الزعبرة السياسية: من "فرضية" الحوار إلى "كمين" عين الحلوة
نبذة مختصرة: 

نظراً إلى استمرار مأساة الشعب الفلسطيني، داخل فلسطين التاريخية والشتات، وخصوصاً في ظل الانقسام السياسي الذي بات مزمناً، يسهل الربط بين أي حدثَين بغضّ النظر عن أماكن وقوعهما وفواعلهما. والصحيح أن اجتماع الأمناء العامّين في العلمين المصرية، والأحداث الدامية في مخيم عين الحلوة ليسا استثناء، ولا سيما أن الحوار يمكن أن يشكِّل عامل ربط آخر بينهما، وهذا ما يحاول هذا المدخل مقاربته.

النص الكامل: 

مقدمة

يحدث أن تتلوث السياسة في مستنقعات اللغة العفنة، وتختلط بالشطارة أو الفهلوة كوسيلة للتكاذب وإضاعة الوقت والتلاعب بالأشياء. إنها ذهنية الخوف من قول الحقيقة، والعجز عن مواجهتها، كما في رواية الإيطالي جيسالدو بوفالينو (Gesualdo Bufalino) "أكاذيب الليل"، وذلك في مقاربة لفكرة الحوار والموت، كأن بوفالينو يطرح السؤال الذي لا يزال يشغلنا وهو: ما هو معنى الحوار على عتبة الموت في لحظة الخطر المحدق؟ وهل يصبح وسيلة للنجاة من الموت، أم مجرد استهلاك للوقت؟ يروي بوفالينو قصة أربعة سجناء حُكم عليهم بالإعدام، في زنزانة على جزيرة منسية، والوقت المتبقي هو ثماني ساعات تفصلهم عن الإعدام المقرر بُعيد الفجر. وفي الليلة الأخيرة، يبدأ كل واحد منهم بسرد قصته لنكتشف فيما بعد أن القصص وحوارات تلك الليلة كانت مجرد أكاذيب، كما يتداول السجناء في الخيارات المتاحة للموت، ورغبة كل فرد منهم في طريقة إعدامه، والتوقيت الأكثر ملاءمة والمفضل لديه. 

فرضية الحوار

رُبّ قائل ما لزوم الحوار ونحن نُقاد إلى المقصلة ممثَّلة في التشويه لحالة الوعي وخلط الأوراق، بحيث يتحاور أصحاب الانقسام العبثي ذاته، ويتمسك كل طرف بصوابية منهجه، مهما تكن حصيلته الوطنية من بعثرة وتشتيت ممنهج لطاقات الشعب الفلسطيني وتضحياته، وفي مقابلنا عدوّنا الذي يزداد شراسة متنكراً لنا ولوجودنا؟ ما فائدة الحوار في ظل هذه المكابرة في القضايا الداخلية، والتغافل عن التحديات الوجودية؟ وإلى متى الهروب من الأسئلة الصحيحة؟ فإذا كان الاستمرار في الخطأ ملهاة، فإن المساهمة في إدامة الخطأ هي المأساة بعينها، كما أن الإصرار على طرح الأسئلة الخطأ التي تعجّ بها البيانات والخطب والصحف والشاشات، هدفه إلقاء المسؤولية على الآخر، بهدف تضليل الذات والآخرين، وإفساد النقاش وتسطيحه، واللعب بجدول الأعمال، وتبديل الأولويات، مثل: ما علاقة انفجار مخيم عين الحلوة، وغياب بعض المنظمات الفلسطينية عن لقاء الأمناء العامّين في العلمين؟ هل كان ذلك رسالة نارية للأمناء العامّين للانضباط في المعادلة؟ وهل هي رسالة إقليمية ضد الرعاية المصرية والتفاهمات التركية مع حركة "حماس"؟ وقد يسترسل الخيال إلى أبعد من ذلك، للقول إن جريمة الاغتيال الشنيعة في عين الحلوة فرضت نفسها على جدول أعمال اجتماع العلمين!

