ما زالت العملية العسكرية التي قام الجيش الإسرائيلي بشنها في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين وأطلق عليها اسم "بيت وحديقة"، واستمرت يومين (3-5 تموز/يوليو 2023)، تشغل بال المحللين الإسرائيليين، السياسيين منهم والعسكريين. وأكثر ما يلفت النظر في هذا الانشغال، ولا سيما في الفترة التي تلت العملية، وتحديداً لدى التوقف أمام نتائجها الناجزة، أنه في حين كان هناك شبه إجماع في الرواية الإسرائيلية على أن العملية التي جرت بالتعاون بين الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام "الشاباك"، واستهدفت تدمير بنية المقاومة التي أقامتها حركة الجهاد الإسلامي وفصائل فلسطينية أخرى، توصف بأنها "متطرفة" و"إرهابية" في المخيم خصوصاً، وفي منطقة جنين عموماً، وتم فيها استخدام قوات برية وقوة سلاح الجو، حققت معظم ما سعت له. وبموازاة ذلك، ثمة إجماع تام هناك على أن ما شهدته جنين في الآونة الأخيرة على صعيد مقاومة الاحتلال يشكل تحدياً جديداً بالنسبة إلى إسرائيل، ولم تنطوِ العملية العسكرية الأخيرة على جواب حاسم عليه، من جهة. ومن جهة أُخرى مكمّلة، نصادف أيضاً مثل هذا الإجماع في كل ما يتعلق بمستقبل المقاومة، أو فيما تصفه الرواية الإسرائيلية بأنه "اليوم التالي".
ولكي نقدم نموذجاً مما نبغي أن نخلص إليه، نشير إلى أنه في جلّ التحليلات الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص تلك الصادرة عن معاهد أبحاث إسرائيلية مختصة في الاستراتيجيا والأمن القومي، على غرار "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، و"معهد السياسة والاستراتيجيا" في جامعة رايخمان، و"معهد القدس للاستراتيجيا والأمن"، و"معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجيا الصهيونية" (معهد أبحاث يميني جديد أقيم في ربيع 2023 خلفاً لـ "معهد الاستراتيجيا الصهيونية"، ويقف على رأسه الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي في ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية مئير بن شبات) وغيرها، لوحظ أنه في سياق إجمال العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين، تم الوصول إلى الخلاصة التالية: المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 تنزع صورة وتلبس أُخرى، وهذا الأمر يمكن تلمّسه على وجه خاص منذ عملية "السور الواقي" التي قام بها الجيش الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية سنة 2002، وتبلور بشأنها اتفاق على أنها غيرت قواعد اللعبة مع السلطة الفلسطينية بصورة جدية، إذ بدأت إسرائيل، عقب هذه العملية، تعمل أيضاً في داخل المناطق التي تسيطر عليها السلطة، وهي مناطق لم تكن تقتحمها حتى تلك العملية.
تتسم عمليات المقاومة في الوقت الحالي بأنها إما عمليات فردية أو عمليات إطلاق نار، ويبدو أنه من الصعب منعها، بناءً على تلقّي معلومات استخباراتية. وبحسب ما كتبه المؤرخ الإسرائيلي المختص في شؤون الشرق الأوسط، إيال زيسر، فإن عملية "بيت وحديقة" ستؤدي إلى هدوء محدود وموقت، لأن الحملة ذاتها والتحركات الدائمة للجيش في الضفة لديهما القدرة على نزع القدرات والأدوات من منفّذي العمليات، وكذلك القدرة على تفكيك ما يسمى بنى "الإرهاب" واغتيال مَن يوجّه العمليات، ولكن ليس لديهما القدرة على تجفيف "مستنقع الإرهاب"، أو إضعاف الدافع إلى إلحاق الأذى بإسرائيل. وعملية المقاومة التي جرت خلال الحملة على جنين ذكّرت بهذا، حين قام منفّذ منفرد، من دون انتماء فصائلي، بتنفيذ عملية دهس في قلب تل أبيب (نشرة "مختارات من الصحف الإسرائيلية"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 10/7/2023).
