يتناول المقال دور إسرائيل في الحرب التي يشنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على العراق، مع أن إسرائيل ليست طرفاً رسمياً في التحالف، ولكنها اعتبرت نفسها، قبل اندلاع الحرب، طرفاً رئيسياً معنياً. ويستعرض المقال كيف سعت اسرائيل الى المشاركة في تحديد اهداف الحرب، و تكتيك ضبط النفس الذي مارسته خلالها، بالإضافة إلى احتفاظ إسرائيل بحق الرد عندما ترى ذلك ملائماً.
إن الأهداف النهائية للأطراف المشاركة في حرب الخليج لم تتبين خلال الأيام الأولى، مع أن سير العمليات العسكرية أظهر بعد وقت قصير من اندلاعها أنها تتجاوز الأهداف المعلنة كافة. فأهداف هذه الحرب تنكشف تباعاً في ضوء مساراتها، ولن تنجلي كاملة إلا في مراحلها المتأخرة. وهي حرب تتميز بتعدد الأطراف واللاعبين، الذين تجمعهم أهداف مشتركة وتميّز بينهم مصالح وغايات خاصة. وهي أيضاً حرب منسّقة، يتقاسم المشاركون فيها المهمات والأدوار: فمنهم من يقوم بدور رئيسي واضح، ومنهم من لم تتضح أبعاد دوره حتى كتابة هذه السطور. وبديهي أن تفاعلاتها ونتائجها لا تزال في عالم الغيب.
إن هذه الحقائق تفرض غموضاً معيناً على ماهية دور إسرائيل في الحرب؛ فإسرائيل، من الناحية المعلنة، ليست طرفاً رسمياً في التحالف المعادي للعراق. غير أنها في الوقت ذاته اعتبرت نفسها، منذ ما قبل اندلاع الحرب، طرفاً معنياً رئيسياً، وسعت لتأمين موقع يتيح لها التحكم في تطوراتها ونتائجها. ومع أنها لم تضع لنفسها أهدافاً حربية رسمية، إلا إن الأهداف التي عبّر قادتها عنها وشرحها محللوها السياسيون والاستراتيجيون تجعل منها طرفاً مباشراً فيها، قبل أن يسقط أول صاروخ عراقي على تل أبيب. ولا بد من أن تقود النظرة الجدية إلى الأهداف التي أعلنها هؤلاء إلى الاستناج أن إسرائيل لم تؤد دورها الكامل في هذ ه الحرب بعد.
الأهداف العامة
منذ توقف الحرب العراقية – الإيرانية، أخذت إسرائيل تنظر إلى القوة العسكرية العراقية أنها مصدر تهديد يتعين عليها مواجهته. فقادت حملة تحريض عالمية ضد العراق، محذرة من أنه أصبح قوة إقليمية تهدد المصالح الغربية والتوازنات القائمة في المنطقة. ومن الأمثلة التي تصف النظرة الإسرائيلية إلى العراق في حينه، ما كتبه عكيفا إلدار في صحيفة "هآرتس": "مما لا شك فيه أن الجبهة الشرقية أصبحت خطرة جداً على إسرائيل مع انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية. إن إسرائيل كانت ستضطر، عاجلاً أو آجلاً، إلى التصدي للتهديد العراقي، حتى لو كلّفها ذلك آلاف الضحايا."[1] ومن نماذج التحريض الذي مارسته إسرائيل قبل الحرب، ما جاء على لسان أفرايم سنيه، أحد القادة العسكريين ورئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية سابقاً: "قبل الحرب، قال الإسرائيليون للأميركيين إنهم إذا اكتفوا بانسحاب صدام حسين من الكويت وتركوا آلة الحرب العراقية سليمة، فكأنهم لم يفعلوا شيئاً."[2]
