صور فلسطين وتحولاتها
النص الكامل: 

 هل علينا أن نذكّر، الآن وهنا، بأننا، عرباً وفلسطينيين، بلغنا في الحضيض حيّزاً واسعاً من الاستبداد وصنوه الأصولية يدفعنا إلى أن نختار طريقة موتنا قهراً وإذلالاً، أو مزيداً من الابتعاد عن شوق الحرية؟ لم تعد الذكرى تنفع، وإن ظلت تتيح مجالاً ولو ضيقاً للتأمل. فبين هذا الانحدار الفظيع المتسارع، وبين حال العرب، نسبٌ تشفّ عنه تواريخ الأحلام والكوابيس التي ظللنا نراوح بينها. كانت كل نكبة أو نكسة في ذاكرة الفلسطينيين تُدخل العرب في نفق مظلم، لكننا على وقع أتراحنا نصنع الحلم. جاءت نكبة 1948 مصحوبة بحماسة للوحدة القومية، كان حظ الرومانسية الثورية وضعف العقلانية فيها كبيراً. ثم اندلعت الحركة التحريرية الفلسطينية حاملة ما تيسر من الآمال، فهبّ الإنسان الفلسطيني الملحمي ولبّى النداء. فتحت هزيمة 67 بقسوتها وصدمتها باباً للعمل من أجل وحدة من صنف آخر أرادت أن تتعمد مرة أُخرى بدم هذا المجتث من ترابه، في ضرب من القلق إزاء القُطرية التي استحالت، أكثر ممّا توهمنا، إلى إطار حاضن لمختلف الشعوب العربية. كنا في زمن المنطق الثوري الجذري، وما يحمله من أوهام لذيذة وخطرة في آن واحد. في السبعينيات، بدا السلام المنقوص بين بعض الدول العربية وإسرائيل واقعية سياسية أقرب إلى الكابوس، ولم يخترقها إلاّ ما بنيناه في ضمائرنا من نبل المعركة قبل بيروت وبعدها، معركة للبقاء انتهت إلى الدخول فترة طويلة نسبياً في النفق المظلم، بعيداً عن أرض المعركة وأصحابها الأصليين. لاحت أوسلو بعد أوانها واستكمال الترتيبات ـ شكل الطاولة وكراسي الجلوس وحرية اختيار ألوان ربطة العنق ـ أفقاً ممكناً للمتفائلين بالخروج من قتامة الوضع في أوائل التسعينيات. وزعت الأمل على الأطفال والثكالى والأسماء النائمة على شواهد القبور، إذ أُعلن الحلم من جديد برسم احتمالات العودة وبناء الدولة. طُويت فكرة الثورة المدهشة، واستُدعي العقل لتفسير الموازين والمقامات. تابع أصحاب الأرض المغدورة والمعركة المهدورة على الشاشات، التصريحات بلغات لا يفهمونها. اكتفوا بتفحص تعابير الوجوه وعلاماتها الدالة وسحناتها الرمزية، على سبيل التدرب على القراءة السيميائية للحلم ـ الكابوس. مَن لوّنوا تراب الأرض شاهدوا باندهاش ألعاب الخفة حين كان المفاوضون يجزّئون حبيبات التراب، فيقدمونها من هنا، ويسحبونها من هناك. انتهت أوسلو وفُرض واقع الاستسلام بديلاً من السلام، وأُهدرت انتفاضة الأقصى، وانفصلت غزة عن الضفة الغربية، وانطمس المشروع الوطني الفلسطيني، وتسارع نسق التطبيع سراً فجهراً. لا من حسيب أو نقد ذاتي سوى الأجساد النحيلة ملقاة بعيداً عن مضاربها، يستفزها ازدراء المقامرين. وراء هذا كله تحولات وعِبر. فقد انتقلت فلسطين من قضية العرب الأولى في الشعارات وبعض المساعي الكفاحية الفاشلة (حرب 1948) والوحدوية المخفقة، إلى قضية قُطرية تهمّ الفلسطينيين مباشرة. حينها، تحوّل مناصرو القضية من العرب من موقع الفاعل الشريك إلى موقع المساند المتعاطف في أفضل الأحوال، وهذا من دون أن نتحدث عن المناوىء والمطبّع والداعي إلى حكمة الاستسلام، بدلاً من طيش الكفاح من أجل سلام مستحيل لم نُعدّ له ما استطعنا من قوة. وليست التعلات والمبررات صعبة على كل ذي عقل يوصف بأنه براغماتي واقعي. انتقلت فلسطين من بلاغة التحرر الوطني والقومي، وفصاحة المطالبة بالحرية والوحدة والعدالة، إلى وعي ملاحقة واقع الاستيطان الصهيوني، والوقوع بين فكّي كماشة التسلط والقمع، وعجمة التنسيق الأمني مع إسرائيل، والانقسام الداخلي المريع. لم يتفطنوا إلى أن اختلاف الأحرف بين الأرض والإنسان لا ينفي وحدتهما. فمن أين للمقهور والمستباح في ثنايا الشعارات، الغائب الحاضر بحسب الطلب، المنهك بفائض اللغة من دون المعنى، المتلاشي في غياهب الإسهاب، أن يجمع القوة ويستوي من جديد؟ انتقلت فلسطين من منطق الثورة المسلحة للتحرير واستعادة الأرض المغتصبة، إلى القبول بنثار من الأرض وأشتات منفصلة لا رابط بينها، حتى بعد القبول بقرارات التقسيم الدولية. لقد صارت فلسطين، الأرض والمشروع، قطعة "غرويير" مُرّة الطعم منطمسة الشكل في مأدبة الإذلال والقهر. كما انتقلت المطالب الفلسطينية من دولة ديمقراطية "لائكية" ثنائية القومية، إلى نثار من "أراضٍ" وجزر متباعدة لا تشكل وحدة قابلة للحياة، ولا بناء دولة على الحقيقة لا المجاز. لقد كان تفكيكاً للأرض يُقصد من ورائه تفكيك البشر وثقافتهم وكيانهم السياسي الجامع. انتقلت فلسطين لدى أبنائها من مشروع لتحرير الأرض إلى صراع صغير رخيص على السلطة، وإلى مناكفات قبيحة تافهة مدارها سفاسف وتصورات بخسة تعسة عاجزة عن بناء مشروع وطني حقيقي. فصار التقرب إلى إسرائيل أهم من وحدة الشعب الفلسطيني ومؤسساته. لكن هذه الضروب من الانتقال، لا تنفصل عن مسارات الحلم التحرري من الاستعمار، والتوجه الوحدوي لدى العرب جميعا. فكأن تحولات فلسطين وصورها المتنوعة موشور يكشف عن واقع "الأشقاء"، إذ للأمر الذي جرى في فلسطين أشباه ونظائر في "بلاد العرب أوطاني": ضياع للمشاريع الوطنية؛ ضعف في قراءة الخرائط السياسية الدولية؛ تراجع للتوجهات التضامنية بين العرب؛ مزيد من التسلط وقهر الشعوب؛ ترسخ بديل لا يقل تسلطاً ورجعية، هو البديل الأصولي بخلطته الإخوانية والسلفية الوهابية. لا شيء في هذا التذكير ببعض الوقائع يبين عن أمل ما. لا كأس أمامنا ننظر في نصفها المملوء لنصنع التفاؤل. ضياع في ضياع، وكابوس وراء كابوس. لا شيء يلطف من هذا القنوط والخيبات المعممة التي تبعثها فينا صور فلسطين والعرب المتعددة في تواليها على شاشة التاريخ الراهن، إلاّ ما يعتمل في الحياة اليومية هنا وهناك. كان الربيع العربي وعداً بأن التاريخ العربي يتحرك. وعلى الرغم ممّا وسمه به أبناء "الواقعية السياسية" ونظرية المؤامرة من أنه ربيع عبري صنعته الاستخبارات الغربية، فإنه يظل حراكاً حتى إن اقتصر فضله على كشف العيوب الكامنة عميقاً في بنية المجتمعات، والمسافات الحقيقية التي تفصل البشر عن أنظمتهم المحافظة التسلطية، وأوهامهم الميتافيزيقة العميقة التي تدفع بهم إلى الارتماء في نهر الدموع المكلل بالورد، وإن ذبلت وروده وصارت دموعه دماء مسفوكة. نكث الربيع العربي بالوعد الجميل، وخان الإمكان التاريخي الجميل بالعيش في دوحة الحرية، فاستفاق الناس من سكرة التغيير والتحرير على مزيد من الأوهام والأوجاع. ربما جاء الوعد في زمن تراجع الأفكار الثورية وسيطرة رأس المال المالي والليبرالية المتوحشة والتجدد الذاتي للمشروع الإمبريالي. وما هيمنة اليمين البذيء، هنا وهناك، على خريطة العالم إلاّ تعبير مكثف عن شبكات رأس المال والسلاح والدمار. وهذا السياق برمّته ليس قادراً إلاّ على مزيد من حشر الفلسطينيين في الركن الذي ما انفك يضيق. فتأجلت أسئلة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية إلى موعد قد يأتي وقد لا يأتي. فلسنا وحدنا في العالم، وكل ما نراه هو تلاعب بالديمقراطية، وعجز عن إعادة ابتكارها بما يلائم حاجات الإنسان وبيئته المهددة. حتى أكذوبة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي كيان عنصري ديني، طفقت تكشر عن أنيابها من خلال الأوصياء على التبرير الديني الأسطوري للاستعمار الاستيطاني، لتتحول شيئاً فشيئاً إلى مجتمع يسيطر عليه المتدينون ولوبياتهم المالية. فهل سنكون استثناء؟ ربما كان الاستثناء الوحيد الممكن للفلسطينيين، أنهم ما انفكوا منذ سبعين عاماً يقاومون آخر حصون المستعمرات الاستيطانية، بعد تفكيك كل وصمة عار على جبين الإنسانية الحديثة. في هذا العمق الإنساني للقضية الفلسطينية، يكمن نبلها وقوتها ووعودها التي لا نراها اليوم. فمن سخائها أنها آخر ملجأ للمقهورين والمضطهدين والساعين لإعلان شوقهم إلى الحرية، وإعادة بناء حلمهم بأن عالماً أكثر عدالة وإنسانية هو عالم ممكن فعلاً لا قولاً. لقد صنعنا لأنفسنا صورة عن الفلسطيني البطل المقاوم صاحب الحق، وهو يحمل سلاحه باحثاً عن ثغرة يتسرب منها إلى أرضه التي طُرد منها. كان الفلسطيني عندنا، وعند غيرنا من المكافحين من أجل الحرية في أرجاء المعمورة كلها، إنساناً أعلى "مُؤمْثلاً". ولئن لم يكن يتحمل ما أردناه من أسطورة ألبسناه حلتها، كما لو كان كامل الصفات منزوعاً عنه الحلم ببيت وحياة هانئة وأطفال يذهبون إلى المدارس، لا يكذب ولا يخون ولا يكره ولا ينفعل، فإن انسداد الأفق كشف وهمنا السابق من دون أن يخرج الفلسطيني من أسطورته الواقعية وبطولته المتحققة يومياً. فماذا نسمّي هذا الإصرار على الحياة والعيش على الرغم من الطرد وتجريف الأشجار المثمرة ومصادرة الأراضي وهدم القرى والجدار العازل؟ من أين يأتي هذا الفلسطيني الأعزل العادي بهذه الطاقة كلها على مواجهة الإبادة والإفناء؟ لقد تبيّن أن المقصد الأسمى لدولة إسرائيل، باعتمادها سياسة التمييز العنصري ضد المواطنين العرب، وبتهويدها القدس وأسر الأطفال وإشاعة سرطان الاستيطان، هو محو وجود الإنسان الفلسطيني. لكن استمرار وجوده وثباته ومواظبته على الحياة، هو في حد ذاته شكل راقٍ من أشكال المقاومة بالجسد والحركة يُنشىء معنى الوجود نفسه. ثمة معجزة فلسطينية لا نراها بيسر لأنها تبدو بديهية إذا لم نتناولها ضمن المشروع الصهيوني الأصلي. فليست التصفية السياسية للقضية الفلسطينية، بما هي تعبير عن موازين قوى لا يتحكم فيها أصحاب القضية على الأرض، إلاّ السطح الذي يُخفي ما في الأعماق. لقد اكتشف المحتل أن المطلوب أكثر من ذلك: لا بد من تصفية ثقافة الشعب الفلسطيني، ولمّا استحال عليه ذلك، صار المطلوب تصفية الإنسان الفلسطيني نفسه. وهنا كعب أخيل ربيبة المشروع الإمبريالي الغربي الذي ما فتىء يدعمها ويدللها. وفي هذا أيضاً مأساة المحتل الثقافية والأخلاقية الفعلية. فكل ما تقوم به إسرائيل وما تتخذه من إجراءات، إنما مردّه إلى هذا الضعف الجذري في أسطورتها وحقيقتها في آن واحد. إن ما يوجد من معطيات سياسية وطنياً (فلسطينياً)، وإقليمياً (عربياً بصورة خاصة)، ودولياً، لمحبط وباعث على اليأس لا ريب. لكن، على الرغم من سيطرة إسرائيل، وتطورات مسار تطبيع بعض العرب معها وفرضه في الواقع شيئاً فشيئاً، فإنه علاوة على إصرار الفلسطينيين على الحياة، ثمة شعور جليل عميق لدى المؤمنين بالحق الفلسطيني، وخصوصاً من العرب، بأن فلسطين قضيتهم حقاً. لقد صار العرب أنفسهم فلسطينيين أمام ما يشهدونه من تقوّي شوكة الاستبداد، واشتداد بأس الأصولية، بيد أن نداء الحرية والعدالة يكون على قدر القمع، ويظل الرهان على وعي القمع، وهو رهان يقوم على تكتيك حرب المواقع التي تدور على فواعل الهيمنة الثقافية في المجتمع المدني ومؤسساته، وعلى تحصين الذات الثقافية. وهنا يوجد الأساس المكين، وهو وحدة الثقافة والإبداع العربيين بمختلف روافدهما، بما فيها ـ وبصورة خاصة ـ الثقافة الفلسطينية. فالهزائم الكبرى والمدمرة هي الهزائم الثقافية، لكن، ما دامت الذاكرة محصنة وقابلة للاشتغال عليها، وإعادة صوغها مقاومة للنسيان والتناسي، وما دام المهاد الثقافي العربي صلباً، فإن المعنى الفلسطيني سيظل مركوزاً في المتن مشعاً متألقاً، وسيستحيل بوصلة نعرف بها الطريق والأفق، وإن اختلطت سبل المواجهة وغامت الآفاق وادلهمّت.