حسن، منار. "المغيَّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948 " (بالعربية)
النص الكامل: 

المغيَّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948

منار حسن

بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022. 264 صفحة. 

يأخذنا هذا الكتاب في رحلة تاريخية داخل المجتمع الفلسطيني، ويطلعنا على أهم الاشياء المسكوت عنها، والتي سمّتها الكاتبة مسارات تحضّر مكثف شهدتها المدن الفلسطينية في أواخر القرن 19 حتى منتصف القرن 20، مستخدمة تقنية التقاط القصص والشهادات الشخصية، ومعتمدة على الأرشيفات والصحافة.

السؤال الأهم الذي طرحته الكاتبة هو: لماذا تم تغييب المدن الفلسطينية من الذاكرة الصهيونية، ومن الذاكرة الفلسطينية الجمعية؟

أَلَا يخدم الشق الفلسطيني من التغييب المشروعَ الصهيوني القائم على فكرة أنه مشروع تمدن وتحضّر في منطقة خالية من أي حضارة وتمدن، وأن المجتمع الفلسطيني كان دائماً مجتمعاً ريفياً متخلفاً وبدائياً إلى درجة أن وجوده وعدم وجوده سيان (أرض بلا شعب)؟

إن التغييب الفلسطيني لمسارات التحضر، مثلما تقول الباحثة، ناتج من طابع الصراع الجغرافي والاستلاب، ومن تعزيز مكانة القرية على حساب المدينة منذ النكبة، ومن التركيز على الأرض والالتصاق بها وبالقرية، مع أن الدفاع عن القرية والأرض بحاجة إلى تدخّل المدينة واضطلاعها بدور مركزي. هذا التغييب الفلسطيني لذاكرة المدن الفلسطينية يلتقي مع سياسة المحو الإسرائيلية، وهو على الأغلب ناجم عن إهمال وجهل، فضلاً عن أن منظمة التحرير الفلسطينية تتحمل مسؤولية عن هيكلة الذاكرة الجمعية الفلسطينية كذاكرة ريفية، عبر رعاية وتطوير وعي ريفي قروي، وخصوصاً لدى الجاليات الفلسطينية. كما تتهم الباحثة المثقفين والأكاديميين بالتقصير في هذا المجال، وتشير إلى مشروع جامعة بيرزيت، وكتاب "كي لا ننسى" لوليد الخالدي، اللذين غيّبا المدن واقتصر البحث فيهما على القرى المدمرة. وما وصلت الباحثة إليه من نتائج، من المفترض أن يفتح أبواب السجال في هذه المسألة (ص 9).

إن التحولات التي يشهدها المجتمع الفلسطيني منذ تسعينيات القرن الماضي حتى الآن، من تعصب ديني اجتماعي، وصعود الهويات الفرعية كالعائلة والعشيرة على حساب الهوية الوطنية الجامعة، والتمييز ضد نصف المجتمع من النساء، وسيادة ثقافة التقاليد البالية، والنظام التعليمي المقيِّد للعقول، تدعم تشخيص الباحثة، وتعني دخول هذا المجتمع في مسارات تخلُّف برعاية السلطات، وذلك في تناقض مع مسارات التحضر السابقة. 

تحضّر المدن والنهضة النسائية

في معرض ردها على تجاهل مسار التحضر الذي شهدته المدن، تقول الباحثة إن نسبة الفلسطينيين الذين سكنوا في المدن قبل النكبة تراوحت ما بين 35% و40% من مجمل سكان فلسطين (ص11). وتشير إلى أن عملية التحضر ظهرت من خلال توسيع الحيّز العام في المدن، وهو الحيز الحضري الذي يُعتبر مركز التغيير، ومكان نشوء مؤسسات مدنية: محطات إذاعية؛ مسارح؛ دور سينما؛ مكتبات عامة؛ نوادٍ ثقافية ومجتمعية ونوادٍ كشفية.

وتربط الباحثة بين تطور الحركة النسوية وتطور المدن الفلسطينية، فالمدينة تشكل المضمار الذي تبدأ فيه التغيرات تطرأ على العلاقات الجندرية. وقد انتظمت نساء في أطر حضرية شملت: منظمات نسائية وجمعيات خيرية وجمعيات رفاه؛ منظمات دينية وسياسية؛ جمعيات رياضية، وحركات شبيبة واتحادات طلابية ونوادٍ ثقافية؛ مجموعات عسكرية نسائية ونقابات للعاملات. وضمن التغييرات الحضرية ازدهرت مهنتا الخياطة والتصميم، بحيث ازداد عدد العاملات في ورش صغيرة ومشاغل ومدارس تأهيل مهني، كما وفرت المدن مِهَناً للنساء لها علاقة بالفنون الشعبية كالرقص والغناء والعزف، فكانت هذه براعم المجتمع المدني الآخذ في التطور.

وترى الباحثة أن مسار التحضر الذي بدأ يتسع آنذاك، أدى إلى نشوء علاقات وصِلات اجتماعية جديدة ومنظومة قيمية وثقافية جديدة، كبديل من منظومة القيم التقليدية / البطريركية، وإلى احتدام الخلاف بين الطبقات والشرائح القديمة والطبقات الجديدة.

وقد أولت الجمعيات اهتمامها الرئيسي لتعليم الفتيات وتأهيلن من أجل تعزيز مكانتهن، وجرى توزيع مِنَح على الطالبات المتفوقات لتمكينهن من مواصلة دراستهن في معاهد التعليم العالي في مختلف المدن، ومنها يافا وبيروت. كما تأسست فرق الكشافة للفتيات، والتي نظمت نزهات ومخيمات كشفية في فلسطين وخارجها، الأمر الذي أضعف السيطرة الذكورية عليهن من جهة، ووسّع مشاركتهن السياسية من جهة أُخرى.

وظهر تعزز الحضور السياسي النسائي في مؤتمر النساء العربيات في القدس الذي عُقد في سنة 1929، وحضرته 300 امرأة وفتاة من جميع المدن، والذي تقرر فيه تنظيم تظاهرة كبرى أمام القنصليات الأجنبية وتسليمها مذكرات احتجاج، الأمر الذي أثار حنق المندوب السامي الذي حاول تحريض الرجال على النساء.

وجاء في منشور صدر عن الجمعيات النسائية: "إذا لم يتوقف المفتي وسائر الضالعين عن صراعاتهم الداخلية، وإذا لم يبدأوا بالعمل معاً، فإنهم سيتحملون مسؤولية خراب الشعب والوطن" (ص 84).

وتتناول الباحثة ظهور الجمعيات العسكرية، مثل جمعية "زهرة الأقحوان" التي نشطت في مجال المقاومة العسكرية وفي دعم المقاتلين ومعالجة الجرحى ونقل الأسلحة والغذاء، كما تنقل عن ناريمان خورشيد قولها في مقابلة أجرتها مع جريدة "فلسطين" في 21 / 5 / 1948، قولها: "انضمت الينا اثنتا عشرة فتاة عربية، وقررنا مهاجمة العصابات الصهيونية 'الهاغاناه' في مواقعهم" (ص105). كما لاحظت الباحثة حضور النساء في الحيز العام، وضلوعهن في مختلف النشاطات إلى المستوى الذي بدأن فيه بتشكيل تهديد للنخبة السياسية المحافظة. 

الصحافة رافعة التحضر

تقول الباحثة: "وبمساعدة من جهاز حضري ساطع آخر هو الصحافة، أدارت النساء نضالاً من أجل حقّهن في الحضور الناشط والفاعل في النوادي" (ص 240). وكتبت الشابة اليافاوية فكرية صدقي في نهاية عشرينيات القرن الماضي في عدة صحف داخل فلسطين وخارجها في المسألة الجندرية، كجريدة "فلسطين" و"الكرمل" و"الدفاع" و"مرآة الشرق" و"المقطم" القاهرية و"صوت المرأة" البيروتية، كما أنها خاضت نقاشاً حاداً في هذه المسألة في صحيفة "المقطم" المصرية مع رجل الدين الأزهري المحافظ محمد فريد الشنطي (ص 52).

وطالبت صدقي الصحف بحرية المرأة وبتقسيم الأدوار داخل الأسرة بين الرجل والمرأة، وتطرقت إلى قوانين الأسرة وطرحت مسألة المساواة. وشكلت الأفكار التحررية في الصحف تحدياً واضحاً للمسلمات البطريركية (ص 56).

وكتبت فدوى ففيادس عن تعليم النساء باعتباره شرطاً لتصحيح وضع الأمة بأكملها (ص 58).

وكانت أسمى طوبي صحافية وناشطة في الحركة النسائية الفلسطينية تكتب في عمودها في جريدة "فلسطين" تحت عنوان "نسائيات"، وكذلك ساذج نصار. وقد استقوت حركة النساء بمشاركات متعددة من الرجال في نقاش المسألة الجندرية، أبرزهم إسكندر الخوري البيتجالي، ومصطفى فهمي الدباغ الذي دعا إلى إقامة مدارس وكليات للنساء على مستوى عالٍ (ص 60 - 61). 

النساء في حيّزَي الترفيه والثقافة

وفرت المدينة الفلسطينية قبل سنة 1948 فضاءات عامة للنساء وأماكن ترفيه متعددة: المقاهي المنتشرة التي شغلت النساء إدارة بعضها؛ الحدائق في طبرية وعكا وحيفا؛ الشواطىء التي كانت حيزاً ترفيهياً للنساء كشاطىء الخيّاط في العزيزية الذي افتتح موسم السباحة في سنة 1932؛ كازينو لعزف الموسيقى وإقامة حفلات موسيقية أسبوعية تستقبل العائلات. ويلاحظ أن الفصل الحيّزي بين الرجال والنساء لم يكن متبعاً دائماً في شواطىء السباحة وساحات الرقص.

وفي القدس أُقيم المعرض الأول للفن البصري في سنة 1933، وضم مجموعة لوحات زيتية للفنانات: زلفى السعدي؛ إلينور حداد؛ إيمي الصايغ؛ ليوني فرح؛ إيفون حوّا؛ إيفون حبيب (ص 145).

تخلص الباحثة إلى القول إن المجتمع الفلسطيني كان في ذروة مسار التحضر الذي شهدته مدن الساحل، وكانت الأحياز العامة الحضرية في اتساع وازدياد كبيرين بمضامين التحضر، وبدأت في حينه تكبر وتتبلور صلات وعلاقات اجتماعية جديدة، كما نمت ظواهر ثقافية لم تكن معروفة، وطرأت تغيرات على العلاقات الجندرية ومكانة المرأة.

وتلفت الباحثة الانتباه إلى أن المجتمع الفلسطيني في مناطق 48 بدا بعد النكبة يعيش مسارات مناهضة للتحضر كانت مرتبطة بتغيرات اجتماعية كثيرة وبعيدة المدى لا تزال متواصلة. وتلحظ  الكاتبة نمو طبقات وشرائح فلسطينية حضرية ضمن مسار مركّب على هامش المدن الإسرائيلية، وتتحدث هنا عن نشوء مفترق ثالث على محور التحضر هو حضريون من دون مدينة، وقد اقترن بظهور نسوية فلسطينية متجددة في إسرائيل بعد عقود من الغياب، مثل حركة "الفنار" النسوية في حيفا في سنة 1991.

وتلاحظ الباحثة براعم التغيير في التأريخ الفلسطيني منذ سنة 1995، والمترافقة مع بداية الكشف عن المدينة الفلسطينية قبل سنة 1948، وإعادة اكتشافها فيما يشبه عودة المقصيّ الحضري إلى التاريخ والذاكرة عبر نشر مواد نصيّة وبصرية وفنية. وترفض الباحثة مقولة إن التحولات في مكانة النساء الفلسطينيات في الداخل تُعزى إلى تأثير المجتمع الإسرائيلي الحديث، وتعتبر أن ذلك يعني إعادة صوغ للذاكرة تحت شروط الهيمنة.

وتختم الباحثة بأن تفنيد هذه الرواية لن يأتي من دون فهم معمق للتاريخ الحضري في فلسطين الانتدابية.

السيرة الشخصية: 

مها التميمي: ناشطة نسوية / رام الله.