عشية اندلاع الحرب، أصبح هدف إسقاط النظام العراقي وضرب قوته العسكرية موضوعاً رائجاً يتحدث عنه المسؤولون الرسميون والناطقون بلسان مختلف التيارات السياسية علانية. ففي لقاء مع وفد من الكونغرس الأميركي قبل أسبوع من بدء الحرب، أدلى وزير الخارجية دافيد ليفي بتصريح لا يمكن اعتباره أقل من مشاركة في وضع أهداف الحرب، إذ قال إن على الولايات المتحدة "تطبيق استراتيجية حرب ساحقة تحسم المعركة"، وإن أية معركة جزئية ستشكل نصراً لصدّام، وستضطر الولايات المتحدة في نهاية الأمر إلى إبقاء قواتها في رمال الصحراء أعواماً، مضيفاً أنه إذا انسحب صدام (من الكويت) وبقيت قوته العسكرية، "فكأن الولايات المتحدة لم تحل أية مشكلة."[3] وقبل يوم من اندلاع الحرب، صرح الزعيم اليساري يوسي ساريد، رئيس حركة الحقوق المدنية، أمام الكنيست قائلاً: "يجب إنزال الهزيمة بصدام حسين؛ إن هزيمته يجب ألا تكون نصف هزيمة أو هزيمة ظاهرية، بل تامة ومطلقة. إذا بقي صدام موجوداً بعد الأزمة، بجيشه الجبار وترسانته الضخمة، فسيتحول الشرق الأوسط إلى جحيم كبير."[4]
ومع إطلاق الصواريخ العراقية على إسرائيل، عبّرت ردات الفعل عن مزيد من التطرف والوضوح في الأهداف الحربية الإسرائيلية، بعد أن زال الكثير من الحرج والتكتم اللذين فرضتهما طبيعة العلاقة الإسرائيلية غير المحددة بالتحالف الحربي. ولا بأس في عرض المواقف الإسرائيلية بشيء من الإسهاب لأنها، في ظل غياب الأهداف الحربية المعلنة، تعبّر عن الإجماع القائم في إسرائيل، وتحمل مؤشرات على الموقف الذي قد تتخذه في ضوء تطورات الحرب.
في اجتماع عقده الكنيست بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير 1991، قال رئيس حزب العمل، شمعون بيرس: "هذه ساعة حرب لإسرائيل أيضاً. والاعتبار الأعلى في الحرب هو النصر فيها. إننا نتطلع هذه المرة إلى نصر لا يكون سريعاً فحسب، بل شاملاً أيضاً. نصر لا ينتهي بالانسحاب من الكويت فقط، بل ايضاً بتصفية العدوان والمعتدي. يجب ضرب رأس الأفعى لا ذيلها فحسب، وضرب الأسلحة المدمرة لا الجنود الذين يشغلونها فقط."[5] وفي جلسة عقدتها الدائرة السياسية – الأمنية التابعة لحزب العمل، أضاف بيرس إلى ما سبق أن قاله، هدفاً آخر يبدو أن إسرائيل كانت مطلعة عليه في وقت مبكر، معرباً في الوقت نفسه عن نفاد صبره من بطء التقدم الذي تحققه قوات التحالف: "إنني لا اصدق أن عشرة آلاف غارة لم تدمّر البنية التحتية، ولا أصدق أن العراق ما زال يحافظ على قوته العسكرية، وأن صدام قوي وداهية إلى هذا الحد."[6]
كذلك صدرت تصريحات أكثر تطرفاً عن أقطاب اليمين في إسرائيل، جاء بعضها في سياق مناقشة الرد الإسرائيلي على هجمات الصواريخ العراقية. فقد أعلن عضو الكنيست عن حركة "تسومت"، يوآش تسيدون، أنه "يجب تصفية صدام من دون رحمة، ولو كلف ذلك شعبه خسائر جسيمة."[7] وقال عضو الكنيست عن الليكود تسحي هنغبي: يجب تلقين صدام درساً لن تنساه أيضاً كل دولة عربية في المنطقة. يجب تحويل بغداد إلى مدينة خراب، لأنهم [العراقيون] اختاروا ضرب مدن إسرائيلية."[8] وذهب عضو الكنيست عن حزب العمل، شمعون شطريت، إلى أبعد من ذلك بقوله: "يجب معاملة حاكم العراق ودولته بالطريقة التي عوملت بها ألمانيا وقادتها بعد الحرب العالمية الثانية. يجب تقديم صدام حسين للمحاكمة كمجرم حرب. أما العراق فيجب تقسيمه – كألمانيا – لمنعه من الاستمرار في تعريض السلام العالمي وسلام المنطقة للخطر."[9]
في المقابل، طالب زعماء آخرون بالتزام ضبط النفس، وترك مهمة تدمير القوة العسكرية العراقية لقوات التحالف. فقد صرح عضو الكنيست عن حزب العمل، جاد يعقوبي، أن تدمير آلة الحرب العراقية هو الهدف الأعلى الذي يجب أن يوجه سياسة إسرائيل، وطالب بعدم القيام بشيء يعرقل نجاح الولايات المتحدة وحلفائها في هذه المهمة.[10] في حين أعلن زعيم حركة الحقوق المدنية يوسي ساريد "أن هذه حرب ننتصر فيها من دون أن نشارك فيها."[11]
تكتيك ضبط النفس
بالإضافة إلى ما أصبح معروفاً من الفوائد السياسية والعسكرية والاقتصادية التي جنتها إسرائيل من امتناعها من الرد المباشر على هجمات الصواريخ العراقية، هناك ما يشير إلى أن تلك السياسة لم تكن أكثر من تكتيك، موقت على الأرجح، ترمي إسرائيل من ورائه إلى التأثير في مسارات الحرب والتحكم في أهدافها. فإسرائيل، باستجابتها لمناشدات أطراف التحالف بعدم الرد، وإعلانها أنها تحتفظ لنفسها بحق الرد في الوقت الذي ترتئيه، قد اكتسبت موقع قوة يمكّنها من ممارسة الضغط على أطراف التحالف إلى أجل غير محدد. وقد لمّح رئيس الأركان دان شومرون، في مقالة مع صحيفة "معاريف"، إلى هذا الموقع بقوله: علينا أن نعرف موقع القوة الذي تقف إسرائيل فيه اليوم. قبل أن يبدأ كل شيء [الحرب] قالوا إن لا حاجة إلى إسرائيل، فستكون في موقع دوني، وبحضور منخفض. أما الآن، فمن الواضح أن وحدة التحالف مرهونة بإسرائيل، وهو ما جعلها مهمة ومهيمنة في هذه الأزمة. لقد أعلن العراق الحرب علينا، ولدينا الشرعية التامة للعمل، لكننا اخترنا – من موقع قوة – المحافظة على ضبط النفس؛ وهناك منذ الآن نتائج مهمة لهذا القرار."[12]
وتوظف إسرائيل هذا التكتيك لخدمة عدد من الأهداف:
أولاً: الضغط على التحالف للمضي في هدف تدمير البنية العسكرية العراقية حتى النهاية؛ وهي، بذلك، تساعد الولايات المتحدة في المحافظة على تماسك التحالف عبر التلويح الدائم بإرباك خططه إذا ما حاد عن هذه المهمة. ويذهب المحلل العسكري رون بن – يشاي إلى حد القول إن إسرائيل تعطي التحالف "مهلة" للقيام بذلك: "إن من شأن عملية عسكرية إسرائيلية [ضد العراق] أن تتسبب بتورط مع الأردن، وربما أيضاً مع سوريا، وبوضع السعودية في مشكلة صعبة. ومن شأن تطورات غير متوقعة، في هذا المجال، أن تحوّل مركز الثقل من محاربة صدام حسين إلى إطفاء حريق عسكري وسياسي في الشرق الأوسط، يربك خطط التحالف. غير أن حكومة إسرائيل، مع كل رغبتها في عدم تخريب المجهود الحربي الأميركي، لا تستطيع الوقوف متفرجة والمراهنة على عدم قدرة صدام، أو عدم رغبته في إطلاق صواريخ تحمل رؤوساً حربية غير تقليدية على تجمعات سكانية في إسرائيل. من المعقول الافتراض أنها تعطي الأميركيين مهلة تمكّنهم من الوفاء بوعدهم وإحباط قدرة صدام [على القيام بذلك]. إذا لم ينجح الأميركيون وحلفاؤهم في تنفيذ المهمة، فمن الممكن أن يتطلب ذلك من الجيش الإسرائيلي القيام بعملية لمحاولة الرد على التهديد....".[13]
ثانياً: توجيه سير العمليات العسكرية بما يخدم المصلحة الإسرائيلية في الدرجة الأولى. وقد ذكر بعض المصادر الإسرائيلية أن ما يزيد على ثلث القوة الجوية التابعة للتحالف كان موجهاً، في مراحل معينة من الحرب، إلى ضرب منصّات الصواريخ في غرب العراق، في ضوء مطالبة إسرائيل بإزالة ذلك التهديد؛ بل إن بعض العسكريين الإسرائيليين اقترح على الولايات المتحدة تعديل خططها العسكرية لهذه الغاية. فقد كتب اللواء احتياط هيرتسل شابير مقالاً بعنوان "على الولايات المتحدة احتلال مناطق الصواريخ"، قال فيه إن الأميركيين لم يقوّموا، تقويماً صحيحاً، قدرة العراق على امتصاص الضربة. وينبغي للولايات المتحدة أن تستخلص من ذلك دروساً، منها:
أ- أن تقرر أن انسحاب صدام حسين من الكويت لم يعد كافياً. بكلمة أخرى: عليها أن تقرر، بصورة قاطعة، أن الحرب لن تتوقف إلا باستسلام صدام بلا شرط، أو بتدمير القسم الأكبر من قوة العراق العسكرية وبنيته التحتية الأمنية.
ب – أن تفتح جبهة ثانية، على الأرض، في غرب العراق. وخطوة كهذه تعني قيام قوات بعملية اجتياح من السعودية من أجل السيطرة على مناطق H-2 و H-3.... ويخيّل إليّ أن لا حاجة بنا إلى شرح الفائدة التي سنجنيها نحن الإسرائيليون من خطوة كهذه....".[14]
ثالثاً: ضمان موقع يؤهلها أن تكون طرفاً مؤثراً في التحركات السياسية التي تتم في سياق الحرب، كمحاولات التوسط لوقف إطلاق النار، أو المفاوضات السياسية التي ستأتي بعد الحرب. فعلى سبيل المثال، عندما صدر البيان الأميركي – السوفياتي المشترك في إثر اجتماع وزيري الخارجية جيمس بيكر وألكسندر بسميرتنيخ في واشنطن، والذي جاء فيه أن تعهد العراق بالانسحاب من الكويت يمكن أن يؤدي إلى وقف الحرب وإمكان عقد مؤتمر دولي لاحقاً، سارع يتسحاق شمير إلى الاحتجاج على عدم الأخذ برأيه مسبقاً في مثل تلك الخطوات، واستصدرت الحكومة الإسرائيلية من وزارة الخارجية الأميركية توضيحات مفادها – بحسب تصريح لوزير الخارجية دافيد ليفي – أن "ليس هناك من تغيير في أهداف حرب الخليج، وأن الولايات المتحدة لن تكتفي باستعداد صدام حسين للانسحاب من الكويت كذريعة لوقف الحرب."[15] وقد اضاف ليفي، في تصريحه ذاك، قائلاً إن إسرائيل "تأخذ علماً" بتوضيحات الولايات المتحدة "أنها متمسكة بالأهداف التي حددتها لحل أزمة الخليج.... [وهي] إخراج العراق من الكويت، وتدمير البنية التحتية العسكرية، وإزالة التهديد العراقي."[16]
الدور الإسرائيلي المؤجل
إن قيام إسرائيل بدور علني في مراحل لاحقة من حرب الخليج، سواء كان هذا الدور متفقاً عليه مسبقاً مع الولايات المتحدة أو بناء على مبادرة من إسرائيل لاعتبارات ذاتية، هو أمر وارد جداً. وهناك محللون إسرائيليون لا يستبعدون ذلك، مع أنهم يضعونه في إطار "الحق في الرد". وقد صدرت تصريحات رسمية تشير إلى هذا الاحتمال، منها ما أعلنه وزير الدفاع موشيه آرنس، في مقابلة مع إحدى شبكات التلفزة الأميركية، حين قال: "أعتقد أن الكل يتوقع من الحكومة الإسرائيلية، في هذه الأحوال، أن ترد. نحن سنقرر متى نرد، وكيف نرد."[17]
أما رئيس الحكومة، يتسحاق شمير، فقد لمّح إلى تنسيق مسبق مع الولايات المتحدة، تنسيق يفهم من كلامه أنه سابق للحرب، في شأن الدور الإسرائيلي. ففي توضيح أدلى به أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، فيما يتعلق بماهية التفاهم الذي توصل إليه مع الرئيس الأميركي جورج بوش في شأن رد إسرائيل على الصواريخ العراقية، قال شمير: "لقد وضعنا ترتيبات. الأساس هو أن الولايات المتحدة تنطلق من الافتراض أن إسرائيل لن تفاجئها، ولن تفعل شيئاً من دون تنسيق. كان من الواضح لنا أن عبء الحرب الأساسي يقع على عاتق الولايات المتحدة، لكن مدى التدخل الإسرائيلي لم يكن واضحاً بعد."[18]
ويرى المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، زئيف شيف، أن إسرائيل لا بد من أن تقوم بعمل عسكري ما، لكنه يضع هذا العمل في نطاق الرد ويرهنه بالتطورات الميدانية: "يتبلور لدى القيادة السياسية والأمنية في إسرائيل الشعور بأنه في مقابل الحق في الرد الذي تحتفظ إسرائيل به لنفسها على الضربات العراقية ضد المراكز السكانية، فإن من الأفضل لنا أن نحاذر الآن عرقلة المجهود الحربي الأميركي. وهذا الاتجاه لا يمليه الضغط الأميركي، بل يتأتى من تحليل الأوضاع الاستراتيجية الحالية. إن التشديد في هذه الصيغة هو على كلمة "الآن". فالمقصود هو، أكثر من أي شيء آخر، ضبط موقت للنفس مرتهن بالتطورات في ميدان القتال. هل ستعمل إسرائيل ضد العراق، بشكل أو بآخر، في سياق النزاع؟ رهاني هو: أجل. إن إسرائيل لن تبقى مدينة للعراق بإطلاق الصواريخ. إن التوقيت سيحدد عندما يحين الأوان، وهو مرهون – مرة أخرى – بالتطورات وبما سيحل بسكان إسرائيل."[19]
في ضوء ما سبق، يمكن الاستنتاج أن إسرائيل تقوم في المراحل الأولى من الحرب بدور "القوة الاحتياط" للولايات المتحدة، التي قد يطلب منها التدخل بصورة سافرة إذا نشأت أوضاع تفوق حسابات الربح فيها حسابات الخسارة. وفي الإمكان تصور بضعة أوضاع يمكن أن تستدعي ذلك:
أ- إذا واجه الجيش الأميركي مشكلات عسكرية مهمة في المعارك البرية، مثل ارتفاع عدد الخسائر البشرية في صفوفه، أو تمكّن العراق من إحراز تقدم عسكري يضع القوات الأميركية في موقف حرج. وقد وردت إشارة إلى ذلك في تحليل قدمه يوسف ألفر، نائب رئيس مركز يافي للدراسات الاستراتيجية، في مقابلة مع مجلة "سكيراه حودشيت": "أعتقد أن الولايات المتحدة تفهم اليوم أيضاً، على الرغم من الحضور المنخفض الذي يتسم به التعاون بيننا في هذه اللحظة، أن إسرائيل هي رصيدها الاستراتيجي الأكثر ضمانة في المنطقة، ولا سيما إذا – لا قدّر الله – واجه الأميركيون مشكلة عسكرية صعبة في الخليج."[20]
ب – إذا نشأت أوضاع تؤدي إلى انفراط عقد التحالف المعادي للعراق، وخصوصاً إذا أصرت الولايات المتحدة، حتى النهاية، على تدمير العراق كبلد وكقوة عسكرية وتغيير النظام فيه. فمن شأن تطورات قد تحدث في العالم العربي، أو تطورات غير متوقعة في الساحة الدولية، أن تضطر بعض أطراف التحالف إلى التراجع. وهنا يصبح الدور الإسرائيلي ضرورياً ومطلوباً.
