عقيدة المقاومة في الضفة: اشتباك حتى النهاية
نبذة مختصرة: 

تشهد الضفة الغربية منذ فترة ليست بعيدة، وخصوصاً جنين ونابلس، ظاهرة عمل مسلح بأسلوب جديد أربك الاحتلال؛ فلا هو فردي مثلما جرت العادة أن يقوم فرد بتنفيذ عملية إطلاق نار أو دهس أو طعن، ولا هو منظم بهيكلية قيادية، إلّا إن أبطاله معروفون في محيطهم.

النص الكامل: 

في مبنى قديم في حارة الفقوس في البلدة القديمة في مدينة نابلس، حجارته أكبر عمراً من دولة الاحتلال، تحصّن الشابان إبراهيم النابلسي (19 عاماً)، وإسلام صبوح (23 عاماً) بسلاحَيهما الخفيفين ليواجها دولة نووية دفعت بمئات الجنود من قوات نخبتها واستخباراتها وجيشها لمحاصرتهما، فقاتلا لساعات واستشهدا.

 

إبراهيم النابلسي

 

في داخل البيت القديم، وبعد انقشاع غبار الاشتباك، وُجد إبراهيم ملقى على الأرض ومصاباً برصاصة قاتلة في العنق، وجسده مطرز بشظايا الرصاص والقذائف، بينما كان جسد رفيقه صبوح متفحماً وممزقاً، وبندقيتاهما مرميتان على الأرض، إحداهما انفجرت بسبب الاشتباك الطويل، والأُخرى بقي فيها رصاصة يتيمة لم تُطلق.

حظي النابلسي بحب جارف في مدينة نابلس لأنه جسّد نموذج المقاوم المشتبك، على الرغم من صغر سنه، ولا سيما أنه نجا من أربع محاولات اغتيال، "وكان محبوباً من الكبار والصغار"، مثلما قال والده علاء النابلسي لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية".

روى النابلسي الأب حكاية طفل جاء مع والده إلى بيت عزاء الشهداء، وعندما رأى صورة إبراهيم أخذ يقبلها وهو يصرخ: "إبراهيم، إبراهيم".

تربّى إبراهيم على العمل الوطني باكراً، متأثراً باعتقال والده في سجون الاحتلال، وإغلاق منزل عائلته، ولاحقاً اعتقال شقيقه عبد الله.

أوضح والده أنه "منذ أكثر من عامين أصبح إبراهيم مطلوباً من قوات الاحتلال، لكنه رفض تسليم نفسه، وخلال تلك الفترة جرى اعتقاله من طرف السلطة الفلسطينية، وبعد أن أُفرج عنه، استمر الاحتلال في مطاردته، لكن إبراهيم في الحقيقة كان هو مَن يطارد الاحتلال."

وأضاف: "كان إبراهيم مقبلاً غير مدبر، وحين يعلم بوجود اقتحام أو توغل لجيش الاحتلال في المدينة، كان يهرع إلى الاشتباك مع الجنود والتصدي لهم، فتقوم قوات الاحتلال باقتحام منزلنا وتخريبه مهددين بتصفيته وقتله وليس اعتقاله فقط."

تحظى اللحظات الأخيرة من حياة الشهداء بالاهتمام، فيتساءل الناس: تُرى فِيمَ كانوا يفكرون، وما هي كلماتهم الأخيرة؟ لكن إبراهيم وزميله صبوح سرقا بعض الدقائق من الوقت للحديث مع ذويهما، فاتصل إبراهيم بوالدته، وقال لها أنه يحبها كثيراً، وأنه ذاهب إلى الشهادة، وطلب منها "ألّا تزعل، وأن حبها من حب الوطن"، وتحدث إلى والده وقال أنه لن يسلّم نفسه مهما يحدث، وسيقاوم حتى آخر رصاصة معه، فـ "آخر رسائله إلينا كانت الحب"، يقول والده.

في السادسة و40 دقيقة من صباح التاسع من آب / أغسطس، بدأت نابلس صباحها بسماع إطلاق نار كثيف في البلدة القديمة، بعد أن تمكّن عناصر قوات إسرائيلية خاصة من اقتحام حارة الفقوس، مموهين بزيّ عمال اتصالات ودهان، مصحوبين بقوة أُخرى في مركبة مدنية بيضاء جاءت من منطقة أُخرى، والهدف محاصرة منزل في الحارة.

وقال مازن الدنبك، القيادي في حركة "فتح" في البلدة القديمة وأحد شهود العيان، لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية"، إن "المنزل الذي يتحصن في داخله النابلسي وصبوح حوصر لـ 4 ساعات اندلع خلالها اشتباك مسلح لم تشهد نابلس مثيلاً له منذ 17 عاماً"، وخلاله "كان جنود الاحتلال يطلبون من النابلسي وصبوح بين حين وآخر أن يسلّما نفسيهما، وكان ردهما عليهم التكبير وإطلاق النار."

يلجأ جيش الاحتلال إلى استخدام أسلوب "طنجرة الضغط" في مثل هذه العمليات مع المقاومين، وهو أسلوب يعتمد على حصار المكان الذي يوجد فيه المقاوم من جميع الجهات، ثم إطلاق النار والصواريخ الخفيفة من كل حدب وصوب. وهذا الأسلوب استخدمه الاحتلال في العشرات من عملياته في الضفة مؤخراً.

وقال الدنبك: "استخدم جيش الاحتلال صواريخ إنيرغا، ولاو، وقنابل يدوية، ونشر القناصة على أسطح المنازل خلال الاشتباك، ولم تكن تمر ثانية إلّا ونسمع صوت إطلاق نار أو ضرب صاروخ أو قنابل تجاه الشابَين، بينما كانت مكبرات الصوت في المساجد تدعو الناس إلى النزول إلى الشارع والتكبير."

وأضاف أنه بعد انسحاب الجيش، "توجهنا إلى المنزل حيث وجدنا جثة الشهيد إسلام صبوح محروقة ومتفحمة ودخان الحريق يخرج منها، وكان إبراهيم مصاباً بطلق ناري في عنقه وفي رأسه من الخلف."

خسارة النابلسي وصبوح جاءت ثقيلة على الفلسطينيين، ولا سيما أنها جاءت بعد ساعات من العدوان على قطاع غزة، وأيام فقط من عملية مشابهة في حارة الياسمينة في نابلس، والتي شهدت اشتباكاً استشهد فيه أبو صالح العزيزى وعبد الرحمن صبح، وأصيب الشاب محمد حرز الله بجروح خطرة للغاية، ولا يزال يرقد في العناية المكثفة حتى اللحظة، بينما نجا النابلسي وغيره من المقاومين من تلك العملية.

حظي النابلسي وصبوح بجنازة مهيبة خرج فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قدموا من أرجاء الضفة الغربية كلها، وهي امتداد لجنازة الشهداء الثلاثة: أدهم مبروكة ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط، أصدقاء النابلسي وأفراد خليته الذين اغتيلوا في شباط / فبراير 2022 في مدينة نابلس، إذ كانت هذه الجنازات تعبيراً واضحاً وإجماعاً على حالة المقاومة التي جسّدها الشهداء.

 

نابلس كلها كانت في وداع إبراهيم

 

مثّل الاشتباك الذي خاضه النابلسي وصبوح، وقبله اشتباك حارة الياسمينة، حالة مقاومة ممتدة وقوية لم تعشها نابلس منذ أعوام، إذ استطاع شهداء هذين الاشتباكَين الذين لم تتجاوز أعمارهم 25 عاماً، من إرساء وتجسيد عقيدة قتالية صلبة للغاية، بدأت من جنين، ثم انتقلت إلى نابلس، وهي تعتمد على القتال حتى النفس الأخير، وعدم الاستسلام أو السماح للاحتلال باعتقالهم.

كانت معركة "سيف القدس" في أيار / مايو 2021 الدافع الأكبر إلى تأسيس خلايا مقاومة مسلحة في الضفة الغربية، عملها أكبر من حالات المقاومة الفردية، وإلى البدء بتأسيس اشتباك ومواجهة مع قوات الاحتلال في مدن الضفة الغربية. وبعد ذلك جاءت عملية نفق الحرية التي تمكّن فيها 6 أسرى من انتزاع حريتهم، لتدفع إلى الأمام ذلك العمل المقاوم من أجل توفير الحماية للأسرى في حال وصولهم إلى الضفة.

ويُنسب الفضل في تجديد الاشتباك في شمال الضفة الغربية، وتأسيس ما عُرف فيما بعد بكتيبة جنين، ولاحقاً كتيبة نابلس، إلى الشهيد جميل العموري الذي استشهد في حزيران / يونيو 2021 في مدينة جنين. ومع أن ما أسس له العموري من تلك الخلايا لم يرَ النور سوى بعد استشهاده في اشتباك مسلح في المدينة، إلّا إنه أرسى وجسّد على أرض الواقع عقيدة القتال حتى الشهادة.

السيرة الشخصية: 

أحمد العبد: صحافي فلسطيني.