قراءة سوسيو - تاريخية للمقاومة في غزة
نبذة مختصرة: 

كثيراً ما ارتبط اسم غزة ولوائها بالمقاومة وفرادتها حتى أضحت كلمة "المقاومة" مرادفة لكلمة غزة. تقدم هذه الدراسة قراءة سوسيو - تاريخية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عبر تتبّع السياقات التاريخية والاجتماعية لولادة المقاومة وتعدد أشكالها، وعرض حاضناتها الاجتماعية.

النص الكامل: 

المقاومة في التاريخ القديم والحديث

إن قراءة التاريخ القديم تُظهر أن مدينة غزة، مثل مدينة صور، استعصت على الإسكندر الأكبر قبل الاستيلاء عليها في سنة 332 قبل الميلاد، بعد أن حاصرها أربعة أشهر، ولم يدخلها إلّا بعد أن حفر جنوده أنفاقاً تحت أسوارها للتغلب على الأنفاق التي كان سكانها حفروها لتعزيز مقاومتهم له في أثناء حصاره للمدينة.[1] وقد حاصرها الرومان عاماً كاملاً، ثم احتلوها وخرّبوها في سنة 96 قبل الميلاد.[2] وبعد أن خضعت للحكم الإسلامي، بدءاً من سنة 635، تمردت المدينة في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان خمس مرات خلال حكم فاضل بن قيس.[3] كما قاوم أهل غزة الصليبيين في سنة 1100 قبل أن يحرقوها ويخرّبوها في سنة 1112. وخلال ما سُمي "الحملة الفرنسية على مصر"، أي الاحتلال الفرنسي في سنة 1798، غزا بونابرت فلسطين، وهاجم غزة وأقام فيها، لكنه لم يمكث فيها طويلاً بسبب الهزائم والخسائر التي مُني بها في برّ الشام. وقد أدى الطلبة الأزهريون الغزيون دوراً في التخطيط لقتل الجنرال جان بابتيست كليبير قائد الحملة الفرنسية في مصر بمساعدة الثائر سليمان الحلبي الذي جلب الخنجر من غزة. هذا كله أثّر في استمرارية المخيال التاريخي الجمعي عن المدينة ومقاومتها. ومع بداية الحكم العثماني في سنة 1516 استعصت المدينة على العثمانيين وتعرّض سكانها لمجزرة راح ضحيتها الآلاف منهم.[4] وفي هذا الصدد، يسرد مؤرخ المدينة، الشيخ عثمان الطباع،[5] أن ثورة ضد العثمانيين وقعت في غزة في سنة1831 بقيادة مصطفى الكاشف ضد الحاكم الذي عيّنته الآستانة "عبد الله باشا"، وتحالف فيها سكان من مدينة غزة مع قبائل بدوية كالتياها والترابين، وهي قبائل بدوية من اللواء من مناطق بئر السبع. ولإيجاز روح المقاومة في غزة خلال هذه الفترات التاريخية نقتبس مقولة الطباع: "مَن أخضعها أخضع سواها، ومَن ملكها هان عليه تملّك غيرها."[6] 

المقاومة في إبان الاستعمار البريطاني

في مذكرة داخلية بتاريخ 20 نيسان / أبريل 1917، بُعيد دخول خبراء فرنسيين مع المستعمرين البريطانيين للتمهيد للاستعمار، يصف كاتب مذكرة داخلية بأن سكان جنوب فلسطين من "الخليل حتى أقصى الجنوب، بما فيها غزة، هم من المناطق الأكثر 'عدائية للأجانب'." [7] وهذا العداء كان يترجم في كثير من الأحيان إلى مقاومة، فعندما قرر الاستعمار البريطاني الذي كان احتل مصر في سنة 1888، احتلال فلسطين عبر احتلال لواء غزة، فوجىء بمقاومة شرسة خاضت فيها القوات البريطانية ثلاث معارك ضارية لاحتلاله. بدأت المعركة الأولى في 26 آذار / مارس 1917 خسر فيها الجيش البريطاني ما يقارب 4000 جندي من بريطانيين وأستراليين وهنود وأوروبيين، في مقابل 2500 من الجنود الأتراك والسكان المحليين. ثم أعاد البريطانيون المحاولة في 17 - 19 نيسان / أبريل 1917، فخسروا ما مجموعه 6500 جندي في مقابل ما يقارب 2000 جندي تركي ومحلي، وكان أحد مبررات ذلك بسالة المقاتلين المحليين والخنادق التي حفروها لحماية بلدهم.[8] وبعد عزل قائد الفرقة البريطانية التي فشلت في المعركتين بقيادة أرشيبالد موراي (Archibald Murray)، تُظهر مجموعة من المراسلات البريطانية أن عملية إجلاء عشرات الجرحى عن طريق البحر تطلبت عدة مراسلات مع دول التحالف تم الاتفاق فيها، بتدخلات من البحرية الإسبانية، على إجلاء الجرحى. وتُبرز المراسلات المتناقضة حالة التخبط بين مختلف القيادات، وتبدّل العمليات وأوامر الإجلاء والمقترحات التي بيّنت تخبّط القوات البريطانية، وقوة حجم النيران والمقاومة ضدها.[9] وقد أظهر العثمانيون والغزيون في هذه المعارك قدرتهم على الصمود بسبب الخنادق التي حفروها، والتي لولاها لما استطاعوا الصمود أمام حجم النيران وكثرة عدد الجنود البريطانيين.[10] ثم أتت المعركة الثالثة التي قام بها الجنرال إدموند أللنبي (Edmund Allenby) بخطة للالتفاف على المدينة من خاصرتها الضعيفة، أي من جهة بئر السبع،[11] للدخول إلى غزة، الأمر الذي ساعد البريطانيين على دخول المدينة وسقوطها تحت إمرة الجنرال أللنبي الذي قاد جيشاً مكوناً من 88,000 جندي من فرق متعددة، وقد استُخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة، بما فيها الغازات السامة،[12] في مقابل الجيش العثماني والسكان المحليين بقيادة العقيد الألماني فريدريك كريسنشتاين (Friedrich Kressenstein)،[13] وانتصر الجيش البريطاني بتاريخ 31 تشرين الأول / أكتوبر 1917. وعند قراءة شهادات العديد من الضباط البريطانيين الذين كتبوا مذكراتهم عن معارك غزة، تظهر لنا بوضوح قسوة سير المعارك وجبروتها، إذ يقول أحدهم: "دخلنا غزة في 8 تشرين الثاني / نوفمبر 1917 واندحر العثمانيون [....] وبعد احتلال مواقع مطلة في غزة [....] كانت القذائف تسقط خلفنا، واختفى السكان [....] وبعد العذابات والحر وقسوة سيناء، فإن وصولنا إلى حدائق غزة كان بمثابة وصول إلى الجنة."[14]

