس والمستوطنات في الأراضي المحتلة، فإن الاتفاق يعني، بالنسبة إلى الفلسطينيين، انسحاباً إسرائيلياً كاملاً ونهائياً، ودولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن الاتفاق يعني بالنسبة إلى المعارضة الليكودية ما يقول الفلسطينيون أنه يعني، مع إضافة ذات مغزى، وهي أنه يعلن بداية نهاية إسرائيل كدولة يهودية.

وتتحدث استطلاعات الرأي العام – التي تحتاج إلى تفسير بدقة وعناية في أفضل الأيام.. ناهيك بذلك في الأوضاع التي تشبه الحرب - عن تأييد للاتفاق يصل إلى محو ستين في المئة بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة على حد سواء.

وما من طريقة لمعرفة أكيدة لرأي الفلسطيني العادي في الاتفاق، وذلك نظراً إلى تشتت الفلسطينيين الذين يزيد عددهم عن ستة ملايين نسمة في أنحاء العالم: من أولئك الذين يعيشون في 59 مخيماً للاجئين تابعاً للأمم المتحدة في الضفة الغربية وغزة  ولبنان والأردن وسوريا، إلى الآخرين الذين يعيشون خارج المخيمات في الأراضي المحتلة وفي البلاد العربية المجاورة، وفي أماكن أُخرى. وبصورة عامة، يقدّر أن وضع ما يقرب من ثلاثة أرباع الفلسطينيين هو وضع اللاجئ أو المقتلع من أرضه. وفي حين أن في قطاع غزة وحده ما نسبته نحو 75 في المئة من الفلسطينيين لاجئي حربي 1948 و1967، فإن نسبة اللاجئين والمعتقلين نتيجة هاتين الحربين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، تصل إلى 39 في المئة من السكان.

يستند الاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي إلى قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 و338. ويشدد أولهما، الذي أُقر في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1967، على "عدم جواز اكتساب الأرض عن طريق الحرب، والعمل من أجل سلام عادل ودائم يمكّن كل دولة في المنطقة من ضمان أمنها"، وعلى الحاجة "إلى التوصل إلى تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين." أما قرار مجلس الأمن رقم 338 فصدر عقب حرب 1973 تأكيداً للقرار رقم 242 "بكل أجزائه". وتتعلق الإشارة إلى "اللاجئين" في القرارين كليهما بأولئك الذين اقتًلعوا من أرضهم في حرب 1967. وكذلك، فإن قرار مجلس الأمن رقم 237، الصادر في 14 حزيران/يونيو 1967، والذي يدعو إسرائيل "إلى تسهيل عودة السكان الذين هربوا من المناطق منذ اندلاع العمليات العدائية ]1967["، لم يؤخذ في الحسبان عند صوغ مسودة "إعلان المبادئ"، ولا أُخذ في الحسبان أيضا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 (الدورة 3) الأكثر أهمية والصادر في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948، والذي صادقت الولايات المتحدة عليه، كما أعادت تأكيده سنوياً مع المجتمع الدولي كله من خلال القرارات الصادرة عن الجمعية العامة نفسها. ولقد أعلنت الفقرة العملاتية من القرار 194 (الدورة 3)، في جزء منها، أنه "يجب السماح للاجئين الراغبين في العودة إلى بيوتهم والعيش بسلام مع جيرانهم أن يفعلوا ذلك في أبكر موعد ممكن، بينما يجب التعويض بما يلزم على أولئك الذين لا يرغبون في العودة. ولم يترك "إعلان المبادئ" منفذاً لمناقشة مسألة لاجئي سنة 1948. واستناداً إلى المادة الخامسة من "‘إعلان المبادئ" فإنه سيتم التعامل مع المسائل المعلقة، مثل "القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون مع الجيران"، في أثناء مناقشة الوضع الدائم للمناطق خلال فترة انتقالية لا تتجاوز الخمسة أعوام.

ولفهم لماذا وقّع الاتفاق الآن، على الرغم من أنه لم يعالِج بصورة مباشرة الموضوعات الأساسية للسيادة أو قيام الدولة أو حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، فإن على المرء أن يستعيد في ذاكرته إطار التطورات الأخيرة التي أحاطت بتوقيع الاتفاق. وعلى المرء أن يتذكر أن عرفات كان قد صرح في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1988، يوم كان في إسرائيل حكومة بقيادة الليكود، أنه مستعد لتوقيع اتفاق مع إسرائيل يستند إلى الاعتراف المتبادل وإلى حل يضمن قيام دولتين. إذاً، لماذا قَبِل غرفات الآن بما هو دون ذلك، ولماذا قررت حكومة رابين تغيير المسار القائم؟

أولاً، على الجانب الفلسطيني، الذي قَبِل في النهاية صيغة معينة من صيغ الاستقلال الذاتي، أو - وفي أحسن الحالات - "سلطة حكم ذاتي" مبهمة وغير واضحة المعالم على أقل من 25 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، نرى أولاً أن منظمة التحرير الفلسطينية وجدت شرعيتها تتأكل في مواجهة التحدي المتزايد الذي تشكله حركة "حماس" الملتزمة النضال. ثانياً، نرى داخل صفوف منظمة التحرير الفلسطينية وبين العلمانيين ابتعاداً متزايداً عن اتفاق "إعلان المبادئ"، وسيستمر هذا الابتعاد في التزايد، إلا إذا وجدت ساحة أكثر ديمقراطية لحل الخلافات. ثالثاً، لقد عانت الأحوال المالية لمنظمة التحرير الفلسطينية بصورة قاسية نتيجة حرب الخليج وانقطاع معونة دول الخليج العربية الغنية بالنفط. رابعاً، لا شيء يضمن أن أنشطة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي المحتلة ستتوقف نتيجة الضغوط الدولية أو لأن حزب العمل حلّ محل الليكود في الائتلاف الحكومي في إسرائيل. والواقع، إن الاستمرار الظاهر في تنفيذ برنامج الاستيطان في ظل حكومة رابين هو ما دفع الإدارة الأميركية في النهاية إلى وقف ما يقرب من نصف مليار دولار من ضمانات القروض لإسرائيل. خامساً، إن انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية أضعفا قدرة منظمة التحرير على المناورة في الساحة الدولية. وأخيراً، وهذا هو الأهم، فإن إدارة كلنتون، التي تملك كل هذا العدد الكبير من المستشارين في شؤون الشرق الأوسط من الذين جُمعوا من اللوبي الموالي لإسرائيل، وخصوصاً من "لجنة العمل السياسي الأميركية الإسرائيلية" (إيباك AIPAC)، أعطت إشارة لا التباس فيها إلى انحيازها في مصلحة الحكومة الإسرائيلية، والواقع هو أن المصادر الفلسطينية سعت لقناة أوسلو السرية للتعامل مع إسرائيل مباشرة بهدف تجاوز سياسة البيت الأبيض الثابتة والقائلة بـ "السلام من دون منظمة التحرير الفلسطينية"، وهو ما جاء على لسان مارتن إنديك، المحلل السابق لدى "إيباك" الذي كان ذات مرة مستشاراً لرئيس الحكومة (الإسرائيلية) شمير، والمسؤول حالياً عن السياسة الشرق أوسطية في مجلس الأمن القومي (الأميركي). ومن المثير للاهتمام أن لدى حكومة رابين أسبابها للتراجع عن استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية عن الاشتراك المباشر في محادثات السلام الخاصة بالشرق الأوسط، كما كان قد تقرر سابقاً في صيغة مدريد من قِبل حكومة شمير السابقة والإدارات الأميركية. والمنطق الذي يعتمده رابين في هذه السياسة البراغماتية غاية في البساطة. فقد كان رابين يحتاج في فشله في إخضاع انتفاضة متزايدة العنف، إلى شريك يحرره من حالة اللاانتصار. وهنا تلاقت مصالح رابين ومصالح منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا ما كشف عنه رابين نفسه في مقابلة مع الصحيفة المسائية الإسرائيلية "يديعوت أحرونوت" (9/7/93)، بقوله إنه يفضل أن "يتعامل الفلسطينيون أنفسهم مع مشكلة تطبيق النظام في غزة".

ثانياً، على الجانب الإسرائيلي، جاء الاتفاق رداً على تطورات عدة. أولاً، تستمر إسرائيل في كونها الطرف الأقوى كثيراً في النزاع، وهو ما يمكنها من فرض شروطها على الجانب الفلسطيني، الأضعف بما لا يقاس. ثانياً، إن تقويم إسرائيل للسياسة الإقليمية قادها إلى الاستنتاج أن سيناريو من النوع اليوغسلافي ليس أمرا بعيد الاحتمال إذا ما أخذ التيار الإسلامي المناضل في العالم العربي وإيران في التصاعد. ثالثاً، لا يبدو أن الانتفاضة، التي صارت في عامها السادس، ستنتهي. وإنْ كان من أمر تجدر ملاحظته فهو أن المجموعات الفلسطينية الأكثر تشدداً تبدو كأنها تتجه إلى أن تكون لها اليد العليا. وهناك ما يدعو إلى السخرية في رؤية رابين يسعى لتحييد الإسلاميين المتطرفين بينما عندما كان وزيراً للدفاع في فترة 1988 - 1990 بادر إلى تشجيع بروز منظمة مثل "حماس" نقيضاً لمنظمة التحرير الأكثر علمانية وقومية. وتشكل مساعدة منظمة التحرير في التعامل مع المعارضة العامة في الأراضي المحتلة تحركاً يتفق حوله بشدة اليسار الإسرائيلي وحزب العمل الذي هو في الوسط. رابعاً، على الجبهة المحلية، كان رابين يعرف أن السلام من موقع القوة سيكون مقبولاً عند عامة الناس، الذين تعبوا من الحروب التي لا نهاية لها مع العرب عامة ومع الفلسطينيين خاصة. خامساً، إن اتفاقاً لا يلزم إسرائيل منذ البداية ومسبقاً بعودة اللاجئين، وبقيام دولة فلسطينية، وبالانسحاب من القدس الشرقية أو إزالة المستوطنات سيشكل برهاناً إضافياً على مفاوضات من موقع القوة. وأخيراً، فإن "الحدود" الجديدة لإسرائيل ستكون أسواق العالم العربي التي تضم أكثر من 100 مليون مستهلك محتمل. وستعوض إسرائيل عما تنازلت عنه على الجبهة الدبلوماسية والايديولوجية في شكل "إسرائيل الكبرى" بمكاسبها على الجبهة الاقتصادية. ولم يكن السلام مع مصر قد مكّن إسرائيل من دخول العالم العربي. وحده السلام مع الفلسطينيين، الهادف إلى تسوية لبّ النزاع في الشرق الأوسط، هو الذي سيسمح بذلك. وهذا أهم سلاح في أيدي الفلسطينيين، وهو أمر يفهمه اليسار الإسرائيلي تماماً، والآن بدأ حزب العمل يقدره حق قدره. والواقع أنه يبدو أن هذا الأمر كان يدور في أذهان الإسرائيليين عند صوغ مسودة "إعلان المبادئ". ولقد صيغت هذه المسودة بلهجة إسرائيلية أكثر منها بلهجة فلسطينية. ولقد كّرس عشرون في المئة من نص الإعلان لـ "التعاون" الاقتصادي، بشكل أو بآخر.

وبموافقة الفلسطينيين على أن يكونوا "شركاء" لإسرائيل في الترتيبات الاقتصادية والتقنية والسياسية، كما ورد صراحة في أماكن عدة من "إعلان المبادئ"، وضع هؤلاء أنفسهم داخل شرك الاقتناص الاقتصادي والسياسي، وهو ما قد يضعهم تحت قبضة إسرائيل أكثر قوة ونضجاً سياسياً وتقدماً تقنياً. وتبقى هذه الشراكة الاقتصادية المتصورة بعيدة عن أن تكون شراكة بين متساوين. ولأخذ بعض المؤشرات مثالاً نذكر أنه يقدّر للناتج المحلي الخام للفرد الواحد في إسرائيل أن يساوي سبعة أضعاف مستواه في الضفة الغربية و14 ضعف مستواه في غزة. ويبلغ متوسط الناتج القومي الخام للفرد في إسرائيل قرابة 11,000 دولار، بينما ينخفض هذا الرقم في الضفة الغربية إلى 2000 دولار، وفي قطاع غزة إلى 1300 دولار. وبمعدلات البطالة المذهلة التي تصل إلى 30 في المئة في الضفة الغربية، وإلى 60 في المئة في قطاع غزة، يبدو الحديث عن "التعاون الاقتصادي" أقرب إلى كونه نكتة سمجة من كونه وصفة جدية لمعالجة العلل الاقتصادية.

ويرى المتشائمون بين الفلسطينيين أن الاتفاق ترك موضوعات كثيرة بلا حل، بل إنه تجاهلها كلياً في الواقع. وعلى سبيل المثال: ما هو الموقف من لاجئي 1948؟ هل سيتم التعامل معهم بأية طريقة أخرى غير إعادة توطينهم في بلاد اللجوء؟ الواقع هو أنه حتى بالنسبة إلى لاجئي 1967 نجد أن "إعلان المبادئ" ـ وكما لاحظت صحيفة "نيويورك تايمز" (13/9/93) – ينص على "مناقشة" أمر اللاجئين "لكنه لا يضمن عودتهم." إن التشديد المكثف في "إعلان المبادئ" على المحافظة على الأمن الداخلي وعلى قوة شرطة فلسطينية "قوية" سيهدد حقوق الإنسان الخاصة بالسكان الفلسطينيين ما استمرت إسرائيل في رفض تطبيق اتفاقية جنيف في الأراضي المحتلة وما دامب المنظمة لا تستطيع أن تكون من موقعي الاتفاقية بسبب عدم تمتعها بوضعية الدولة. وتؤكد الانتقادات الموجهة إلى الاتفاق - من فلسطينية وغيرها – أن الفلسطينيين، بموافقتهم على نشر مثل هذه القوة قد يحلون محل إسرائيل في القيام بأعمالها القذرة من حيث استخدام القوة الوحشية لقمع المنشقين داخل صفوفهم. ومن الأمور ذات المغزى أن تكرار ذكر الحاجة إلى ما سُمي قوة الشرطة "القوية" واضح في أربعة أمكنة مختلفة من "إعلان المبادئ"، في حين أن حقوق الإنسان لم تُذكر ولا مرة واحدة، لا بصورة مباشرة ولا بصورة غير مباشرة. فقط عندما يأتي الإعلان إلى ذكر انتخابات حزيران/يونيو 1993 لـ "مجلس الحكم الذاتي" نراه يتكلم مداهنة عن "مبادئ الديمقراطية، والانتخابات السياسية العامة المباشرة والحرة." وبالأهمية نفسها أيضاً، تأتي تلك الإشارة الصريحة في الإعلان إلى أن سلطة المجلس الفلسطيني المنتخب، بما فيها قوة الشرطة، لن تشمل خلال الفترة الانتقالية المستوطنات ولا تنقلات الإسرائيليين في الأراضي المحتلة ولا القدس ولا العسكريين (الإسرائيليين).

بعد قول كل ما ورد أعلاه يهمنا أًلّا نقلل من شأن إنجازات الاتفاق الإسرائيلي - الفلسطيني، على الرغم من أن هذه الإنجازات قد لا تبدو من نوعية عملية. والواقع أنها المرة الأولى التي تعترف فيها حكومة إسرائيلية، أو أية هيئة صهيونية ممائلة لها، بـ "الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وبمطالبه العادلة." وفوق هذا كله، فإن "إعلان المبادئ" عبارة عن اتفاق بين "دولة إسرائيل والفريق الفلسطيني الممثل للشعب الفلسطيني."

لكن الموضوع الأهم الذي يجب أخذه في الاعتبار هو التالي: لنفترض أنه لم يتم التوصل إلى أي اتفاق حول القدس خلال الفترة الانتقالية، وأن المستوطنات بقيت عقبة كأداء، وأكثر من هذا، لنفترض أن الفلسطينيين انغمسوا في اقتتال بين الإِخوة يجعل مهمة الانتخابات السلمية إشكالية؟ ماذا سيحصل عندها للاتفاق ونقل السلطة؟ إن السيناريو غير المرجح هو أن يقوم الإسرائيليون بدورهم كحكام ومحتلين مباشرين للأراضي (المحتلة)، مهما يكن الثمن، يحجة أن الفلسطينيين فشلوا في تنفيذ مهمتهم في إدارة أراض خالية من العنف. أما السيناريو الثاني الأكثر ترجيحاً فهو أن يستمر الإسرائيليون في العمل بصورة أوثق بالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية وإشراكهم إياها في المعلومات الاستخباراتية، كما يبدو أنه يحدث الآن استناداً إلى تقارير كثيرة ظهرت في الصحف الإسرائيلية، ومنحها مزيداً من السلطة، والموافقة على تنصيب هيئة إدارية غير منتخبة تعيّنها منظمة التحرير وتعمل كقائمة بالأعمال حتى يسمح المناخ السياسي بإجراء الانتخابات. والسيناريو الثالث، المساوي للثاني في احتمالاته، هو أن يعود الإسرائيليون إلى ما يسمى "الخيار الأردني"، وذلك باستقدام قوات أمن أردنية تعمل بالاشتراك معهم ومع الشرطة الفلسطينية لاحتواء المعارضة للاتفاق. أما السيناريو الرابع - غير المحتمل - فهو دعوة قوات الأُمم المتحدة إلى العمل كعازل بين الأجنحة الفلسطينية المختلفة. لكن لإسرائيل تاريخاً من رفض وجود قوات الأُمم المتحدة على ترابها أو على التراب الذي تسيطر عليه. وبوجود الأراضي المحتلة على قرب شديد من إسرائيل، ووجود المستوطنين الإسرائيليين في الأراضي المحتلة، فإن من المشكوك فيه أن ترحب إسرائيل بالأُمم المتحدة. ولا يمكن لمنظمة التحرير الفلسطينية وحدها أن تطلب حضور الأمم المتحدة أو حضور أية دولة أُخرى لأن وضع السيادة لم يُمنح للمنظمة في أي مكان من "إعلان المبادئ".

ويلقي عوزي بنزيمان، مراسل "هآرتس"، الصحيفة اليومية المستقلة في إسرائيل، ظلاً أوسع نطاقاً على احتمالات نجاح الاتفاق، ويقول: "هناك في اتفاق السلام لسنة 1993 ما يقلق من يدعمه بصورة مطلقة. وهو أمر يتعلق بالمعاني الضمنية الموجودة فيه. وهناك مؤشرات على أن الاتفاق يستند على الافتراض بأنه لن ينفذ أبداً. وحتى الآن، وقبل توقيع الاتفاق، فإن من الواضح للمبادرين إليه (من الجانب الإسرائيلي على الأقل) أن إمكان قيام (مجلس حكم ذاتي) ينتخبه السكان الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال تسعة أشهر ليس أكثر من إمكان ضئيل جداً. وحتى اليوم، فإن جميع المطلعين على الأمور في القدس يتحدثون عن نظام حكم تكون التسوية الموقتة فيه مبنية على توسيع السلطة التي ستمنح لمنظمة التحرير الفلسطينية في غزة وأريحا إلى سلطة تشمل الضفة الغربية بأكملها، لا كنتيجة لأية انتخابات بل كهبة إسرائيلية. وبهذا، فإن النظام في المناطق لن يكون نظام حكم ذاتي منتخَباً بل نظام إدارة معينة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية." (5/9/1993). ويبدو هذا الرأي مغرقاً في التشاؤم إن لم يكن سوداوياً تماماً، لكن في هذا التحذير شيئاً من الحقيقة إن لم يكن لبّها. وما دامت (منظمة التحرير الفلسطينية) قادرة على استيعاب الوضع فإن غياب الديمقراطية عن الأراضي المحتلة لن يكون دواء مريراً يصعب على إسرائيل ابتلاعه، نظراً إلى أن الاهتمام الرئيسي لإسرائيل لا يتركز على الرفاهية السياسية للفلسطينيين بل على أمن مواطنيها ونجاح خططها الاقتصادية في الأسواق العربية المجاورة، وإذا كان لمثل هذا الحكم الذاتي، المعتمد على التعيين على أُسس سياسية وعلى المحسوبية لا على الانتخابات الحرة والكفاءة، أن يتطور إلى صيغة للحكم في الأراضي (المحتلة) تكون منظمة التحرير الفلسطينية قد أقامت في الضفة الغربية وغزة نظاماً لا يختلف في شيء عن الأنظمة القائمة في بقية أنحاء العالم العربي، وستكون هذه أكبر مآسي نضال الشعب الفلسطيني على مدى قرن كامل من أجل استقلال حقيقي.

إن أولويات جدول الأعمال الفلسطيني يجب أن تضم، على رأسها، أولويات سياسية، لا اقتصادية، كما تبدو الحال عليه مع "إعلان المبادئ". وعلى الفلسطينيين أن يبادروا إلى مهمة بناء الدولة بتركيز جهودهم على تطوير مؤسسات ديمقراطية خاضعة للمحاسبة تستطيع أن تستوعب، وحتى أن تشجع، تنوعاً في الآراء. يجب أن يصروا على إجراء انتخابات حرة وديمقراطية وفقاً لـ "إعلان المبادئ"، كحد أدنى لضمان خضوع السلطة الحاكمة للمحاسبة. وأية محاولات لتأجيل الانتخابات أو لإلغائها، لما قد يبدو أنه أسباب عملية، ينبغي وضعها بجدية موضع التساؤل، ومقاومتها إذا اقتضت الضرورة ذلك. وعندها فقط سيكون الفلسطينيون قادرين على أن يستثمروا بصورة كاملة الانفتاحات القليلة التي يقدمها "إعلان المبادئ" لهم، وأن يبدأوا انطلاقة مشروع استقلالهم السياسي. وينبغي توجيه نداء إلى الفلسطينيين يدعو العلماء، والمهندسين، والأطباء، والتربويين، والاقتصاديين، والخبراء القانونيين، ومخططي المدن والاختصاصيين في محتلف الفروع، إلى عقد سلسلة من الاجتماعات لوضع خطط لبناء الدولة من شأنها أن تعكس مصالح الشعب الفلسطيني بأسره. إن عملاً قليلاً جداً، أو لا شيء منه، ثد تم في هذا الاتجاه. ومن دون تخطيط سياسي وقومي سليمين، فإن الحلول الاقتصادية المقترحة بناء على مشورة صندوق النقد الدولي، وبالبنك الدولي، وأصحاب رؤوس الأموال المستقلين، ليس من المحتمل أن تؤدي إلى الحلول الصحيحة. ويشهد على ذلك وضع مصر ودول عربية أُخرى اتبعت ما يسمى سياسة الانفتاح الاقتصادي، ومع ذلك ما زالت تكدح في ظل الفقر، والنظم السلطوية، والتبعية الاقتصادية.

السيرة الشخصية: 

إيليا زريق: أستاذ علم الاجتماع في جامعة كوينز (كندا).