فلسطين من القدس إلى غزة
نبذة مختصرة: 

أجرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" هذه الحوارية مع المفكّر الفلسطيني خالد عودة الله من قرية بيت حنينا شمالي القدس المحتلة، وحاوره فيها عبد الرحيم الشيخ خلال حرب "إسرائيل" على غزة بدءاً من لحظة العبور الكبير للمقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 حتى منتصف كانون الأول / ديسمبر 2023. وعودة الله هو مؤسس "دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي - الجامعة الشعبية" وموقع "باب الواد" للدراسات الفلسطينية والبحث المحارب. وهو الأستاذ السابق في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت والدراسات الفلسطينية، وفي الكلية الجامعية للعلوم التربوية في رام الله. وقد ألّف عودة الله كتاب "النقد والثورة: دراسة في النقد الاجتماعي عند علي شريعتي" الصادر عن "المؤسسة الفلسطينية للديمقراطية وحقوق الإنسان/مواطن" في رام الله في سنة 2007، علاوة على دراساته الميدانية والنظرية في البحث المحارب وإرث المقاومة في فلسطين. كما يقدّم برنامج "بنادق وبيارق: جولات في الجغرافيا التاريخية العسكرية للقدس" بالتعاون مع موقع "البوصلة"، وهي منصة إعلامية تنشط في الفضاء الرقمي وتتخذ من القدس مقرّاً لها، وبوصلة لأعمالها وإنتاجاتها كافة. وينظّم عودة الله أيضاً سلسلة من المسارات الميدانية، بعنوان: "جولات في الجغرافيا التاريخية العسكرية"، مع تركيز خاص على ديار بئر السبع في جنوب فلسطين المحتلة، فضلاً عن الأبحاث والمقالات المنشورة في موقع "باب الواد"، وعشرات المحاضرات التي يمكن متابعتها في قناة "دائرة سليمان الحلبي" و"الجامعة الشعبية" على اليوتيوب والاستماع إليها على "ساوند كلاود". وهذه الحوارية هي رحلة ذات مسارات متشابكة في التاريخ السياسي والاجتماعي والعسكري للقدس وفلسطين، وما تستدعيه هذه المسارات من الإحالات إلى القدس وفلسطين و"إسرائيل" وغزة برفقة مقدسي يرى أن التحرير ممكن والحرية ممكنة، لكن دونهما تحرير المعرفة عن الذات وعن العدو.

النص الكامل: 

القدس: الدرس والمدرسة 

ندرك أن أي أسئلة "فردية" اليوم تتضمن ما قد يربك جمعية قضية فلسطين، لكن كل قضية "شخصية" هي ما ينسج حكاية فلسطين التاريخية الكبرى، ويلملم شتاتها، ويشارك في ثأرها. وبما أن أبرز ما يميّز مسيرتك المعرفية هو تأكيد الرابط الحيوي بين تاريخ الجغرافيا العسكرية وحكايات أهلها الأصليين مع المستعمر الصهيوني، نرغب في أن تحدّثنا عن صرخة الميلاد وحمّى البلاد منذ الأعوام الأولى في عمر طفل مقدسي تحمله والدته للعلاج، فيجد نفسه وجهاً لوجه مع رئيسة حكومة العدو غولدا مئير في مركبتها ضمن القافلة العسكرية في الريف الشمالي للقدس المحتلة. كيف بدأت القصة مع بيت حنينا والنبي صمويل والسجن، ومع الأرض بصفتها الدرس والمدرسة، و"معرفة العدو عن قرب"؟

ولدت في قرية بيت حنينا من ريف القدس الشمالي في سنة 1971، وكانت عائلتي قد هاجرت إلى الولايات المتحدة الأميركية، إلى مدينة ديترويت تحديداً، وسكنَت في حيّ للعرب المهاجرين العاملين في مصانع "فورد" للسيارات التي عمل فيها المئات من أهل قريتي. لم تقدر والدتي ومعلمتي فاطمة، قدّس الله سرّها، على قطع الحبل السرّي مع بساتين المشمش وكروم الزيتون. وبعد وجود قلق في أميركا، قرّرت أن تعود إلى الأرض تاركة وراءها بُهرج الحياة وراحتها في أميركا، والزوج وستة من الأولاد والبنات وهي حامل بي في الشهر السادس... وولدتني أمي في القدس. وقد شكّل هذا القرار / الرحلة مسار حياتي وهويتي، إذ بين عائلتنا الممتدة كلها، بقينا أنا وأمي من دون جنسية أميركية.

 

 

ومنذ طفولتي وأمي تقول أنها نذرتني للأرض ونذرت حياتها لي. وهكذا نشأتُ كارهاً للهجرة والسفر وأميركا في ظل أمي القوية والحكيمة والبارعة في معرفة الأرض والزراعة في مجتمع ريفي يحتضر بفعل نزيف الهجرة إلى أميركا (عدد سكان القرية في الغربة يقارب 30,000، ولا يزيد تعداد مَن بقي منهم هنا على 1000 نسمة). تفتّح وعيي الأول على صراع أمي مع غول الاستيطان الذي صادفت هجمته الكبرى على أرض قريتنا مع ولادتي: بلدوزرات يحرسها جنود، وأوامر مصادرة لا نعرف فكّ طلاسمها، ومستعمرات يعلو بنيانها على أنقاض الزعتر والزيتون. ورثت أمي صلابة أمها وقوتها - جدتي آمنة التي أتحسّر على أنني لم أحظَ برؤيتها، وتربّيت على حكايات ورثتها، فأنا ما زلت أحتفظ بسنجة بندقيتها التي شَهَرَتها عندما أغلقت القرية أبوابها اتّقاء لشرّ عصابة من "فصائل السلام الفلسطينية" من جماعة فخري بيك عاثت في القرية فساداً. وحين توفّاها الله، قال متجبّرو القرية: "مات الضابط". ولم يتزوج جدي بعدها كعادة أهل القرية، مع أنه ترمّل في الخمسينيات من عمره، وقال على قبرها: "تحرم عليّ النسوان بعدك يا يامنة." وعاش ومات وفيّاً على العهد، حاملاً معه إلى قبره طلقة في كتفه الأيسر أصيب بها في حروب الدولة العثمانية.

جمعت أمي ما بين القوة والحكمة نقداً للتخلف الريفي والأمّية، ولسلطات الريف الذكورية، وخصوصاً المخاتير التي كانت تسمّي الواحد فيهم "مُخراط"، وذلك لتخاذلهم في الدفاع عن القرية. وفي حوش دارنا، كل مساء، كانت تجتمع نساء القرية الوحيدات المكلومات بالهجرة وغيرهن ممّن كنّ يأتين طلباً للنصيحة والمشورة وبثّ همومهن. كانت أمي ساخطة على أهلها الذين أخرجوها من المدرسة ليزوجوها في عمر الـ 14، لكنها حوّلت سخطها إلى تشجيع ورعاية للعلم والقراءة ثم الكتابة. كانت تعشق الاستماع إلى البرامج الإذاعية، وتُجلّ الكتب، وتسحرها الخطوط: فكل ذهاب إلى القدس المدينة كان يعني العودة بقصة أو مجلة ممّا تيسّر على بسطة عميد بائعي الجرائد المقدسي الحاج عمير دعنا رحمه الله. وما إن صرت قادراً على فكّ الخط والكتابة حتى أصبحت كاتب رسائل الأمهات إلى الأبناء والأزواج في المهجر. هكذا، ومن دون قرار واعٍ، صرت أرى أن مهمتي هي وقف نزيف القرية إلى أميركا، وكانت مهمة قاسية، وكانت أكبر مني كثيراً، وكنت أبكي مع كل بيت يغلق أبوابه إلى الأبد وينطفىء مصباحه. كُره أميركا رضعته مع حليب أمي، لأن أميركا كانت تعني نهاية حياة القرية التي أحببتها وأعطتني الكثير الكثير. وكانت واحدة من أصعب صدماتي النفسية عندما عرفت أن شيخ جامع القرية قرر الهجرة إلى أميركا.

تفتّحت عيناي على الدنيا وأبنية غريبة تطلّ على القرية من جهتها الجنوبية، هي مستعمرة "راموت" (اتليليا)، وعلى علاقة مربكة مع عدو يأتينا ببلدوزر ودبابة ويعمل عنده مَن تبقّى من رجال القرية بانتظار ترتيب معاملات الهجرة. وزاد في تعقيد العلاقة حكايات القمع تحت الحكم الأردني بعد أن تحوّلت بيت حنينا إلى قرية حدودية بعد سنة 1948، وصار لزاماً على كل مَن هو في سن التجنيد التطوع مكرهاً في "الحرس الوطني". لقد كان ظلم ذوي القربى أكثر نجاحاً في تهجير القرية من مخطط الأعداء المتعثر في نيسان / أبريل 1948 بعد فشل عملية الهجوم على القدس من المحور الشمالي. وفي المدرسة الخاضعة لجهاز التعليم الاستعماري، كنا نتعلم العبرية ويأتينا رجل شرطة بلباسة العسكري يعلّمنا قوانين السير. وهنا، بدأت أتعرّف إلى معاني الكلمات التي كنت أتنصّت عليها من وراء شبّاك دارنا الغربي في الدوريات العسكرية، وما أسمعه من عبارات في معارك أمي مع غول الاستيطان، وأحمل ما أسمع وأحفظ من كلمات إلى معلمة اللغة العبرية "الست إخلاص"، أسالها عن معناها فلا تجيب إلّا مضطرة. وأذكر أن "شخصيات مهمة" كانت تزور مدرستنا بضحكات بلاستيكية وهدايا، فتتفقد ما تخطّه أناملنا الصغيرة، وتستمع إلى الدرس بعد أن يُطلَب منا أن نغني أغنية باللغة العبرية "كول دودي، كول دودي، هيني زه باه" [وهي أغنية مستوحاة من نشيد الأنشاد (2: 8) "صوت حبيبي، صوت حبيبي، هو ذا آتٍ"]!

كانت أحاديث وتناقضات وأسئلة مرهقة تطرق رأسي بلا أجوبة مقنعة، ولا تزيدها ثنائيات العدو والصديق إلّا إرباكاً، حتى قررت الذهاب إلى مغامرة لأتعرّف، عن قرب، إلى ساكني هذه الأبنية الغريبة ذات الأضلاع الثمانية. خرجت في رحلة استكشاف إلى المستعمرة كادت تكلفني حياتي بعدما جرفني الوادي الذي يفصل بين القرية ومستعمرة "راموت"، وأعادني إلى أمي أبو يوسف البدوي بعد أن انتشلني من الوادي.

بتعاليم أمي صارت الأرض مقدسة عندي قبل أن أتعرّف إلى قداستها في القرآن الكريم والأحاديث النبوية. أعشقها وأعشق التجوال فيها وحيداً مدفوعاً بنزعة العزلة منذ الصغر. أتفحّص نباتها وأراقب حيواناتها وحجراتها وأعشق رائحة التراب الذي يدفعه حيوان الخلد إلى السطح، وأحب سماع حكايات الأمكنة مفتوناً بمعاني أسمائها. وفي قرية تقع على أحد تفرّعات طريق القدس من الساحل، كانت الأرض غنية ببقايا المعارك وحكايات الجنود، معارك الأمل وخيبات الأمل بعد الهزائم، وترويدة "يا شَمِسْ لا تغيبي، تا ناخذ موشيرم وتل اللبيبِ" من تراث أغنيات نساء قريتي.

وفي غربي القرية، على الطريق القادم من البحر عبر الجبل إلى القدس، حيث "ما بيجي من الغرب ما يُسرّ القلب" بحسب الحكمة الشعبية، كان ينتصب جبل النبي صمويل، يحجز رياح الغرب ويسدّ أفق الغزاة ويصدّهم: إنه مرتقى البصر، يعلوه "جامع الولي" قبل أن ينتحل الصهيونيون السردية الصليبية بشأن قداسته، ويحولوه إلى قبر"نبي شموئيل". وعند جبل النبي صمويل الذي حملتني أمي إليه صغيراً في زياراتها، وفي رحلات صعود نسوة القرية إليه وفاءً للنذور، كنا نرى جمال المشهد وجلال الإطلالة. كان صعود الجبل برفقة أمي، ثم خلسةً وحدي وأنا صغير، معراجاً إلى سقف الدنيا والعالم. فكلما تضيق بي الدنيا، أو يحاصرني الملل، أفزع، وأصعد إليه، فينشرح صدري، وتتسع الدنيا، وأشعر بطاقة كونية روحية تنسغ في جسدي فأطير...

عشت طفولتي في مجتمع يتطيّر من الأنا، مهموماً بالجميع، ومتقمصاً دور منقذ القرية التي أُحب من الاندثار. كان ذلك قبل أن تهزمني أميركا في معركتي الشخصية عندما تيقّنت من أن الأمل بأن يعود الذين هم في الغربة إلى القرية قد مات، وذلك حين توقّف المغتربون عن إعادة موتاهم ليُدفَنوا في القرية. سحرتني حياة القرية ونفسيات أهلها وطقوسها، والعلاقة بالأموات، ومواسمها: جمعة الحلاوة؛ الحصيدة؛ النوم على البيدر؛ موسم هجرة طيور اللقالق (أبو سعد) في سهل القرية الجنوبي؛ الجمعة المشمشية؛ قدوم الغجر إلى قريتنا في بداية الدورة الزراعية لحذو البغال والخيول؛ صناعة أدوات الفلاحة وإصلاحها؛ قراءة الطالع والبخت.

انخرطت منذ الصغر في شأن القرية الجماعي والصدام مع سلطاتها وأعدائها، ووعيت مبكراً على خطر العمالة الناعم، ومحاولة "روابط القرى" اختراق القرية عبر سليل لـ "فصائل السلام". ولا أنسى واقعة منع أمي مجموعة من سكان القرية من ركوب سيارة واحد "من هذولاك" بعد أن انقطعت بنا السبل تحت المطر في طريق العودة إلى القرية.

علّمتني قريتي، بناسها ومكانها وحكاياتها، الكثير الكثير، وشكّلت شخصيتي وقابلياتي السياسية والمعرفية، ومن أحاديث الأمهات في أمسيات حوش دارنا تعلمت الانتباه إلى المتواريات. 

لكن هذا المشهد الرعوي العتيق للقدس وريفها الشمالي - الغربي بآماله وآلامه، يُعدّ امتداداً لمركز القدس الروحي. والقدس تشكّل درب آلام الفلسطينيين منذ أن سار عليه السيد المسيح عليه السلام، وقِبلة المسلمين الأولى التي التقى فيها مسرى نبيهم الكريم ومعراجه في سردية نبيلة بين الأرض والسماء، وموئل قلوب المؤمنين من أربعة رياح الأرض. كيف لفلسطيني مقدسي اليوم، يعاني أبشع سياسات الاحتلال واستهدافه البشر والشجر والحجر، أن يقرأ أثر هذا المخيال الديني في الصراع الوجودي والعقائدي مع العدو الصهيوني الذي حاول احتكار حكاية الله عن الأرض والسماء وأهلهما بعد أن حاول تأريض فكرة "صهيون" السماوية وإنزالها على الأرض وحراستها بقوة الجندي وصرامة القانون بعد أن حشد جموع يهود العالم في ارتقاء استعماري محموم "عليياه" إلى أرض"أسطورته" الدينية؟

على ذكر درب الآلام، دعني أحدّثك عن درب آلام قريتي، ببناء الجدار الاستيطاني المسمّى "جدار الفصل العنصري"، والذي تهاوت النسخة الأكثر صلابة وأسطورية منه في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023. فقد بدأت معركة جديدة دفاعاً عن القرية عدت فيها راعي أغنام، لمدة عامَين، دفاعاً عن القرية المستنزَفة بالغربة والاستيطان وفساد أولي الأمر، ووصلت المعركة إلى نهايتها ببعض الإنجازات على أرض الواقع، لكنها انتهت بقطع درب القرية التاريخي العامر منذ آلاف الأعوام إلى القدس، الدرب الذي يعبر قريتنا قادماً من اللد إلى القدس، إذ شقّ الصهيونيون شارعاً استيطانياً على أنقاضه عند نقطة قطع الطريق، وأقاموا مفترقاً كبيراً للطرق أطلقوا عليه اسم المؤرخ الصهيوني "بن تسيون". و"بن تسيون" هذا ليس إلّا والد "نتنياهو" الذي حضر لافتتاح المفترق، ورفع الستار عن حجر تذكاري يحمل اسم أبيه في سنة 2013. ومع قطع طريق القرية إلى القدس، وتوجيه حركتها شمالاً نحو رام الله الطارئة على أنقاض القدس، انقطعت سيرورة تاريخية عمرها آلاف الأعوام. فطريق قريتنا عند اتصاله بطريق القدس - نابلس كان موقعاً لسوق تاريخية تحفظها الذاكرة الجمعية لقريتنا باسم "سوق النفاق" حيث كان المسيح عليه السلام يقرّع اليهود لاستخدامهم الدين لإنفاق بضاعتهم... وهو الطريق ذاته الذي عبرته جميع الجيوش: منذ الغزو الصليبي في طريقها لتطويق القدس من الجهة الشمالية كمقدمة لاحتلالها، والحرب العالمية الأولى، والمحاولة الفاشلة في سنة 1948، وفي حرب حزيران / يونيو 1967.

كان هذا طريق قريتنا وقرى غربي القدس إلى المدينة. وفي معجم قريتي إذا ما قلت "مَدَّنَتْ" فلانة أو "مَدَّنْ" فلان يكون المقصود هو القدس حصراً من دون حاجة إلى إيضاح. هذه درب آلامنا إلى القدس، درب حجّنا إلى القدس التي صارت بعد الجدار درباً آخر لآلام تتوالد في مدينة تسميها البلاغة "مدينة السلام" وحياتها الحرب. إنه درب الآلام لعاشقي القدس والمجذوبين إلى نورها والمحرومين منها - المخاطرين بحياتهم في سبيل الوصول إليها عبر الجدران وتسلّقها، والزحف عبر عبّارات المياه التي تحت الجدران (في سنة 2010، كاد يموت اختناقاً عشرات المتسللين إلى القدس عبر طريق قريتنا القديم من تحت الجدار بعدما قام الجيش الصهيوني باستدعاء جرافة وسدّ مَنفذَي عبّارة تصريف المياه بالتراب، وهم في داخلها).

نُسجت علاقتي بالقدس بخيوط التديّن الشعبي في مكان كان كل وصول إليه تجربة روحية تبلغ أوجها بالوصول إلى مغارة قبة الصخرة. فمن جهة، توتُّر ونفور مع أهل المدينة "المدنيين" بلهجاتهم الغريبة واستعلائهم علينا ومسعاهم الدائم للتبخيس بثمن خيرات أرض قريتنا الزراعية، وخصوصاً المشمش المستكاوي. ومن جهة أُخرى، خيول الشرطة الصهيونية، الهولندية العِرق، التي تغوص حوافرها في سلال التين والمشمش. وفي الوقت ذاته، الصدمة / الدهشة من أن يكون هذا المقدس الجليل تحت الاحتلال، وهي صدمة متجددة إلى يومنا هذا كلما تراءت لي المدينة في طريقي إليها: تصيبني بالدهشة وانعدام المنطق في العالم كله. ما ترسّب في ذاتي من معرفة وإحساس بروح المكان هو أن القدس، بجميع تناقضاتها، أكبر من أن تحشرها إسرائيل في صندوق أيديولوجيتها المريضة. القدس أقرب نقطة على الأرض إلى السماء، إلى الله المتعالي الذي أحب فلسطين فأحببتُه.

في صحبة متصوفة القدس ومجاذيبها، وفي زواياها، اتسعت هذه الرحابة الإيمانية الفرِحة التي تجد نقيضها في جميع أوجه علاقة الصهيوني بالقدس بصفتها مكاناً يجب حصره، وهدمه، وقصره، ومنع الوصول إليه، ومحاربة الفرح فيه، وصبغه بسواد لباس المتدينين من اليهود المستوطنين... هذه التجربة الروحية الدنيوية كلها أوصلتني إلى الوعي الأولي بالقدس كمدينة للصراع الدائم، وشكّلت مدخلاً لقراءتي تاريخها كجغرافيا للحرب التي لا تنتهي، أو تنتهي بنهاية العالم. ولا غرابة في أن أحداث "القيامة الكبرى" في الإرث الإسلامي مسرحها القدس. إن حلّ التناقض بين الحربي والروحاني في القدس، هو ما تجده حياة معاشة، وأثراً دائماً في الشخصية التاريخية لأهلها الذين صاروا حراساً لطريق السماء، وفي الصراع اليومي، ومعنى الرباط، وصراع الإرادات، والصدام الدموي في ساحات المسجد الأقصى، والأذان والرصاص، ومجزرة الأقصى الأولى (8 تشرين الأول / أكتوبر 1990) التي بدأت بنشيد المرابطين وانتهت بأدمغتهم المتهتكة بين يديَّ، وبرصاصة في ذراعي... 

أتممتَ دراستك في "مدرسة بيت حنينا"، وبعدها "مدرسة الأمة" في بلدة الرام المجاورة، ثم اتجهت شمالاً إلى "جامعة بيرزيت" لتكمل تحصيلك الأكاديمي في الدرجتين الأولى والثانية. وبيرزيت، جامعة فتحي الشقاقي ويحيى عياش ومروان البرغوثي وعشرات آلاف الفلسطينيين من الشهداء والأسرى الذين لا يزالون برسم الشهادة والأَسر، هي أحد مراكز الحركة الوطنية الفلسطينية بأكثر من معنى. لكن "بيرزيت هي التي تفاوض إسرائيل" مثلما شاع في الأدبيات الصهيونية خلال مؤتمر مدريد في سنة 1991، وذلك لاشتمال "الوفد المفاوض" على عدد من أساتذة بيرزيت. ما الذي قدّمته جامعة بيرزيت للفلسطينيين في الأمس واليوم، وما الذي يُفترض أن تقدمه في الغد؟

بدأت مشوار التعليم الرسمي في مدرسة بيت حنينا، وكانت مدرسة تخضع لوزارة المعارف الصهيونية، وتبعد ثلاثة كيلومترات عن جذر قريتنا. وهي بناء كبير ذو معمار جميل بناه أهل قريتي في الخمسينيات، وصار اسمه "دار المعلمين الريفية" التي يأتيها الطلبة من أنحاء فلسطين كلها ومن الدول العربية. وقد شهدت احتفالاً طلابياً عروبياً كبيراً بانتصار الثورة الجزائرية في سنة 1962، وظلت هكذا حتى حرب حزيران / يونيو 1967، حين حوّلها الجيش الصهيوني إلى مقرّ موقّت لقيادته في حرب النكسة في طريقه لاحتلال القدس، ثم سلّموه إلى وزارة المعارف الصهيونية التي حولته إلى مدرسة إعدادية بمنهاج صهيوني. بقيتُ في المدرسة حتى الصف السادس قبل أن أنتقل منها بعد صدام مع الإدارة على بواباتها صباحاً في ذكرى يوم الأرض (30 آذار / مارس) حين رفعتُ العلم على ساريتها.

بعد ذلك انتقلت إلى "مدرسة الأمة" في ضاحية البريد في بلدة الرام، وهي من قلاع وأثر لجنة التعليم السرية في القدس بقيادة المناضل حسني الأشهب (1917 - 1998) التي حافظت على مواقع تعليمية محررة في القدس بعد الاحتلال. وأنهيت الدراسة الثانوية فيها في السنة الأولى من انتفاضة الحجارة في سنة 1987، ثم التحقت بـ "كلية الدعوة وأصول الدين" في المسجد الأقصى، ودرست فيها عامَين قبل أن يصل التوتر بين نزعتي الصوفية وما كنت أدرسه إلى منتهاه. فكنت أذهب في الفصل الأخير فيها إلى الكلية ولا أدخلها، بل أعتكف متأملاً تحت وطأة أزمة وجودية عنيفة، روحية وسياسية: هزيمة العراق، ومؤتمر مدريد في سنة 1991 في الذكرى الـ 500 لسقوط الأندلس... وصولاً إلى اختلال العالم في أوسلو في سنة 1993. وفي بداية هذه المرحلة، تعرّفت إلى كتابات علي شريعتي التي قادني البحث عنها إلى الطبقة الخامسة في مكتبة "الجامعة العبرية" [في القدس] التي كنت أذهب إليها ليلاً لأختلس استخدام ماكينات التصوير المتقدم فيها لتصوير مناشير الانتفاضة وأدبيات التثقيف السياسي.

من علي شريعتي وصلت إلى جامعة بيرزيت لدراسة علم الاجتماع في سنة 1996، وبتعريف مسبق لهذا العِلم على أنه عِلم الثورة، اعتمدت أجندتين في محاولة البحث عن مخرج، أو لنقل بداية لفهم انهيار العالم الذي عرفناه، والذي أفضل ما يصف واقعه آنذاك هو مقولة: "كل ما هو صلب يتحول إلى أثير." كانت الأجندة الأولى، التوسع في علم الاجتماع بهذا المعنى، لكنني لم أجد علم الاجتماع الذي كنت أبحث عنه هناك، وأذكر أنه في أحد مساقات "أساليب البحث" جاءنا سؤال عن وسيلة البحث الملائمة لدراسة السلوك الاقتصادي لكبار رجالات السلطة، فكانت إجابتي: "بالمراقبة"، وطبعاً كانت إجابتي خطأ عند المحاضر. وبعد مناقشته في السؤال، قال لي: الإجابة الصحيحة هي "المقابلة"، فقلت: "أعمل مقابلة مع ورثة روابط القرى!" والأجندة الثانية، هي ما قرّ في مخيلتي عن بيرزيت من أنها ورشة للأفكار والفكر السياسي، لكنها، في ذاك الوقت، كانت ورشة لأفكار السلطة. وأذكر أن الإدارة استدعتني لفحص محتوى كلمة الخريجين التي رشحتني الدائرة لإلقائها في حفل التخريج السنوي، وذلك لئلا يكون فيها ما يعكّر مزاج الضيوف من علية القوم الجدد!

من المؤكد أن جامعة بيرزيت قدّمت الكثير في بناء الهوية الوطنية الفلسطينية والممارسة النضالية، ومن الواجب اليوم استمرار الانخراط في المعركة الدائرة في الجامعة وحولها منذ العامَين الماضيين للحفاظ على الحيز المجتمعي الأخير المستقل نسبياً عن السلطة الحاكمة، أي الحفاظ عليه حيزاً للممارسة السياسية المعبّرة عن بعض ما تبقّى من إرادة حرّة للمجتمع الذي يعيش تحت حكم عسكري مزدوج. هذا أول طريق الإصلاح لاستعادة بيرزيت روحها والوفاء لإرثها كـ "جامعة وطنية"، و"الوطنية" هنا لا بالمعنى الشكلي للكلمة التي باتت مبتذلة، وانما بالمعنى الذي عرّفته التجربة النضالية للشعب الفلسطيني خلال مئة عام من الصراع مع الاستعمار الأنجلو - صهيوني: وطنية الثوابت والحقّ التاريخي؛ وطنية الفكر النقدي الجذري؛ وطنية السعي لبناء فلسفة تعليمية تحررية ضد الاستعمار والاستبداد المتواطىء و"التخلف الاجتماعي". 

بما أنك ذكرت الشهيد علي شريعتي، وللاستفاضة بشأن "دور" المعرفة المقاتلة، خارج أسوار المؤسسة في معظم الأحيان، فقد أنجزت رسالتك للماجستير في برنامج علم الاجتماع في جامعة بيرزيت بعنوان: "النقد والثورة: دراسة في النقد الاجتماعي عند علي شريعتي" (2006)، والتي صارت فيما بعد كتاباً (2007). كيف يمكن الإفادة من "النقد الداخلي" في أعمال الشهيد علي شريعتي التي ألهمت الثورة الإسلامية في إيران واستلهمتها؟ وكيف يمكن لمثقّفي القدس وفلسطين اليوم قراءة تنظيرات مثقف خراسان وممارساته في ثورة فلسطين المستمرة للخروج من نكبتهم المستمرة؟

لقد حملت همّ النقد ومعناه في داخلي، فلم أدخل الجامعة كي أتعلّم، وإنما دخلتها كي أفهم "لماذا" و"كيف" لهذا الغلط / اللغو التاريخي أن يحدث، لكن بعيداً عن الأجوبة المريحة. وفي مرحلة الماجستير، تعرّفت في مساق للنظرية الاجتماعية إلى مدرسة فرانكفورت النقدية، فتوسعت في قراءة إرثها بحثاً عن إجابة عن سؤال كان وما زال يؤرقني، وهو: كيف يمكن الجمع بين الالتزام السياسي والحقيقة؟ ولم أتصور أنه في مجتمع يخضع للاستعمار يمكن لعالم الاجتماع أن يكون فيه، وفي ذهني نموذج علي شريعتي، إلّا مُثوِّرا ومنوِّراً ومنقِّباً عن مصادر طاقة الثورة فيه، وفي الوقت ذاته ناقداً، بلا هوادة، لحاله و"قابليته للاستعمار" بمفهوم مالك بن نبي.

قدّم علي شريعتي، قُدّس سرّه، نموذجاً لعالِم الاجتماع ضد - الاستعماري، الملتزم سياسياً، والناقد الجذري، والملتهب بالعرفان الصوفي.... في آنٍ معاً، وفي توليفة ساحرة. عالِم الاجتماع الذي يتواصل مع المجتمع مباشرة بالكلام والاجتماع والمحاضرات، الأمر الذي أسس لنفوري من الكتابة الأكاديمية وشروطها. هذه الروافد كلها اجتمعت في بناء شريعتي للنقد الداخلي كمنهجية نقدية تجمع ما بين حبّ المجتمع كمقدمة لفهمه، وفهم شخصيته التاريخية مصدراً لبناء مقاربة نقدية حياله لا تكون طريقاً موصلاً إلى رؤية استشراقية، تغريباً "وأصالة". "النقد الداخلي" يقوم بتحويل التناقض ما بين المنظومة القِيمية للمجتمع وأخلاقه الكبرى، وما بين واقعه المعاش، إلى موقع لتفكيك الهيمنة الأيديولوجية السياسية عليه. ولنأخذ في حالتنا، مثلاً، مفهوم "التعاون مع العدو" كشرّ مطلق، وممارسة "التنسيق الأمني". 

خبرتَ الأكاديميا الفلسطينية عن قرب، وخبرتَ مثلها الأكاديميا الصهيونية، لكنك آثرت أن تدشّن نوعاً آخر من الأكاديميا التحررية: "دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي - الجامعة الشعبية" وموقع "باب الواد" للدراسات الفلسطينية والبحث المحارب. كيف نقرأ إرث المقاومة من خلال هذه الأكاديميا التحررية المشتبكة في الصراع بين حركات التحرر الوطني، والسلالات الاستعمارية البريطانية والأميركية، والسلالات التحررية من سليمان الحلبي إلى مهند الحلبي؟

كان تأسيس دائرة سليمان للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي في القدس في صيف سنة 2012، وقد بدأته بمجموعة من المحاضرات التأسيسية التي تطورت لاحقاً إلى مساقات ومحاضرات معمّقة ومركَّزة في الدراسات الاستعمارية، وتاريخ المقاومة في فلسطين، ومعرفة العدو الذي صار يُسمى "دراسات إسرائيلية"، ودراسات الحرب، ومناهج البحث. ورأيت أن تشكّل هذه المجالات نواة منهاج لما نعرفه بصفته "ثقافة وطنية" تتسق مع واقع ومتطلبات الصراع مع الاستعمار الصهيوني، وفي مواجهة تغييب الوعي الذي تمارسه المؤسسة الأكاديمية الفلسطينية واغتياله من طرف المؤسسة الأكاديمية الصهيونية. وفي هذه المحاضرات اجتمع الطلاب الباحثون عن الذات القادمون من كلا المؤسستين.

كان إرث المقاومة وتاريخها، أولاً، هو نقطة البدء لخلق التوازن النفسي واستعادة الذات الفلسطينية بصفتها فاعلاً في تاريخها، لا مجرد ضحية مفعول بها. إنها الذات التي تحولت ممارستها السياسية إلى ممارسة تمثيل لـ "ضحيّتها" في عصر الحل السلمي. ففي البدء كانت المقاومة، قبل أن نكون ضحية، والتجربة البشرية، في مجملها، هي تجربة الصراع، كما أن ما يجعل هوية وطنية هويةً كفاحية وحقيقية لا شكلانية فولكلورية، وما يجعلها وجوداً حياً لا سردية ضد استعمارية، هو قصة نضالها وقتالها، لا قصة موتها وقتلها. ومن هنا كان عملنا هو عملية إعادة الوعي بإرث المقاومة. ثانياً، كانت محاضراتنا اشتباكاً مع تيار ثقافي اجتماعي فيما بعد انتفاضة الأقصى يريد اعلان نهاية تاريخ مقاومة شعبنا.

إن قراءة إرث المقاومة هي بمثابة عودة إلى الذات في مواجهة صناعة الهوية الفلسطينية الشكلانية الفولكلورية التي كان يجري تشكيلها بالحديد والنار والدولار على مقاس مشروع تصفية القضية الفلسطينية باسمه الحركي: "عملية السلام" و"بناء الدولة". وبالتالي، كانت دراسة تاريخ المقاومة وإرثها موقعاً للبحث والوعي بشروطها الموضوعية وبُنيتها التحتية المجتمعية، وربط ذلك كله بالجغرافيا وفكّ الحصار عنها وفتحها على المقاومة العربية. فالطلاب كانوا يعرفون عن استعمار أستراليا أكثر ممّا يعرفون عن استعمار مصر أو الجزائر، ولهذا كان البحث في إرث المقاومة هو إعادة تعريف ونقض لهوية "يا وحدنا" الدرويشية. كان البحث عن الهوية الفلسطينية بصفتها تكثيفاً للهوية العربية الحية، لا بصفتها شكلاً محلياً لها، أو حالة توتّر معها في الصراع التاريخي الطويل مع أوروبا على الضفة الأُخرى من المتوسط، وسليلتَيها أميركا و"إسرائيل". إن إرث المقاومة فنّ ومدخل لمعرفة الجغرافيا والمكان بصفتهما مكاناً نقاتل من أجله، لا مسلوباً نبكي على أطلاله. 