بالإضافة إلى ما تقدم، فإن أي قراءة لغايات العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين وتوقيتها تستلزم التطرق إلى مسألتين لهما صلة بما ورد في السطور السابقة، وتمت مقاربتهما إسرائيلياً إلى حد ما: المسألة الأولى، طبيعة أشكال المقاومة للاحتلال وآليته العسكرية، والتي طورتها فصائل فلسطينية في الآونة الأخيرة وكانت جنين بالذات بمثابة شاهد عليها؛ والثانية، التداعيات المترتبة على هذه المقاومة فيما يتعلق بالأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وليس فقط بها. قبل أن نخوض في ذلك، لا بد من ذكر أن هذه العملية، حتى وفقاً للقراءات الإسرائيلية، كانت شبه حتمية، على خلفية هاتين المسألتين اللتين تؤشران إلى ما تواجهه دولة الاحتلال من أحداث ووقائع وتجارب في أراضي الضفة الغربية، وما تتخللها من خبرات تكتنزها المقاومة ولها تأثير عميق في تصوّرها لذاتها من جهة، وفي رسالتها إلى الفلسطينيين والعرب عموماً، وكذلك إلى العالم أجمع من جهة أُخرى.
بخصوص المسألة الأولى، يتعين علينا أن ننوّه بأن الكثير من المحللين العسكريين الإسرائيليين، وفي مقدمتهم المحلل في موقع "واينت" التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت" رون بن يشاي (نشرة "مختارات من الصحف الإسرائيلية"، 3/7/2023)، يؤكدون منذ فترة قصيرة أن المقاومة الفلسطينية في جنين طورت طرق قتال تسمح بالتصدي لحملات ما يوصف بأنه "اقتحام عميق" والتي يقوم بها الجيش الإسرائيلي وجهاز "الشاباك" والوحدات الخاصة التابعة لحرس الحدود. فلقد رصدت المقاومة محاور خروج المركبات التي تحمل القوات الإسرائيلية من الميدان كنقطة ضعف، وزرعت فيها عبوات ناسفة بكميات كبيرة جداً على طول تلك المحاور، بهدف تكبيد تلك القوات ثمناً باهظاً. وفي البداية، كانت هذه العبوات مصنوعة من مواد متفجرة من إنتاج محلي، وبأوزان خفيفة وقوة ضئيلة، ولكن في الأشهر الأخيرة تطورت إلى عبوات كبيرة، يبلغ وزن كل منها أكثر من 20 كيلوغراماً من المواد المتفجرة، ويتم تفعيلها عن بُعد عبر الهواتف النقالة. وانتبه الجيش الإسرائيلي إلى هذه الظاهرة منذ فترة وجيزة، وبدأ بتحصين قاعدة المركبات العسكرية المستعملة في العمليات داخل مخيم جنين وشمال الضفة الغربية. والعبوات في شمال الضفة يتم زرعها، ليس فقط على جوانب الطريق، بل أيضاً في الأماكن التي يمكن الحفر فيها وسط طرقات ترابية، وتحدّ من حرية حركة جيش الاحتلال، كما ثبت خلال العملية العسكرية الإسرائيلية السابقة التي جرت يوم 19 حزيران/يونيو 2023 في قطاع جنين، ووُصفت في حينه بأنها "واجهت تعقيدات وتحديات أمنية جديدة".
وأشير بشأن هذه العملية، على وجه الدقة، إلى أن زرع العبوات يُعد عملية يصعب القيام بها سراً، كونها تحتاج إلى نقل العبوة وحفر حفرة وزرعها، ثم تغطيتها والتأكد من أن منظومة تفعليها ستستقبل الإشارة، وعلى الرغم من ذلك كله، فإن العملية أُنجزت من دون أن تتمكن أجهزة جمع المعلومات الاستخباراتية لدى الجيش الإسرائيلي من اكتشافها والعلم مسبقاً بها، ومن دون أن تحدد للقوات مكانها. ويوماً بعد يوم، تتواتر التقارير الإسرائيلية التي تتحدث عن غياب المعلومات الاستخباراتية لدى إسرائيل، وهو ما يحول، في رأيها، دون القيام بـ "هجوم منهجي وعميق" على البنى التحتية للمقاومة، فضلاً عن تلميح البعض إلى أن هذا الغياب يجعل قادة المؤسسة الأمنية يتخبطون إزاء ماذا ينبغي أن يكون الحدث التالي.
والمسألة الثانية لا تقل أهمية، فهذا النموذج من المقاومة، ذو العلاقة بمدينة جنين ومخيمها على وجه التحديد، يؤدي دوراً فاعلاً في رفع سقف التوقعات التي يبنيها الفلسطينيون على مواجهة الاحتلال ومقاومة آلته العسكرية الجبارة، الأمر الذي دفع عدة محللين عسكريين إسرائيليين إلى الإقرار بأن الوضع تغير، وبأن جنين تصنع نموذجاً يُحتذى به، ويفرض تطوير طرق عمل إسرائيلية ملائمة أُخرى، ومعظمهم يقصد، بطبيعة الحال، طرق العمل العسكرية الأمنية. كما أن هذا النموذج يحتمل أن يتمدد إلى مناطق أُخرى في الضفة الغربية، وهو أمر يمكن ملاحظته منذ الآن بصورة جلية في مدينة نابلس، وبصورة محدودة أكثر في مدينتيْ طولكرم وأريحا، وهو ما يؤدي، ربما في أفق منظور، إلى نشوء واقعٍ مغاير، فيه العديد من التهديدات لإسرائيل في وقت قصير نسبياً. ولا شك في أن هذا الواقع يفاقم مأزق الاحتلال، بمجرد أنه تسبب بخلخلة استكانته إلى وضع قائم سادت خلاله حالة من الهدوء وتراجع عمليات المقاومة في أغلبية أراضي الضفة الغربية.
