موقف المثقفين والأكاديميين الفرنسيين: أصوات شحيحة بين الصمت والخوف
النص الكامل: 

ما جرى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما تلاه من عدوان إسرائيلي غير مسبوق على غزة لشدة فظاعته، ولخروجه عن جميع المعايير والقوانين والأخلاق المتعارف عليها في عالم الحروب، من قصف لعشرات المستشفيات ومراكز الصحة والمدارس ومكاتب الأونروا، هو سابقة تاريخية خطرة في العصر الحديث تركت أثرها وألقت ظلالها على دوائر الإعلام والسياسة والثقافة، وحتى على عالمَي الاقتصاد والموضة. فانشغل الإعلام في أوروبا، وفي فرنسا التي هي موضوع هذه الشهادة، بما جرى في ذلك اليوم وبما يجري حتى هذه اللحظة، من خلال نشرات الأخبار والبرامج السياسية وحلقات النقاش على مختلف القنوات التلفزيونية. ولعل معظم ما يُبثّ على هذه القنوات من تغطية إعلامية، سواء في القنوات الإعلامية الحكومية أو الخاصة، ومن تحليل سياسي ومن برامج سياسية، يمتاز بالتضليل وقلب الحقائق. فأنصار إسرائيل يأخذون مساحات واسعة على الشاشات يبررون من خلالها فظائعها بذريعة "الدفاع عن النفس"، بينما الأصوات المتعاطفة مع غزة، لجم بعضها الخوف، في حين لم يُمنح بعضها الآخر حتى مساحة في الإعلام للتعبير عن موقفه. أمّا الصحف والجرائد فكانت أقل سوءاً، فهي لم تستمر فقط في اجترار أحداث 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وإعادة بثّ الصور وتكرارها وتكريرها من دون انقطاع كما في القنوات التلفزيونية، بل تتناول أيضا عدوان إسرائيل الذي فاق كل تصور. وهنا، لا بد من الإشارة إلى صحيفة "ميديا بارت" التي امتازت من غيرها من الصحف الفرنسية بتحليلات ومقالات "موضوعية" تعبّر عن أصوات حرّة مشيرة إلى السياق التاريخي الذي نتجت منه أحداث اليوم الأول في الحرب، وتُظهر الفظائع الإسرائيلية التي تُعتبر سابقة تاريخية في قتل الصحافيين وتدمير المستشفيات، فضلاً عن قتل الأطفال بالآلاف. 

موقف المثقفين الفرنسيين

في الأسبوع الأول من الحرب من أكتوبر / تشرين الأول ساد الصمت لدى قطاع كبير من المثقفين والكتّاب الفرنسيين، بينما علا بعض الأصوات التي عبّرت عن "صدمتها الشديدة" و"رفضها القاطع" لهجوم حركة المقاومة الإسلامية / "حماس". لكن بعد تداول صور الفظائع التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، أصدرت مجموعة من الكتّاب والفنانين والمثقفين الفرنسيين بيانا نُشر في الصحف المحلية الفرنسية، وكان بين الموقِّعين الروائية آني إرنو، الحاصلة حديثاً على جائزة نوبل، والكاتب بيير لوميتر الفائز بجازة غونكور، وغيرهما من الكتّاب والمثقفين والفنانين والعاملين في الحقل الثقافي الفرنسي. وسعى هذا البيان لعرض "موقف متوازن" ينتقد هجوم "حماس" ويدين جرائم إسرائيل، ويشدد على أهمية وضرورة وقف القصف على غزة، كما رفض "تجريم الوقوف مع الفلسطينيين"، وانتقد الموقف الحكومي الفرنسي المنحاز بشكل سافر إلى حكومة إسرائيل.

كان هذا من البيانات القليلة التي ظهرت في الأسابيع الأولى للعدوان على غزة، فقد ساد صمت مريب وثقيل بين أوساط المثقفين الفرنسيين على الرغم من مرور أسابيع من القصف والتهجير ومسح أحياء بكاملها في غزة، وكان هذا أمراً مثيراً للاستغراب والاستهجان، إذ لم تظهر أصوات قوية تعبّر جهاراً عن نقدها لهذه الوحشية التي تخرج عن الأعراف كلها، الأمر الذي دفع مجموعة من الكتّاب والمثقفين والفنانيين العرب إلى إصدار بيان يدين هذا الصمت الفظيع. وممّا جاء فيه: 

نحن الكتّاب العرب نعبّر عن استنكارنا لهذا الصمت الجليدي من طرف المفكرين والكتّاب والفنانين في الغرب، ونتوقّع منهم في هذا السياق قيامهم بواجبهم الإنساني في اتخاذ موقف مسؤول، ومناصرة الشعب الفلسطيني بصورة واضحة في قتاله من أجل تحقيق حقوقه الوطنية المشروعة والعادلة. ونحن متفاجئون من موقفهم المخالف والبعيد عن القوى الحية في شعوبهم، حيث التضامن مع الشعب الفلسطيني يأخذ شكل التظاهرات المتزايدة، معتمداً في ذلك على حقّه في إنكار أشكال الاضطهاد والقتل والكولونيالية والحصار والاعتداء على الخصوصية التاريخية والدينية لفلسطين التي تقوم إسرائيل باقترافها من دون رادع منذ سنة 1967. وهذا التضامن عبّر عنه بشجاعة ونزاهة بعض المثقفين والمبدعين والأكاديميين في أميركا وفي قارات أُخرى. ننتظر من المثقفين الفرنسيين اتخاذ موقف صلب بشكل واضح إزاء هذه الفظائع التي تُقترف على أرض الشعب الفلسطيني، فنحن نرى فيكم النخبة الحية والضامنة في المجتمع للدفاع عن القيم التي شكّلت الحضارة الإنسانية المعاصرة، وحقوق الإنسان وصيانة الكرامة الإنسانية. 

وأشار البيان إلى خطورة تماهي موقف المثقفين مع السلطة قائلاً: 

لذا، فإننا نطالب بألّا يتأثر نهج المثقفين الغربيين بنهج "الكيل بمكيالين" الذي يَسِم السياسة الرسمية لدولهم، فنحن ندين هذا الانسياق لأنه يصيب مهمة الثقافة والمثقفين في الصميم.[1] 

ومن أسماء الذين وقّعوا هذا البيان: مرسيل خليفة؛ شوقي بزيع؛ أدونيس؛ محمد برّادة؛ محمد بنيس؛ منصف الوهايبي؛ وغيرهم.

ولا يبدو أن هذا البيان نُشر في الصحافة الفرنسية، فقد وصل إليّ بنسخته الفرنسية عن طريق شاعر فرنسي صديق. فالسمة الغالبة لكل بيان أو مقال أو موقف ناقد لفظائع إسرائيل في غزة هي أنه يُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يتم نشره أو تعميمه إعلامياً، إلّا النزر القليل الذي يصدر في صحف مثل "ميديا بارت". أمّا كل ما ينتقد الفلسطينيين ويقدمهم على صورة ميليشيا إسلامية فيأخذ مكانه ومكانته من الإعلام. ومع أن فرنسا تاريخياً مناصرة للحقّ الفلسطيني، على المستوى الثقافي، فهناك أسماء من المثقفين والمفكرين المعروفين بوقوفهم تاريخياً إلى جانب الحقّ الفلسطيني كجان جينيه وجان - لوك غودار وجيل دولوز وغيرهم كثير، إلّا إن أصوات المناصرين لفلسطين خفتت بشكل محزن هذه المرة، والسبب في ذلك هو أن هناك مزيجاً من التردد والخوف في التعبير عن الموقف؛ هذا من جهة، ومن جهة أُخرى ثمة تعاطف مع إسرائيل وعدم قبول أي شيء يشكّل تهديداً على وجودها ولو من بعيد. والذين يتخذون مواقف واضحة وشجاعة من المثقفين الفرنسيين إزاء جرائم إسرائيل من دون محاولة تكريس موقف متوازن يساوي بين الضحية والجلاد، هم في الواقع قليلون.

لكن في الأسابيع اللاحقة، ومع توحّش آلة الاحتلال الإسرائيلي العسكرية وانتشار الفظائع التي يرتكبها هذا الاحتلال في غزة على شاشات العالم، بدأ يظهر بعض الأصوات التي تنتقد بشكل واضح جرائم إسرائيل. وترافق هذا مع خروج التظاهرات المناصرة للحقّ الفلسطيني بعشرات الآلاف في الشوارع بعد أن كانت ممنوعة في معظمها في الأسابيع الأولى للأحداث. كما بدأت على المستوى السياسي تخرج أصوات بعض النواب الفرنسيين، ولا سيما من حزب ميلونشون اليساري الراديكالي. هذا الجو العام أطلق بعض الأصوات من المثقفين التي تنتقد إسرائيل علناً، لكن كان يجب التضحية بأكثر من 10,000 شهيد فلسطينيي أكثرهم من النساء والأطفال كي تخرج هذه الأصوات. وكان من ضمن ذلك بيان وقّعته مجموعة من الكتّاب والفنانين والعاملين في الحقل الثقافي، نُشر في "ميديا بارت". صحيح أنه ليس هناك أسماء كبيرة بين الموقّعين، إلّا إن هذا البيان هو من أكثر ما صدر من البيانات وضوحاً في إدانة عدوان إسرائيل، ونهجها الاحتلالي الكولونيالي منذ إنشائها. والذين وقّعوا هذا البيان هم فنانون مسرحيون ومغنون وسينمائيون ومخرجون وكتّاب ومصوّرون وموسيقيون وعاملون في مؤسسات ثقافية، وقد تجاوز عددهم 7000 شخص. وجاء في البيان: 

نحن، فناني المشهد الفرنسي، والعاملين في مجال الفن، نوحّد أصواتنا للتعبير عن تضامننا ودعمنا للشعب الفلسطيني. ونحن اليوم نناشدكم أيتها السيدة ريما عبد الملك وزيرة الثقافة، ومدراء المؤسسات الفنية، ونلفت انتباهكم إلى قلقنا العميق إزاء الأحداث الجارية حالياً في قطاع غزة والضفة الغربية. فخلافاً لما صرّح به رئيس الجمهورية، ليس كل الفرنسيين والفرنسيات يقفون إلى جانبه لدعم النظام الاستعماري الإسرائيلي اليميني المتطرف الذي أدى، من خلال عدم احترامه للقانون الدولي، إلى هذه المأساة، والذي هو أيضاً جزء من سلسلة الحكومات الإسرائيلية التي استهزأت كذلك بخطة التقسيم التي وافقت عليها الأمم المتحدة في سنة 1947، فضلاً عن القرارات المتعددة التي اعتمدتها الأمم المتحدة منذ سنة 1967. ولهذا السبب، ولأننا نرفض القول إن الصهيونية هي أيديولوجيا يدعمها المجتمع اليهودي بأكمله، وإن "حماس" تمثل المجتمع الفلسطيني بأكمله، فإننا ننشر اليوم هذا البيان كي نؤكد حقنا في التشكيك في الأفعال التي ترتكبها حكومة تشكّل تجاوزاتها انتهاكاً للقانون الدولي. إننا نرفض الربط الخطر الذي يميل بشكل غير عادل إلى تأليب المدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين بعضهم ضد بعض، وندعو إلى بذل جهد مشترك لمكافحة معاداة السامية بجميع أشكالها، وكذلك الكراهية تجاه الفلسطينيين، والتي يمكن قراءة عواقبها المأسوية اليوم في القصف العنيف الذي يتعرض له سكان قطاع غزة. وإذا كنا صُدمنا وتأثرنا بالعنف الذي تعرّض له المدنيون الإسرائيليون في السابع من أكتوبر [تشرين الأول]، فإننا نتضامن أيضاً مع الفلسطينيين ضد أي سياسة انتقامية تهدد، مثلما أشار كثيرون من الأكاديميين والخبراء في الأمم المتحدة، باقتراف إبادة جماعية. وإننا نطالب بوضع أحداث السابع من أكتوبر [تشرين الأول] في سياقها الصحيح، ولهذا فإننا ندين سياسة المعايير المزدوجة ضد شعب محتل هو الشعب الفلسطيني ودولة تمارس الاحتلال هي إسرائيل، فهذا خلل في ميزان القوى فشلت الحكومة ومعظم وسائل الإعلام الفرنسية في معالجته، ونحن ندينهم.[2] 

في السياق الأكاديمي

أمّا على المستوى الأكاديمي في فرنسا، فقد نشرت صحيفة "ميديا بارت" في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 بياناً لمجموعة من الأكاديميين الفرنسيين عبّرت فيها عن موقفها إزاء ما صدر عن "وزارة التعليم العالي والأبحاث" الفرنسية التي سعت لتكميم الأصوات المناصرة للحقّ الفلسطيني والمنتقدة لإسرائيل. ففي 9 تشرين الأول / أكتوبر 2023، بعثت وزيرة التعليم العالي والأبحاث سيلفي ريتو برسالة إلى رؤساء الجامعات ومديري المؤسسات أشارت فيها إلى أن فرنسا "أعربت عن تضامنها الكامل مع إسرائيل والإسرائيليين." وفي الوقت نفسه، دعت رؤساء المؤسسات إلى ضمان احترام "القانون والمبادىء الجمهورية" من خلال فرض "عقوبات تأديبية ملائمة وإجراءات قانونية في حالة أي خرق، بما في ذلك تبليغ المدعي العام بشأنها، تطبيقاً للمادة 40 من قانون الإجراءات الجزائية." وانتقد بعض الأكاديميين هذا بالقول: "إذا كان علينا الالتزام بالمبادىء الأخلاقية التي تكمن وراء هذه التدابير القانونية، فمن الواضح أن هذا التهديد بالقانون هو جزء من سياق تتضاعف فيه الأوامر القضائية لدعم سياسة الدولة الإسرائيلية."

وجاء في هذا البيان الذي وقّعه أكثر من 1300 من الباحثين والأساتذة ومدراء المراكز البحثية في فرنسا مثل "الكوليج دي فرانس" وغيرها من مؤسسات التعليم العالي: 

نحن الباحثين والقانونيين وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع والمؤرخين والجغرافيين والاقتصاديين وعلماء السياسة والمتخصصين في مجتمعات الشرق الأوسط والعالم العربي، علاوة على زملائنا من "وزارة التعليم والأبحاث" المتضامنين، نود مساءلة مسؤولينا وزملائنا فيما يتعلق بأعمال الرقابة والقمع الخطرة التي شهدناها في الفضاء العام الفرنسي بعد الأحداث الدرامية التي وقعت في السابع من أكتوبر [تشرين الأول]. فنحن نتعرض داخل جامعاتنا للترهيب الذي يتجلى في إلغاء الفاعليات العلمية، فضلاً عن وضع العراقيل أمام التعبير عن الفكر الأكاديمي الحر. إننا نرى مزيداً ومزيداً من الرسائل المرسلة من طرف إدارة الجامعات ومختبرات البحث والمركز الوطني للبحث العلمي ووزارة التعليم العالي والأبحاث، والتي تدعو الباحثين والأساتذة الباحثين إلى التبليغ عن الأعمال التي تُعتبر غير متوافقة مع خط الوزارة. وقد تم فعلاً توجيه اتهامات خطرة بمعاداة السامية، أو الدعوة إلى الإرهاب ضد بعض الزملاء المتخصصين في المنطقة. إن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي هو أحد مؤشرات ظهور شرطة الفكر التي تأسست في الوسط الأكاديمي الفرنسي منذ عدة أعوام، إلى جانب إطلاق تهمة "اليسار الإسلامي" لتحييد بعض الخطابات العلمية.[3] 

هذه هي الأجواء التي سادت المستوى الأكاديمي، ومستوى الإعلام أيضاً في فرنسا منذ بداية الحرب، الأمر الذي يفسر شحّ الأصوات التي تنتقد عدوان إسرائيل في الفضاء العام. ولذا، اكتفى قطاع من الكتّاب بنشر مواقفهم وقصائدهم ونصوصهم في صفحات التواصل الاجتماعي، وكان بينهم بعض الكتّاب الفرنسيين من أصول يهودية الذين عبّروا عن رفضهم القاطع لأعمال إسرائيل، بينما صمت بعضهم الآخر عمّا يحدث. وكان هناك عدد من الكتّاب الفرنسيين من أصول عربية امتاز موقفهم بالصمت في البداية، معلّلين ذلك بأنهم لم يجدوا ما يسعفهم من كلمات للتعبير عن صدمتهم إزاء ما يحدث في غزة كالشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي نشر لاحقاً في صفحته قصيدة عن غزة باللغتين العربية والفرنسية. كما نشر الشاعر والمترجم المغربي محمد العمراوي قصيدة مطوّلة في صفحته أيضاً، وقدمها في أمسيته الشعرية التي أقامها في باريس، معبّراً عن سعادته الكبيرة بتفاعل الجمهور معها. وتمثّل الشاعرة المغربية والمترجمة سعاد لعبيز التي تعيش في فرنسا، وتكتب باللغتين الفرنسية والعربية، أحد أكثر النماذج إشراقاً في موقفها القوي والواضح في مساندة الحق الفلسطيني، ومشاركتها في صفحتها في الفيسبوك لصور ومعلومات ونصوص أدبية وكل ما يدين العدوان الإسرائيلي ويكشف فظائعه في غزة كما في الضفة الغربية، ودخولها من خلال صفحتها في النقاش والمجادلة مع كتّاب آخرين، وهي من القلائل الذين اتخذوا هذا الموقف الصلب منذ البداية وبنشاط لا يكل.

 

المصادر:

[1]Défendre les libertés d'expression sur la Palestine : un enjeu académique”, “Le Club de Mediapart”, 15 Novembre 2023.

[2]La scène culturelle française en soutien au peuple palestinien”, “Le Club de Mediapart”, 7 Novembre 2023.

[3] نُشر البيان في موقع "Le Grand Soir":

Liberté d’expression dans le monde universitaire”, “Le Grand Soir”, 29 Octobre 2023,

 

السيرة الشخصية: 

أنس العيلة: شاعر ومترجم ومحاضر جامعي، ومسؤول "الدراسات العربية" في مركز ومكتبة "لوماتيك" في باريس.