من المقولات الرائجة للشهيد باسل الأعرج الذي وصفتَه بأنه "خنجر سليمان الحلبي" أنه "ليس عليك الثأر فقط، بل أن تحسن الثأر." اليوم، وبعد نحو سبعة عقود ونصف عقد على تأسيس "شباب الثأر"، أول تشكيلات الثورة الفلسطينية المسلحة الحديثة في بيروت، كيف يمكن قراءة فعل الثأر الثوري من خنجر ابن حلب القادم من عفرين إلى القاهرة، إلى خنجر ابن يافا القادم من رام الله إلى القدس لـ "يُحسن الثأر"؟ كيف يُحسن الثوريون الثأر لجمجمة سليمان الحلبي الشريفة التي لا تزال محتجزة في "متحف الإنسان" الاستعماري في عاصمة الظلمات - باريس، ورفات مهند الحلبي الذي دُفن جثمانه الطاهر في رام الله بعد أسبوع من الاحتجاز في ظلمات ثلاجات العدو؟

بيننا وبين الغزو الغربي - صهيوني ثأر دموي طويل، يبدأ من غرناطة ويتجدد كل يوم في القدس وأكنافها. والنهوض بواجب الثأر يتجاوز الثأر للدم المسفوح إلى الثأر التاريخي لجميع ضحايا الاستعمار الذي تخلّق نهمه الإبادي في حواري الأندلس، ثم حداثته الاستعمارية الأولى التي تلتها الثانية بتوقيع ديكارت بـ "الأنا المفكِّرة". ديكارت الذي تُعرض جمجمته موشومة بالعبقرية في محاذاة جمجمة سليمان الحلبي في "متحف الإنسان"، هو التعبير عن الحداثة ذاتها التي أنتجت "المسألة اليهودية" وحلّها صهيونياً في بلدنا، وتهجير يافا التي حلم المقاتل الشهيد الحلبي الثاني بالعودة إليها. لا ثأر بلا ذاكرة، وأول الثأر اغتيال النسيان. ولهذا، فإن أكثر مقولة في تراثنا يستدعيها حديث الثأر هي قصة "البدوي [الذي] أخذ ثأره بعد أربعين عاماً وقال استعجلت." ثأرنا من الاستعمار هو ثأر حضاري لإنسانيات ولحداثات وحيوات مقتولة شُيّدت على جماجمها حداثة قاتلة للإنسان بما هو إنسان. 

فلسطين: النكبة والمقاومة 

بين مفهوم "النكبة المستمرة" الذي سكّه اللبناني إلياس خوري، وهو عنوان كتابه الأخير، ومفهوم "المقاومة جدوى مستمرة" الذي سكّه الفلسطيني الشهيد باسل الأعرج، تقع فلسطين. كيف نجسِّر اليوم بين المفهومين لنقرأ القضية الفلسطينية ومسيرة حركة التحرر الوطني الفلسطيني في نضالها ضد حركة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ودولتها "إسرائيل"؟

لم تكن النكبة في وقائعها الميدانية نكبة خالصة، فقد تضمنت وقائعها مقاومة وقتالاً حتى الطلقة الأخيرة، وهي ذات "جدوى مستمرة" إلى يومنا هذا. لكن أخطر ما في الهوية المشتقة من النكبة هو استدخال الضحية الباكية. واستمرارية النكبة لا يمكن الوعي بحقيقتها من دون مساءلة عجز الفلسطيني / العربي عن دوره في إدامتها كمقدمة لإنتاج مقاومة ذات جدوى تنفيها وتنهيها. إذاً، تحيلنا النكبة المستمرة إلى نقد الشروط الذاتية التي مكّنت حدوثها واستمراريتها، كما أن النكبة لم تكن بهذه الوطأة التي نحياها الآن، عندما كان الفلسطيني يُحيي ذكراها بعملية عابرة للحدود. وفي 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، لم تبدُ النكبة مستمرة، بل حدثاً تاريخياً طارئاً عندما مارس لاجئو قرى قضاء غزة العودة الفعلية إلى ديارهم، وإنما نتج من العبور تكاثر لمخيمات المستوطنين "المُهجّرين" من قرانا المهجّرة. وكي تبلغ المفارقة مداها الأقصى رفع المستوطنون لافتات كُتب عليها: "حتماً سنعود إلى غلاف غزة ونزرع الحقول حنطة من جديد"! وعلى أي حال، يبقى التحدي المرتبط بمفهوم "النكبة المستمرة"، بصفتها تنويعاً على المقولة الأساسية في دراسات الاستعمار الاستيطاني، وفحواها أن "الاستعمار الاستيطاني بُنية لا حَدَثٌ"، يتمثل في الإفلات السياسي من نتيجة هذه المقدمة بأن الاستعمار الاستيطاني وُجد ليبقى. فالنكبة المستمرة ليست فعلاً تنتج منه ردة فعل نسميها مقاومة، ذلك بأن ما نطلق عليه سياسات نكبوية أيضاً هو ردة فعل على فعل المقاومة لقمعه. 

بعد عقدين على نكبة سنة 1948، أطلقت منظمة التحرير الفلسطينية "الميثاق الوطني الفلسطيني لسنة 1968"، والذي عرّفت بنوده "الهوية الفلسطينية" و"القضية الفلسطينية"، أرضاً وناساً وحكاية، كما أفادت مواده بعدم شرعية "إسرائيل" وجميع القرارات الدولية التي قالت بتلك الشرعية. ونصّت المادة التاسعة فيه على أن: "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً. ويؤكد الشعب العربي الفلسطيني تصميمه المطلق وعزمه الثابت على متابعة الكفاح المسلح والسير قدماً نحو الثورة الشعبية المسلحة لتحرير وطنه والعودة إليه، وعن حقّه في الحياة الطبيعية فيه، وممارسة حق تقرير مصيره فيه والسيادة عليه." غير أن فرحة الفلسطينيين بهذا الميثاق لم تدم طويلاً، إذ بدأت المنظمة بالتراجع عنه بالتدريج منذ "برنامج النقاط العشرة"، أو مشروع "السلطة الوطنية" وخطاب "البندقية وغصن الزيتون" في سنة 1974، مروراً بـ "إعلان الاستقلال" في سنة 1988، وانتهاء بـ "تعديل الميثاق" في سنة 1996 إلى حدّ إلغائه حين صارت منظمة التحرير الفلسطينية هي السلطة الفلسطينية التي استقالت من مهمة التحرير. ما هو تشخيصك لهذا الانهيار؟

هذا الانهيار هو انهيار شريحة ونخبة استنفدت دورها وطاقتها، وبدلاً من أن تتنحى جانباً صارت تبحث عن دور ووجود شكلي تمثيلي، ولو بثمن "التعاون مع العدو". لقد سكرت النخبة بسلطة الثورة وامتيازاتها وأدمنتها، فباعت نفسها للشيطان. وما يقلق الباحث في هذا الانهيار هو قدرة القيادة على تمريره وشرعنته بهذه السلاسة كلها، وهو الدرس الأهم لهذا الانهيار. إن فهمنا للأصول الاجتماعية والثقافية لهذا الانهيار هو ما يحدد فهمنا لمعنى أزمة المشروع الوطني والخروج من هذه الأزمة. لقد كان انهياراً حتمياً لنخبة سياسية لم تقرأ المشروع الصهيوني على حقيقته بصفته مشروعاً إمبريالياً، وانهياراً لنمط قيادي سلطوي متخلف هرِم حوّل إدارة الشأن النضالي إلى فهلوة سياسية وفنّ للاستزلام. ومع ذلك كله، كان موتاً تبعته ولادة وبعث جديد للحركة الوطنية بنسختها الإسلامية المقاتلة، فطاقة شعبنا النضالية أكبر من أن تستنفدها النخب السياسية. 

دعنا نركّز على لحظة سنة 1974 الكارثية، والتي يمكن القول إنها كانت اللحظة الصفرية لاتفاق أوسلو في سنة 1993. ففي كتابه "القضية الفلسطينية" شخّص إدوارد سعيد أن تلك اللحظة تشكّل بداية تحوّل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني نقيضة لحركة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية إلى واحدة من نسخها الرديئة. بمعنى أن المشروع الميثاقي لمنظمة التحرير الفلسطينية الرافض للاعتراف بـ "إسرائيل"، والساعي لاجتثاثها ككيان استعماري في فلسطين، ولتحرير فلسطين ومَن فيها من الفلسطينيين (المسلمين والمسيحيين، و"اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني" مثلما تنص المادة السادسة من الميثاق)، تحوّل إلى مشروع حصري منحه العرب والعالم صفة "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، بينما منح الكيان الاستعماري "إسرائيل" حقّ الوجود وحقّ تمثيل "يهود العالم". هل كان سعيد محقّاً في تشخيصه؟

لم تنجُ حركات التحرر الوطني في البلاد المستعمرة من لعنة استنساخ الفكر الاستعماري بصورة أو بأُخرى، لكن مصيبتنا أنها تحولت إلى نسخة رديئة قبل أن تنجز حتى الاستقلال الوطني مثلما هي حال سائر القوميات "ما بعد الاستعمار". ولعل ذلك يعود إلى علاقة منظمة التحرير العضوية بالأنظمة العربية سياسياً وفكرياً. ولهذا، لم تكن قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطينية قادرة على الوعي بطبيعة المشروع الصهيوني: كتحدٍّ حضاري، ورأس حربة المشروع الاستعماري التفسيخي في المنطقة العربية، ومعول تفكيك نسيجها الحضاري والاجتماعي، واغتيال تجربتها في استيعاب التعدد الهوياتي، وكونها الموجة الأخيرة من الصراع التاريخي الطويل في المنطقة منذ "الحروب الصليبية"... وهذا كله يظهر جلياً في الفقر الفكري لحركة التحرر الوطني، وضعف وعيها الحضاري بمركزية القضية الفلسطينية في مشروع الاستقلال والنهوض العربي الكبير. 

من وجهة نظرنا، وعلى الرغم من دقّة تشخيصه، فإن إدوارد سعيد واصل انخراطه في مشروع منظمة التحرير الفلسطينية الهازم لذاته منذ تلك اللحظة، لكنه استقال من عضوية المجلس الوطني مع إعلان اتفاق أوسلو في سنة 1993، ووصفها بأنها "فرساي فلسطينية". غير أن أوسلو لم تكن وثيقة استسلام فحسب، بل أسست لسلطة تتلبّس أيضاً ما يُعرَف بـ "الوكيل الاستعماري" الذي أخذ على عاتقه إعلان الانتقال إلى "فلسطين الجديدة"، ثقافياً وجغرافياً وديموغرافياً، والانتقال من "مرحلة النضال" إلى "مرحلة الاستقلال" فيما تبقّى من فلسطين التي صارت بحسب تعبيرك الدقيق "مستعمرة ما بعد استعمارية." وفي وجه "الجدار الحديدي" الصهيوني، وسياسات "الجدار الطيب" التي حاول الاحتلال استنساخها من الجنوب اللبناني برعاية دولية في "مناطق السلطة الفلسطينية"، تشكَّل "جدار حريري" حوّل المظلومية الفلسطينية إلى مظلومية خدمات تنجزها المساعدات الدولية من طرف "USAID" وأخواتها. هل كانت أوسلو هي محض "فرساي فلسطينية"، أم تجاوزت ذلك الوصف إلى ما هو أسوأ؟

لا أدري إذا كان لأوسلو سوابق بالفداحة ذاتها على قضية شعب ومستقبله، والأسوأ من ذلك كله أنه بقي جريمة من دون عقاب. وربما ما يجمع فرساي بأوسلو هو رغبة المنتصر في تدمير الخصم وإذلاله على شكل معاهدة. غير أن أوسلو أتت مخرجاً للعدو من مأزق الانتفاضة الأولى، ولم تكن فرضاً لإرادة منتصر على شعب مهزوم. فبعد ثلاثين عاماً من فرساي، عادت ألمانيا لتغزو أوروبا المنتصرة، بينما في فلسطين، بعد ثلاثين عاماً، تحولت أوسلو إلى نمط حياة وهزيمة تقاتل نخبتُها لفرضها على المجتمع وتأبيده وضرب كل محاولة للخلاص منها والنهوض من كبوتها. وعلى أي حال، أعتقد أننا اليوم في مرحلة تجاوزت مرحلة التوصيف والوعي بكارثية أوسلو التي أصبحت حالة وجزءاً من المنظومة الاستعمارية التي علينا التعامل معها كشرط موضوعي في المقاومة لا عائقاً أمامها، بمعنى الكدح في سبيل مواجهة نخبتها وبُنيتها. 

في 5 تموز / يوليو 2021 اعتقلتك أجهزة الأمن الفلسطينية على دوّار المنارة في رام الله خلال وقفة احتجاجية على تغييب الشهيد نزار بنات على يد أجهزة الأمن نفسها. كانوا مقنّعين يلبسون الخوذ العسكرية، وكان وجهك سافراً ورأسك عالياً من دون خوذة. كان نزار بنات يحلم بأن يكون "الرئيس المنتخب لبلدية عَجُّور" بعد العودة إلى فلسطين 1948... لكن حلمه لم يكتمل لأن "الثورة أكلت أبناءها". كيف يمكن للمناضل أن يناضل حين تأكل الثورة أبناءها؟ كيف يمكن أن تشرح حلم نزار بنات لمَن غيّبوه؟ كيف يمكن أن تشرح شعر أمل دنقل لأبناء الوطن الذين لم يقرأوا قوله: "كيف تخطو على جثة ابن أبيك، وكيف تصير المليك على أوجه البهجة المستعارة؟" أي مسؤولية وطنية يمكن للمناضل أن يتحلى بها في مواجهة أبناء شعبه الذين منحوا المناضلين تقاعداً مبكّراً؟

في اعتقادي، هذه الثورة الفلسطينية وقد صارت "سلطة وطنية"، لا ينطبق عليها توصيف "أكل الثورة لأبنائها"، لأن الثورات عادة ما تفترس أبناءها بعد تحقيق أهدافها. لم تعد "الثورة الفلسطينية" ثورة، ولم تؤسس حتى لسلطة ثورية مستبدة، وإنما انسلخت تماماً من جلدها، وصار يتصدر مشهدها أناس لا نعرف لهم تاريخاً، نبتوا في حقولنا كالفطر. كان نزار، رحمه الله، ظاهرة لوحده، وكان من أنبل مظاهر الثورة الفلسطينية. كان مثقفاً ثورياً حقيقياً. كان جذرياً... على خطى الشهيد - المقتول ناجي العلي، سليط اللسان على واقع متسلط يريد ألسنة لا تلهج إلّا بالنفاق. ما بين عجُّور الحلم وحلم نزار الفقير بأن يصير رئيساً لبلدية ترعى شؤون الفقراء والزراعة وأصحاب الحِرف، لم يكن الاحتلال هو العائق، فالاحتلال زائل لا محالة، وإنما العائق هو سلطة اغتيال الأحلام والآمال.

في مرحلة النهوض المجيد لمقاومة شعبنا، باشتعال محور غزة - جنين، واتساقاً مع درس أمل ونزار، فإن مسؤولية الجميع هي الانخراط في المعركة كلٌّ من موقعه، والعمل على استكمال عملية ترميم وبناء الوعي والهوية التحررية النقيضة للاحتلال و"وكيله الوطني"، وهذا كله بجذرية شجاعة تسمّي الأشياء بمسمياتها. 

"إسرائيل": الصورة والأسطورة 

"إسرائيل" هي "دولة نغولية"، مثلما وصفها الأسير القائد إبراهيم حامد، بمعنى أنها شكّلت نقطة التقاء فريدة بين المشروع الاستعماري الاستشراقي الغربي والمشروع الاستعماري الاستشراقي الصهيوني. غير أن الحركة الصهيونية ودولتها "إسرائيل" نجحتا على ما يبدو في الجمع بين مستحيلين: التاريخ الغربي الفعلي، والذاكرة المشرقية فوق - التاريخية المصطنعة. كيف تقرأ معالم هذا "التناقض الناجح" في ظل تشخيصات تفيد بأن "مأساة الصهيونية تكمن في عدم اعترافها بنجاحها"، أي في استمرارها في القيام بدورها الوظيفي كحاملة طائرات استعمارية غربية على الساحل الفلسطيني في المشرق العربي؟

لا يمكن الفصل بين الصهيونية ونشوء الإمبريالية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر، ففي السياق الإمبريالي الأوروبي المستجد بقضاياه الثلاثة (العلمنة والعِرق والمواطنة)، أُنتجت "المسألة اليهودية" وإمكان حلّها وصولاً إلى الاقتراح الصهيوني لهذا الحل. ومهما يَبْدُ "الوجود الصهيوني" متناقضاً بين الهوية والوظيفة، إلّا إن الوظيفة الإمبريالية لـ "إسرائيل" في المنطقة العربية هي العامل الحاسم في هذا الوجود. ونحن اليوم (ما بعد طوفان السابع من تشرين الأول / أكتوبر) نشهد عياناً كيف يتدخل المركز الإمبريالي (أميركا) بشكل فظّ في كبح جماح "الهوية المشرقية المصطنعة"، أي الصهيونية الدينية في "إسرائيل" المستعمَرة كونها تشكّل عائقاً أمام دورها الإمبريالي في المنطقة في ظل التطبيع العربي وديمومة "الوكيل الوطني" في الضفة تحت مظلة الوعد الإمبريالي بحل الدولتين. 

في مسعاكم لـ "معرفة العدو عن قرب"، والذي يتضمن بالضرورة معرفة هوية الذات الفلسطينية، أرضاً وناساً وحكاية، وأخذاً بعين الاعتبار تصوركم الوارد في مقاربة إجابة سؤال سابق، أخذتم على عاتقكم دراسة الجغرافيا التاريخية العسكرية لفلسطين، وخصوصاً القدس وديار بئر السبع، ضمن نتاجكم الذي يتوسل "البحث المحارب". كيف يمكن لهذا التوجه المنهجي أن يعيد الناس اليوم إلى إعادة "اكتشاف فلسطين" من خلال بقايا رصاص الغزاة وقذائفهم على امتداد تكالبهم الاستعماري على فلسطين منذ الحرب العالمية الأولى حتى اللحظة؟ حدّثنا عن جولاتك الفردية في أرض فلسطين، في جبالها وسهولها ووديانها، بين ذئاب البلاد وأزهارها وكائناتها، وما يتلوها من مسارات وجولات جماعية.

منذ صغري تعوّدت على تفحّص الأرض مجهرياً، "بالشِّبْر"، بعد أن علمتني أمي بأن من طبائع الأرض أنها "بْتِفْرِقْ بالشِّبْر". وكانت الأرض مهربي من حالة الضيق ما بعد أوسلو، واستمراراً لسجيّة البحث في ملكوت الله عن إشارات إلهية في أرضه المحبوبة المقدسة. وشيئاً فشيئاً، صرت أرى معمار الحرب وبقايا القتال في كل مكان وكجزء من المشهد الطبيعي، ولم يعد المعدن والخندق عندي وجودَين غير طبيعيَّين، أو طارئَين على الطبيعة.

في البداية كنت أبحث عن فلسطين الأولى، البرّية، قبل أن يلوّثها البشر بمَن فيهم نحن بسلامنا المدنّس، فجمعتُ تاريخها الطبيعي، ودرست سجل المستحاثات والأحافير، وركضت وراء ذئاب البلد بأثر شِعر الصعاليك بحثاً عن مدخل جديد لمعنى الانتماء إلى فلسطين هذه المرة من علاقة الحيوان بالأرض. وكانت المفارقة أني وجدت بعضاً من الذئاب العربية وقد شاخ وأصبح يعيش على الجيف التي يقدّمها له الاستعمار في مراكز محددة لإطعام الذئاب، وبعضها الآخر لا يشبع إلّا بافتراس لحم الاستعمار وقد طوّر وعياً وعِلماً لاختراق الأسيجة والعوائق للوصول إلى اللحم الطازج الشهي النافر بالدم.

أمّا الرصاص وبقايا القذائف وغيرها من آثار الحرب، فدلّتني على علم آثار المعارك بديلاً من علم الآثار الاستعماري وعلم آثارنا في الرد عليه. ببساطة، قيمة هذه الأرض وقيمة الانتماء إليها إنما تُدرَكان من هذا الرصاص المنثور في ربوعها كلها غزواً ودفاعاً عنها. وقد أربكني، وسحرني، بصورة خاصة، تشخيص بقايا المعارك من الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا في أمكنة محددة. وبالرجوع إلى الجغرافيا التاريخية للحروب الصليبية، وصولاً إلى المعارك الثلاث الكبرى في تاريخ المنطقة العربية والعالم (أجنادين؛ عين جالوت؛ حِطّين)، صارت هذه الأمكنة من أمكنتي الروحية وأمكنة الذاكرة الوطنية والهوية بنسختها الخاصة عندي. فأنا أتجول فيها مرات ومرات، وهي تحدّثني بأخبارها، ولم أعد يوماً منها من دون علامة أو أثر أو شذرة وعي، وأقوم بتنظيم جولات فيها تعيد اكتشاف فلسطين، وتعيد بناء الهوية الكفاحية نقيضاً للهوية الفولكلورية الشكلية. من هذه الجولات، على سبيل المثال، بزغ تاريخ آخر للنكبة والحرب العالمية الأولى مسكوت عنه ومغيَّب في السردية الوطنية لبلدنا. فتاريخ حروبنا خلال مئة عام لم يكن تهجيراً ومجزرة ومؤامرة وهزيمة فقط، بل كان، بالقدر ذاته، قتالاً ومقاومة وانتصاراً أيضاً. 

من الواضح تركيزكم على جنوب فلسطين الذي يُعتبر منطقة عَمَى في البحث التاريخي و"الأنثروبولوجي" الجاد فلسطينياً، في ظل وفرة من الكتابات الصهيونية والمتصهينة. وفي ظل هذا الواقع، يبدو أن النظام الاستعماري الصهيوني نجح جزئياً في طمس المشهد الفلسطيني الأصلاني، بما فيه المواقع النبطية والفرعونية في جنوب فلسطين المحتلة (غزة - بئر السبع - النقب)، وخصوصاً "مدن البخور"، وتلك المدرجة في "قائمة التراث العالمي" منذ سنة 2005. وكان ذلك عبر آليات: السياحة الاستشراقية، والطمس الذاكراتي، وعسكرة المشهد وأَمْنَنَته. عملت "إسرائيل" ولا تزال في جنوب فلسطين بصورة خاصة على تفعيل ديناميات الأصلنة (سرقة الموروث)، والعسكرة (فرجوية الجيش)، والأَمْنَنَة (توزيع السجون). حدّثنا عن ذلك.

بدأت علاقتي بصحراء "فلسطين الجنوبية" أو "ديار بئر السبع" أو "ديار النقب"، وكلها مسمّيات نقولها على وجل لئلا ننطق بلسان الاستعمار في تسمية المكان، من زياراتي وأنا صغير لقريب لنا في سجن بئر السبع في بداية الثمانينيات. بعد ذلك انقطعت هذه العلاقة لفترة طويلة، ثم عدت إليها من التاريخ العسكري للحرب العظمى مدفوعاً بفضول معرفيّ في إثر بدء المشروع الكبير في نقل معسكرات وقواعد الجيش الصهيوني كلها إلى النقب في سنة 2011. وقد أوصلتني دروب الحرب إلى عوجا الحفير على الحدود مع سيناء المصرية لتبدأ من هناك رحلة معرفية روحية طويلة امتدت إلى يومنا هذا منذ أكثر من عشرة أعوام، حتى صار الجنوب لي بيتاً لا أطيق عنه بُعداً ولا فراقاً.

