الهتاف الوطني من العفوية إلى التجديد
التاريخ: 
12/12/2022
المؤلف: 

وسط المشهد المهيب ومرارة الحدث، شدّني هتاف طلاب جامعة بيرزيت "يا شهيد لا تهتم احنا شرّابين الدم"، وهم يجوبون حرم جامعتهم، رافعين جثمان زميلهم ظافر الريماوي الذي ارتقى برصاص الجيش الإسرائيلي، سوياً مع شقيقه جواد خريج الجامعة ذاتها. حينها، داهمني سؤال على عجل، من هم شرّابين الدم؟ لم أدرِ ما إذا كان يحق لي أن أطرح هذا السؤال في هذا التوقيت العصيب أصلاً. إلّا أنني متأكد تماماً من أن هتافاتنا باتت بحاجة إلى تجديد؛ كي تبقى روح الثورة سارية، وتُبقي جذوة مشاعرنا، التي أصبحت فاترة، مشتعلة.

في الواقع، لا تتوقف ظاهرة الهتافات ورفع اليافطات في المسيرات الاحتجاجية وجنازات تشييع الشهداء. ويستند مبدأ الهتاف إلى أن يقوم شخص ما بترديد شعار يتناغم مع سبب التظاهرة، ثم يقوم المشاركون بترديده بصوت عالٍ، والغاية منه إيصال رسالة ما. إذ تُعَد هذه الممارسة نوعاً من أنواع المقاومة.

كما تتباين الهتافات من حالة إلى أُخرى، ومن مكان إلى آخر، وبحسب المناسبة التي خرجت الجموع من أجلها، أو الرسالة المراد إيصالها، سواء أكانت دعماً أم رفضاً، أو استنكاراً لحدث ما. فعلى سبيل المثال، يردد المشاركون في جنازات الشهداء "يا شهيد ويا مجروح، دمك هدر ما بروح". بالإضافة إلى ذلك، تظهر الخلفيات الأيديولوجية السياسية والفكرية للمشاركين، فنسمع في مسيرة لحركة "حماس"، على سبيل المثال، هتاف "في سبيل الله قمنا"، وفي مسيرة لحركة "فتح"، نسمع "أبو عمار قالها فتح ونحن رجالها"، أما في مسيرة للجبهة الشعبية، فنسمع "هيك علّمنا الحكيم، على نهج الثورة السليم".

لكن أحياناً، قد تتمازج الهتافات ويختلط بعضها ببعض في مسيرة واحدة، من دون أية حساسية تنظيمية تظهر أو تُذكر. فلا يُعَد ذلك تناقضاً بين الهاتف والهتاف؛ كمحاولة لإثبات شيء من الوحدة الوطنية في المصائب الجلل. ولا تخلو مسيرة من الدعوة إلى الوحدة الوطنية "وحدة وحدة وطنية .. حماس وفتح وشعبية"، أو أن يصبح المنادى في الهتافات واحداً من الشخصيات المعروفة التي على الرغم من انتمائها الحزبي، فإنها تخرج عن كونها حزبية فقط، وتتحول إلى شخصية وطنية عامة. فمثلاً خلال العامين الأخيرين، ولا سيما بعد هبّة أيار/مايو 2021، اشتهر هتاف– وإن كان قديماً-"حط السيف قبال السيف.. نحن رجال محمد ضيف"، مع العلم بأن محمد ضيف هو القائد العام للذراع العسكرية لحركة "حماس".

يتّسم الهتاف الفلسطيني العفوي ببساطته، من حيث التركيب اللغوي، كما يجتهد ناظموه في أن تكون كلماته مسجوعة، فيضفي لفتة على السمع، يحمل شيئاً من الإيقاع الموسيقي؛ بغية أن يكون سهل الحفظ، سريع التكرار والترديد، كهتاف "على القدس رايحين، شهداء بالملايين"، على سبيل المثال، لا الحصر.

من ميزة الهتاف الوطني في الحالة الفلسطينية أنه لا يقتصر على التظاهرات والجنازات فقط، بل يدخل إلى أجواء الأفراح والحفلات. ففي أكثر من مناسبة، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر بعض المشاركين في الأعراس واحتفالات التخرّج، يرددون فيها هتافات تمجّد المقاومة وقادتها، مثل "شوف شوف ولّى زمان الخوف.. لعلع يا كلاشينكوف".

من خلال استقراء الهتافات، استطاع محمد سليمان في دراسته "الهتاف قسَم الاستمرار في الانتفاضة"[1]، أن يصنّف الهتافات في قوالب متعددة، هي: الهتاف الديني "الله أكبر... الله أكبر"، والهتاف العلماني "فتح وجبهة وشيوعية ... أساس الوحدة الوطنية". أما من خلال الأداء، فتقسم الهتافات إلى تكريمية للشهداء، وهتافات المواجهة، وهتافات تعبوية، وهتافات تأكيد الانتماء.

على الرغم من أهمية الدراسة المذكورة آنفاً، من حيث الموضوع والتأريخ، فإن هناك بعض الملاحظات عليها، وهي تأتي بمرور السنوات، واختلاف الخطاب الفلسطيني. فمما لا شك فيه أن الهتافات تنطلق بشكل عفوي، على الرغم من الدور الذي تلعبه الخلفية الأيديولوجية في صوغها، إلا أننا من الممكن أن نسمع الهتاف الديني "الله أكبر" في مسيرات غير مسيرات الحركات الإسلامية اليوم.  مضافاً إلى ذلك تبدُّل بعض الكلمات والأسماء الواردة في الهتافات بأُخرى حديثة تلائم الحالة الراهنة والأحداث الجارية. مثلاً، كان الهتاف في الانتفاضة الأولى "اسمع.. اسمع يا شامير"، فتبدّل خلال انتفاضة الأقصى إلى "اسمع ... اسمع يا شارون"، ثم تحول بعد ذلك إلى "اسمع ... اسمع يا نتنياهو"، وهكذا دواليك. كما أن بعض الهتافات قد تلاشت تماماً وحلت محلها هتافات جديدة.

عند تتبُّع سيرورة الهتاف الجماهيري منذ الانتفاضة الأولى (1987)، مروراً بانتفاضة الأقصى (2000)، حتى المواجهة الحالية (2022)؛ كونها الفترات الأكثر تسجيلاً للمسيرات وجنائز الشهداء، نرى أن تغيّراً نسبياً طرأ على طبيعة الهتافات. فعفويتها التي كانت مركز قوتها في الوقت ذاته، تحولت مع توالي الأيام إلى مجرد شعار لا يتجاوز حناجر المشاركين، وهو ما يعني أن الهتافات التي كانت حمّالة الرسائل باتت جوفاء، لا تحمل إلا رمزية الترديد؛ ويعود ذلك إلى كثرة ترديدها، وهو ما خلق نوعاً من الألفة بين السامع والهتاف.

نظراً إلى الدور المركزي للهتافات في المقاومة الفلسطينية، فمن الضروري اليوم إعادة صوغ الهتافات الوطنية بشكل مدروس أكثر، وفق نظريات هندسة الجمهور، وبما يتناسب مع الحالة القائمة؛ حتى تعطي هذه الهتافات، أو كلها، دوراً تعبوياً، وترفع الروح المعنوية للمفجوعين من الفقد، وللمقاومين، ولا سيما في جنازات الشهداء، وذلك كجزء من برنامج مقاومة توافقي متعدد الأشكال واضح المعالم والوسائل.

 

[1]محمد سليمان، "الهتاف قسَم الاستمرار في الانتفاضة"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، المجلد 2، العدد 2 (1990)، ص 102.

عن المؤلف: 

ياسر مناع: طالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت.