زكريا محمد: قسوة المنفى وخيبة العودة!
في ذكرى
1950 - 2023
النص الكامل: 

وقف الشاعر والكاتب زكريا محمد ظهيرة السبت الموافق فيه 8 تموز / يوليو الماضي بين جدران منزل متواضع للأسير زكريا زبيدي في مخيم جنين؛ وقف شاهداً للمرة الأخيرة على دمار عنصري مفتوح منذ مئة عام ونيّف، وذلك قبل رحيله بثلاثة أسابيع في مدينة رام الله. أطل الكاتب على جريمة قوات الاحتلال التي دمرت مخيماً صغيراً، وشاهد آثار الاعتداء عقب اجتياح إسرائيلي واسع ومدمر استمر ثلاثة أيام متواصلة، واستهدف الأبرياء في مطلع تموز / يوليو الماضي، متسبباً بسقوط عشرات الشهداء والجرحى، وبتدمير المنازل والبُنى التحتية، وتشريد الأهالي.

 

الشاعر زكريا محمد

 

ومع اتساع رقعة العدوان الوحشي على المخيم، دعا زكريا محمد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شباب فلسطين إلى "الحج إلى جنين" دفاعاً عن مخيمها الباسل الذي يتعرض لعدوان بالدبابات والطيارات والجرافات. واستعاد زكريا في كلمته في منزل الأسير زبيدي، الذكرى السنوية 51 لاستشهاد الكاتب غسان كنفاني بعبوة إسرائيلية ناسفة في صباح 8 تموز / يوليو 1972 في بيروت، ودافع عن بسالة المخيم منحازاً إلى مقاومته الصلبة، ومعلناً أمام شباب رام الله ونابلس وبيت لحم والخليل الآتين لنصرة المخيم، انحيازه إلى نموذج جنين في الكفاح، قائلاً: "الأعوام القليلة المقبلة ستشهد تحرير فلسطين إذا اتسع نموذج الكفاح في هذا المخيم المقاوم على امتداد الوطن، وأتمنى العيش زمناً أطول لأشهد تحرر الضفة الغربية في الحد الأدنى، وانتصار المقاومة في مخيماتها وريفها ومدنها."

غير أن المرض الذي باغت الشاعر خذله وغدر به، ولم يمهله وقتاً كافياً ليحقق أمنيته بحرية وطن دافع عنه طوال عمره، وانخرط في صفوف مقاومته، وانحاز إلى قوى اليسار في تيار كفاحه: غادر الطالبُ داود محمود عيد شقير (زكريا محمد) وطناً محتلاً، وعاد كاتباً إلى وطن محتل، وغاب شاعراً تحت تراب وطن محتل ومحاصر بالاستيطان والجدار والحواجز. 

طالب متفوق

رأى داود محمود عيد شقير (زكريا محمد) النور في بلدة الزاوية، قرب مدينة سلفيت شمالي الضفة الغربية المحتلة، في ظهيرة 27 كانون الأول / ديسمبر 1950، لأبوين مزارعين فقيرين. وقد أنجبته والدته في بيت عقد قديم بُنِي في أواسط الحقبة العثمانية، وأُصيب خلال المواجهة العثمانية-البريطانية في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1919) بقذيفة دمرت واجهته الأمامية. ولاحقاً، اضطر والد داود إلى مغادرة البيت بعد أن بات مهدداً بالسقوط في كل لحظة، وانتقل الفتى مع أفراد أسرته إلى مسكن جديد في شمالي غربي القرية مكوّن من غرفتَي باطون ومطبخ وصالون متواضع، وفي المنزل الجديد، حرص الفتى داود على الاستعانة بالحمار لنقل المياه يومياً إلى العائلة من عين الزاوية.

درس داود المرحلة الابتدائية في البلدة، وبرزت قدراته في استيعاب المنهاج وتفوقه على زملائه، ثم تابع دراسة المرحلة الإعدادية في بلدة بِدْيا المجاورة، وكان يقطع يومياً على الأقدام أربعة كيلومترات للوصول إلى مدرسته.

أقام الفتى في مدينة سلفيت، على بُعد 22 كيلومتراً من بلدته، لإكمال تعليمه الثانوي، وقرأ بشغف مجلة "العربي" الكويتية التي كان يوفرها له أحد أقربائه، وقرأ بمتعة كل ما وقع تحت بصره من كتب ونصوص.

تقدم في صيف سنة 1969 لامتحان الثانوية العامة (التوجيهي الأردني)، ونال الترتيب السابع على مستوى المملكة الأردنية، وحصل على منحة دراسية لمتابعة تعليمه العالي في جامعة بنغازي الليبية. وصل داود إلى ليبيا مع انتصار العقيد القذافي في ثورة الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969، وانخرط على الفور في النشاط الطلابي المؤيد للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

في صيف سنة 1970، أقدم العقيد معمر القذافي، رئيس جمهورية ليبيا الشعبية، على طرد أنصار الجبهة الشعبية من الجامعات الليبية، وذلك عقب رفض الجبهة مشروع روجرز الأميركي (حزيران/يونيو 1970)، بينما استجاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حليف العقيد القذافي، لمبادرة وقف إطلاق النار مع "إسرائيل" على جبهة السويس. وعلى الفور، أقدم أمن القذافي على ترحيل داود عيد ورفاقه الطلبة اليساريين إلى سورية والعراق بذريعة رفضهم المبادرة الأميركية!

خلال معارك أيلول/سبتمبر 1970 بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، خسر داود شقيقه الأكبر أحمد الذي اختفت آثاره تماماً، والذي كان ترك عمله في الميكانيك، والتحق بالمقاومة الفلسطينية، واختفى في ظروف غامضة منذ أيلول/سبتمبر 1970 حتى اللحظة. وقد استعاد داود سيرة شقيقه أحمد في روايته "عصا الراعي" التي سرد بين صفحاتها جوانب من طفولته.

التحق داود عيد بكلية آداب جامعة بغداد، وتفوق في دراسته، وتابع نشاطه الطلابي في صفوف الجبهة الشعبية، ثم حصل على شهادة الليسانس في الأدب العربي، وغادر في صيف سنة 1975 إلى العاصمة الأردنية عمّان.

استقر في عمّان 4 أعوام كتب خلالها مقالات ومراجعات وقصائد في الصحف الأردنية، وانتظم في المجموعات السرية لحزب العمال الشيوعي الفلسطيني. ومع انكشاف الخلايا السرية للحزب، نجح داود في مغادرة عمّان سراً، وأقام لفترة قصيرة في دمشق، ثم انتقل إلى الإقامة في مخيم عين الحلوة شرقي صيدا قبل استقراره في بيروت مع رفاقه الذين قدّم نفسه إليهم باسمه الحركي "زكريا محمد". وعن ذلك يقول: 

عندما غادرت عمّان هارباً إلى بيروت، كنت يومها منتمياً إلى حزب صغير يساري مطارد. وحين وصلتُ إلى لبنان كان عليّ سريعاً أن أعطي نفسي اسماً حركياً أُعرف به بين أعضاء الحزب، وقلت بالسرعة المطلوبة: زكريا. 

أسهب زكريا محمد في مقالة بارعة نشرها في مطلع أيلول/سبتمبر 1996 بعنوان "اسمي" في شَرْح التباسات الاسم وتأويلاته، فقال: "لم يكن الاسم مقبولاً. زكريا وحده لا يكفي، فاضطررتُ بعد فترة طويلة أن أضيف له اسماً آخر، وهكذا صار اسمي زكريا محمد."

رؤية واحدة وأحزاب متعددة

شهد زكريا مرحلة من الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان في أواسط سبعينيات القرن الماضي، وعاش كادحاً في مخيم عين الحلوة بمخصص حزبي لا يكفي لسدّ رمقه. كتب في "طريق الانتصار"، لسان حال حزب العمال الشيوعي، وعاش تحت قصف الطيران الحربي وقذائف الدبابات الإسرائيلية مع غزو جيش الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية في مطلع حزيران/يونيو 1982.

غادر زكريا صفوف حزب العمال الشيوعي في سنة 1981 مستنداً إلى قناعة شخصية بأن الحزب فشل في تطبيق برنامجه. ومع خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من بيروت في خريف سنة 1982 استقر في دمشق، وانتظم في جهاز تحرير مجلة "الحريّة"، لسان حال الجبهة الديمقراطية، التي تابع النشر فيها حتى خلال تنقّله في أثناء إقامته في المنفى بين قبرص وتونس.