توصيفك "منطقة عَمَى" يقول الكثير، فنحن نتحدث عن مساحة جغرافية تعادل أكثر بقليل نصف مساحة فلسطين التي نعرفها بتعريف "سايكس بيكو"، والمتجوّل فيها لا يلبث أن يكتشف غنى حضارياً وعناصر هوية وتكثيفاً استعمارياً وإرثاً زراعياً مذهلاً. ففيها عثر عالم الاثار الصهيوني "أبراهام نيجف" (الذي انتحل النقب اسماً له "نيجف") أقدم نص شعري عربي منقوش مكتشف على جرف مشرف على عين المريفق (عين عبدات) خصّه الراحل الجميل زكريا محمد بدراسة مهمة، وهو على مرمى حجر من قبر بن - غوريون، والذي حجّ إليه العرب في قمة النقب في آذار / مارس 2022. ثمة عشرات الآلاف غيره من النقوش والوسوم، وآثار زراعية مبهرة ساحرة من "وادي الزياتين" إلى "تليلات العنب" إلى "الأحباس" و"المصاطب" و"الحظار" و"الثمائل"... والمساجد المفتوحة على السماء، والمعابد التي تجتمع فيها أصنام الجاهلية، والمحراب. وثمة جغرافيا تاريخية عسكرية غنية بشواهد المقاومة مُسحت من الذاكرة في عملية هندسة الذاكرة البدوية، وإرث حضاري غني لأهل البلد حوّله مستشرق النقب الأول الضابط والمستشار لشؤون العرب في وزارة الحرب "كلينتون بيلي" إلى اختصاص بحثي وسلطة معرفية للإرث البدوي في سيناء المصرية والفلسطينية. والعرب يترجمون كتبه من دون مقدمات تدل على السياق الاستعماري لبحثه ودوره في المعركة.

في ليالي الجنوب الطويلة، باحثاً عن نجم سهيل، ثمة سماء تحتشد فيها نجوم العرب كلها... هناك، تولدت لديّ القناعة بأن خريطة فلسطين ووعينا الجيوسياسي بتحرير فلسطين مقلوبان في ذهننا، فمن الجنوب يأتي الخير من جهة نجم سهيل، الجنوب الممتد الفسيح والمفتوح، حيث سلطات الدول القومية ما بعد الاستعمارية هشة أو قل سراب. 

في السياق ذاته، عمل النظام الاستعماري الصهيوني، وخصوصاً في الفضاءات العامة المشهدية والإعلامية والثقافية، على صهينة فلسطين وترجمتها إلى "إسرائيل"، سواء بعبرنة المسمّيات الجغرافية و"تبنّي" مكونات المشهد الحيوية والنباتية، أو بمَتْحَفَة الأصلاني الفلسطيني (مركز جو ألون للتراث البدوي "متحف معترف به"، ومدرسة نجوم الصحراء "الملحقة به" في النقب نموذجاً)، أو بتثبيت مقولة "التنقيب عن الآثار كرياضة أولى في إسرائيل"، أو باستنفار المخيال الأسطوري وترميم "مواقعه" وتصعيد سياحتها التنزهية في جغرافيا المخيال الصهيوني على أنقاض فلسطين، في مسّادا "خربة سبَّة"، و"قبر شمشون" في صرعة، وغيرها الكثير الكثير. كيف تنظر إلى هذه الآليات الصهيونية في محاولة طمس فلسطين بـ "إسرائيل" ومَتْحَفَة "انتصاراتها" العسكرية؟

إن فرط الاصطناع والمَتْحَفَة وحمّى رسم المسارات والإشارات وكثافة السرد الأيديولوجي لكل شيء، أمور تنقلب إلى ضدها. فأنت تنظر إلى هذا كله وتبحث دائماً عمّا تحته وما يخفيه، بل إن جميع هذا التكثيف يقتل الفكرة الاستعمارية عن النقب بصفته مكانا روحياً تأملياً ومسرحاً لمتعة الاكتشاف. لهذا صارت سياحتهم التنزهية تُسوِّق لجديدها بكونه ذهاباً إلى مكان بكر.

أمّا المتحفة العسكرية، فقد حوّل المشروع الصهيوني لتحقيقها فلسطين كلها إلى أكبر متحف عسكري في العالم، وطوّر عِلماً وممارسة تربوية وتجوالية سمّاها "إرث المعارك" (موريشت كراف). وإذا كانت تلك الممارسة ذات نزعة "قومية" جماعية، فإنها لم تلبث أن تحوّلت إلى ميدان للصراع ما بين نسختَي الإرهاب الصهيوني اليساري المقاتل والتنقيحيين، وصارت الإشارات ونصب التذكار والتخليد هي ميدان آخر للمعركة (مَتْحَفَة "باب الجديد" في سور القدس على سبيل المثال).

إن زحمة الأحداث التي يتم تأهيلها لتكون أحداثاً تاريخية، تفضح مسعى تعبئة الزمن الفلسطيني العربي الممتد بالزمن الصهيوني الطارىء. ومع تطوّر المجتمع الصهيوني رأسمالياً، وتحوّل منطق حروبه إلى ما بعد البطولة، دخلت هذه الممارسات المكانية الاستعمارية في تناقض ما بين الأيديولوجيا والحياة. خذ مثلاً النقاشات التي رافقت توسيع وإعادة تأهيل طريق القدس – يافا (تل أبيب)، وما يقوله الجيل القديم من أن الطريق الجديد ومدّ سكة الحديد الكهربائية السريعة قتلت تجربة "الصعود" إلى القدس الروحية، لا بل إن أبرز معالم هذا الطريق عسكرياً، وهو قلعة القسطل وسارية العلم فوقها، أصبح يتوارى خلف مركز تسوق عصري كبير لريادي الأعمال رامي ليفي! 

لإتقان "معرفة العدو عن قرب"، لا بد من إتقان لغته، و"لغته" السائدة في كيانه اليوم هي العبرية. وربما يجب أن نضع كلمة "لغته" بين قوسين، لأن العبرية ليست لغته حتى، وإنما هي لغة "أسطورته" التي سرقها من مقتنيات الوجود الفلسطيني التاريخي في فلسطين، ذلك بأنه سرق الأسطورة وصَهْيَنَها مثلما صَهْيَنَ لغتها المشرقية. وثمة مقولة تُنسب إلى الجزائري كاتب ياسين، بأن "اللغة هي غنيمة حرب"، ونحن في حربنا الطويلة مع العدو صارت العبرية واحدة من أدوات الحرب وضروراته في أيدينا نحن الفلسطينيين وفي يد أعدائنا الصهيونيين. كيف يمكننا اليوم العمل على تخليص المكوّن اليهودي في الثقافة الفلسطينية من براثن الصهيونية على مستويات: الصهيونية الاستشراقية، وسرقة خطاب الأصلاني الفلسطيني، ونقض ما يُعرف بـ "الصهيونية الكنعانية" مع أنها تيار غير سائد في السلالة الاستعمارية المتشعبة لاسم العائلة الأكبر: "الصهيونية الهيرتسلية" أو "صهيونية الروّاد"؟

أعتقد أن هذه مسألة "تحتاج تسويتها إلى حرب" بتعبير غسان كنفاني في "عائد إلى حيفا". فهزيمة "إسرائيل" عسكرياً، والتي تطلق عملية تفكّكها كمستعمرة أوروبية على أرضنا، ستحلّ عُقَد الهويات الاستعمارية بمختلف مسمّياتها وإشكالياتها. فهذه الهويات، في التحليل الأخير، هي انتماءات إلى أيديولوجيات نمت في الدفيئة الاستعمارية، ولم تكن الصهيونية زرعاً غريباً بالكلية عن يهود فلسطين، وإنما نمت محلياً عند بعضهم. وربما المدخل الثقافي الآني، يتمثل في نقد مكونات الثقافة / الهوية الفلسطينية كلها لتخليصها من براثن الصهيونية، وليس المكوّن اليهودي فقط. والمطلوب نضالياً من الصوت اليهودي الفلسطيني العربي الشرقي تجاوز خطاب التمييز العنصري والمطالبة بعدالة توزيع الريع الاستيطاني إلى ممارسة سياسية أكثر جذرية تجعله شريكاً حقيقياً في معركة التحرير. 

قبل الانتقال إلى المحور الأخير من هذه الحوارية. هناك سؤال عن ثلاث سمات كبرى تكرّست في وصف "إسرائيل"، وهي أنها: "يهودية"، و"مُعَسْكَرة"، و"انتحارية". ويبدو أن ترتيب هذه السمات تراكمي أيضاً، إذ ساهم المخيال الديني الأسطوري وحصريته العنصرية، وبالتأكيد الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني، كما ساهمت نزعة أيقنة "اليهود" كضحية أبدية، وعسكرة "المجتمع الإسرائيلي" والثقافة والأكاديميا والإعلام والمشهد الطبيعي، والنزعة الانتحارية، في ارتكاب المجازر خلال الممارسات الحربية وتسميات العمليات والأسلحة في الجنون الدموي الذي تمارسه "إسرائيل" اليوم في غزة وعموم فلسطين.... وهذه الترسانة المخيالية تتضمن: مسّادا، وباركوخبا، والحشمونئيم، و"القبة [القبعة] الحديدية"، و"خيار شمشون" و"السيوف الحديدية"، وجميع المجازات الدموية التي تشكّل ثوابت "العقيدة القتالية" لجيش الاحتلال من مقلاع داود المطاطي القديم حتى "مقلاع داود" الحديدي. ومثلما يبدو فإن هذا كله يعزز مقولة بن - غوريون الشهيرة بأن "وجود إسرائيل أهم من صورتها" في حروبها الدموية التي جعلت من مفهوم "طهارة السلاح" نكتة بالغة الوقاحة. كيف يمكن لكيان يستند إلى هذه الترسانة الانتحارية كلها أن يحلم بالحياة؟

حقيقة كلما مررت بمقابرهم العسكرية المنظّمة صفوفاً صفوفاً، ومن دون عناء كثير في التحليل الأيديولوجي، أتيقّن بعدمية المشروع الصهيوني، بل ربما أكبر ما منحته الصهيونية لـ "اليهود" هو معنى الموت، لا أمل الحياة. فـ "إسرائيل" وُلدت في بلدنا موشومة بقلق وجودي أو على شفا هاوية، وهي كانت وما زالت مغامرة تاريخية، لكنها مغامرة دموية مكلفة ندفع من بيننا أنبل مَن فينا لمواجهة أحقر البشر. وكي تتجسد هذه المغامرة ذات المنشأ الإمبريالي أساساً، قامت الصهيونية بإدراج قلقها الوجودي ضمن تاريخ متخيل لليهودية في العالم كان فيه وجود اليهود برسم الإبادة والمذبحة وعلى شفا الانقراض. ولهذا، تبدّت الصهيونية خياراً وهمياً للنجاة بتحوّل اليهودي المطارَد الذبيح إلى "اليهودي الجديد" القاتل على أرض فلسطين، المنتقم من أوروبا بقتل الفلسطيني والعربي. ولأن اليهودي المذبوح بصفته الضحية الأبدية صار "اليهودي الذابح"، كان لا بد من تطوير ثقافة أخلاقية للقتل تلائم هذه النقلة، وتخفف من حدة التناقض، فنشأت المقولة الأساسية بين مستوطني ما قبل مرحلة "الدولة": "اُقتل، ثم ابكِ"، ثم مقولة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم": "اُقتل، ولا تبكِ"! 

غزة: الحصار والعبور 

لقد جاء "العبور الفلسطيني" الكبير من غزة المحاصرة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 بعنوان "طوفان الأقصى"، الذي تلا "سيف القدس" في سنة 2021، كمحاولة كبرى لكسر حصار غزة، لكنه جاء أيضاً رداً مدوياً على التطبيع الرسمي العربي، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقطع الطريق على استكمال عملية التطبيع الكبرى في "اتفاقيات أبراهام" مع السعودية. ومَن يتأمل في خطاب أبو خالد "محمد الضيف" الذي أعلن فيه بدء "الطوفان"، يتحقق من أن "الحرب تندلع من القدس" فعلاً. فبعد مآسي النكبة المستمرة وسلسلة المجازر التاريخية، وردّ عدوان العدو على القدس كسبب تفجيري لـ "طوفان الأقصى"، ومن قبله "سيف القدس"، ثم تلته قضايا الأسرى، وحصار غزة، والتغوّل على الضفة الغربية، ومواصلة قهر فلسطين 1948 وأهلها، كيف نقرأ مركزية القدس في خطاب الطوفان؟

القدس عبر الصراع الطويل مع الاستعمار الأنجلو - صهيوني كانت قِبلة للنضال ومحفزاً للصراع بأبعاده العقائدية والوطنية. وخلال الأعوام العشرة الماضية تحديداً، كانت حالة الاشتباك اليومية حول المسجد الأقصى والقدس رافعة تعبوية للنهوض المقاوم في الضفة وفلسطين 1948. وفي الوقت ذاته كانت عملية التطبيع العربي ورديفه التنسيق الأمني الفلسطيني قد أوصلا المحتل الصهيوني إلى قناعة بوجود فرصة تاريخية لحسم معركة القدس التاريخية بضرب قلبها المتمثل في المسجد الأقصى، وإنجاز وعد التهويد بالتقسيم.

ومع النهوض المقاوم في الضفة، وتبلور استراتيجيا "وحدة الساحات" بصفتها الرد الثوري الحقيقي على استراتيجيا الاستفراد الصهيوني بالقدس والضفة وغزة وفلسطين 1948، وعلى مقولة الانقسام التي حوّلتها سلطة رام الله إلى ذريعة لارتكاب جميع الكبائر الوطنية والأخلاقية، كان من الواضح في الوقت ذاته، أن معركة القدس والأقصى المشتعلة أعادت الحيوية الشعبية إلى القضية الفلسطينية عربياً وإسلامياً بعد مرحلة موات وحصار، وخصوصاً بعد انتصار الثورات المضادة في بلاد العرب. وبالنظر إلى كل ما سبق، كان من الطبيعي أن تكون القدس في قلب معركة الطوفان التاريخية الكبرى غير المسبوقة في تاريخ النضال الفلسطيني. 

منذ اللحظة الأولى في العبور الفلسطيني، أيقظ الحلم الواقع حين رافق "طوفان الأقصى" العسكري "طوفان الوعي" الفلسطيني في فلسطين والبلاد العربية والعالم، فكان "الوعي الذي حدّ الخرافة" بتعبير مظفّر النوّاب. لقد أعاد "طوفان الأقصى" مركزية القضية الفلسطينية إلى الوعي الفلسطيني والعربي والعالمي. ومع صور "طائرات العبور الشراعية" للمقاومة الفلسطينية، المنطلقة من غزة المحاصرة إلى فلسطين 1948، عادت الجماهير الفلسطينية والعربية إلى تداول أسماء ميلود ناجح وخالد أكر وسمير القنطار وسليمان خاطر ومحمد صلاح، وأعمال أمل دنقل ومظفّر النوّاب وحسين مروة والشيخ إمام وناجي العلي وباسل الأعرج... انطلقت الجماهير العربية في الشوارع والميادين تهتف للمقاومة وتدوس علم الكيان الصهيوني وتحاصر سفاراته على الرغم من التطبيع الرسمي وحرّاسه. وقد جاوبتها الجماهير المناصِرة لفلسطين والمتضامنة مع قضيتها العادلة في العواصم الاستعمارية الغربية ومدن الجنوب العالمي برفع أعلام فلسطين، كما اكتسبت حركة المقاطعة (BDS) زخماً غير مسبوق، وانهارت النظرية البيضاء ومنظّروها في وجه "طوفان التضامن" اللافت في الأكاديميا العالمية... وكان هذا كله استجابة منقطعة النظير لنداء القائد محمد الضيف الذي ترجمه صمود غزة الأسطوري، غزة التي صارت أمثولة مقاومة وصمود وتضحية تاريخية، إلى لغات العالم كافة. وهذا حدث كوني غير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية، أليس كذلك؟

طبعاً نحن أمام حالة غير مسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية أعادت إلى الأذهان العصر الذهبي للنضال الفلسطيني، وحالة الالتفاف والتضامن العربي والأُممي معه والمشاركة فيه. وكان لسفور المشاركة الأميركية وغيرها من الدول الغربية في العدوان ودعم المجازر وتبريرها تأثير جلي في فتح المعركة في الميادين العربية والجنوب العالمي خارج أوروبا وفي داخلها وما تبقّى من بشر في دول الاستعمار.

لقد قدّمت غزة للعالم كله نموذجاً ومثالاً لمعنى الإنسان والكرامة والحرية في مقابل "الإنسان الحيوان" بلا معنى ولا قضية ولا إيمان، الإنسان اللاهث وراء زيف الاستهلاك حتى استهلك ذاته. كما أعادت غزة إلى الحقيقة جلالها ومعناها في عصر نهاية الحقيقة الذي تسيطر عليه الخوارزميات والذكاء الاصطناعي والزيف العميق. وأمامنا هنا درس من لحم ودم بأن المقاومة هي أنجع وسيلة لمخاطبة العالم، كل العالم، وأن المقاومة أفضل ما نحسّن به صورتنا في العالم وأمام الرأي العام الدولي. 

عربياً، بعد "اللحظة المريضة" التي سبقت "طوفان الأقصى"، بددت مشاهد العبور وبطولات المقاومة الفلسطينية أسطوريات "الجيش الذي لا يُقهر." فعلى الرغم من التهديدات الصهيونية بتفعيل "خيار الضاحية" على لسان وزير الحرب الصهيوني، وحتى "خيار شمشون" النووي على لسان وزير التربية وبشكل علني، فإن محور المقاومة في الجبهة الشمالية على الحدود بين لبنان والجولان السوري وفلسطين المحتلة، واليمن، والعراق، استكمل المهمة في توسيع المواجهة مع دولة الاحتلال وشركائها الاستعماريين وتغيير "قواعد الاشتباك"، وخصوصاً مع "إسرائيل" وأميركا، على الرغم من تواطؤ بعض الرسميات العربية وتخاذله. وعلى ما يبدو، ورغماً عن جميع الدمار الإبادي الذي لحق بغزة ولا يزال في هذه الحرب الوحشية المستمرة، فإن المقاومة أثبتت أن المقولة الصهيونية "بالدم والنار سقطت يهودا، وبالنار والدم تقوم يهودا" لا تزال عاجزة عن تحقيق شقّها الثاني. بل إن الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى التي تشارك في حصار غزة وتدميرها وسفك دماء شعبنا قد تخلخلت قناعتها أيضاً بجدوى "قيام يهودا". كيف نقرأ هذا الدرس العسكري في مواجهة "إسرائيل"، وكيف ستكون عليه الحال، على مستوى الإنجازات والخسارات، لكل من محور المقاومة و"محور الاعتدال" في بلاد العرب والإقليم؟

دعنا نبدأ بالقول إننا أمام معركة هي المعادل التاريخي للنكبة وانسحاب منظمة التحرير من لبنان. فاليوم، تقاتل قوات الثورة الفلسطينية المعاصرة في غزة على أرضها، وتناور بالنار في أرض "الخصم" بعد أن أسقطت أوهام "الجدار الحديدي".

صهيونياً دخلت المستعمرة في طور التفكك بتفكك لاهوتها التكنولوجي، ولن يسعفها لاهوتها التوراتي في إيقاف هذا الانهيار. فهذه المعركة ليست معركة إرادة فقط، بل أيضاً، وهو ربما الأهم في تاريخنا، هي تحقيق مبدأ مراكمة القوة وإتقان فن القتال والتطوير العلمي التكنولوجي المحارب، والإتقان إلى حدّ العبقرية، لفنّ الحرب النفسية التي هي جوهر الحرب بصرف النظر عن أدواتها، وتحقيق مبدأ المفاجأة، الأمر الذي هو في اعتقادي أكبر كثيراً من الكتمان والتمويه، واللعب خارج قواعد اللعبة والانعتاق من دائرة الفعل وردة الفعل.

ومع هذا كله، وما قدمته وتقدمه غزة من أداء استثنائي عسكرياً وصمود، إلّا إن مستقبل المعركة وأفقها يقعان حقيقة خارج غزة، بمعنى أن تتحول الحرب إلى حالة نضالية على كامل التراب الوطني، وأن تمتد عربياً باستعادة حياة سياسية نشطة ضد أنظمة التبعية والاستبداد بصفة معركة غزة معركة لتحرير الإرادة والأرض العربية. فممّا هو معروف أن الإعداد وبناء القوة لهذه المعركة لم يكونا ممكنَين من دون البناء على قوة محور المقاومة الذي ينشط حالياً في لبنان واليمن أساساً، لإسناد معركة غزة، والمرجّح أن تتسع هذه المعركة، وخصوصاً على الجبهة الشمالية، بل ربما تصل إلى حالة اشتباك يمني - خليجي ضمن تحالف أميركي. وهذا كله ضمن الرؤية ذات المعقولية العالية بأن معركة "طوفان الأقصى" كانت في جذرها معركة استباقية ضد تصفية القضية الفلسطينية بإنجاز مشروع التطبيع السعودي، وهو ما كان سيعني، بداهةً، بداية انفراط محور المقاومة وإضعافه وصولاً إلى الانقضاض عليه ضمن تحالف صهيوني - أميركي - عربي كان في طور التشكيل. 

فلسطينياً، أوصلت هذه الحرب التناقض بين مشروعين متوازيين إلى حده الأقصى: مشروع الوجود والبناء والتحرير الذي تقوده المقاومة، وتحمله ثقافة الفداء والانتصار، وتدخل به التاريخ؛ ومشروع "التمثيل" والهدم والتبعية الذي انتهت إليه الحركة الوطنية التقليدية (منظمة السلطة أو سلطة المنظمة، سيان)، وتروّجه ثقافة الهزيمة والخذلان، والذي يسير بها إلى خارج التاريخ. الأول نحت في الصخر لتعزيز قدراته المادية وتكريس شرعيته الثورية وتمتين حاضنته الشعبية وحراسة الذاكرة من الخلخلة، بما في ذلك تعريف العدو. والثاني عمل على هدم مؤسسة الفلسطينيين السياسية وتبديد قدراتهم المادية وتفكيك لحمتهم الشعبية والإمعان في الفساد والحكم بالحديد والنار، ومجاراة العدو الذي يبيد غزة اليوم، والارتماء في حضنه حتى الموت في أرذل العمر... حين لم يجد "الممثلون" ما يمثّلونه، لأن كل "تمثيل" تمثل. وإلى أن يتم السيد التاريخ عملية الفرز، ما هي حدود المسؤولية الوطنية للأفراد تجاه هذين المشروعين؟

في حقيقة الأمر، انطلقت معركة "طوفان الأقصى" في الضفة ومن أجل الضفة أساساً، وكانت محصلة للنهوض المقاوم في شمال الضفة واستمراريته اليومية في القدس. معركة الضفة اليوم عنوانها تحويل الوجود الفلسطيني فيها إلى وجود "محارب" للاستيطان في شمال الضفة تحديداً، حيث يتركّز هذا المسعى في هذه المرحلة. فالصراع الفلسطيني - الفلسطيني لم يعد صراعاً بين اجتهادات، وإنما صار صراعاً أشبه "بحرب أهلية" بين السلطة وامتدادها الاجتماعي والاقتصادي، والمقاومة وحاضنتها الشعبية. وفي حديثنا عن المسؤولية الوطنية والواجب الأخلاقي، علينا البدء بما تُبنى عليه الممارسة السياسية بديهياً، وهو التفريق بين معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، ثم الوعي بامتدادات هذه المعركة ومواقعها مجتمعياً ضمن رؤية تمتلك فكراً سياسياً وتنظيمياً للتحول من حالة التأييد والحاضنة للمقاومة إلى حالة الحركة الاجتماعية التي ينتظم فيها الأفراد.

وهذا بالضرورة، يحتّم علينا تعريف أصحاب المشروع التصفوي ضمن معسكر الأعداء برؤية جذرية تراعي إدارة المسألة النضالية بذكاء وحكمة، غير أن الموقف الجذري الواضح هو أول الواجب والمسؤولية، فهذا المشروع طبعاً، لم يعد مشروعاً لمجموعة أفراد، وإنما تحوّل إلى نسيج مجتمعي مضاد تنتظم فيه علاقات زبائنية. وهنا، يصبح النضال المجتمعي الجماعي هو المعادل لهذه البُنية، والمواجه لامتدادها في المواقع كافة. وفي اجتهادي، أن الارتكاز إلى فهم مسألة التعاون والتواطؤ في الحالات الاستعمارية ودورها وطبيعتها يمكن البناء عليه في الوحدة النضالية العابرة للتقسيمات الاستعمارية التي فرضها الاستعمار الصهيوني علينا (قدس؛ ضفة؛ غزة؛ 1948). ولهذا، علينا أن نتحرر سياسياً من المقولة الأفيونية المسماة "إصلاح منظمة التحرير"، والعمل على بناء مؤسسات تمثيلية بديلة، ذلك بأن المنظمة لم تعد قابلة للإصلاح، بل صارت من دون شرعية، فهي أخذت شرعيتها من النضال وانتهت بتخليها عن النضال. ومَن قال إن المنظمات والأحزاب ذات قداسة وأبدية؟ إنها إفرازات مجتمعية في لحظة تاريخية لها تاريخ صلاحية مرتبط بدورها، ولا ينتهي تاريخ أي شعب بنهايتها، فالشعب باقٍ، أمّا الأحزاب والمنظمات وحتى الأيديولوجيات فعابرة. 

"إسرائيلياً"، وعلى الرغم من توظيف جيش "إسرائيل" أعتى ما في ترسانته العسكرية وترسانة حلفائه الأطلسيين في تدمير غزة واستهداف أهلها الأبرياء ومحاولة القضاء على المقاومة التي وَصَف جموعها بـ "الحيوانات البشرية" الذين "يجب التحدت إليهم بلغة يفهمونها"، أي بقوة الإبادة المجنونة، وحاول يائساً فصل حركة المقاومة الإسلامية/"حماس" عن الشعب الفلسطيني وعن حركة الجهاد الإسلامي وسائر فصائل المقاومة، واتهامها بالداعشية... فإن غزة لا تزال صامدة على الرغم من كل ما لحق بها من خراب وما تكبّده الشعب الفلسطيني من خسائر غير مسبوقة من حيث أعداد الشهداء والجرحى والنازحين والأسرى. ومع ذلك، فإن العدو، ومنذ الساعات الأولى لـ "طوفان الأقصى" مُني بخسائر فادحة في "فرقة غزة" و"فخر صناعاته العسكرية" وعدد الأسرى غير المسبوق من ضباطه وجنوده الـ 250 في قبضة المقاومة، وخلخلة جبهته الداخلية، وإفلاس آلة الـ "هسباراه" الإعلامية مادياً ومعنوياً في نشر روايته في العالم تحت لافتة "الضحوية اليهودية الأبدية"، والضرر الهائل الذي لحق باقتصاده داخلياً بفعل الحرب وخارجياً بفعل المقاطعة... غير أنه، وعلى الرغم من التفعيل غير المعلن لـ "توجيه هنيبعل" الذي قُتل نتيجته عدد كبير من أسراه العسكريين و"المدنيين"، ها هو يرضخ الآن لشروط المقاومة، ويعقد أولى صفقات تبادل الأسرى، ويوافق على فتح معبر رفح. ألا يُعتبر هذا كله تراكماً نوعياً في هزيمة "إسرائيل"؟

أرى أننا اليوم نشهد مختبر نهاية "إسرائيل"، أي تفاعل العوامل المجتمعية المكوِّنة للكيان وتفجُّر تناقضاتها الكامنة. لقد فشلت "الضحوية اليهودية الأبدية"، صحيح، مع أن "إسرائيل" حاولت تفعيل استفزاز الذاكرة التاريخية للمسألة اليهودية بمساواة 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 بـ "البوغروم"، ولاحقاً بـ "المحرقة"، إلّا إنها كفّت عنها الآن. إن فشل "إسرائيل" في تثبيت صورة الضحية هو فشل قاتل، وكذلك نجاحها لا يقلّ كارثية. ففي سعيها لترميم صورتها كضحية، والمبالغة فيها، تحفر "إسرائيل" قبرها بيدها بالمنطق الصهيوني الذي بُني وعده بالخلاص اليهودي وبالأمان ونهاية الاضطهاد في مجتمع إسبارطة الجديدة في فلسطين. إننا نشهد تفكك مستعمرات "حتى التلم الأخير" من بقايا اليسار الصهيوني، النواة الصلبة للصهيونية وطاقتها التجديدية ومستقبل اندماجها تطبيعياً في المنطقة، والأخطر كثيراً من نسختها الدينية الصهيونية المنفلتة من عقال الحكمة الصهيونية القاتلة واللازمة لإدارة الصراع واستكمال التطبيع مع العرب.

يقول علم اجتماع الحرب إن المجتمعات تقاتل بطريقة تتلاءم مع بُنيتها الاجتماعية الاقتصادية. ولهذا، اعتمدت "إسرائيل" على الحل التكنولوجي والقصف من الجو، وهي طريقة الحرب التي تلائم مجتمعاً استيطانياً يعوم في بحر من الأعداء، والذي أوصلته استعماريته الرأسمالية في الوقت ذاته إلى مجتمع الوفرة، أي أوصلته إلى "حروب ما بعد البطولة" التي بلغت ذروتها مع رئيس الأركان السابق "أفيف كوخافي": جيش صغير وذكي، والكثير الكثير من التكنولوجيا. لكن ها هو هذا الجيش يضطر إلى العودة ليقاتل في أزقة مخيم جباليا، وهو الذي لم يتوقعه في أسوأ كوابيسه، الأمر الذي يعني الحاجة إلى خزّان من المقاتلين العقائديين الذين تُنتجهم دفيئات الصهيونية الدينية ومستعمرات الضفة، كما يعني احتدام الصراع الداخلي من جديد بعد هدنة الحرب.

وحتى هذه اللحظة، فإن المسألة العالقة بلا أفق للحل صهيونياً، تتمثل في الإشكال التالي: إذا عرّفنا حالة "ما بعد الصدمة" بالفشل الوظيفي الاجتماعي فهي تعني عند مستوطني غلاف غزة الفشل والعجز عن القيام بالوظيفة الاستيطانية، فضلاً عن انتقال "ما بعد الصدمة" بالعدوى إلى مستعمرات الجليل على الحدود الشمالية مع لبنان. وإذا كان الوجع الاستعماري متمثلاً في إخلاء مستعمرات الضفة، فنحن اليوم أمام سيناريو مرجح لتفكيك الوجود الاستيطاني في فلسطين 1948، هذا الوجود الذي لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية ونخبتها الثقافية تعرّفه كاستيطان. وفي هذه المعركة، انتهت إلى غير رجعة حالة "ما بعد الاستعمار" المتوهَّمة في "إسرائيل" من حيث علاقتها بالمتروبول الاستعماري الأوروبي - الأميركي. ولا أرى أن الوجود العسكري الأميركي وربما الغربي سينتهي ما بعد الحرب، بل ستتحول "إسرائيل" إلى أرض قواعد أميركية كجاراتها من ممالك وإمارات الملح، وهذا يعني، ببساطة، نهاية أسطورة الاستقلال.

ومهما تكن النتيجة، ففي النهاية لن تعود "إسرائيل" ولن نعود نحن إلى ما قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023. أمّا الواجب والتحدي، فيتضمّنان سؤال كيف تستطيع هذه التناقضات كلها أن تتحول إلى تناقضات منتجة لحركة سياسية لم يعد في الإمكان وبالاتساق مع منطق المعركة أن تُحصر في فلسطين. 

بدأنا بالقدس، ونختم بها. على الرغم من إطلاق المقاومة لعمليتَي "سيف القدس" و"طوفان الأقصى" في دلالة واضحة على مركزية القدس وأولويتها في قضية فلسطين ومشروع تحريرها، فإن العدو، ومنذ اليوم الأول للعبور، استهدف بقبضة حديدية غير مسبوقة جغرافيات فلسطين 1948، والضفة الغربية، والقدس، وخصوصاً البلدة القديمة والحي الأرمني. كيف تقرأ مستقبل الجغرافيا الفلسطينية الموحدة سواء في هذه الجغرافيات الثلاث أو في جغرافيات ثلاث أُخرى تضاف إليها، وهي غزة والسجون والشتات؟ وكيف أعاد "طوفان الأقصى" الاعتبار إلى تحرير فلسطين، لا بصفته خياراً، وإنما بصفته واجباً أخرجته المقاومة من حدّ المستحيل إلى حدّ الممكن؟

لم تعد مسألة الجغرافيا في هذه المعركة محصورة في حدود فلسطين، ولا سيما في واقع صارت فيه صنعاء أقرب من رام الله. فتحرير فلسطين كواجب ومنطق للتاريخ العربي الإسلامي لا يمكن إنجازه ضمن رؤية مبنية على منطق الهوية القُطرية والتجزئة.

القدس لا تهدأ ولن تهدأ. وما نشهده اليوم من حال تبدو فيه المدينة مروَّضه هو وعي زائف بحقيقة المدينة، وستبقى مولدة لحيوية الصراع. وما يشهده الحي الأرمني مهم جداً كمثال لهوية المدينة الكامنة. فقد تمّت ممارسة أشكال الفصل كلها، وتطييف وهندسة الهوية الأرمنية باستدعاء المحرقة الأرمنية وإدماج تاريخ الأرمن في "تاريخ إسرائيل" من طرف الصهيونيين: من "بني موريس" الذي اكتشف حديثاً الممكنات السياسية للبحث في "المحرقة الأرمنية"، إلى استخدام ممارسات التأبين والتاريخ العسكري للحرب العالمية في فلسطين من أجل خلق سردية تجمع "الفيلق اليهودي" و"الكتيبة الأرمنية في القتال " في الحرب العظمى تحت إمرة الجنرال أللنبي. لكن هذا لم يفلح، حتى مع وجود تواطؤ من البعض من المؤسسة الدينية الأرمنية، في التعمية على حقيقة الصراع والعداء الذي يتّسع باتساع رؤية ميادين الصراع، وفي هذه الحالة دور "إسرائيل" المباشر والحاسم في تهجير أرمن ناغورنو كاراباخ نتيجة التحالف العسكري الاستراتيجي بين "إسرائيل" وأذربيجان، مصدر النفط الأول لـ "إسرائيل"، وذلك قبل شهر من "طوفان الأقصى".

إن تحوُّل تحرير فلسطين من استحالة متوهَّمة، أو ربما الأدق جرت عملية منظَّمة لزرع استحالتها في العقول العربية، إلى واجب ممكن، مرهون بالإجابة عن سؤال ما العمل؟ نحن في لحظة تاريخية شبيهة باللحظة القسّامية في تشرين الثاني / نوفمبر 1935، والتي أنتجت الثورة الفلسطينية الكبرى، أو الفلاح المقاتل ضد الإمبراطورية والنخبة الوطنية. ما العمل كيلا يتم اغتيال هذه اللحظة؟ وما العمل لكسر دورة الثورة التي تُنتج نخبة متواطئة في تاريخنا الوطني؟ المسألة هنا، مرة أُخرى، مسألة الممارسة السياسية المتسقة مع هذه اللحظة.