في هذا السياق، يضيع معنى الحوار، ويصبح السؤال هو عن جدواه، وحدوثه فعلاً، وما مبرر المشاركة فيه، وما هي أسباب الفشل المزمن للحوارات الفلسطينية دائماً، ولماذا عين الحلوة الآن، ومَن المستهدف، ومتى ومَن سيكتب نهاية هذا المسلسل... إن تحوير الأسئلة لتغييب الحقيقة هو تعبير مكثف عن حالة الاهتراء السياسي العام الذي يحيط بالمشهد السلطوي المنشطر والمختزل. ولذا، فإن من الطبيعي أن تصبح الدعوة إلى الحوار حالة ملتبسة كونها ممارسة مجرّبة وعقيمة، ولم تأتِ بمفاعيل ملموسة، الأمر الذي أدى إلى التعامل مع الدعوة إلى الحوار كحالة روتينية أو مبادرة مريبة تجعل من المشاركة مهمة شائكة وصعبة ومقلقة في مرحلة خطرة ومضطربة وصاخبة ومعقدة. ومع ذلك، يبقى الحوار وسيلة للوصول إلى تحقيق الشراكة الوطنية وتقريب وجهات النظر وتخفيف التوترات وإنهاء الخلافات الحادة بحكمة وبطرق لاعنفية. ولعل هذا هو الأسلوب الذي يجنّبنا سلبية الصراعات المميتة والوقوع في المتاهة، والبحث بشكل فاعل عن بصيص أمل يساهم في بلورة أفكار رئيسية يتم الانطلاق منها إلى التغيير المطلوب نحو الهدف. 

التوقيت السياسي للحوار

لقد أثار توقيت الدعوة إلى الحوار أسئلة كبيرة، باعتبار أن الحوار ذاته هو شكل من أشكال الصراع، ولا يستطيع أحد أن يتنكر لحقيقة المعضلات التي لا بد من تفهّمها، والتفكير في كيفية التعامل معها، كما أن التوقيت السياسي للحوار تزامن مع تصريحات نتنياهو باجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية، ومعركة جنين البطولية، وتعزز دور المقاومة كحقيقة لا يمكن تجاوزها. وفي إطار المسؤولية الوطنية في تصعيدها وتأمين الحاضنة السياسية لها، صدر عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بيان، بتاريخ 27 حزيران / يونيو 2023 يدعو إلى "تحشيد الوضع الوطني الفلسطيني من خلال تجديد اجتماعات الأمناء العامّين للفصائل وانتظامها، وتنفيذ ما سبق أن قررته من تفاهمات ومخرجات، وما يمكن أن يصدر من الاجتماعات اللاحقة." وفي تصريح آخر بتاريخ 3 تموز / يوليو 2023، جاء: "إن العدوان على جنين يفرض دون تردد لقاء وطنياً عاجلاً ليعيد الأمور إلى نصابها من حيث إعادة توصيف الصراع مع العدو باعتباره صراعاً شاملاً ومفتوحاً، وما يتطلبه من بناء استراتيجية وطنية موحدة."

تلقّت الفصائل الدعوة إلى اجتماع الأمناء العامّين وأعلنت موافقتها ببيانات مشتركة أحادية وثنائية وخماسية، قبل أن يتم التراجع عنها جرّاء الاعتقالات التي طالت بعض عناصر حركة الجهاد الإسلامي. وجاء التضامن مع المقاطعين والانتصار لموقف حركة الجهاد، سواء بالتواصل أو بالضغط على الجهات المسؤولة عن ذلك، من طرف أكثر المشاركين، وذلك لتحقيق المطلب العادل بإطلاق المعتقلين، والمطالبة بأن تكون هذه الدعوة جادة وبعيدة عن المناورة، ولا سيما أن هناك إجماعاً فلسطينياً بدأ يتبلور عن سقوط وهم التسوية، في مقابل تبلور إجماع صهيوني على نهج التصفية وتكريس التطبيع المدعوم أميركياً، الأمر الذي يتطلب مغادرة الرهانات على المفاوضات والاتفاقيات الموقّعة مع العدو. 

طرفا الحوار

عُقد اجتماع الأمناء العامين في 31 تموز / يوليو 2023 في مدينة العلمين في جمهورية مصر العربية، وكانت العقبة الأولى عدم وجود جدول أعمال متفق عليه، إذ بدلاً من البحث في الأعمال في اللقاءات التمهيدية في دمشق وبيروت ورام الله وغزة وأنقرة، كان التركيز على أولوية توفير الأجواء الإيجابية لإنجاح الدعوة، وليس الحوار، وخصوصاً أن الجهة الداعية نفسها، ممثلة في رأس السلطة، عملت على قطع الطريق على الحوار، وجعلته حواراً مبتوراً، فبدت كأنها تطلق النار على قدميها، لتجعل من الحوار شكلاً من دون مضمون. فكان التباين الحاد بين اتجاهين، وبشأن مفصلين:

الأول: اتجاه يشكّل السواد الأعظم من الفصائل الفلسطينية يُجمع على رفض الاعتقال السياسي وتبريراته وضرورة تذليل هذه العقبة والموافقة الضمنية على ميثاق الشرف، يقابله إصرار من رأس السلطة على عدم الاستجابة لمطالب إنهاء الاعتقال السياسي، والإفراج عن معتقلي حركة الجهاد الإسلامي، بحجة أنه اعتقال جنائي وليس سياسياً، وأن استجابة السلطة ستكون بمثابة ليٍّ لذراعها. ولم تتزحزح السلطة عن موقفها، الأمر الذي أعطى انطباعاً أن هناك استهدافاً لعرقلة الحوار بشكل مقصود، وهو ما أدى إلى مقاطعة الفصائل الفلسطينية الثلاثة للقاء مع أنها لم تكن ضد مبدأ الحوار في الأساس.

الثاني: إجماع الفصائل الفلسطينية على مضمون البيان الختامي الذي لم يصدر، والذي ظل يتمسك بالمقاومة الشاملة وليس المقاومة السلمية، لأن الاقتصار على "السلمية" يفسَّر بمثابة سحب للغطاء السياسي عن المقاومة المسلحة. وكان إصرار الرئيس أبو مازن على عبارة التمسك بالشرعية الدولية معاكساً لوجهة نظر الأغلبية التي تقول بالتمسك بقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، والمشاركة في منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد، بشرط إعادة بنائها وليس الالتزام ببرنامجها والاتفاقات الموقّعة. 

الحوار من المسافة صفر

لم يكن هناك حوار مباشر مع الرئيس أبو مازن عدا في "لقاء أنقرة" الأول مع حركة "حماس" عشية اجتماع الأمناء العامّين، والذي جرى بتدبير رئاسي تركي، لكنه كان عبارة عن توافق في توصيف حجم الأخطار، واختلاف على استراتيجيا المواجهة، ولم يرتقِ إلى مستوى التحديات. أمّا اللقاء الثاني الذي خصّ فيه الرئيس أبو مازن الجبهة الشعبية فكان محورياً ومن المسافة صفر، وبان فيه الاختلاف السياسي والتنظيمي بشكل واضح ومن دون دبلوماسية. فقد استمع الرئيس مباشرة إلى الموقف من الاعتقال السياسي وماذا يعني، وكذلك رَفْض تعبير "المقاومة السلمية"، وأن "المقاومة الشاملة" هي السبيل لمواجهة الاحتلال وسياسات الحكومة الإسرائيلية الفاشية، ولعدم التفريط بالمقاومة أو المساومة عليها. وفي المقابل، كان الرد من الرئيس هو أن "المقاومة السلمية" هي استجابة لمخاطبة العالم بها، وأن الشرعية الدولية ضرورية وغير مسموح عدم ذكرها في البيان، وأن الحديث عن "المقاومة الشاملة" هو لعب بالألفاظ لا يمكن قبوله، ومثل ذلك الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية وشروط بنائها واستعادة مكانتها ودورها التحرري الوطني... فكان هذا اللقاء هو الذي فضّ اللقاء، إذ بدأ التداول في استحالة إصدار بيان ختامي، مثلما جرت العادة، أو جلسة برتوكولية، وبيان رئاسي يحمل نقطة واحدة فحواها تشكيل لجنة متابعة من الفصائل مهمتها استكمال الحوار الذي لم يحدث! فكيف ستقوم لجنة على فرضية حوار وليس على مخرجات حوار، والجميع مقتنع بأنها شُكّلت لحفظ ماء الوجه، وهناك مَن يعتبرها جسراً للعبور بين مرحلتين أمام الاستحقاقات الداخلية المقبلة؟ 

الاشتباك الدموي من المسافة صفر

يختلف المكان لكن التوقيت يظل ذاته، إذ قد يحدث في فترة زمنية دالّة أمر ربما يبدو غرائبياً، وذلك عندما تتعطل لغة السياسة، وتُفصل المقدمات عن النهايات سواء بالسياسة التي تقف على رجليها أو التي تقف على رأسها، ويتم هذا عبر استراتيجيا الإلهاء بتفسير أزمة بقاء السلطة وموت النظام، إلى أزمة الوجود الفلسطيني العام والخاص. ففي مخيمات لبنان تحديداً، تمارَس استراتيجيا الإنهاك لرفع منسوب الخطر على الوجود؛ الخطر ذي الأبعاد السياسية والاجتماعية والنفسية. إن هذه الاستراتيجيا تفسر ما يحدث من توترات أمنية في المخيمات لا يمكن تفسيرها بأنها من فعل المصادفة، أو سلوك بعض "الزعران"، أو أنها مجرد أعمال "بلطجة"، وإنما هي سلسلة عامة تُقرأ في سياقها التاريخي الذي تمر فيه المخيمات. فمقولة "دع الجراح تتعفن" أنتجت واقعاً مهترئاً للاجئين الفلسطينيين في المخيمات تم اللعب عليه بأكثر من مستوى. فالفلسطيني في لبنان يعيش حالة من الخنق جرّاء مسببات ذات طابع سياسي واجتماعي واقتصادي، سابق على الطابع الأمني. كما تجري عملية تكاذب سياسي سائدة منذ "اتفاق الطائف" بأن الحقوق الإنسانية لتحسين حياة الفلسطيني في المخيمات تساوي "التوطين"، علماً بأن هناك إجماعاً وطنياً على رفض التوطين، كأن الحرب الأهلية في لبنان بدأت من أجل التوطين، واختتمت على رفض التوطين، وظلت حرباً غير معلنة معلقة على التوطين. بدا ذلك كأنه محاولة لصناعة مشترك لبناني يؤسس لوطنية مهدَّدة، وتقاسم طائفي يلوِّح دائماً بفزاعة التوطين مستعيداً ذاكرة الحرب الأهلية، ومنذراً باستمرارها بأشكال متعددة لتصبح حياة الفلسطيني عبئاً داخل "غيتو" المخيم الذي بات مقلقاً بجميع المعايير، وبات يمثل حالة نبذ، ويشهد تحولات ديموغرافية وتهديدات لوجوده ورمزيته، جعلت منه حالة متوترة وعارية بشكل كبير وبلا أفق.

وفي هذا السياق، فإن ما يجري في مخيم عين الحلوة، المخيم الأكبر في لبنان، والذي يُطلَق عليه اسم "عاصمة الشتات"، يضعنا أمام أسئلة ذات طابع سياسي كبير، لا نستطيع الإجابة عنها على عجالة، مع أن الجميع معنيّ بالإجابة: من القيادة السياسية الفلسطينية إلى الدولة اللبنانية المضيفة. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن تجاهل الأسئلة والإجابات عن لماذا يحدث ذلك، هو أيضاً، سياسة مضادة، لأنه نهج مقصود في غياب سياسة المعالجة التي تؤدي إلى تشويه العمل السياسي الفلسطيني والقضية الفلسطينية والوطنية الفلسطينية المجسَّدة بالإجماع الوطني؛ هذا التشويه الذي يعزز ذهنية الكراهية، ويضع جداراً نفسياً بين المحيط اللبناني والمخيم الفلسطيني. 

كمين مخيم عين الحلوة

لقد هدف تفريغ المخيمات من مضمونها ومحتواها وشبابها، من طرف جهات تسعى لتصفية قضية اللجوء الفلسطيني، إلى تحويل اللجوء إلى فزاعة. وفي هذا الإطار، كان هناك مَن هو جاهز لتسهيل هذه المهمة عبر تدمير القلاع من داخلها بعد أن فشل في أخذها من الخارج، وذلك عن طريق نشر الآفات الاجتماعية التي لا نراها مباشرة، والتي لا تقلّ خطورة عن قضية إطلاق النار، كالمخدرات وغيرها، التي تنتشر بين شباب المخيمات. ولذا، ثمة استهداف شامل للجسد الفلسطيني، وقضية اللاجئين، وحقّ العودة.

لقد ظهرت مجموعات "ما دون وطنية" و"ما دون سياسية" لها انتماءاتها المتنوعة والمدمرة، وهي للأسف نجحت في مخيم نهر البارد. ولم يعد الحديث عن مجموعات شاذة، وإنما عن مجموعات تستند إلى قوة مستعارة من الخارج، ولديها القابلية للاستعمال والاستزلام، ومعظمها مكوّن من عناصر مطلوبة ومطاردة، إمّا تخفَّت في المخيم، وإمّا غادرته. وهنا، يكمن السؤال عن استعادة بعضها لعافيته، مستغلاً الفراغ الذي يعصف بالبلد، وذلك عبر تقديم المساعدة من خلال دفع المال وتهريب السلاح ليجري تحريكه من الخارج كلما سنحت الفرصة، والتحكم في التوقيت السياسي للفعل الأمني كصاعق تفجير، استتبعه ما حدث في مخيم عين الحلوة من تهجير وتدمير يذكّران بنكبة مخيم نهر البارد في سنة 2007. لقد عانى مخيم عين الحلوة ولا يزال يعاني شرور مجموعات متعددة، وإن كان الوضع حتى الآن يبدو تحت السيطرة. 

في انتظار ساعة الصفر

أسفرت الاشتباكات الأخيرة في مخيم عين الحلوة عن سقوط 13 قتيلاً وأكثر من 65 جريحاً. ومع أن الاشتباكات توقفت، إلّا إنها لم تنتهِ، وظل الجميع على موعد مع ساعة الصفر التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنتائج "لجنة التحقيق" التي شكلتها "هيئة العمل المشترك الفلسطيني" في لبنان. وقد كشفت النتائج من خلال تحقيق دقيق مشفوع بالأدلة عن وجود ثمانية من القتلة، نصفهم من خارج المخيم ويحملون جنسيات غير فلسطينية، من الذين نفذوا مباشرة كمين عين الحلوة الذي اغتيل فيه قائد قوات الأمن الوطني الفلسطيني في لبنان اللواء أبو أشرف العرموشي وعبد الرحمن فرهود. والآن تجري المطالبة بتسليم هؤلاء القتلة إلى القضاء اللبناني، وبتعاون الجميع كلياً فإنه سيتم تسليمهم إلى الجيش والدولة اللبنانية المسؤولة عن إنفاذ القانون. ومثلما جرت العادة، فإن بعض الجناة توارى عن الأنظار، الأمر الذي يثير القلق ويشي بجولة جديدة ربما يشير إلى إمكان حدوثها عدم إزالة الدشم والسواتر، وبقاء الطرقات مقفلة في الأحياء الساخنة. فالمسألة، إذاً، ليست مسألة فرض سيطرة، وكسب رخيص، ومحاولة إثبات ذات على حساب المخيم ووجود سكانه، بل هي قضية وطنية وسياسية كبيرة يجب أن يكون التنافس الحقيقي فيها في حسم الصراع مع العدو الصهيوني.

ولعل من الجدير بالملاحظة، أن الاشتباكات تزامنت مع ظروف تشابك الأزمات اللبنانية المتعددة، الرئاسية والحكومية والاقتصادية والأمنية، وهو ما يعني أن للفلسطينيين نصيباً في الاستحقاقات اللبنانية، ذلك بأن الجميع موجود على المركب نفسه. وبالتالي، فإننا أمام مرحلة جدية نأمل بأن ينجم عنها ما يعمل على تحسين الوضع الفلسطيني. ففي ضوء ما يجري في المخيمات، والحالة السياسة اللبنانية، فإن الجميع ينظر إلى القوانين المتعلقة بالفلسطينيين، لأن الإبقاء على السياسات التمييزية والتهميشية من شأنه أن يخلق بيئة سلبية تستنبت مزيداً من الأفكار السوداء والآفات الاجتماعية والمظاهر الضارة بالجميع، فالعنف لا يأتي من فراغ، بل له أبعاده السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية. 

اغتيال الفكرة الوطنية

لقد كان من تبعات الانقسام الفلسطيني العام، والاختلال في المرجعيات السياسية، إنهاك الحالة الوطنية، وتحويل الوجود الوطني إلى جزر وبؤر أمنية مغلقة ومفتتة ومنعزلة، وذلك على الرغم من تشكيل قوى أمنية مشتركة، وغيرها. وقد أثّر ذلك في ظهور حالات متطرفة ومتعصبة ومنغلقة استهدفت اغتيال الفكرة الوطنية بأدوات جديدة، من حيث تدري أو لا تدري، مستندة إلى الظواهر الشاذة والمنفلتة والبيئة السلبية التي أنتجتها. وقد غاب عن هذا الواقع الاعتراف بمفهوم الواجب الذي يسبق مفهوم الحق، إذ الواجب واجب وليس حواراً ولا خياراً، بل هو تقدير للذات وللآخر، وثمة ضرورة لعدم الفصل بين موجبات احترام التوازن والحقوق والواجبات الأساسية. ولعل الاعتراف بذلك هو بمثابة اعتراف بإنسانية الآخر، والإقرار بأن له خصوصية وهوية وطنية.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه يجب توخي الحذر في استخدام مفردات الخصوصية الفلسطينية، ذلك بأن الذاكرة الفلسطينية المحتشدة بأهوال الاقتلاع والمثقلة بالخشية من الخطر المحتمل والمقبل، لا تُسقِط من مدونتها تعبير "الشعب الزائد" الذي مهّد لمجزرة صبرا وشاتيلا، ولا تتوقف عن التفكير في أن سياسة محاربة التوطين أسست لمحاربة الفلسطيني و"تحرير المخيمات من الفلسطينيين"! وبهذا المعنى، فالأمن لا يستقيم بمعزل عن القانون الذي هو ليس خارج السياسة، ما دام اللاجىء إنساناً غير مرغوب فيه، وهو يتجرّع يومياً مرارة لقمة العيش والتنقل والعمل والسكن وإدخال مواد البناء... الأمر الذي يؤدي إلى تنامي الشعور بالاضطهاد. وفي هذا السياق، يعرف الاستراتيجيون أن مفهوم الأمن متعدد، وأن اختلاف أركانه يجعل النظر إليه كأمن شامل، وليس كقضية أحادية، فالأمن مصلحة عليا، فردية وجماعية، ولا يمكن أن يتجزأ. إن هدف الأمن هو تحقيق الشعور بالأمان، ويتم عبر تحسين شروط الحياة الاجتماعية والإنسانية للفلسطينيين في لبنان، وعدم معاندة الواجبات الموضوعية للدولة اللبنانية إزاء الوجود الفلسطيني.

وختاماً، لا بد من الدعوة إلى توقف الزعبرة السياسية كي لا نبقى نتحدث عن كارثة كبرى ونكبة جديدة ونشجب وندين ونحذر... كما يجب الدعوة إلى عدم الوصول إلى نقطة انفصام سياسي لا تدل فيها الكلمات على معانيها، ولا نجرؤ فيها على الاقتراب من نقطة الوضوح، فنؤيد دعم عدالة القضية ونحجب العدالة عن أبنائها! ولذا، تصبح الحاجة إلى السياسة الفاعلة كبديل عقلاني للزعبرات كلها التي تُدخلنا في لعبة مميتة بين اللهو والقتل. ونحن لا نريد أن نكرر مأساة أبطال "جيسالدو بوفالينو" في "أكاذيب الليل"، الذين قضوا الليلة الأخيرة قبل الإعدام في التنظير لطريقة الإعدام التي يفضلها كل فرد منهم لنفسه، والتوقيت الملائم لموته. وهنا، لا ننسى الأب السرمدي الذي يصغي إلى اعترافاتهم، ليفاجئهم في النهاية بأنه هو الحاكم الذي زجّ بهم في السجن وحَكَم عليهم بالإعدام، واكتفى بالتعليق على حواراتهم بكلمة موجزة ختامية فحواها أنه وحده الذي ينطق بالحقيقة، وأن ما سمعه منهم ليس إلّا مجرد أكاذيب وزعبرة فارغة.

السيرة الشخصية: 

مروان عبد العال: كاتب روائي، وعضو مكتب سياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.