التربية الإعلامية في فلسطين: من التعليم إلى الثورة وسياسات الشوارع
نبذة مختصرة: 

تقرأ هذه المقالة مفهوم التربية الإعلامية عالمياً، وتعرض تعريفاتها ومراحلها ومدارسها وبعض المشاريع ذات العلاقة في العالم العربي وصولاً إلى فلسطين. وقد كُتبت هذه المقالة بعد شهر ونصف شهر من عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، والتي غيرت مسارات كثيرة في مجالات المقاومة والسياسة والاجتماع والتنمية، وتحت وطأة مذابح الإبادة التي تشنّها دولة الاحتلال على غزة المحاصرة، والتصفيات والاغتيالات المركزة في الضفة وفي السجون، وعمليات القمع والإسكات لفلسطينيي 1948. ووسط هذا "الطوفان" تبدو الصحافة والإعلام مساحة مترامية الأفكار والتكتيكات للثورة والكفاح ونضالات الشوارع في فلسطين والعالم.

النص الكامل: 

كغيرها من دول العالم، ما زالت فلسطين تتهجّى مفهوم "التربية الإعلامية" (media literacy)، وتحاول مفهمته وتشغيله في التعليم والجندر والحقوق الرقمية والصحافة، في مسار تجريبي فيه المعمّق والمسطّح، بعضه مؤسساتي تمويلي، وبعضه الآخر أبحاث وأفكار ريادية ومتخصصة. وتستند هذه المقالة إلى جلسة تشاور بين أساتذة إعلام من سبع جامعات عربية وثامنة ألمانية في بيروت في سنة 2022، وقد مثّلتُ فيها جامعة بيرزيت في الورشة التي كان سؤالها: "ما هي التربية الإعلامية التي سأدرّسها في بلدي؟ هل هي معيارية أم عالمية؟ وهل تطرح مساقات لطلاب كليات الصحافة أم تربية جديدة للجمهور؟ ومَن يقوم بها: هل هي الدولة أم المجتمع المدني؟ وهل ستكون بُنية معرفية تتحول إلى سلطة، أم تفكيكاً يعيد ترتيب رواية الفلسطينيين وممارساتهم الإعلامية في ظل التحول الرقمي في الإعلام والاتصال؟ 

المفهوم مثلما كان عليه

لقد شهد مفهوم "التربية الإعلامية" تغيرات متلاحقة في مسمياته ومدارسه خلال العقود الأخيرة، من التربية الإعلامية كما ظهرت في المملكة المتحدة وكندا وأميركا في النصف الأول من القرن الماضي، إلى "التربية الإعلامية النقدية" (Critical Media Literacy/CLM) في مرحلة الثورة الثقافية في أوروبا (من الستينيات إلى بداية التسعينيات)، ثم "التربية الإعلامية الرقمية" (Digital Media Literacy) في منتصف التسعينيات تبعاً لظهور الإنترنت وأجياله "ويب 1 – القراءة" (Web1)، إلى "ويب 2 التفاعلي" (Web2)، إلى "ويب 3 التنفيذي والإنتاجي" (Web3). ومع بداية القرن الحالي اقترحت منظمة اليونسكو تسمية جديدة هي "التربية الإعلامية والمعلوماتية" (Media and Information Literacy/MIL). وحالياً بدأ ينتشر في الأبحاث الأكاديمية الحديثة مصطلح جديد هو "التربية الإعلامية والتواصل الاجتماعي" (Social Media Literacy/SoMeLi).

ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، تنوّعت أشكال التربية الإعلامية تبعاً للسياسات الحكومية في العالم التي تبنّت المفهوم الذي تركّز في أعوامه الكلاسيكية في دول صناعية كبرى أو دول غنية، وأخذ شكل "تدخلات" لتطوير نظم التعليم وأساليب تربية الجيل تحت مظلات تعليمية إبداعية مثل أفكار جون ديوي عن التعليم كبُنية ديمقراطية، أو من كتابات باولو فريري عن التعليم التحرري، ولاحقاً ارتبط المفهوم بالمساهمات البحثية وبمدارس وتيارات التفكير النقدي العالمية. 

تأصيل المفهوم على التيارات النقدية

ربط ماركوس ليننغ (Marcus Leaning) تعريفات المفهوم بثلاثة نماذج معرفية في القرن العشرين، هي: النموذج المعرفي الأول الذي تطور من الماركسية الفكرية وسمّاه "نموذج التطعيم والحماية" (Protectionist or Inoculation Model).[1] وظهر هذا النموذج في النصف الأول من القرن الماضي معتمداً على مبادىء فكرية قادمة من الماركسية، ومدرسة فرانكفورت التي رأت أن للإعلام في منتصف القرن الماضي تأثيراً متزايداً في البشر الذين حوّلهم إلى "مستهلكين". وفي هذه المرحلة، ظهرت مسمّيات جديدة في الأبحاث التي تناولت تحديات جديدة في الإعلام العمومي، مثل "صناعة الثقافة" التي تحدّ من الوعي الطبقي وترفع النزعة الاستهلاكية بين المجتمعات. وما زال هذا النموذج موجوداً حتى الآن في مرجعيات نظرية للعديد من الباحثين الذين يكتبون في التربية الإعلامية، بينما يكتب كثيرون مؤخراً في "التسمم الرقمي" (Digital Detox).

أمّا النموذج المعرفي الثاني الذي أثّر في تطور التربية الإعلامية، فكان "نموذج إزالة الغموض" (Demystification Model) عن الإعلام، والذي امتد تأثيره من الستينيات إلى الثمانينيات، وعايشت فيه وسائل الإعلام نقداً لاذعاً من منظور السيميائيات والدراسات الثقافية وأثر الأيديولوجيا في الممارسات الفكرية. وفي هذه الفترة تركت كتابات مؤلفين كبار أمثال رولان بارت وسلافوي جيجيك، أثراً في العلوم الاجتماعية والمفاهيم بما فيها التربية الإعلامية. فبارت مثلاً، اعتبر الإعلام "ثقافة عليا" لا تنتج العالم، بل تعيد إنتاجه بطريقة رديئة. وتحت هذا النموذج، نمت دراسات نقدية لبُنية الإعلام على أنها لم تكن تاريخياً بُنية معرفة شفافة، وأنها تستحق حركة نقدية عميقة لتمثّلات الإعلام والصحافة. وهذا التوجه الفكري له وجود في الدراسات الإعلامية حتى اليوم، وتحديداً في الأبحاث والتوجّهات التي تعتمد "التربية الإعلامية النقدية" (Critical Media Literacy).

وفيما يتعلق بالنموذج الثالث، "نموذج التأثير التشاركي" (Creative Participation Model)، فإنه يؤثّر في تطوّر مفهوم التربية الإعلامية في ظل ظهور تقنيات الاتصال الرقمي، وصولاً إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وتغيّر أنماط استهلاك الجمهور للإعلام، وظهور ما بات يُعرف بالاستهلاك والإنتاج الفردي للمعلومات والتجارة الإلكترونية واقتصاد الإنترنت، الأمر الذي حدا بمنظّري التربية الإعلامية إلى الدعوة إلى تعليم الأفراد وتدريبهم على إنتاج الإعلام الاجتماعي، وهو ما صار يسمّى حديثاً، بحسب تعريف اليونسكو، "التربية الإعلامية والمعلوماتية للشعوب". 

سياسات وممارسات عالمية

انقسمت جهود تنفيذ التربية الإعلامية في العالم خلال العقود الماضية إلى حكومية (مع ظهور الجيل الأول من الإنترنت)، وأهلية (مع الجيل التفاعلي للإنترنت)، لكن في العقد الأخير ظهر طرف ثالث هو الروّاد من الشباب والباحثين وأساتذة الجامعات الذين ابتكروا تنويعات كثيرة لإدخال التربية الإعلامية إلى مناطق غير متوقعة في حياة الناس اليومية.

