صورة فلسطين القاتمة
النص الكامل: 

 أرى أن الصورة قاتمة إلى حد ما. فلسطين فقدت شيئاً من بريقها المعتاد. العرب منشغلون بما يحدث في بلادهم بعد جميع الهزات التي شهدتها المنطقة، وخصوصاً في العقد الأخير بعد "الثورات" وما تلاها من انتكاسات. لن أنسى أبداً مرارة نادل المقهى في القدس، الذي قال لنا حين علم أننا كتّاب تونسيون وسوريون ومصريون في زيارة لفلسطين، بدعوة من وزارة الثقافة: "العرب نسونا... العرب تركونا وحدنا في مواجهة إسرائيل... رجاء... اكتبوا هذا." وكتب كل منا هذا على الرغم من أنه يعرف أن لا جدوى تقريباً ممّا كُتب في هذه الفترة الصعبة. هل تعيش القضية الفلسطينية حالياً أسوأ مراحلها؟ أميل إلى هذا. الأفق مسدود، ولا شيء ينبىء بأي تطور لمصلحتها في المستقبل القريب على الأقل، ولا سيما بعد الحديث عمّا يسمى "صفقة القرن". لكني لا أفقد الأمل بتاتاً. والسبب هو: حب الفلسطينيين للحياة؛ ثقتهم العميقة بأنفسهم؛ قدرتهم الهائلة على المقاومة الصامتة. وقد لمست هذا بنفسي في رام الله والقدس وقلقيلية، ولدى جميع الفلسطينيين الذين التقيت بهم. أحياناً أتساءل عمّا إذا كان تخلّي الحكام العرب عن الفلسطينيين هو أفضل، في النهاية، للقضية. الفلسطينيون يعرفون أن هؤلاء الحكام، في أغلبيتهم، أساؤوا إليهم، وأنهم وظفوا قضيتهم العادلة النبيلة لبلوغ أهداف سياسية داخلية. فلسطين كانت، ولا تزال، بالنسبة إليهم حلية يزينون بها خطبهم الرثة. وفي بعض المرات، أذهب إلى أبعد من هذا لأتساءل: ما كان وضع نزاع الفلسطينيين مع الإسرائيليين اليوم لو ترك العرب الفلسطينيين منذ البداية، يواجهون الإسرائيليين وحدهم، وساندوهم طبعاً، لكن بطرق أكثر ذكاء ونجاعة، وبأقل ما يمكن من الحماسة الفجة مثلما يفعل كثير من يهود العالم لإسرائيل؟ نعم، ماذا لو لم يتدخلوا في قضيتهم بطريقتهم العشائرية البدوية مثلما فعلوا؟ هل كانت إسرائيل ستكسب هذا التعاطف العالمي كله؟ وهل كان الغرب سينحاز بمثل هذه الفجاجة والوقاحة إلى إسرائيل التي قدّمت نفسها ـ وخصوصاً في بداية النزاع ـ كشعب صغير ناجٍ من محرقة يواجه وحده ثلاثة جيوش عربية؟   فلسطين وتحديات الواقع العربي أعتقد أن هناك تلازماً بين فلسطين ومجمل الأسئلة التي تطرحها تحديات الواقع العربي، فكل تقدّم تحرزه الشعوب العربية في مجال الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، لا يمكن إلاّ أن يخدم فلسطين بشكل ما. الديمقراطية تعني احترام السلطة لخيارات الشعوب، ولا أتخيل أن هناك شعباً عربياً واحداً تخلّى نهائياً عن فلسطين، وإن بدا لنا الأمر عكس ذلك في هذه الفترة الانتقالية العسيرة التي تعيشها المنطقة بأكملها.   فلسطين في مبنى الثقافة العربية الحديثة أعترف بأن فلسطين ليست حاضرة بشكل مباشر دائماً في كثير من أعمالي الروائية. هناك إشارات إلى القضية في العديد من هذه الأعمال، فأغلبية الشخصيات في هذه الروايات، عرب، ومن الطبيعي أن تتعرض في أحاديثها لهذه القضية. هناك رواية واحدة تمتلك فيها فلسطين حضوراً ما، هي "عواطف وزوّارها"، ويتمثل ذلك في أن إحدى شخصياتها الرئيسية هي فلسطيني من بيت لحم مقيم في فرنسا. الرواية تقارب عوالم عرب في باريس، وبالتالي لا بد من أن يكون هناك فلسطيني كي يكون المشهد مكتملاً. أمّا الفلسطيني الذي اخترته فليس مناضلاً ولا فدائياً، بل هو صحافي صغير يراسل صحفاً عربية تصدر في الخليج، ويكتب عن نجوم الغناء والطرب والسينما والتلفزيون. يحب فلسطين ويدافع عنها طبعاً، إلاّ إنه يفعل هذا بأسلوب ذكي هادئ، بعيداً عن الحماسة. وهو مولع بالتاريخ، ولا سيما تاريخ حركات التحرير في العالم العربي. إنه في تقديري من أجمل شخصيات الرواية وأكثرها ثراء، لكني رسمتها بطريقة غير مألوفة لأني أردت أن أنزع هالة القداسة التي لا تزال تحيط بصورة الفلسطيني في وعي المواطن في تونس وغيرها من دول المغرب العربي. أمّا فيما يتعلق بآفاق علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية، فأرى أن هذه القضية ستظل حاضرة في الثقافة العربية ولن تختفي أبداً، ولن يتخلى المثقفون العرب عنها. وإذا كان هناك من مجال سيظل يدافع عن قضية فلسطين، فهو مجال الثقافة. وعلى أي حال، هذا ما يحدث منذ فترة في العالم العربي. فالسياسيون، أكانوا في السلطة أم في المعارضة، يتحدثون عن فلسطين وفق ما تقتضيه مصالحهم، أمّا المثقفون، فيتناولون القضية لأنهم مؤمنون بها، ولأن الدفاع عنها هو دفاع عن الحرية والعدالة والكرامة.