وفي مطلع سنة 1981، التقى زكريا بسلمى خالد الخالدي، الطالبة الجامعية في بيروت، والتي كانت نقلت دراستها الجامعية من لندن إلى بيروت العاصمة اللبنانية. ولدت سلمى في الكويت في سنة 1961 لأب مقدسي تخرّج من كلية الهندسة في الجامعات اللبنانية، وحصلت على الليسانس في التربية من جامعة بيروت الأميركية، ثم نالت الماجستير من بريطانيا. أقام زكريا وسلمى حفل زفافهما في لندن في مساء 30 أيار/مايو 1986، وكان زكريا وصل إلى بريطانيا بجواز سفر يمني، للمشاركة بفاعلية ثقافية، بينما كانت سلمى في زيارة لشقيقتها، وكانا قد اتفقا على عقد القران في لندن. استقر الزوجان في الشام، ثم تنقلا بين قبرص وتونس، وأنجبا أحمد (1987) في دمشق، ورند (1989) في تونس. وواجه الزوجان إجراءات معقدة في سجل السكان الأردني على خلفية الجواز اليمني الذي كان يحمله زكريا، وانتهاء صلاحية جوازَي السفر الأردنيين للزوجين.

ساهمت "هبّة نيسان" في سنة 1989 في الأردن في إلغاء قانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية. وعندما أسقط القضاء الأردني حكماً غيابياً بالسجن 15 عاماً في حقّ زكريا، تمكّن بمساعدة قانونية أمّنها مكتب للمحامين، من العودة إلى عمّان في سنة 1990.

مع انقسام الجبهة الديمقراطية بين الأمين العام نايف حواتمة ونائبه ياسر عبد ربه، اختار زكريا الانضمام إلى "الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" ("فدا") بقيادة عبد ربه، وساهم مع رفاقه في تأسيس مجلة "راية الاستقلال" الشهرية لسان حال "فدا"، والتي حافظت على استقلالها النسبي. فقد استندت المجلة التي نالت ترخيصاً من قبرص وصدرت في عمّان، إلى رؤية مستقلة بمعزل عن سياسات الحزب وتوجهاته، وذلك اعتماداً على وثيقة "فدا" التي صاغت استراتيجيا الاتحاد الديمقراطي.

كتب زكريا الكلمة الأولى للعدد الأول من "راية الاستقلال"، وحافظ على النشر المنتظم فيها قبل توقفها عن الصدور في سنة 1993. بعد ذلك شغل في قبرص منصب سكرتير تحرير مجلة "الفكر الديمقراطي" الفصلية برئاسة جميل هلال، لكنها لم تصمد طويلاً، إذ ما لبثت أن توقفت عن الصدور أيضاً.

وصل زكريا إلى أريحا في صيف سنة 1994 عقب توقيع اتفاق "أوسلو" في واشنطن، وعاد إلى قريته الزاوية بعد ربع قرن من الغياب. بحث عن كومة أشجار كان يستظل تحتها في أثناء الدراسة، وعثر على تينته المحببة، واستعاد اسمها على الفور "خدود الأرملة"، ودقّق في مستعمرة "إلكانا" التي أُنشئت في أواسط السبعينيات في "جبل الحلو" على معسكر للجيش الأردني، ولم تتوقف عن التوسع حتى اليوم، وشاركت 17 مستعمرة في ابتلاع مياه وأراضي محافظة سلفيت، وحجزت أغلبية الأراضي الزراعية لقرية الزاوية والبلدات الفلسطينية المجاورة داخل جدار الفصل.

استقر زكريا وأفراد أسرته في رام الله في سنة 1995 عقب عودة زوجته ونجلَيه إلى البلد، والتحق بوزارة الثقافة، وساهم في تحرير مجلة "دفاتر ثقافية"، وتسلّم سكرتير تحرير مجلة "الكرمل" التي أعاد الشاعر محمود درويش إصدارها، وعمل محرراً في صحيفة "الأيام" ومؤسسة "مواطن".

صار زكريا يتجنب الانخراط الحزبي وحافظ على استقلاليته، مستخلصاً تجاربه الحزبية السابقة في ثلاثة فصائل: جبهة شعبية، وحزب عمال شيوعي، وجبهة ديمقراطية.

أبدى اهتماماً كبيراً، عقب عودته، بتناول الشأن الثقافي في الأرض المحتلة، وزاد تركيزه في البحث المعرفي والفلسفي والميثولوجي، مستنداً إلى قدراته الخاصة، وموهبته الفذة، وذكائه الفطري.

بعد رحيل قائد منظمة التحرير ياسر عرفات في أواسط تشرين الثاني/نوفمبر 2004، ومرور عقد ونيّف على اتفاق "أوسلو"، انتقد زكريا الاتفاق، ورفع سقف المواجهة مع السلطة الفلسطينية، وتظاهر ضد قمع أجهزة الأمن، وندد في تظاهرة في مركز رام الله بحملات الاعتقال السياسي، واعتُقل في 22 آب/أغسطس 2021 عدة ساعات، لكن السلطة اضطرت إلى الإفراج عنه عقب موجة من الاحتجاج في وسائل التواصل الاجتماعي. وعقب الإفراج عنه، دان زكريا "تحول السلطة إلى نظام قمعي يشغله التنسيق الأمني مع الاحتلال."

مع اندلاع الربيع العربي بدءاً بـ "ثورة الياسمين" في تونس في مطلع سنة 2011، وانتصار ثورة الشعب السلمية في مواجهة الاستبداد، انقسم اليسار الفلسطيني بين مؤيد ومعارض، كما اتسعت هوة الانقسام بشأن الأزمة السورية في أواسط آذار/مارس 2011، فأعلن زكريا انحيازه إلى "محور المقاومة"، وكتب مجموعة مقالات في صحيفة "الأخبار" المؤيدة لحزب الله والممانعة، وتمسّك برؤيته إزاء الربيع العربي، وانتقد ثورة الاحتجاج ضد النظام السوري، وظل متمسكاً بموقفه النقدي حتى الغياب.

جائزة الشعر

خلال أعوام نشاطه الثقافي طوال نصف قرن، أصدر تسعة دواوين شعر: صدرت المجموعة الأولى في سنة 1981 بعنوان "قصائد أخيرة"، بينما صدرت المجموعة الأخيرة "ثمرة الغراب" في سنة 2022، ونشر بين الديوان الأول والأخير 7 دواوين شعر: "أشغال يدوية"؛ "الجواد يجتاز أُسكدار"؛ "ضربة شمس"؛ "حجر البهت"؛ "كشتبان"؛ "علندى"؛ "زراوند". ومع ذلك ظل السؤال الفلسفي يطارده: "هل للشعر جدوى؟ هل له تأثير؟

نال الشاعر زكريا محمد جائزة محمود درويش في أواسط آذار/مارس 2020، وأعلنت لجنة الجائزة: "منذ القصائد الأولى التي نشرها في الصحف العربية أواخر السبعينيات، لفت الانتباه إلى نبرة شعرية جديدة متفردة بعيدة كل البعد عن الأصوات الكبرى السائدة في المشهد الشعري العربي آنذاك، بل يمكن القول إن زكريا محمد أصبح دفعة واحدة صوتاً شعرياً مكرساً ومؤثراً"، وأن "قصيدته المحمولة على قوة الخيال والانعطاف المفاجئ في الصورة الشعرية، ذات وقع آسر وقوة مجازية خاصة."

استعادت اللجنة حجم اهتمام الصحافة الثقافية الأردنية وترحيبها بقصيدة "اعتذارية" التي نشرها في جريدة "الشعب" الأردنية في سنة 1978، وقالت: "ظلت موضع تداول نقدي أسابيع طويلة، وعدّها كثيرون إعلاناً عن حساسية شعرية جديدة تفترق عن السائد الحماسي، وتجعل الفرد في بؤرة الاشتغال الجمالي، وهو أمر لا يزال يميّز تجربته برمتها، سواء في قصائد التفعيلة في مجموعاته الأُولى، أو نصوصه الشعرية النثرية."

وأوضح بيان اللجنة أن "العلاقة الحميمة بالتراث الكلاسيكي، وبالمعجم العربي القديم، من جهة، وقوة الاتصال بالموروث الشعبي، من جهة أُخرى، ورهافة الانتباه إلى الحياة وكائناتها المختلفة، من جهة ثالثة، أعطت قصائد زكريا محمد نبرة خاصة جعلها كأنها صوت قادم من عصر النبوات والمزامير والمراثي القديمة."

واختتمت اللجنة بيانها الطويل بمسوغات منح الجائزة كون الشاعر "واحداً من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، ومن الذين وصلوا بالنص الشعري، عموماً، وقصيدة النثر، على وجه الخصوص، إلى آفاق جديدة غير مسبوقة." 

إصدارات من الأساطير

اهتم زكريا محمد بالأسطورة واللغات القديمة وأصدر: "ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الحمس والطلس والحلة"؛ "مضرط الحجارة: كتاب القب والأسطورة"؛ "ذات النحيين: الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة"؛ "نقوش عربية قبل الإسلام"؛ "اللغز والمفتاح: رُقُم دير عُلا ونقوش سيناء المبكرة"؛ "نخلة طي: كشف سر الفلسطينيين القدماء"؛ "عبادة إيزيس وأوزريس في مكة الجاهلية"؛ "عندما سُحقت حية موسى"؛ "سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية". كما أصدر روايتين هما: "العين المعتمة"، و"عصا الراعي". وأصدر في أدب الأطفال: "أول زهرة في الأرض"، و"مغني المطر".

نشرت "المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية/مواطن" لزكريا محمد 3 كتب هي: "الراهب الكوري"، و"قضايا الثقافة الفلسطينية"، و"ديك المنارة". واحتوى كتابه الأخير الصادر في سنة 2003 مجموعة من مقالاته المنشورة في الصحف الفلسطينية، وصنفها تحت أربعة أجزاء: "المملكة السوداء"؛ "الرجل الأخضر"؛ "الأوسلة والدوسلة"؛ "انتقام عاتكة"؛ ومهّد للكتاب بمقدمة مثيرة انتقد فيها الكتابة الصحافية قائلاً: "لم تتحول المقالة إلى حرفة جادة بعد... ولم يتحول كتابة العمود الصحفي إلى شيء ذي أهمية، فالصحف تعتقد أن المقال الصحفي مجرد فراغ يمكن أن يُملأ بأية زبالة."

كما نشر في "ديك المنارة" بعض المقالات التي حُجبت في الصحف الفلسطينية، وأبرزها مقالة بعنوان "عبيد يقتنون عبيداً"، اعترض فيها على انتشار "مكاتب استيراد الخادمات السريلانكيات"، قائلاً:" عذابنا الطويل كشعب من المفترض أن يعطينا حصانة أخلاقية تجاه مثل هذا الأمر... لكن ظني خاب." وطالب في الخاتمة بمنع استيراد الخادمات السريلانكيات: "حتى لا ينتهي الأمر باستعباد المستضعفين لإخوتهم المستضعفين، إضافة إلى أن أطفالنا بحاجة إلى سيرلاك لا إلى سيرلانك."

أعاد الشاعر في صبيحة 14 تموز/يوليو الماضي نشر تغريدة على حسابه الرقمي، قال فيها: "منحني الله وقتاً مستقطعاً.. لأضرب بسهمي بين الأسهم وقد ضربت، لكن سهمي خاب، وكانت النتيجة صفراً تقريباً. أضع الصفر المستدير مثل كرة أمامي، وأقول محاولاً خداع نفسي: اسمعي يا نفس، هذا ليس صفراً. هذا حجر الفلاسفة؛ هذا نشيد الأناشيد. اليوم اقترب الوقت المستقطع من نهايته: النار تأكل أشجار التنّوب، وأنا أمسك بالصفر الذي حصلت عليه، وأغني."

حضور الغياب

لم يكن الغائبُ مفتوناً بنصوصه وبنتاجه الثقافي المعرفي على الرغم من أهمية إبداعاته في النثر والشعر والبحث والفلسفة والرسم والنحت، وقد أنتجتها الموهبة بعيداً عن أي إسناد سلطوي أو حزبي، فالراحل اعتمد على قدراته الذاتية في التأثير في المشهد الثقافي الفلسطيني، محافظاً منذ ثلاثين عاماً على استقلاله لضبط حدود المسافة الصارمة بين المثقف والسلطة، ولانتزاع حقه في النقد دفاعاً عن رؤيته الوطنية وفلسفته التقدمية، من دون مراجعة.

شارك في جنازة الكاتب الذي خسر معركته مع سرطان الدم، نخبة واسعة من الأهل والمحبين والرفاق والأصدقاء والأنصار والقراء، وشُيع جثمانه إلى مثواه الأخير بعد ظهر الأربعاء الموافق فيه 2 آب / أغسطس الماضي في مقبرة رام الله الجديدة.

وهذا الكاتب النحيل، ببشرته السمراء وشعره الأبيض الغزير المسترسل على جبينه، دعا الجميع قبل رحيله إلى حفل موته، قائلاً: "سأدعو الجميع إلى حفل الموت الكبير، الحصان والنخلة والكشتبان والوتر الخامس للعود والنهر الذي لم يسبح فيه مرتين، كل هؤلاء سيحضرون."

وقبل رحيله خاطب الراحلين في إحدى رسائل الموتى: "أنا عنيد، ولا أعترف بالموت. أعبر قبيل الفجر طريق المقبرة كي أسمع أغاني الموتى، وأغنّيها معهم. أجرّب أن أكون ولو لساعة واحدة عضواً في جوقتهم الكبيرة."

وكتب المشّاء عاشق الطبيعة: "لا أريدُ أن أموت قبل أن يمتلئ رأسي بأسماء الزهور، سآخذها كلها معي."

السيرة الشخصية: 

بسام الكعبي: صحافي وكاتب فلسطيني.