ومن أمثلة الجهود الحكومية في العالم كان تأسيس مجلس للتربية الإعلامية في الولايات المتحدة الأميركية في السبعينيات، أمّا من العالم الثالث فهناك مثال لما قامت به سنغافورة في مطلع التسعينيات بعد أن أدخلت المفهوم في نطاق عمل "سلطة تطوير الإعلام" (MDA). وقد رصد دير - ثانغ تشين وآخرون التجربة هناك، واكتشفوا أن سنغافورة، على عكس بعض دول شرق آسيا التي اكتفت ببعض الإدخالات للتربية الإعلامية في التعليم في مطلع التسعينيات، مثل اليابان وتايوان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية، اعتمدت "سلطة تطوير الإعلام"، وخصوصاً عبر وزارة التربية والتعليم، لإدخال التربية الإعلامية في مناهج المرحلتين الابتدائية والثانوية، وضمن مساق اللغة الإنجليزية. كما شهدت سنة 2012 تشكيل مجلس التربية الإعلامية في سنغافورة يكون تابعاً للحكومة ويتولى تنفيذ برامج حماية السكان من "مخاطر الإنترنت"، وتحديداً الأطفال والمراهقين.[2]

وفي أوروبا، حملت أمثلة التدخلات الحكومية تعدداً غير مسبوق من المشاريع والسياسات. وقد حللت دانا بترانوفا وآخرون فاعليات التربية الإعلامية في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، منذ التسعينيات، واكتشفوا أن تدريس التربية الإعلامية اتخذ أحياناً طابع تعليم الإعلام للمعلمين في المدارس، وأحياناً أُخرى تعليم الإعلام للأهالي والشباب والمراهقين، عبر تنوع غير مسبوق من التسميات، نحو: التربية الرقمية؛ التربية المعلوماتية؛ التربية الإعلامية وصناعة الأفلام؛ التربية الإعلامية والإنترنت والأخبار وغيرها؛ الحماية على الشبكات؛ القراءة.[3] ونُفّذت هذه الأنواع كلها في دول الاتحاد الأوروبي من طرف الحكومات، ومن مؤسسات المجتمع المدني، بابتداع زوايا ابتكارية وتجريبية بحسب ما اقتضى التطور الهائل لتكنولوجيا وسائل الاتصال التي بدأت تغزو العالم.

كما توسعت اهتمامات مصممي برامج وتدريبات التربية الإعلامية في العالم إلى حقول غير متوقعة شملت العِرْق والعدالة الاجتماعية، وذلك بفعل قدوة هؤلاء المصممين وريادية أفكارهم. فعلى سبيل المثال صممت شيريل ماك – آرثر برنامج تربية إعلامية من ثماني مدارس أميركية، استهدف طالبات سوداوات قادمات من أصول مهاجرة وفقيرة، وضعيفات في مساق اللغة الإنجليزية، ودرّبت طالباتها على التفكير المعمق بشأن الصور النمطية للسود في وسائل الإعلام الأميركية، وعلى تحليل تمثّلات النساء السوداوات المكافحات في كلمات الأغاني، وكتابة مشاعرهن تجاه رائدات من المجتمع الأسود في مواجهة التمييز.[4] ورأت الباحثة أن التمييز ضد النساء السوداوات في الإعلام التقليدي لا يختلف عن مشكلات التنمر أو خطاب الكراهية أو الصور النمطية للأعراق المنتشرة في وسائل الإعلام الجديدة، وهي قضايا ثقافية وعرقية دخلت بقوة إلى الأفكار الريادية للتربية الإعلامية الحديثة.