ج – إذا دخلت الحرب مراحل شديدة الخطورة، واضطر العراق إلى استخدام أسلحة غير تقليدية، أو قررت الولايات المتحدة استخدام مثل تلك الأسلحة للتعجيل في حسم الحرب. ومن اللافت للنظر أن مصادر أميركية رسمية قد سربت أنباء مختلفة عن امتلاك العراق قدرات نووية، منها مثلاً ما نقلته صحيفة "واشنطن بوست" عن مسؤولين في الإدارة الأميركية بشأن امتلاك العراق "قنبلة نووية بدائية"؛[21] ومنها أيضاً ما كتبته صحيفة "هآرتس" عن رسالة بعث بها جيمس بيكر إلى وزير الخارجية الإسرائيلي في شأن الموضوع نفسه؛[22] فمن الممكن أن ترى الولايات المتحدة أن اعتباراتها لا تسمح لها باستخدام مثل تلك الأسلحة، وأن تتولى إسرائيل هذه المهمة. وقد صرح وزير الدفاع الأميركي، ريتشارد تشيني، أن إسرائيل سترد بأسلحة غير تقليدية إذا استخدم العراق صواريخ تحمل رؤوساً كيماوية ضدها.[23] ولعل هذا التصريح يمهّد لمثل هذه التطور، بقدر ما يهدف إلى الردع.
وفي الجانب الإسرائيلي، صدرت بضعة تلميحات تعبر عن استعداد إسرائيل للقيام بالدور القذر في الحرب، مع أنها لا تتطرق صراحة إلى الرد بالأسلحة غير التقليدية. ففي مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت"، قال قائد سلاح الجو اللواء أفياهو بن – نون، "أن الأميركيين يهاجمون أهدافاً معينة في بغداد، وبصورة عامة أهدافاً عسكرية فقط. أما نحن، فمن شأننا، كانتقام، أن نهاجم أهدافاً أخرى. إن الانتقام لا حدود له، وهذه مسألة قرار فقط."[24] وكتب يسرائيل لاندرس مقالاً في صحيفة "دافار"، جاء فيه: "سيتعين علينا مهاجمة أهداف في العراق من شأن ضربها أن يهدم قدرته على الصمود. ويجب عدم منح الأهداف المدنية حصانة. إن الأميركيين يبذلون جهداً للامتناع من ضرب السكان المدنيين [لاعتباراتهم...] وهذه الاعتبارات يجب أن تتصدر سلم أولويات إسرائيل."[25]
د - إذا وجدت إسرائيل أن الفرصة سانحة لتنفيذ مخططات كثيراً ما تم تداولها علناً في إسرائيل، كمحاولة القيام بعملية نقل جماعي "ترانسفير" لفلسطينيي المناطق المحتلة أو لقسم منهم. ولا شك في أن تعيين أبرز دعاة هذه الفكرة، رحبعام زئيفي رئيس حركة موليدت، في الحكومة الإسرائيلية يكتسب مغزى خاصاً في هذه الأوضاع. وقد صرح زئيفي أمام الكنيست، بلهجة جازمة: "أن إنجازات هذه الحرب ستكون القضاء على التهديد العراقي، وإجلاء عرب يهودا والسامرة، كي تبقى أرض إسرائيل ميراثاً لشعب إسرائيل، وله وحده فقط."[26] وهناك تحليلات إسرائيلية لا تستبعد تذرع إسرائيل بالرد على الصواريخ العراقية من أجل مهاجمة الأردن بهدف تغيير مجرى الحرب لمصلحتها. وفي هذا الصدد، كتب يورام بيري: "من شأن عملية إسرائيلية ضد العراق أن تتسبب باندلاع حرب بين إسرائيل والأردن. وإذا نشبت حرب كهذه، فإنها ستغير طابع حرب الخليج تغييراً كلياً.... هناك من يقدرون، بسذاجة أو على الأقل بنية صافية، أن التهديد الآتي من غرب العراق هو على درجة من الخطورة – أو سيصبح على درجة من الخطورة – بحيث يستوجب عملية عسكرية، حتى لو كان ثمنها حرباً مع الأردن. غير أن هناك اليوم من يحاولون استخدام التهديد، أو خطر التهديد العراقي، من أجل التعجيل في نشوب مواجهة عسكرية بين إسرائيل والأردن. إن 'أنصار النظام الجديد' لم يتخلوا عن غايتهم بعد."[27]
هـ - من الممكن أن تقوم إسرائيل بعمل عسكري معين، في سياق الحرب، لاستعادة هيبتها وتعزيز موقعها في التسويات المقبلة، وخصوصاً أنها تفترض أن المنطقة مقبلة على ترتيبات أوضاع جديدة. وقد تزداد فرص قيامها بعمل كهذا، إذا صمد العراق واضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع عن الأهداف المذكورة آنفاً. ويؤكد ذلك تحليل كتبه أبراهام تمير في صحيفة "دافار"، جاء فيه: "أن الاعتبارات [الإسرائيلية] في المجال السياسي [فيما يتعلق بالرد على العراق] يجب أن تأخذ في الحسبان ما هو متوقع بعد انتهاء الحرب. هناك سيناريوهات كثيرة لذلك.... أحدها يمكن أن يكون انتهاء الحرب على أساس تنفيذ قرارات مجلس الأمن.... وليس لغرض تحقيق أهداف أخرى إضافية، كالقضاء على نظام صدام حسين وعلى كل قوته الاستراتيجية – العسكرية.... إذا كان هذا هو التطور الممكن،، فعلينا أن نكون مستعدين لضغوط ترمي إلى البدء مجدداً بعملية السلام، من أجل منع حرب أخرى، وهي ضغوط سيمارسها علينا جميع أولئك الذين امتدحونا لـ'ضبط النفس'. إن على إسرائيل أن تكون في موقع قوة أيضاً في عملية سلام. يجب أن يكون هناك أيضاً طرف عربي في عملية كهذه. لذلك هناك أهمية، في المدى البعيد، لقدرة إسرائيل على الحسم، التي يجب أن تكون ثابتة المصداقية، بعد أن تم تجاوز الخطوط الحمر التي وضعتها لأغراض أمنها القومي."[28]
[1] "هآرتس"، 20/1/1991.
[2] أفرايم سنيه، "هآرتس"، 22/1/1991.
[3] "دافار"، 10/1/1991.
[4] "هآرتس"، 17/1/1991.
[5] المصدر نفسه، 24/1/1991.
[6] "معاريف"، 25/1/1991.
[7] "هآرتس"، 24/1/1991.
[8] إيلان شاحوري، "هآرتس"، 31/1/1991.
[9] "دافار"، 31/1/1991.
[10] المصدر نفسه، 30/1/1991.
[11] المصدر نفسه، 29/1/1991.
[12] عمانوئيل روزين، "معاريف"، 1/2/1991.
[13] "يديعوت أحرونوت"، 25/1/1991.
[14] المصدر نفسه.
[15] "هآرتس"، 31/1/1991.
[16] المصدر نفسه.
[17] "دافار"، 21/1/1991.
[18] "يديعوت أحرونوت"، 29/1/1991.
[19] "هآرتس"، 21/1/1991.
[20] "سكيراه حودشيت"، المجلد 37، العدد 9، 29/10/1990، ص 40 – 46. وقد نشرت هذه المقابلة قبل الحرب.
[21] "هآرتس"، 17/1/1991.
[22] المصدر نفسه، 18/1/1991.
[23] "دافار"، 3/2/1991.
[24] رون بن يشاي، "يديعوت أحرونوت"، 1/2/1991.
[25] "دافار"، 31/1/1991.
[26] "معاريف"، 17/1/1991.
[27] "دافار"، 30/1/1991.
[28] المصدر نفسه.