بنفنستي. "العناق المميت: الانتفاضة، حرب الخليج، عملية السلام" (بالعبرية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

من على الغلاف الخلفي لهذا الكتاب الصغير، يعلق التعريف الدعائي للكتاب أنه "يعالج كالصحافة اليومية موضوعاً راهناً، لكن بعمق تاريخي؛ كتاب ضروري لفهم النزاع العربي – الإسرائيلي عند نقطة تحول في تاريخه." والتعريف بالكتاب، في حالتنا هذه، صحيح تماماً.

يُقبِل بنفنستي على هذا الكتاب من موقع كان يتمتع فيه بسلطة تنفيذية صهيونية رفيعة، بوصفه نائباً سابقاً لرئيس بلدية (تيدي كوليك) القدس بعد سنة 1967. لقد قدم كتاباً ممتازاً. فالكتاب منير الفكر، وغني المعلومات، وحاد الملاحظة. وهو يبدو شبيهاً بقصة بوليسية، ولا يترك أسئلة من دون إجابات سوى سؤال واحد: لمّا كان بنفنستي يعلم الحقيقية (ولا يخفيها)، ويكشف الوقائع (ولا يحجبها)، ويفهم (بفكره وقلبه معاً) حقيقة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، كيف يستطيع أن يبقى صهيونياً، خُلقياً وأيديولوجياً؟ وكما سيتضح أدناه، ليس السؤال خطابياً، وهو يتصل بإخفاق خطِر في هذا العمل الممتاز في نواح أُخرى.

يأخذ بنفنستي عنوان كتابه (العناق المميت) من نص لألبير كامو يتعلق بالجزائر:

كما لو أن شخصين أصابهما مسّ من الجنون، نصف مجنونين، قررا أن يتعانقا تعانقاً مميتاً، أي زواجاً مفروضاً لا قِبل لأحدهما بالفكاك عن الآخر. وفي النهاية، ولكونهما مرغمين على التعايش، وغير قادرين على التوحّد، يقرران أن يموتا معاً (ص 144، الترجمة من العبرية، وبنفنستي لا يشير إلى اقتباساته بحواش، الأمر الذي يمكن أن يكون مزعجاً جداً).

في الكتاب "تقديم"، وستة فصول: (1) "دماء على الجبل المقدس"، وهو يتناول مسألة القدس؛ (2) "بين العرق والسجائر، أو خمس دقائق من كفار سابا"، وهو عن وضع "الخط الأخضر" في نظر القانون، وعن تحويل "دولة إسرائيل" إلى "أرض إسرائيل"؛ (3) "الانتفاضة"؛ (4) "حل ميتافيزيقي"، وهو عن صدام حسين بوصفه صلاح الدين فلسطين الجديد؛ 05) "موسم الخيار 1991"، وهو عن سلسلة "الحلول" الصهيونية (ومنها "الطرد"؛ (6) "العناق المميت" (تعليقات ختامية).

إن الكتاب مكتنز بمؤهلات نفاذ البصيرة، والتعليق الواضح، والتحليل الجديد.

يعرِّف بنفنستي النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني بأنه "نزاع بين جماعتين قوميتين" (conflict between national communities)، أو باختصار: "نزاع داخلي بين جماعتين" (inter-communal conflict) (ص 143). وهذه المعادلة المختصرة غير ملائمة. إني أعتقد أن تفضيله للمعادلة المختصرة ("نزاع داخلي بين جماعتين قوميتين") أحد الأسباب الرئيسية للهجمات التي شُنت في غير محلها على تحليله، بدعوى أن التحليل يتجاهل (وهو أمر لم يفعله) الطابع القومي للنزاع، بما في ذلك النزاع في شأن السيادة. ذلك بأن بنفنستي هو صاحب الحجة الحاسمة القائلة أنه من أجل السعي بنجاح لأي حل سياسي للنزاع (تسوية إقليمية، حكم ذاتي، دولة فلسطينية، فيدرالية، إلخ)، فلا بد من التصدي أولاً للقضايا التي هي "ما وراء السياسة" (المفاهيمية والنفسانية)، ما دامت هذه القضايا – في رأيه – هي القضايا التي تحول بين طرفي النزاع وبين الدرس العقلاني للحل السياسي الملائم. وهو يصيب بتعريفه المشكلة على النحو التالي:

إسرائيل اليوم دولة ثنائية القومية لجهة دستورها الإثني، وديمقراطية الشعب المتفوق (Herrenfolk) لجهة نظامها. (ص 151).

في "التقديم"، يتصدى بنفنستي لتحليلات التيار المركزي في اليسار الصهيوني الإسرائيلي لمسألة فلسطين، وللنزعة المسبقة السائدة إلى السعي لحلول عاقلة للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني لا وجود لها في الواقع. وقد رفض بنفنستي المساومة بشأن ما يعلم أنه حقيقة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، والاستسلام للتفكير المبني على الرغبة، لا الحقيقة، السائدة في أوساط معسكر السلام الصهيوني الليبرالي. وقد قرر تحمل السخرية والانتقادات والتأنيبات العدائية التي تلت إصدار كتابه السابق ("المقلاع والهراوة"، 1988، بالعبرية)، وأقدم على إصدار هذا المؤلَّف (1991). وحتى الآن تظهر التطورات أنه محق فيما ذهب إليه (لقد قدر، مثلاً، الفشل الممكن لعملية السلام في مدريد).

ستركِّز هذه المراجعة على الفصل الأخير من الكتاب، وهو الفصل الذي يستمد الكتاب عنوانه منه: "العناق المميت". لكن، من أجل إعطاء القارئ مذاق نوعية الحكاية (ومذاق نقائصها أيضاً)، نورد فيما يلي اقتباسين مختارين:

اقتباس يتعلق بضم القدس:

لم يسعَ الإسرائيليون لـ [الحصول على] شرعية... من السكان الذين جرى ضمّهم. لقد طلبوا الطاعة – لا التثبيت. صحيح أنهم أعلنوا أن ذروة آمالهم كانت "اعترفاً من العرب بالحكم الإسرائيلي"، لكن أملوا في الواقع بألاّ يعطي العرب شرعية لحكمهم. فأي طلب حقيقي للشرعية قد ينطوي بداهة على أن العرب عنصر شرعي في وسعه إضفاء شرعية. لكن، إذا مُنح العرب وضعية مجتمع إحدى سلطاته أن يَمنح شرعية، فقد يجرّ ذلك إلى أن لديهم حقاً في وضع مستقل، ومن ثم من الممكن جداً أن يحجبوا الشرعية [عن الحكم الإسرائيلي]، وأن يرفضوا الاعتراف به. لذلك، فقد أنكر الإسرائيليون حق الفلسطينيين في رفض شرعية حكمهم، واعتمدوا على أن الفلسطينيين لن يقْدموا أبداً على الاعتراف بحكم إسرائيل. واستطاعوا، بهذه الطريقة، تجاهل وجود ذات جماعية (collectivity) فلسطينية، وتحاشي الشك المتعلق بشرعية حكمهم، والتمسك بالاعتقاد أنهم يسعون فعلاً لاعتراف عربي، مع الاستفادة من رفض الفلسطينيين الاعتراف بسلطتهم (التشديد مضاف). وفي سبيل ضمانة إضافية، حرصوا على عدم إتاحة إمكان للفلسطينيين للتعبير عن عدم اعترافهم [بالحكم الإسرائيلي] من خلال وسائل سياسية تقليدية. لهذا السبب، لم يجر منحهم المواطنة الإسرائيلية بصورة تلقائية، كما هو متَّبع حين يتم ضم أراض، وكما فعل الإسرائيليون أنفسهم حيال عرب إسرائيل سنة 1948. (ص 31)

واقتباس يتعلق بالتحول من إسرائيل ما قبل 1967 إلى إسرائيل ما بعد 1967:

إن الجمهورية الإسرائيلية الثانية جمهورية ثنائية القومية، وطبقاتها الراسخة قائمة على انتماء إثني. ويتمتع ثلاثة ملايين ونصف المليون عضو من التابعية الإسرائيلية – اليهودية باحتكار كامل لمصادر الطاقة والاقتصاد؛ ويؤلفون الطبقة الاجتماعية العليا، ويقررون مضامين التعليم وأهداف الجمهورية القومية ورموزها. أما المليونا عضو من التابعية الفلسطينية، فإنهم مقسَّمون إلى فئتين هما: الفلسطينيون الإسرائيليون، والفلسطينيون في المناطق. والفلسطينيون الإسرائيليون هم مواطنو الجمهورية. لكن وفقاً للقانون، فإن وضعهم القانوني كمواطنين لا يؤمن لهم مساواة سياسية أو اقتصادية أو شخصية. وكثير من القوانين (قانون العودة، وقانون الضمان الوطني، وقانون أنظمة إدارة أراضي إسرائيل، وغيرها) يمارس التفرقة ضدهم على أساس إثني. والتبرير الرسمي هو أنهم لا يخدمون في الجيش. بيد أن الأداة الرئيسية للتفرقة هي وجود نظام مواز للحكومة، يُعْرَف بـ"المؤسسات القومية" (الوكالة اليهودية، والصندوق القومي اليهودي، وحركات الاستيطان، والمجالس الدينية)، يوجه موارد هذه المؤسسات بكاملها وبصورة حصرية إلى أفراد الشعب اليهودي الإسرائيلي فحسب. ووضع الفلسطينيين الإسرائيليين القانوني إنما هو وضع المواطنين من الدرجة الثانية بحكم القانون. (ص 61).

إن النقائص التي تستحق الملاحظة فيما سرده بنفنستي عن القدس هي نقائص تقنية، إلى حد بعيد. لقد ذُكر لنا، على سبيل المثال، أن "في منطقة محيطة بالعاصمة (metropolitan area) تزيد مساحتها على نصف مليون دونم (أكبر من مساحة القدس بخمسة أضعاف) يعيش 160,000 فلسطيني و40,000 يهودي، يعتمد معظمهم على القدس يومياً، لناحية العمل وغيره من الحاجات المعتادة الأخرى" (ص 41). لكن النص لا يخبرنا عما إذا كان بنفنستي يشمل في "المنطقة المحيطة بالعاصمة" أراضي الضفة الغربية المحتلة، الواقعة خارج الحدود البلدية للقدس "الموحدة"، وأيضاً الأراضي المضمومة سنة 1948. ومن هنا، فإننا لم نزوَّد بما يفيد أن الرقم 40,000 يهودي في "المنطقة المحيطة بالعاصمة" المذكورة آنفاً يمثل المستوطنين اليهود بعد سنة 1967 فقط، أم يمثل سكان المستوطنات اليهودية قبل سنة 1967 (1948) وبعد سنة 1967 معاً. وفي ضوء الوضوح والانسياب الرائع للسرد المسبوك بعناية، بصورة عامة، فإن مثل هذه الهفوات يمكن أن يكون مدعاة إلى الحيرة حقاً.

أما النقائص المتعلقة بتمييزه بين "الجمهورية الإسرائيلية الأولى" (1948 – 1967) و"الجمهورية الإسرائيلية الثانية" (1967 – إلى يومنا الحاضر)، فإنها ليست تقنية. وهنا يوجد ما يدعو إلى الشك في جدارة واستقامة بنفنستي الخلقية كبحاثة.

إن بنفنستي يعرِّف "الجمهورية الإسرائيلية الأولى" بأنها

دولة حدودها هي حدود سيادة محددة، ويتمتع سكانها بمساواة مدنية أساسية على قاعدة غير إثنية. (ص 55)

ويعرِّف "الجمهورية الإسرائيلية الثانية" بأنها

"دولة الشعب اليهودي" (وفقاً للقانون الأساسي لسنة 1985) حيث الكيان الجماعي اليهودي، بتعريفه الموسع، مُنح تخويلاً بتطبيق حكمه على كامل بقاع أرض إسرائيل، وعلى القاطنين فيها. (ص 55)

إن تعريف بنفنستي لـ"الجمهورية الإسرائيلية الأولى"، وتمييزه بين الجمهورية الإسرائيلية "الأولى" والجمهورية الإسرائيلية "الثانية"، هما أمران مركزيان بالنسبة إلى تحليله وإلى استنتاجاته. وأنْ يكون في استطاعته الإدلاء بهذا القول الباطل بوضوح والمتعلق بـ"الجمهورية الإسرائيلية الأولى"، وبالتالي إقامة تمييز ناقص بين الجمهوريتين "الأولى" و"الثانية"، لا يمكن تفسيره – في رأيي – إلا بأنه عيب ناجم عن التزاماته الصهيونية المتبقية لديه. ففي عرض مقنع ومتماسك ومتسق، فيما عدا ذلك، لحقيقة إسرائيل وتاريخها، فإن هذا واحد من المفاصل القليلة المهمة حيث تخذل بنفنستي صهيونيتُه.

              ويزداد قصوره مأساوية بحكم ما يورده هو نفسه. إنه يحدد بصورة دقيقة وضع الفلسطينيين القانوني في إسرائيل بوصفهم "مواطنين من الدرجة الثانية" (أنظر الاقتباس أعلاه)، وهو مدرك للآلية المؤسساتية المنظمة بالقانون، والموجهة نحو ضمان التمييز والتفرقة ضدهم وحرمانهم من "المساواة المدنية الأساسية" على قاعدة إثنية (أنظر الاقتباس أعلاه مجدداً)، ومع ذلك، فإنه يزعم العكس. وما يُقلق بالمقدار نفسه هو وصف بنفنستي لـ"الجمهورية الإسرائيلية الأولى" بأنها دولة "حدودها هي حدود سيادة محددة." إن الحدود الوحيدة المعترف بها دولياً، والتي تستطيع إسرائيل ادعاءها ضمن حد المعقول، هي حدود مشروع الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين سنة 1947 مع اتحاد اقتصادي [مع دولة فلسطينية] (قرار الجمعية العامة رقم 181). ولم يكن لما يسمى "الجمهورية الإسرائيلية الأولى" (1948-1967) حدود هي "حدود سيادة محددة"، وإنما كان لها خطوط هدنة (الـ"خط" الـ"أخضر").

إن مَواطن القصور هذه خطرة، وهي بطريقة ما تجيب عن السؤال المطروح في مستهل هذه المراجعة، أي: في ضوء استقامة الكتاب الشاملة، كيف يمكن لبنفنستي خلقياً وإيديولوجياً أن يبقى صهيونياً؟ ويبدو أن بنفنستي يشارك اليسار الصهيوني الليبرالي، الذي يمقته بنفنستي مقتاً شديداً من الناحية الفكرية، قصوراً مهماً واحداً: التصنيف المعياري المصرح به أو غير المصرح به لإسرائيل ما قبل سنة 1967 ("الجمهورية الأولى") بأنها دولة "أفضل" نسبياً من "الجمهورية الثانية"، الناشئة بعد سنة 1967. إن الأمر ليس هكذا. فعلى سبيل المثال، قامت "الجمهورية الإسرائيلية الأولى" بتنسيق الطرد الجماعي للشعب الفلسطيني، رجالاً ونساء وأطفالاً، من جميع الأراضي التي خضعت للحكم الإسرائيلي (750,000 نسمة تقريباً، أي نحو 83% من سكان الأراضي المذكورة سنة 1948). أما "الجمهورية الثانية"، فقد نفّذت طرداً أقل حجماً (نحو 250,000 نسمة من الضفة الغربية، أي 35% تقريباً من السكان الذين كانوا هناك سنة 1967). ولم يكن ذلك بسبب التزام أقل بالإيديولوجية والممارسة الصهيونيتين، بل بسبب تغييرات في ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي، وبسبب مجموعة القوى العظمى – على الرغم من الانتصار العسكري الإسرائيلي الخاطف سنة 1967. لكن هذا يعني أيضاً أن "الجمهورية الإسرائيلية الثانية"، في هذا الجانب على الأقل، ألحقت بالشعب الفلسطيني ضرراً أقل من الضرر الذي أحدثته "الأولى"، على الرغم من الاحتلال.

وأخيراً، فإن بنفنستي يعي بصورة واضحة، في كتابه كله، الأسس المادية للنزاع، بواقعها غير المتوازن، أي نفور المجتمع الصهيوني الكولونيالي من تقاسم الثروة (ولا سيما الأرض ومصادر المياه) مع السكان المحليين الذين جردوا منها، وفقاً للمبادئ التي تُعتبر منصفة في التراث الديمقراطي الليبرالي الغربي. ومع ذلك فإنه، كما يبدو، يعرِّف المجال الذي يعتبره ما وراء السياسة بمصطلحات مفاهيمية ونفسانية في الدرجة الأولى، بينما يحوّل المجال المادي إلى ما يبدو أنه معادلة متناسقة: "ضغينة ريفية مصدرها الغرائز البدائية." (ص 36)

ويسخر بنفنستي (وهو محق في ذلك) من الشعار الرئيسي لحركة السلام الإسرائيلية: "شعبان – دولتان". وتصدر حجته عن المقولة المركزية التي فحواها أنه أياً تكن طريقة تقسيم البلد على قاعدة دولتين، فإن المحصلة لن تكون حلاً سياسياً ترجمته العملية "شعبان – دولتان"، وإنما ستكون دولتين في كل منهما شعبان، وبالتالي دولة أو دولتي أمر واقع ثنائية أو ثنائيتي القومية، وستكون بالتأكيد إسرائيل الأمر الواقع ثنائية القومية.

وكما يمضي في القول بصورة مقْنعة، فليس من الممكن أن يُفهم النزاع ولا أن يستنفد حله على قاعدة "الدولتين"، من دون التصدي للسبب الأساسي للنزاع، وللسبب الكولونيالي للنزاع، أي لحقيقة المجتمعات الاستيطانية التي تجذرت:

في إيرلندا الشمالية، وفي أرض إسرائيل [يستخدم بنفنستي هنا الاصطلاح الصهيوني العبري إيرتس يسرائيل]، وفي جنوب إفريقيا، تبلورت جماعات استيطانية أصبحت بمثابة سكان أصليين في البلد، وقد أُضيفت إلى خصائصهم الإثنية، التي كانت موجودة قبل وصولهم [إلى البلد الجديد]، خصائص جديدة، وتم انصهارها ضمن بوتقة النزاع مع المقيمين المحليين. كما أن النزاع بلور المقيمين المحليين في جماعات إثنية – قومية محددة. وبسبب العداء الجوهري، فإن عنصراً مركزياً في الهوية الذاتية لهذه الجماعات قد جرى صوغه ليس بشأن السؤال "من هم" فقط، بل أيضاً بشأن سؤال "هم ليسوا ماذا". إن ثقافة مجتمعات المستوطنين السياسية التي تجذرت هي أوروبية – ليبرالية... [لكن] التراث الغربي – الليبرالي لا ينطبق على لعلاقات بين الجماعات داخل المجتمع. فحين نالت المناطق استقلالها (في إبرلندا الشمالية – حكم الوطن)، أقامت مجتمعات المستوطنين نظاماً قائماً على طبقية سلطوية – فقد احتكرت احتكاراً كاملاً موارد الحكم والاقتصاد، واعتبرت تفوقها حقاً مقضياً سلفاً. (ص142)

ويلاحظ بنفنستي بصورة صحيحة أيضاً أن إسرائيل، بين جميع دول الغرب التي تقوم أنظمتها على مبادئ الديمقراطية الليبرالية، هي وحدها التي بقيت دولة ذات إدارة ونظام قانوني قائمين على قاعدة إثنية.

              ويشير بنفنستي إلى أن الفكرة المفترضة، القائلة إن احتلال ما بعد سنة 1967 "موقت" (وقد مضى على ذلك الآن ربع قرن)، تخدم مأسسة نظام "غير منظم وغير محدد": "ليس احتلالاً ولا ضماً، وهو ما يبدو أنه يخدم غرض الصقور والحمائم معاً في إسرائيل، ويخدم أيضاً – يا للسخرية – [غرض] الفلسطينيين." (ص 166)

وهكذا، فإن المطالبة بضم [الأراضي المحتلة] بعد سنة 1967، وهي المطالبة التي أعربت دوائر اليمين الإسرائيلي الصهيوني عنها، تستلزم – وفقاً لبنفنستي – تطبيق معايير حكومة منصفة على كامل أرض فلسطين. وفي موازاة ذلك، تصر دوائر اليسار الإسرائيلي الصهيوني على اعتبار الاحتلال احتلالاً، على الرغم من أنه يمأسس نظاماً قائماً على عدم مساواة جذرية. إن خرافة "الضم الوشيك"، المؤجل أبداً من أجل ادعاء المرونة، وخرافة "الاحتلال الموقت" الذي يتيح، بحسب ما يُزعم، إبقاء المجال مفتوحاً أمام خيارات لحلول سياسية مفروضة من الخارج، كلا الخرافتين تتيح للأطراف المعنية كافة الانغماس في الأوهام. (ص 166)

إن الفكرة المركزية لدى بنفنستي هي أن النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني نزاع بين جماعتين قوميتين، أي "نزاع داخلي بين جماعتين" أكثر مما هو "نزاع بين دول"؛ وهي فكرة غير قابلة لحلول عاقلة. من هنا، ثمة مفهوم رئيسي في تصور بنفنستي للأمور، هو مفهوم "النضج". فمع "النضج"، يبدأ التفكير الذي يستمد مرجعيته الابستيمولوجية والخلقية من مبدأ "كل شيء أو لا شيء" في النزاع بين الجماعات (عند نقطة ما لا يمكن التنبؤ بها) بفسح المجال، بالتدريج، لحوار قائم على مبدأ الحل الوسط، لا "كل شيء أو  لا شيء"، ومستند إلى علاقة تقدير للأهداف والثمن المطلوب لتحقيقها.

لو أن الفلسطينيين أفلحوا في قهر عقدة العار – الكبرياء، وأحلام "الأندلس" التي تحول الواقع إلى "خطوات المسيح المقتربة"، وأقروا بهزيمتهم، وبنوا استراتيجية مرتكزة على محدوديات الواقع؛ ولو أن الإسرائيليين رأوا إلى الواقع كما هو، لا عبر موشور أساطيرهم، لفهموا أن حكمهم للفلسطينيين ليس "احتلالاً" وإنما هو إذلال، وأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم الديمقراطي الغربي القائمة على نظام تمييز عنصري؛ ولو أن كلا الطرفين فهم على الأقل الحقيقة الوجودية التي فحواها أن الجماعتين كلتيهما محكوم عليهما بالتعايش إلى الأبد، وأن أياً من الجماعتين لا تستطيع إبادة الأخرى – لكان النزاع ناضجاً لحل ما. (ص 158)

إن النزاعات الداخلية بين الجماعات لا تشكل أُحجية لها حل واحد فقط، وإنما مشكلة إنسانية وجماعية ليس لها حل نهائي وأخير. والإقرار بعمليات "النضج" يستتبع الاستنتاج القائل إن المقاربة التقليدية لإيجاد حل ما غير قابلة للتطبيق، ويتعين أن تستبدل بمقاربة تأخذ في الاعتبار أن الحل يتطلب أن تستكمل العمليات الجارية مداها (process approach) – الجهد المستمر لمواجهة محدوديات الواقع المتغير من دون محاولة اتباع طرق مختصرة للوصول إلى الحلول النهائية... إن التمسك بمفاهيم جذرية (لا يمكن تطبيقها لأن الأوضاع ليست ناضجة) يؤدي إلى تعزيز الوضع القائم الفاعل. (ص 159 – 160).

يلاحظ بنفنستي، بصورة واضحة، أن الجماعة الفلسطينية تخطت، بالانتفاضة، عتبة التعبئة الجماعية التي تمكنها من أن تواجه بنجاح مطرد محدوديات حقيقة الاحتلال الإسرائيلي. "لا قوة في العالم يمكنها القضاء على تماسكهم – باستثناء القوة الوحشية، التي لا يستطيع مجتمع ديمقراطي [كذا] كإسرائيل أن يسمح بها." (ص 162)

ويحدد بصورة صحيحة أيضاً ضعف الطرف الفلسطيني الأساسي في التفاوض في مجال دولي، حيث أُرغم على الامتثال لمعايير التصرف بـ"مسؤولية" وتقديم "حل وسط"، كما يليق بلاعب يرغب في المشاركة في هذا المجال، في الوقت الذي أُنكرت عليه صفة اللاعب المشارك. إن الفلسطينيين لا يملكون دولة ذات سيادة، ولذلك فهم لا يستطيعون تقديم تلك الحلول الوسط العملية – المنفعية التي لا يستطيع تقديمها سوى دولة، تقوم على مصالح وتنازع مصالح، وصقلتها قرون من الممارسة الدبلوماسية بين دول ذات سيادة، حيث للإيديولوجيا دور ثانوي.

وكشعب من دون دولة، فإن الفلسطينيين ليس أمامهم إلا المساومة في شأن ممتلكاتهم الإيديولوجية الرمزية، كرموز السيادة مثلاً؛ ولذلك، فهم يواجهون موقفاً حرجاً لا يُحتمل. فإذا هم أصروا على الاحتفاظ بممتلكاتهم الرمزية ("ليس لديهم ممتلكات أُخرى"، كما يلحظ بنفنستي بصورة جافة)،

فإنهم سيُتهمون بتقويض عملية السلام. وإذا تنازلوا، بالتالي يسّروا استمرار العملية بين الدول، فإنهم في نهاية المطاف سيُتركون خالي الوفاض، إذ إن المفاوضات بين الدول ستتبع ديناميتها الخاصة، وستغرز في وحل القيم المطلقة من جديد العملية الهادفة إلى حل النزاع الداخلي بين الجماعتين (inter-communal process). (ص 155)

هذا في حين أن إسرائيل ستتقاضى، من ناحية أُخرى، الثمن الكامل لمرونتها في العملية [التفاوضية] بين الدول، وتصطنع حقائق جاهزة على الأرض. وبكلمات أُخرى، فإن في وسعها دوماً تغطية تصلبها في النزاع الداخلي بين الجماعتين، بإظهار "مرونة" في النظام الدولي (بين عدة دول):

ليس مصادفة أن كل تسوية إسرائيلية في مجال ما بين الدول كانت مصحوبة بإجراءات رمزية وقاسية في مجال ما بين الجماعتين. فـ"اتفاقيات فك الارتباط، سنة 1974 عجلت عملية بناء المستوطنات خلف حدود مشروع آلون؛ ونجم عن توقيع اتفاقية السلام مع مصر مصادرة نصف أراضي الضفة الغربية، وبناء العشرات من المستوطنات الجديدة، وضم مرتفعات الجولان، وضم رسمي للقدس الشرقية؛ وأعطى الانسحاب من سيناء الإشارة (لغزو لبنان، وهلم جرّا. (ص 153 – 154)

وينتهي الكتاب بعقيدة لبنفنستي فحواها أن

التخلي عن الهدف المسيحاني الأخير يُعتبر هزيمة. وهؤلاء الذين يؤيدون مثل هذا التخلي موسومون بأنهم متشائمون يشيعون الانهزامية. لكنْ في صلب الاستعداد للخوض في وحل الواقع وسبر ملابساته، تكمن رسالة تفاؤل. وهذا الاستعداد يشهد على قدرة على مواجهة القيود، وعلى عزم على العمل في حاضر مشاكس. إنه يمثل شجاعة اختراق حجب الأساطير ومواجهة المشكلة الوجودية: في فلسطين ستعيش جماعتان قوميتان إلى الأبد، وستحددان هما بالذات مستقبلهما. وإذا لم تجدا في داخلهما الحكمة لصنع تعايش متبادل، فإنهما معاً ستدمران كل شيء خيِّر وجميل في حضارتيهما، وستجران على نفسيهما الدمار. وفي النزاعات الداخلية بين الجماعات، ليس هنالك منتصرون ولا منهزمون. (ص 167 – 168)

 

السيرة الشخصية: 

أوري ديفيز: زميل باحث في دائرة الشؤون السياسية في جامعة إكستر