ووثّق جيف شير وآخرون تجربة بحثية أجروها في برنامج لدرجة الماجستير في التعليم في جامعة كاليفورنيا / لوس أنجلوس، إذ صمم الباحثون مساقاً في التربية الإعلامية للمعلمين في هذا البرنامج التعليمي، مستخدمين مفاهيم من التربية الإعلامية النقدية، ومحللين مواد صحافية فيها إشكالات عنصرية وجنسانية وطبقية ونزعة استهلاكية وتلوث بيئي. ودرّب الباحثون معلمي برنامج الماجستير هذا على كيفية تدريب طلابهم كي ينتجوا مواد إعلامية بالصور والنصوص والفيديوهات والبودكاست لنشرها في شبكات التواصل، من أجل إنتاج إعلام ديمقراطي وعادل كأسلوب حديث من التربية الإعلامية للشباب.[5]

وفي محاولة أُخرى، قدمت أليسون تروب وآخرون بحثاً عن كيفية إدخال مفاهيم التربية الإعلامية النقدية ذات الأصول الفكرية والثقافية في برنامج لإعداد المعلمين، وصمم الباحثون موقعاً إلكترونياً ومنهاجاً لمحاربة التمييز العنصري والانحياز الذي يحدث في سبع هويات اجتماعية، هي: العرق؛ الجندر؛ المثلية الجنسية؛ الطبقة؛ الأصلانية؛ العمر؛ الإعاقة. واستهدف المشروع معلمين وطلاباً في المدارس الأميركية العليا، لرفع وعيهم وتحليلاتهم للتغطيات الإعلامية التي تكتب عن هذه الهويات المهمشة والمرفوضة، فنُشرت في الموقع الإلكتروني وثائقيات وأفلام سينمائية ومقاطع من شبكات التواصل التي تكافح التمييز ضد هذه الهويات، كما شُجّع الطلاب في المناهج على تفكيك نصوص إعلامية ظَلمت وما زالت تَظلم هذه الهويات المتنوعة. وقد نجح المشروع بشكل غير مسبوق في تحدي عُقَد التحيز ضد هذه الهويات. 

وصول متأخر إلى العالم العربي وفلسطين

لقد تأخر دخول التربية الإعلامية إلى العالم العربي، غير أن الربيع العربي وحرب اليمن، وقطيعة دول الخليج مع قطر، والانقسامات السياسية في فلسطين ولبنان، والصراع العربي - الإسرائيلي، ووباء كورونا، وتحولات إقليمية أُخرى، أضافت أهمية خاصة إلى دخول التربية الإعلامية من أجل ضبط تدفق المعلومات، والتحقق من الروايات الكاذبة، ومكافحة الأخبار المضللة، ومواجهة نظريات المؤامرة التي راجت بقوة في شبكات التواصل الاجتماعي. ويمكن الاطلاع على التحديات التي أخّرت دخول التربية الإعلامية في عدة أبحاث ودراسات عربية.[6] لكن العقد الأخير حمل أشكالاً كثيرة من التربية الإعلامية في العالم العربي، مثل ظهور مراصد التحقق، أو التدخلات الأهلية لإنتاج أدلة للتربية الإعلامية للجمهور، وأبحاث لمواجهة الأخبار المضللة، وبرامج ومشاريع توعية وحملات لتطوير الإعلام الاجتماعي العربي، وظهور أكاديميات سنوية لتطوير مفاهيم وممارسات الإعلام الرقمي.

أمّا في فلسطين، فكان هناك تدخلات وإضافات نوعية في التربية الإعلامية، منها: إطلاق "مركز تطوير الإعلام" في جامعة بيرزيت دليلَين للطلبة والمعلمين في التربية الإعلامية في سنة 2010؛ إنتاج مؤسسة بيالارا مساقاً للمدارس في سنة 2018؛ صعود مراصد مثل "تحقق" و"وتيقن" و"وكاشف" لمكافحة الأخبار المضللة؛ دفاع "المركز العربي لتطوير الإعلام / حملة" عن الحقوق الرقمية الفلسطينية؛ ظهور تنويعات كثيرة من العمل الإعلامي الأهلي التي تعمل في هذا المجال مثل "صدى سوشال"، ومؤسسات أُخرى.

ونجحت التنويعات الفلسطينية وشكلت إضافات في خلق وعي بالإعلام وأدواته في صناعة تدفق معلومات فلسطيني سليم وإضافي ومنتج. لكن مثلما سبق أن أشرنا في بداية المقالة، فإن مساراً جديداً مستحقاً يمكن تجنيد التربية الإعلامية له هنا في فلسطين، وهو مسار الرواية والثورة وسياسات الشوارع. ونقصد بذلك إدخال المفهوم إلى فلسطين ليكون رافعة في المقاومة ومسيرة الكفاح، ويساهم في تعزيز الرواية الفلسطينية في العالم، والرد على الرواية الإسرائيلية وأدواتها ووسائل الإعلام الاستعمارية التي تشتري إسرائيل أجندتها الإخبارية بتمويل عالٍ لخدمة ما يُعرف باسم "أداة الشرح الإسرائيلية" المعروفة باسم "هسباراه" من أجل إيصال رواية الاحتلال إلى العالم.

واحتراماً لصدق اللحظة في فلسطين وصمودها الأسطوري في وجه المذابح، لا بدّ من تأكيد أن العنوان، أو المسار المقترح كان مجرد فكرة بلا أدوات ولا مفاهيم فرعية، إلى أن جاء 7 تشرين الأول / أكتوبر الفلسطيني، واندلعت حرب الإبادة والمذابح في غزة، وانطلق "طوفان" رواية إعلامية فلسطينية نجحت في التغلب على الرواية الإسرائيلية عبر تصعيد هذه الرواية بمشاركة الحراكات الثورية وفاعلي الشوارع في العالم كافة.

وكانت اغلبية أدوات هذا "الطوفان" إعلامية ومتصلة بالمفاهيم الكلاسيكية والحديثة للتربية الإعلامية التي تنتج اتصالاً مبدعاً ومضموناً إعلامياً لا توقفه التقييدات، ويقدّم إلى العالم رواية فلسطينية، ورواية متضامنين مع فلسطين تستوفي المفاهيم كلها التي وردت في مدارس التربية الإعلامية ونماذجها في العالم، والتي لها خصوصيتها التحررية في بلد لا يحتاج إلى التربية الاعلامية لمشاريع التنمية فحسب، بل إلى الثورة والتحرر والكفاح الوطني. وقد أنتج حقل الاتصال في فلسطين بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، ممارسات إعلامية فذة يمكن تأطيرها واعتمادها بصفتها "تربية إعلامية تحررية" اعتمدت الأدوات الإعلامية التالية التي يمكن أن تصف ما تحقَّق اليوم، وما تسعى له في الغد.

فهي تربية إعلامية متصلة بقوة صحافة "الموبايل" التي كانت تُستخدم سابقاً في التربية الإعلامية الإخبارية أو الحملات والمشاريع الفردية، والتي تحولت في غزة إلى بثّ مباشر من أرض المذبحة تخطّت أدوات التعتيم الإعلامي الإسرائيلي كلها، أو التنظيم المؤسساتي لتدفق المعلومات، وجعل العالم موجوداً في كل لحظة، وفي كل مأساة، وفي كل قطرة دم. وهي تربية تقوم على الوجود الإبداعي لصحافيين وناشطين صغار وطلاب كليات إعلام ومواطنين مجهزين بفنّيات البثّ المباشر وصناعة الفيديو القصير وكتابة الرسائل الإعلامية. وهده فئات قدّمت بديلاً في زمن الحرب من الإعلام العربي التقليدي، ومن الإعلام الدولي الاستعماري المهمين الذي خرّب وعي شعوب بأكملها منذ عقود طويلة في أوروبا والولايات المتحدة. وفي هذه الأجواء، تظهر مناطق غير متوقعة لمواهب في الإعلام الاجتماعي، ألهبت شبكات التواصل الاجتماعي عبر تدوين فيديوي عفوي من الأرض المطحونة تحت الدبابات إلى العالم كافة. وفي هذا السياق، يمكن مراجعة صفحات أطفال عفويين من غزة توفَّر لهم اتصال بالإنترنت في أثناء الحرب، فبثّوا رسائل تخطّت التقييد، وحصلت على تفاعل وتضامن ملايين المستخدمين في العالم، مثل صفحة الفتى عبد الرحمن بطاح، وصفحة الطفل عبد الله المجايدة الذي كان يبثّ من صفحة شقيقه الصحافي في إنستغرام.