عن "اليوم التالي"
إلى جانب كل التشخيصات السالفة الذكر، تتصدى التحليلات الإسرائيلية لمحاولة وضع إجابات عن أسئلة أُخرى من قبيل: ماذا يحمل "اليوم التالي" بعد العملية العسكرية في جنين؟ وما الذي يجب على إسرائيل القيام به؟
السيناريو الأرجح بالنسبة إلى "اليوم التالي" مرتبط إلى درجة كبيرة بصيرورة إسرائيل الحالية التي تتولى فيها حكومة يمينية كاملة مقاليد الحكم، فضلاً عن أنها تتسم، وفقاً لتقدير "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، بفقدان الإدارة الأميركية أدواتها التي من شأنها أن تتيح لها إمكان كبح الحكومة الإسرائيلية في كل ما له علاقة بسياسة الاستيطان التي تقودها، والتي تهدف إلى إغلاق الباب على خيار تسوية سياسية تعتمد على "حل الدولتين" (من دون أن يعني ذلك أن باب هذا الخيار كان مفتوحاً قبل ذلك). كما ازداد التوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة بسبب عجز الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن معالجة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين. وأضيف إلى ذلك القلق الأميركي من نتائج الانقلاب القضائي الذي تدفع به الحكومة قدماً، والذي يؤجج احتجاجاً شعبياً واسع النطاق، إلى حد أن العلاقات بين الإدارة الأميركية وبين الحكومة الإسرائيلية تشهد فترة توتر كبيرة، وهذا معناه زعزعة الركيزة الشرعية الدولية لإسرائيل، من بين أمور أُخرى (نشرة "مختارات من الصحف الإسرائيلية"، 12/7/2023).
في ظل انسداد الأفق أمام أي خيار سياسي فيما يتعلق بالأراضي المحتلة منذ سنة 1967، فإن أبرز ما يُطرح على إسرائيل فيما يخص ما الذي يجب عليها فعله بعد العملية العسكرية في جنين، يتمثل في خيارين اثنين:
الخيار الأول، ويوجد إجماع كبير عليه، ويبدو أنه الخيار الذي يتبناه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، هو الاستمرار في عمليات إحباط المقاومين الفلسطينيين وبنى المقاومة الآخذة في التطور في كل مكان، وعدم انتظار نمو فروع جديدة وجذور. وبلغة أحد المحللين في وسائل الإعلام الإسرائيلية اليمينية "جز العشب عندما يبدأ بالنمو، والحرث العميق أيضاً في مناطق لا تكفي فيها العمليات اليومية"!
الخيار الثاني، تشجيع عودة سيطرة السلطة الفلسطينية على شمال الضفة الغربية (هنا يتعين أن نشير إلى أنه بموجب السيناريو الإسرائيلي، أدى تصاعُد المقاومة في شمال الضفة، بما في ذلك في جنين، إلى غياب سيطرة السلطة الفلسطينية، وأساساً سيطرتها الأمنية على هذه المنطقة). ويقترح أصحاب هذا الخيار أن يتم ذلك بواسطة الدفع قدماً بمشاريع اقتصادية، وإقامة مراكز تأهيل وعمل للشباب الفلسطيني. وأنه من أجل تأمين مساعدة تساهم في تحضير مشاريع حيوية، من المهم إقامة آلية رقابة دولية مكونة من الدول المانحة للتأكد من أن الأموال الممنوحة للسلطة يتم توظيفها فعلاً في مشاريع بنى تحتية ومهنية في منطقة جنين. ولا بد، عند هذا الحد، من أن نشير إلى أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية- الأمنية [الكابينيت] اتّخذ يوم 9 تموز/يوليو 2023 قراراً بشأن العمل على تقوية السلطة الفلسطينية، لكنه في الوقت عينه، فرض عليها سلسلة شروط من الصعب تلبيتها، بموجب تأكيد معظم التحليلات الإسرائيلية. من بين هذه الشروط وقف الدعم المالي لعائلات الناشطين الفلسطينيين الذين قُتلوا أو أُسروا، والامتناع من مهاجمة إسرائيل في المحافل الدولية.