وعلى غرار نظيراتها من المدن الفلسطينية، وبعد ثلاثة أعوام من "وعد بلفور" الذي أعقبه الانتداب البريطاني الاستعماري، نشأت في المدينة عدة جمعيات مناهضة للمشروع الصهيوني منها الجمعيات المسيحية - الإسلامية التي بدأت بالحراك ضده بدءاً من سنة 1918. وقد شكلت هذه الجمعيات لجان حراسة على السواحل تمتد من مدينة غزة حتى عكا لمنع وصول المهاجرين اليهود، وكانت هذه اللجان مكونة من الكشافة الفلسطينية والشبيبة العربية.[15] ونشط أبناء المدينة في التحركات السياسية الاحتجاجية عبر مشاركتهم في أغلبية المؤتمرات الفلسطينية بدءاً بالمؤتمر الفلسطيني الأول الذي نظمته الجمعية الإسلامية – المسيحية، كما شاركت المدينة في هبّة البُراق في سنة 1929، والتي هوجمت فيها المستعمرات التي في محاذاة قضاء غزة.[16] وشهدت المدينة كذلك تصاعد الاحتجاجات في غزة ضد البريطانيين، وتحديداً ضد زيارة ونستون تشرشل، إذ تصدّوا للقطار الذي كان يستقلّه.[17] وفي الثلاثينيات، عُقد تجمع وطني كبير في باحة المسجد العمري الكبير، خرجت منه تظاهرة إلى الشارع الرئيسي في المدينة متجهة نحو سرايا الحكومة، واستشهد أحد أبناء المدينة، وهو عز الدين أبو شعبان، برصاص البريطانيين.[18] وفي سنة 1942، أعلن سعيد الشوّا، رئيس البلدية آنذاك، إضرابات احتجاجية ضد سياسات البريطانيين، اعتُقل في إثرها، ثم جرى العفو عنه.[19]

وفي الأربعينيات، انضمت مجموعات كبيرة من الشبان إلى منظمتَي "النجادة" و"الفتوة،"[20] وساهم من المدينة، على سبيل المثال، سعيد علي زين الدين في حرس سواحل "منظمة النجادة".[21] وفي سنة 1945، اعتقلت قوات الاستعمار البريطاني مجموعة كبيرة من الأهالي، وأغلقت نادي غزة الرياضي الذي كان معقلاً للنشاط السياسي المناوىء للبريطانيين.[22] وبُعيد صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، وإعلان البريطانيين إنهاء "الانتداب" في 15 أيار / مايو 1948، تشكلت في المدينة لجنة قومية رافضة للقرار ضمّت ممثلين عن العائلات التقليدية الغزّية، وممثلين عن الأحياء من مخاتير وأعيان.[23] كما نشأت مجموعة مسلحة صغيرة في المدينة سُمّيت "الفرقة المحمدية"، وخصوصاً في حي الزيتون، على يد أحد أعضاء البلدية سابقاً وهو الحاج محمد دلول، وكان عددهم 400 مقاوم ولديهم مجموعة من الأسلحة والذخائر، وكانوا يقومون بأعمال الدورية والتدريب على السلاح، ومن قادتهم رجب زُمُّو.[24] 

المقاومة بعد النكبة

مع بداية نكبة 1948، وصل إلى مدينة غزة ما يقارب 200,000 من اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين جرّاء عمليات التطهير العرقي من نحو 49 بلدة وقرية في جنوب فلسطين والساحل. وخلال الفترة 1947 - 1949، عندما احتُلّت مدينة بئر السبع، تم تهجير سكانها في اتجاه لواءي الخليل وقطاع غزة. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1948، بعد احتلال البلدتين الجنوبيتين أسدود والمجدل على حدود قطاع غزة، جرى تهجير سكانهما أيضاً إلى القطاع، مثلما جرى تهجير الآلاف من منطقة النقب في اتجاه القطاع. وحاولت السلطات الاستعمارية، مثلما فعلت في أماكن أُخرى في فلسطين، تسميم آبار المياه في سنة 1948 لنشر أمراض التيفوس والدينزنطاريا، والزحار.[25] وفي الخمسينيات، بدأت مجموعة كبيرة من المهجّرين تعود إلى أراضيها تسللاً لاسترداد أملاكها وأغراضها من بلداتها وقراها الأصلية، الأمر الذي أدى إلى نشوء ظاهرة العائدين إلى قراهم، والتي وصفتها سلطات الاستعمار الصهيوني بظاهرة "المتسللين". وعملت هذه الممارسات على كسر حاجز الخوف، ومهّدت لولادة ظاهرة "الفدائيين المشاغبين" قبل أن يتم تأطيرهم من طرف الشهيد مصطفى حافظ لاحقاً.

ولعل هذا المشهد يذكّرنا بأشكال المقاومة التي تأخذ عدة أبعاد، منها: تخريب المحطات والمنشآت العامة؛ نهب مزارع المستعمرين؛ تنظيم الأهالي في عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وفي هذا الصدد، يقول المؤرخ والشاعر هارون هاشم رشيد: "كانت غزة، ومنذ اللحظات الأولى للنزوح الفلسطيني، بؤرة للتأجج الوطني، فهؤلاء النازحون الذين وفدوا إليها، يحملون في عيونهم وقلوبهم صور مدنهم وقراهم ومزارعهم ومدارسهم [التي] ظلت تحفّزهم على التسلل إليها والعودة إلى مرابعهم."[26] وبدءاً من سنة 1953، نظّم الغزّيون مجموعات فدائية صغيرة شرعت في عمليات التسلل إلى أراضي البلدات التي اقتُلعوا منها في هِرْبْيا ودِمْرة وبَرْبَرة وغيرها. وساعدت مجموعة كبيرة من القبائل البدوية من بئر السبع والنقب هذه المقاومة اعتماداً على الخبرات المتراكمة من تقفِّي الأثر والرصد، كما ساعدتها في الإغارة بالإسناد والمرابطة. وردت سلطات الاستعمار الصهيوني بعنف كبير، إذ قام أريئيل شارون بقتل أكثر من 50 فلسطينياً في مخيم البريج وسط قطاع غزة، الأمر الذي أحدث ردة فعل لدى أهل غزة، وحملهم على المطالبة بضرورة تشكيل لجان حماية مسلحة. وفي إثر عملية قتل مستوطن في مستعمرة صهيونية على "حدود الهدنة"، قام الجيش الصهيوني بمهاجمة معسكر مصري قرب محطة القطار أدت إلى استشهاد 17 جندياً، وتلا ذلك نصب كمين لدورية نجدة مصرية استشهد فيه عدد آخر ليصل العدد إلى 38 شهيداً مصرياً وجرح كثيرين.

تسببت هذه الواقعة بانفجار شعبي ضد الاعتداءات على القوات المصرية وضد مشاريع التوطين التي بدأ تداولها بشأن مشروع نقل 12,000 أسرة إلى شمال سيناء، ثم طرح موشيه آلون مشروعاً لنقل أعداد من اللاجئين من قطاع غزة إلى ثلاث مناطق في منطقة العريش المصرية في مرحلة أولى تضم 50,000. وبعد ضغوطات مورست على مصر في سنة 1953، قبلت مصر مبدئياً، واندلعت تظاهرات عارمة واحتجاجات قادها الشيوعيون والإخوانيون معاً ضد مشروع التوطين، وساءت العلاقة بين الإدارة المصرية والفلسطينيين. وبعد عملية قتل الجنود المصريين، اتُّخذ قرار مصري بضرورة تنظيم العمل الفدائي وتسليح السكان. وأدى الشهيد مصطفى حافظ دوراً أساسياً في تنظيم كتيبة حملت اسمه للقيام بعمليات نوعية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي خسر خلالها هذا الأخير مجموعة كبيرة من القتلى في عمليات الفدائيين، وهو ما سرّع في حدوث العدوان الثلاثي في سنة 1956، والذي احتلت خلاله السلطات الاستعمارية قطاع غزة. وهنا بدأت تتشكل صورة المقاومة في قطاع غزة باعتباره "عش الدبابير" الذي استعملته إسرائيل لاحقاً لوصف مخيم جنين، مثلما صرّح بذلك موشيه ديان في مذكراته: إن غزة أضحت "مركزاً للفدائيين وعمليات التخريب."[27] بعد ذلك وقعت مجزرتَي خان يونس ورفح في تشرين الثاني / نوفمبر 1956، إذ استشهد في مذبحة خان يونس 275 فلسطينياً، و111 في مذبحة رفح.

مع نهاية الستينيات، أضحت غزة قبلة للثوار خلال الفترة الناصرية، فنُظمت زيارات تضامنية برعاية السلطات المصرية، وقَدِم الزوار المتضامنون إلى المدينة التي زارها العديد من رؤساء العالم مثل جواهر لآل نهرو الذي أُطلق اسمه على كثير من أبناء المدينة الذين ولدوا في هذه الفترة، ومثلهم العديد من المناضلين الأُمميين مثل تشي غيفارا، وأنديرا غاندي، ومالكوم إكس وآخرين. كما قَدِم إلى غزة العديد من الفنانين العرب والأدباء العالميين مثل سيمون دوبفوار وجان بول سارتر، وكذلك كثير من المناضلين والثوار العرب الجزائريين والمصريين والتونسيين والعراقيين وغيرهم. وأدت هذه المركزية لغزة وقطاعها دوراً في ولادة سياق اجتماعي وسياسي خصب للمقاومة، وانكشاف الطبقة المتوسطة والنخب المدينية على التجارب الثورية العالمية. 

ولادة الحاضنات الاجتماعية للمقاومة

إن أحد التساؤلات التي تراود المهتمين بتاريخ المقاومة في قطاع غزة، هو: لماذا اتخذت المقاومة في حجمها وشكلها، ملامح مغايرة لما هي عليه في الجغرافيات الفلسطينية المستعمَرة الأُخرى؟ في رأينا، وبعيداً عن المقاربات الثقافوية، يمكن تقديم بعض التأويلات لفهم خصوصية المشهد الغزّي المقاوم بالارتكاز إلى قراءة سوسيو - تاريخية مرتبطة بالسياق الذي نعتقد أنه متغير مركزي. فمن خلال المقاربة السياقية التي عرضنا فيها التسلسل التاريخي للأحداث، يمكن تأويل خصوصية المقاومة في قطاع غزة عبر سياقها الاجتماعي والسياسي الخاص. فمع بداية النكبة، تشكلت في غزة ظروف لها علاقة بولادة الكيانية الفلسطينية المبتورة مع تشكل "حكومة عموم فلسطين" وتقلّص الحضور الفلسطيني السياسي إلى قطاع غزة فقط. فالفلسطينيون في المستعمرة الأولى (فلسطين 1948) أُخضعوا لحكم عسكري إسرائيلي استمر من سنة 1948 إلى سنة 1968، وتخللته أعمال مقاومة على الصعد كافة. وفي المستعمرة الثانية (فلسطين 1967)، عاش الفلسطينيون في الضفة الغربية تحت الحكم الأردني ظروفاً سياسية مغايرة شهدت ولادة مقاومة مسلحة، لكنها بقيت على نطاق محدود مقارنة بقطاع غزة. وعلى العكس من ذلك، خضع قطاع غزة للوصاية المصرية، وأدّت أحداث سنة 1956 إلى تبلور تشكيلات عسكرية قتالية انخرطت في النضال المصري والعروبي ضد القوات البريطانية، والذي شارك فيه العديد من أبناء قطاع غزة. وكانت هذه التجارب دافعاً إلى إقامة تشكيلات عسكرية وسياسية كانت نواة لتأسيس حركات المقاومة المسلحة، وإلى تولُّد اختمار اجتماعي مقاوِم بين أوساط المعلمين والمهندسين الذين بقوا في القطاع، وكذلك لدى نظرائهم في دول الخليج، خلال الفترة 1956 - 1959، مثل: حركة "فتح"، وتكتّلات الإخوان المسلمين، والبعثيين، والقوميين (ياسر عرفات؛ خليل الوزير؛ صلاح خلف؛ فتحي البلعاوي؛ وغيرهم).

ثم ولدت "قوات عين جالوت" التابعة لقيادة "جيش التحرير الفلسطيني" في القاهرة، وكان أغلب المنتسبين إليه من أهالي قطاع غزة، وكان يتبع مباشرة للقيادة المصرية. وقد اشتركت هذه القوات في الدفاع عن قطاع غزة في حرب حزيران / يونيو 1967، وأُعطيت لهم حرية نسبية من طرف الإدارة المصرية. وأدى الحضور المكثّف لأبناء قطاع غزة في قيادة حركة "فتح" والإخوان المسلمين وتنظيمات أُخرى، إلى الاحتفاظ بقطاع غزة كالجزء المتبقي من فلسطين بالمعنى السياسي، مع أن سكانه لم يحملوا الجنسية المصرية مثلما حدث مع نظرائهم في الضفة الغربية الذين مُنحوا الجنسية الأردنية وأضحى لهم ممثلون في البرلمان. بل منحت الإدارة المصرية سكان قطاع غزة كلهم أوراقاً ثبوتية جعلتهم في مرتبة اللاجئين الفلسطينيين، أكانوا لاجئين أم مواطنين. وأدى هذا السياق دوراً مركزياً في غياب تعددية الولاءات مثلما كانت الحال عليه في الضفة الغربية، فلا وزراء ولا رؤساء حكومة من أصل فلسطيني في الوزارات المصرية، بعكس ما آلت إليه الحال في الأردن.

إن المعاناة التي كان يعيشها سكان قطاع غزة في الدول العربية نالت منهم خلال التنقل والسفر والبحث عن العمل، باستناء مصر خلال الفترة الناصرية. فبعد اتفاقية كامب ديفيد في سنة 1978، قُيّدت حرية التنقل لأهالي قطاع غزة في اتجاه مصر، كما قُيّدت إقامتهم فيها، وكان ذلك بالتوازي مع مختلف التقييدات من طرف الأردن واشتراط الحصول على وثيقة "عدم الممانعة" لزيارة الأردن، أو للمرور عبره إلى الخارج. هذه الممارسات كلها جعلت معاناة الغزيين، منذ السبعينيات حتى هذه اللحظة، أكثر قسوة ممّا هي عليها الحال في الضفة الغربية وفي بعض التجمعات الفلسطينية الأُخرى، فقد مُنع أبناء قطاع غزة من التنقل والعيش في الضفة الغربية، ومورس القمع المستمر ضدهم على الحواجز الإسرائيلية، واستدخل الغزيون هذا العنف كله.

أدت هذه الخصوصية السياقية دوراً مركزياً في تجذّر النضال الفلسطيني في قطاع غزة، بما فيه المقاومة المسلحة، شأنها في ذلك شأن وسائل الإعلام الجماهيرية التعبوية التي ساهمت في خلق ثقافة مقاومة بالتوازي مع خلق منظومة عسكرة للمجتمع، من: تدريب على الأسلحة وأساليب القتال في المدارس؛ تنظيم الدورات من طرف منظمتَي "النجادة" و"الفتوة"؛ التدريب في معسكرات الجيش المصري؛ حضور المقاتلين في الفضاء العام؛ انتشار ثقافة السلاح في القطاع. وبُعيد احتلال قطاع غزة في حزيران / يونيو 1967، قام أريئيل شارون، وكان آنذاك قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1971، بحملة دموية لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع، وطرح مشروعاً لاقتلاع 12,000 لاجىء من مخيمات القطاع ووضعهم في محطات لجوء أُخرى في صحراء سيناء. كما هَجّر آلاف الفلسطينيين إلى مناطق أُخرى في القطاع خارج المخيمات، ومنها ضاحية الشيخ رضوان الحالية في مدينة غزة، ونفى آلاف الفلسطينيين خارج وطنهم مثلما فعل بجغرافيات أُخرى في فلسطين المستعمرة.

لهذا كله، فإن أغنية "غزة يا غزتنا يا مكوفلة بالنار"،[28] لم تكن مجرد استعارة تعبيرية بأن غزة "ملفوفة بالنار" بقدر ما هي مرتبطة فعلاً بالأرض. ويمكن تلمّس ذلك بأن أغلبية أغاني الثورة كان يكتبها ويلحنها فلسطينيون غزيون. فقد كُتب جزء كبير منها بلهجة غزة ولوائها، وأدى فيها دوراً مهماً صلاح الدين الحسيني ومهدي سردانة وآخرون تركوا بصماتهم على أغاني الثورة الفلسطينية التي طغت على المشهد الأدائي الفلسطيني، وخصوصاً الإشادة بفكرة الكمائن وكسر الطوق ومهاجمة كل ما ومَن هو إسرائيلي في القطاع. وشكّل "الجيش الشعبي الفلسطيني" نواة وقاعدة انطلاق مهمة للفدائيين مع ارتفاع إيقاع العمليات اليومية في الشوارع والأزقة في حي الزيتون والشجاعية ومراكز المدينة وعلى "الخط الشرقي" أو خط الهدنة (الحدود الحالية لقطاع غزة). واستثمر الفدائيون شبكة الاحتضان الاجتماعية التي عملت على إخفاء الثوار، ومدّ يد العون لهم مادياً ومعنوياً، وإقامة شبكات عائلية ومحلية في الحارات. كما ساعدت كثافة السكان وانتشار البيارات على خطوط التماس على بقاء شعلة المقاومة مستمرة، علاوة على توفّر كميات كبيرة من الأسلحة من بقايا التسليح والتدريب، ومن اغتنام معدّات من المناطق الحدودية، وعمل الكمائن للدوريات الإسرائيلية بغطاءات اجتماعية اعتماداً على نظام تعاضد وتضامن اجتماعيَّين - اقتصاديَّين. 

ظاهرتا "زياد الحسيني" (1943 - 1971)، و"جيفارا غزة محمد الأسود" (1946 - 1973)

بعد احتلال سنة 1967، بدأ تشكيل الخلايا السرية وتنظيم القوات وتدريبها في غزة بمشاركة بقايا "جيش التحرير الفلسطيني"، ومنهم وليد أبو شعبان وحسين الخطيب وزياد الحسيني. وقد أعاد هذا الأخير تنظيم الخلايا من بقايا "جيش القوات الشعبية" و"قوات التحرير الشعبي" بالاعتماد على الطلبة. فخلال أعوام نضاله الطويلة، قام الحسيني بمجموعة كبيرة من الأعمال التي يتناقل سردها أهل غزة مثل عملية "مدرسة حي الزيتون" التي أسفرت عن قتل أفراد القوة الإسرائيلية وعددهم 15 جندياً، وتدمير عرباتهم، واغتيال مسؤول الاستخبارات الإسرائيلية في القطاع "أبو حاييم" وتعليق رأسه في إحدى المزارع، وضرب دوريات الاستعمار ونقاطه العسكرية، وعمليات زرع الألغام ضد الدبابات الإسرائيلية خلف الخط الشرقي، ونصب الكمائن في قرية بيت لاهيا، والتي قُتل فيها الحاكم العسكري لمنطقة جباليا، واقتحام مبنى السرايا (مقر الحاكم العسكري وسجن غزة المركزي)، وقتل قائد القوات الإسرائيلية في المدينة. وشملت العمليات مخيمات المغازي والبريج والنصيرات والمنطقة الشرقية وبني سهيلا وعبسان وخزاعة ومدن خان يونس ورفح، بينما عملت قوات الاستعمار على تكثيف عمليات الحصار على مدن القطاع والقمع وهدم البيوت وتدميرها، وترحيل أُسَر بأكملها إلى سيناء واعتقال آلاف المواطنين.

كانت المقاومة في قطاع غزة ظاهرة فريدة، من حيث كونها عابرة للشرائح الاجتماعية، ذلك بأن أبناء العائلات الغزّية العريقة شاركوا بقوة في المقاومة. فزياد الحسيني هو ابن إحدى العائلات العريقة التي أدت دوراً أساسياً في تاريخ المدينة، ومثله كثيرون من أبناء العائلات الغزّية الأُخرى الذين انخرطوا في المقاومة المسلحة واستشهدوا وهُدمت بيوتهم. وقد شكلت حارات غزة القديمة وبيارات العائلات مكاناً لأعمالهم، وملاذاً للثوار، ووسائط لدعمهم. علاوة على ذلك، برزت ظاهرة الفدائيين في المخيمات مثل ظاهرة محمد الأسود الملقب بجيفارا غزة، في مخيم الشاطىء، وغيره من أبناء المخيمات الذين انخرطوا بقوة في المقاومة المسلحة. ومثّل جيفارا غزة نموذجاً للفدائي المختفي، بقدرته على التمويه، وإيقاع الضربات، إلى درجة ذيوع مقولة حكام إسرائيل، وخصوصاً شارون: "إننا نسيطر على قطاع غزة نهاراً، بينما يسيطر الفدائيون عليه ليلاً." وقد أدّت هذه الظاهرة إلى استقدام شارون لنموذج هوسمان الفرنسي (نسبة إلى المهندس الفرنسي جورج أوجين هوسمان / Georges Eugène Haussmann) في فتح الشوارع لأغراض أمنية، إذ قام بتوسيع شوارع المخيمات عبر هدم البيوت ليمكّن الدبابات الإسرائيلية من عبور المخيمات. وتضافرت مع هذا كله، ظاهرة رفيق السالمي، من حركة "فتح"، عبر عمليات قتل العملاء وتصفيتهم في مشاهد علنية. وشهدت هذه الحقبة حضوراً ملحوظاً للنساء في العمليات النضالية في خلايا زياد الحسيني وجيفارا غزة، الأمر الذي وسّع نطاق المشاركة لتأخذ طابعاً شعبياً يشترك فيه الرجال والنساء. وشكّل الحضور القوي لأبناء قطاع غزة في قيادات الفصائل الفلسطينية، وخصوصاً حركات "فتح" و"حماس" والجهاد الإسلامي، تناقلاً لإرث نضالي يرتبط بعضه بشبكات عائلية وقرابية. ونستحضر هنا المقاربة الخلدونية التي تعطي أهمية للأشكال العصبوية، أي التضامنات، في جسد اجتماعي تعتمد على عصبويات وطنية وقرابية وعائلية ومحلية. وعطفاً على ما سبق، يمكن القول إن نموذج غزة المقاوم يكسر القوالب التحليلية عن المقاومة المختزلة في المخيمات وفي جيوب الفقر التقليدية. 

ثقافة مقاومة عابرة للأجيال والشرائح الاجتماعية

بعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان في سنة 1982، عاد قطاع غزة إلى الواجهة مرة أُخرى كقاعدة للنضال الوطني، فانتشرت ظاهرة "حرب السكاكين" التي أدى فيها تنظيم الجهاد الإسلامي وخلايا انبثقت من رحم حركة "فتح" دوراً فيها، والتي كانت تستهدف تقويض خطة "الحدود المفتوحة" بين قطاع غزة وإسرائيل، فجرى خلال الفترة 1983 - 1985، قتل تجار وباعة ومشترين إسرائيليين في "سوق السبت"، و"سوق فراس". وأسست هذه التجربة لتبلور مقولة مهيمنة في المخيال الصهيوني: "اذهب لتموت في غزة"، ومهّدت لولادة الانتفاضة الفلسطينية الأولى من مخيم جباليا (1987 - 1993)، احتجاجاً على قتل أربعة عمال فلسطينيين من غزة صدمهم مستوطن صهيوني، والتي شهدت ولادة حركة المقاومة الإسلامية / "حماس"، الأمر الذي غيّر المشهد النضالي التقليدي لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وساهم في ولادة أشكال جديدة من المقاومة المسلحة بزخم جماهيري جديد اعتمد على دخول لاعبين سياسيين واجتماعيين جدد، وتبدّلات عميقة في طرق النضال والخطابات السياسية التي بدأت تأخذ طابعاً دينياً.

بعد اتفاق أوسلو، تصاعدت المقاومة الفلسطينية ولجأت إلى أساليب كفاحية جديدة مثل إطلاق الصواريخ المحلية وقذائف الهاون من القطاع في اتجاه المستعمرات الإسرائيلية القريبة من القطاع، فقررت إدارة الاستعمار الصهيوني في سنة 2005 إعادة انتشار قواتها وسحبها من قطاع غزة وتفكيك المستعمرات. وكان السبب الرئيسي في هذا الأمر هو عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على حماية ما يقارب 7500 مستوطن كانوا يحتلون 45% من مساحة القطاع، مع أنه كان يسهر على حمايتهم 15,000 جندي، وذلك من أجل تكريس الاستيطان في الضفة الغربية. غير أن الإدارة الاستعمارية أبقت سيطرتها على القطاع براً وجواً وبحراً، أي حوّلته إلى سجن كبير، وتلا ذلك مشاركة حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية في سنة 2006 وفوزها بها، ثم سيطرتها بالقوة المسلحة على القطاع في حزيران / يونيو 2007، فأعلنته دولة الاستعمار الصهيوني كياناً معادياً.

تطورت المقاومة في قطاع غزة عبر حركتَي "حماس" والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وفصائل أُخرى قامت بتطوير الصواريخ والأسلحة والقذائف والأنفاق ومضادات الدروع، الأمر الذي أثّر في تصليب المقاومة بالتوازي مع تعبئة عقائدية وخلق ما يشبه الجيش المنظّم، وأدّى إلى تجذر المقاومة، وإلى تعرّض قطاع غزة إلى عنف استعماري أكبر. ففي العقد ونصف عقد الأخيرَين، شنّت آلة الحرب الاستعمارية الإسرائيلية على قطاع غزة: حرب 2008 / 2009 التي راح ضحيتها أكثر من 1400 شهيد وتدمير أكثر من 1000 منزل؛ حرب 2012 التي راح ضحيتها أكثر من 180 شهيداً؛ حرب 2014 التي راح ضحيتها أكثر من2300 شهيد وتدمير لمئات البيوت والمنشآت الاقتصادية والبُنى التحتية؛ حرب 2019 التي راح ضحيتها أكثر من 34 شهيداً وعشرات البيوت المهدمة؛ حرب 2021 التي راح ضحيتها أكثر من 230 شهيداً وتدمير بُنى تحتية مهمة؛ حرب 2022 التي راح ضحيتها 45 شهيداً. وخلال هذه الحروب استحدثت المقاومة أدوات جديدة لها علاقة بتطوير الأسلحة والصواريخ والمضادات الأرضية والعبوات، وشكّل الاشتباك مع القوات الإسرائيلية في أحياء الشجاعية والزيتون أمثلة لنموذج مقاوم، ذلك بأن العديد من المقاتلين واجهوا القوات الغازية وهم يستندون إلى حاضنة اجتماعية صلبة.

لقد شكّل قطاع غزة، إذاً، مختبراً للإدارة الاستعمارية لهندسة فضاءات المستعمرين عبر إنشاء حاجز بيت حانون "إيرز" الذي نُقلت تجربته لاحقاً إلى الضفة الغربية، ثم استخدام أشكال متنوعة من الممارسات، ومنها: فرض حظر التجوال، والبطاقات الممغنطة، والسجن، وغيرها. وقد أثّرت منظومة العنف الشامل في فلسطين كلها في أشكال حياة الفلسطينيين وفضاءاتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وراكمت شعور الفلسطينيين في قطاع غزة بأنهم مستهدفون بعنف أكبر من خلال عمليات التضييق والقتل والإبعاد والتدمير والهيمنة الممنهجة لتحفيز استخدام العنف من طرف المستعمرين في القطاع، الأمر الذي أثّر في ردات الفعل الصهيونية على أهل غزة. ويمكننا القول إن حجم العنف الشامل على الفلسطينيين في قطاع غزة أدى دوراً في تصاعد العنف الثوري الفلسطيني على نحو مميز. 

استمرارية ثقافة الاحتضان الاجتماعي للمقاومة

تمكّن المجتمع الغزّي من استرداد قوته من خلال عمليات استنهاض تسمى التحمل والصبر والصمود (resilience)، والتي حملت شكلين متكاملين: فردياً عبر تجاوز الصدمة النفسية وملحقاتها، وجمعياً عبر القدرة على تجاوز تبعات الصدمة أو الهجوم من خلال المحافظة على ثقافة المقاومة بمختلف أشكالها. وعملت هذه العناصر على استمرارية المقاومة وديمومتها وتكرارها باعتبارها ثقافة متناقلة بين الأجيال في المجتمع الفلسطيني في القطاع الذي عانى ويلات الحروب باعتبارها عملية دينامية متغيرة. وفي التسعينيات والألفية الثالثة، جرى إعادة الأشكال القديمة - المتجددة للأنفاق بين قطاع غزة ومصر، اعتماداً على شبكة أهلية على طرفَي الحدود في رفح الفلسطينية ورفح المصرية والعريش والشيخ زويد. وأضحت هذه الأنفاق بُنى اجتماعية واقتصادية فسحت المجال أمام الغزيين لإيجاد وسائل مقاومة تتجاوز الحصار والعزلة كأشكال اجتماعية اقتصادية سمحت بخلق طرق مواراة للمقاومة اللامرئية على نحو يغاير تجربة مقاومة الجدار في الضفة الغربية، والتي تجعل المستعمِر يقوم بأعمال مقاومة مرئية ومكشوفة، بعكس الأنفاق التي تسمح للضعفاء بتجاوز الآلة الحربية والتكنولوجية للمراقبة والسيطرة.

واستمراراً للإرث التاريخي التعبوي في الخمسينيات، عملت حركة "حماس" بعد سيطرتها على قطاع غزة في سنة 2007، وتحديداً من خلال الأجهزة التربوية، على تعديل بعض المناهج ضمن مادة التربية الوطنية، بحيث تتضمن: الشرح عن تاريخ فلسطين ومشروع تحريرها من الاحتلال؛ مشروعية المقاومة وأشكالها؛ إعادة مشروع قديم يتمثل في برنامج "الفتوة" في المدارس التابعة لها في القطاع؛ تدريس المعارك بأسمائها التي أطلقتها المقاومة عليها، مثل "الفرقان" و"حجارة السجيل"؛ دراسة القضايا الوطنية مثل الأسرى والعودة والقدس وتحرير فلسطين.

وختاماً، لا بد من القول إن مقاومة حرب الإبادة الجماعية الحالية على قطاع غزة تمثّل نوعاً من الاستمرارية التاريخية لحالة المقاومة المجتمعية التي عرفها قطاع غزة تاريخياً، فالسابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023 هو أحد أبرز أشكال المقاومة المستمرة في التاريخ الحديث لمدينة غزة. فالعبور في اتجاه القرى والبلدات التي هُجّر منها الفلسطينيون في سنة 1948 في دِمْرة وهِرْبْيا يشبه عملية التسلل إلى القرى في الخمسينيات، وإن على نطاق أوسع، وضمن منطق عسكري مختلف. ولعل إحدى تبعات الحرب الإسرائيلية وتدميرها للأملاك ولمختلف المناطق في القطاع، تتمثل في تعميم المعاناة، على مختلف الشرائح الاجتماعية والاقتصادية، فحرب 2014 على سبيل المثال طالت المخيمات مثلما طالت أحياء الشجاعية والزيتون والرمال، عبر سيرورة تقاسم الألم والمعاناة والتضحية الجمعية العابرة للشرائح وللطوائف. أمّا حرب الإبادة الحالية فجرى فيها تعميم القتل المنظم والممنهج على سكان مدينة غزة وقراها وبلداتها ومخيماتها وضرب المنشآت الاقتصادية والأحياء الغنية والبُنى الحضرية والمسّ بالعائلات الغنية والفقيرة. وهذه الممارسات من شأنها أن تُبقي حالة المقاومة المجتمعية متّقدة ومستمرة.

 

المصادر:

[1] عثمان مصطفى الطباع الغزّي، "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة"، تحقيق عبد اللطيف أبو هاشم (غزة: مكتبة اليازجي، ط 1، 1999)، المجلد الأول، ص 131.

[2] المصدر نفسه، ص 137.

[3] المصدر نفسه، ص 199.

[4] ابن إياس الحنفي، "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، تحقيق محمد مصطفى (القاهرة: د. ن.، 1961)، الجزء الخامس، ص. 172، نقلاً عن الطباع، المصدر نفسه، ص 269.

[5] الطباع، مصدر سبق ذكره، ص 269 - 272.

[6] انظر: المصدر نفسه، ص 259.

[7] الأرشيف البريطاني. مذكرة رقم 26692، في 7 آب / أغسطس 1906.

[8] يورد موقع بلدية غزة، أن 3000 جندي فلسطيني عثماني منهم 300 جندي فلسطيني صمدوا في وجه فرقتين بريطانيتين وكبدوهما خسائر فادحة وأرغموهما على التراجع حتى العريش في سنة 1917، الأمر الذي دفع أحمد جمال باشا القائد التركي الذي اشتهر بعدائه للعرب، إلى إصدار بيان رسمي أشاد فيه بالشجاعة الفريدة التي أبداها الجنود الفلسطينيون في غزة. انظر الرابط الإلكتروني.

ويسرد الغزيون أن تقليد حفر الأنفاق يعود إلى فترات زمنية طويلة لأن التربة الرملية تساعد على ذلك؛ كما يسرد السكان قصصاً متخيلة عن بعض العائلات التي كانت تهرّب بضائع وأسلحة، وأنها اغتنت من هذه الأنفاق، قبل أن تصبح صناعة الأنفاق ممارسة اعتيادية لسكان المناطق الجنوبية لقطاع غزة فيما بعد من على ضفتَي رفح المصرية: العريش ورفح الفلسطينية. للمزيد، انظر: أباهر السقا، "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني" (بيروت: مؤسسة الدراسات لفلسطينية، 2018)، ص 75.

[9] مراسلات صُنفت بأنها سرية في حينها عن إجلاء جرحى عن طريق البحر. انظر: الأرشيف البريطاني. مذكرات رقم: 04852، في الرابط الإلكتروني الأول والرابط الإلكتروني الثاني.

[10] يستند لورانس إلى مراسلات الأرشيف الفرنسي عن تقارير الحرب. انظر:

Henry Laurens, La question de Palestine: Une mission sacrée de civilisation, Tome II (1922–1947) (Paris: Fayard, 2002), p. 318.

[11] Ibid., p. 31.

[12] Edward J. Erickson, Gallipoli and the Middle East, 1914-1918: From the Dardanelles to Mesopotamia (History of World War 1), (London: Amber Books, 2008), p. 385.

[13] Laurens, op. cit., p. 119.

[14] للمزيد، انظر: السقا، مصدر سبق ذكره، ص 176.

[15] Laurens, op. cit., p. 313.

[16] Ibid., p. 173.

[17] الأرشيف الفرنسي، وزارة الخارجية الفرنسية نانت، وثيقة رقم 11 / 1882.

[18] انظر: إبراهيم خليل سكيك، "غزة عبر التاريخ" (القدس: المطبعة العربية الحديثة، 1980)، ج 4، ص 78.

[19] فيصل نعمان عبد الهادي، "أعلام من جيل الرواد من غزة هاشم: منذ أواخر العهد العثماني وحتى القرن العشرين (1800 – 2000)، (غزة: مكتبة اليازجي، 2010)، ص 405 - 406.

[20] وقد ضمت المنظمتان خلال الفترة 1945 – 1948، مئات الشباب الغزيين. انظر: السقا، مصدر سبق ذكره، ص 252.

[21] سليم عرفات المبيض، "سعيد علي زين الدين، المحامي الثائر والمربّي الشاعر، 1894 – 1959" (غزة: دار الأرقم، 2011)، ص 27.

[22] أحمد محمود الساعاتي،" التطور الثقافي في غزة 1914 - 1967: دراسة في التاريخ الحضاري" (غزة: د. ن.، 2005)، ص 7.

[23] سليم أحمد المبيض، "النصرانية وآثارها في غزة وما حولها" (غزة: مكتبة اليازجي، 1998)، ص 13.

[24] انظر: سكيك، مصدر سبق ذكره، ج 13، ص 78.

[25] Ofer Aderet, “Place the Material in the Wells’: Docs Point to Israeli Army’s 1948 Biological Warfare”, Haaretz, 14 October 2022.

[26] هارون هاشم الرشيد، "قصة مدينة غزة" (تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، د. ت.).

[27] موشيه ديان، "قصة حياتي"، ترجمة الحسيني معدي (القاهرة، دار الخلود للتراث، 2011)، ص 104.

[28] "غزة يا غزتنا" هي من أغاني الثورة الفلسطينية، من كلمات صلاح الدين الحسيني، ويمكن الاستماع إليها في موقع "مكتبة الموسيقى الفلسطينية".

 

السيرة الشخصية: 

أباهر السقّا: أستاذ مشارك في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية، جامعة بيرزيت.