وهي تربية إعلامية تُنتج رواية رقمية تطوّعية يعمل على إنتاجها الشعب كله، إذ لا تمويل فيها ولا مؤسسات، ولا تقف خلفها استخبارات ولا وزارات، ولا يظهر فيها "مسؤولون فلسطينيون يطالبون العالم..."، وإنما شباب وشعب تحت الإبادة يخاطب شباب العالم وجامعاته من أجل التضامن والتدخل. وهذه تربية يتشارك في صناعتها الناشطون الاجتماعيون، والنجوم والرياديون والرياضيون وأصحاب صفحات وحسابات عالية المتابعة في شبكات التواصل الاجتماعي، لا دخل فيها لوزارة الخارجية أو التربية والتعليم، ولا لوزارة المالية، وغير مهووسة بالتمويل الحكومي أو السيطرات الحزبية، وخالية من أي أشكال الإدارة البيروقراطية. فهي تربية تعيد تصويب إعلام منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والحركة الوطينة والأحزاب الإسلامية، وتحفّز في برامجهم مناطق جديدة مثل معارك الدفاع عن الحقوق الرقمية الفلسطينية، وتعيد توجيه المدرسة الدبلوماسية الفلسطينية كي تكون فاعلة وجديدة وذات مفاهيم، وليس تقاليد وعلاقات عامة وبروتوكولات لا يحتاج إليها أحد.

وهي تربية إعلامية رقمية للفلسطينيين كلهم، ومعهم الشعوب المتضامنة في الشمال والجنوب، لإنتاج رأي عام عالمي يفهم عدالة قضية فلسطين وأخلاقيتها، ويتحدى مخلّفات وسياسات تحرير ومعايير وتغطيات الإعلام الاستعماري الذي هيمن على عقل الشعوب لعقود، وسوّق الرواية الكولونيالية الإسرائيلية، وحطّم الرواية الفلسطينية مرتكباً فيها جرائم حرية رأي وتعبير غير مسبوقة. وهي تربية إعلامية تعيد الصراع مع دولة الاحتلال إلى جذوره، وتصوغ فهماً مشتركاً مع شعوب العالم، وخصوصاً شبابه، على هذا الأساس الفكري، وضمن طاقات فكرية إنسانية ومعلومات سليمة وقراءات ومراجع فكر سياسي أخلاقي وإنساني سليم يرفض الكولونيالية وبقايا آخر استعمار تعيشه البشرية: إسرائيل.

وهي تربية إعلامية مهنية تستوعب تدفُّق معلومات فلسطيني غير مسبوق إلى العالم عبر السوشال ميديا، وهو تدفّق يراعي الأخلاقيات والمعايير والتحقق من صحة المعلومات وسلامة المضامين من الكراهية أو التحيز أو التنمُّر. وهي تربية تقدّم نماذج جديدة في القبول والتعدد والاتصال والتواصل التحرري والديمقراطي، وتراجع أخطاء صحافة المواطن، وتدفع المستخدمين إلى الالتزام بالصدق وطهارة الكلمة وعنفوانها في حركة الشارع من أجل تأجيج روح الكفاح الوطني في فلسطين وفي شوارع العرب والعالم. ولذا، يتوجب عليها أن تكون تربية خالية من التحيّز الفكري الرجعي والمسبق، وتكون قادرة على فهم قضايا العِرْق والإثنيات ومدن الفقر والصفيح والمجموعات المثلية، وتفهم تطورات الجندر ومدارسه ومفاهيمه، وتستوعب حرية المعتقد الديني، وتفهم وجود تيارات يهودية عالمية تكره إسرائيل وترى فيها "دولة "سوبر عسكرية" يتعين على العالم المساعدة في إنهائها وتخليصها من نفسها؛

وهي تربية إعلامية شعبية مشتبكة، تتحدى أجهزة أمن الاحتلال في لحظات الانتفاضات والحروب، وتبادر إلى "طوفان إعلامي" يتحدى الاعتقالات والمحاكمات والسجون، ولا يستلم ويترك ناشطين أو ثوريين بعينهم عرضة للملاحقة الفردية، بل يشترك الجمهور كله في إنتاج الإعلام والرواية الشعبية، ويبثّها بشكل جماعي في شبكات التواصل بحيث يصبح صعباً على الاحتلال السيطرة على "طوفان" الشبكات هذا بالاعتقالات والتهديدات. وبصفتها كذلك، فإنها تربية إعلامية تقدس إعلام المقاومة الصادق في الفيديوهات، والإنساني في التصرفات، والخالي من أي تضليل أو خطاب كراهية، والذي تحول إلى أقوى أدوات التأثير في العالم من ميدان المعركة وخلف خطوط العدو. وخارج ميدان المعركة الحربي، هناك تربية تجهّز الشباب الفلسطيني في الداخل والخارج للتشبيك مع نظرائهم في جميع جامعات العالم وشوارعه لبناء الحملات الإلكترونية وتبادل الشعارات والمفاهيم وإدارة الجبهات الإعلامية، من أجل صناعة رأي عام عالمي وإنساني يضغط في اللحظة الملائمة، ويوقف المذابح وحرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل بشكل مستمر وفي أي تطور على الصراع مع الفلسطينيين.

لا شك في أن الأفكار كثيرة لإضافة خيارات ومسارات التربية الإعلامية الفلسطينية التي ستأخذ صفاتها من الناس وليس من التنظير فقط، ذلك بأن الممارسة هي التي تُحدث فعلاً الفرق بعد أعوام من العصف الفكري الفلسطيني لإيجاد البدائل. فأمام نظريات وفرضيات تطوير الأشكال الثورية والانتفاضات في فلسطين، يعجز التصميم الذهني والمؤدلج، بينما يتصاعد الاقتراح الشعبي العفوي لأشكال المقاومة العسكرية والشعبية والإعلامية.

 

المصادر:

[1] Marcus Leaning, “An Approach to Digital Literacy through the Integration of Media and Information Literacy”, Media and communication, vol. 7, no, 2 (2019), pp.4-13. ‏

[2] Der-Thanq Chen, Tzu-Bin Lin, Jen-Yi Li and Ling Lee, “Establishing the Norm of New Media Literacy of Singaporean Students: Implications to Policy and Pedagogy”, Computers & Education, vol. 124 (September 2018), pp. 1-13.

[3] Dana Petranová, Monika Hossová and Peter Velický, “Current Development Trends of Media Literacy in the European Union Countries”, Communication Today, vol. 8 no. 1 (April 2017), pp. 52-65.‏

[4] Sherell McArthur, “Centering Student Identities in Critical Media Literacy Instruction”, Journal of Adolescent & Adult Literacy, vol. 62, n0. 6 (24 April 2019), pp. 686-689.

[5] Jeff Share, Tatevik Mamikonyan and Eduardo Lopez, “Critical Media Literacy in Teacher Education, Theory, and Practice”, Oxford Research Encyclopedias (30 September 2019). 

[6] Abeer Al-Najjar, “Public Media Accountability: Media Journalism, Engaged Publics and Critical Media Literacy in the MENA”, LSE Middle East Centre, Paper Series 35 (June 2020).

وانظر أيضاً:

Jad Melki, “Guiding Digital and Media Literacy Development in Arab Curricula through Understanding Media Uses of Arab Youth”, Journal of Media Literacy Education, vol. 6 no. 3 (2015), pp. 14-29.

السيرة الشخصية: 

صالح مشارقة: منسق الأبحاث والسياسات في مركز تطوير الإعلام، وأستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت.