عالم ما وراء النزاع الأوكراني: عودة روسيا الكبرى
نبذة مختصرة: 

من ضمن مجموعة من السيناريوهات لمرحلة ما بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، ثمة توقعات بأن تنتهي الهيمنة القطبية الأحادية على العالم، بغضّ النظر عن الرابح والخاسر، وأن يصبح العالم متعدد الأقطاب، وخصوصاً مع تصاعد القوة الاقتصادية لكل من الصين والهند النوويتين.

النص الكامل: 

انطلاقاً من الفرضية أن الهيمنة هي الهدف الذي تسعى له الدول الكبرى، وأن تحقيق الهيمنة الإقليمية هو الأمر الممكن في ظل صعوبة التوصل إلى الهيمنة العالمية والحفاظ عليها، فإن هذه المقالة ستعتمد نموذجاً تحليلياً يفيد في تفسير النمط الأميركي للمهيمن الإقليمي، واحتمال أن تستوحي روسيا الكبرى هذا النمط لاستعادة هيمنتها الإقليمية على شرق أوروبا. كما سيتطرق البحث إلى احتمال أن توظف موسكو قوتها الحيوية المتأتية من تجديد الترابط بين القلب الروسي / السلافي والحزام الأوراسي، من أجل إخراج القوات الأطلسية من شرق أوروبا عبر المواجهة على المسرح الأوكراني. وهنا قد تنفتح ديناميات ميزان القوى بين الدولة المتراجعة عالمياً والأُخرى الصاعدة، على وضع خطر جداً ربما يؤدي إلى حرب شاملة. 

*** 

يعتمد الفكر الواقعي في العلاقات الدولية مصطلح الهيمنة (Hegemon) للتعريف بمنظومة دولية يسيطر عليها مهيمن بفضل جبروته العسكري وتفوّقه الاقتصادي. وفي هذا الإطار الفكري، يذهب منظّرو "الاستقرار الهيمني" إلى أنه يمكن تأمين النظام الدولي (international order) اعتماداً على قوة مهيمنة، وكي ينجح هذا الأمر يتعين على المهيمن أن يحدد مصالحه في المدى الطويل بطُرق تتطابق مع مصالح القوى الأُخرى في المنظومة (system)؛ والدليل على استقرار الهيمنة، يجده المدافعون عن مفهوم "الاستقرار الهيمني" في "السلام البريطاني" و"السلام الأميركي" قبل الحرب العالمية الأولى، وفي عدم الاستقرار في مرحلة ما بين الحربَين عندما كان المهيمن الأميركي منعزلاً عن الشؤون الدولية.[1] ويُعتبر الصراع على الهيمنة أو السيطرة على الجغرافيا الاقتصادية والسياسية، المحرك الأساسي لسياسات القوى العظمى كونه أفضل طريقة في تصورها للبقاء في نظام يتّسم بالفوضى، غير أن تحقيق الهيمنة العالمية، وكذلك الحفاظ عليها، هما أمران في غاية الصعوبة، ولذلك فإن أفضل نتيجة يمكن أن تطمح إليها القوة العظمى، هي الهيمنة الإقليمية التي تقوم على السيطرة على المجال الجغرافي الخاص بالدولة المعنية أو مجالها الإقليمي.

وثمة هدف إضافي للقوة العظمى التي تحقق هيمنة إقليمية، هو السعي لمنع القوى الأُخرى من تحقيق المكانة التي وصلت هي إليها. وقد وقعت حربان عالميتان خلال النصف الأول من (القرن العشرين)، إذ حاولت ثلاث دول كبرى أن تحقق الهيمنة الإقليمية لحسابها وفشلت: الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية اليابانية وألمانيا النازية. ثم غلبت مناخات الحرب الباردة على النصف الثاني من القرن العشرين، حين دخلت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي في منافسة أمنية حادة كادت تتحول إلى اشتباك قتالي مباشر.

يفيدنا هذا النموذج التحليلي في تفسير كيف أن الولايات المتحدة حققت هيمنة إقليمية أولاً على النصف الغربي من الكرة الأرضية، ثم راحت تبذل قصارى جهدها لمنع الدول الكبرى الأُخرى من السيطرة على أوروبا وآسيا، إلى أن حققت هيمنة عالمية نسبية في ظل الأحادية القطبية التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي في سنة 1991.

وكي تبلغ الولايات المتحدة الهيمنة العالمية الكاملة، فإنه كان يتعين عليها أن تحقق شرطين ضروريين في حقل علاقات القوى الحقيقية: الأول إحكام السيطرة على أوروبا وآسيا حيث محاور القوة الاقتصادية الحقيقية في العالم، أمّا الثاني فهو القضاء نهائياً على القوة الاستراتيجية الروسية وتفكيك كامل المجال الجيوسياسي السوفياتي السابق، وإنهاء توازن الردع النووي، الأمر الذي يترك للولايات المتحدة وحدها القدرة على توجيه الضربات من دون المخاطرة بتلقّي الرد الموازي.

واقع الحال، أن لا الأول ولا الثاني من الهدفين المنشودين قد تحققا لأميركا؛ فالمسيرة الأوروبية المتعرجة نحو الوحدة الاقتصادية والسياسية، لم تتوقف على الرغم من خروج بريطانيا، بل تظهر هذه المسيرة، على علاتها، صعود ألمانيا كقوة كبرى جديدة يُحسب لها حساب في الصراع على أوروبا، ومنه الاستقطاب الدولي حول أوكرانيا.

أمّا الصين والهند، فتُظهران قدرة كاملة على التحرك المستقل ومواجهة نزعة الاحتواء الأميركية، وذلك بعدما تمكنت روسيا من تجاوز مرحلة عدم الاستقرار وتفكك الدولة، وأثبتت أنها قادرة على الوقوف في وجه محاولات الاختراق الأميركية لفضائها الآسيوي وإقليم القوقاز.[2] 

عودة "كل الروسيا"

إذا كان صحيحاً ما تقوله "الواقعية البنيوية" في مقاربتها لعلاقة القوى العظمى بظاهرة الهيمنة،[3] فإن علينا أن نتوقع من "كل الروسيا" أو روسيا الكبرى التي حلّت مشكلتها الحيوية في الأعوام التالية لمرحلة الفوضى (1990 – 2000)، أن تقوم بإحياء علاقة الارتباط بين القلب السلافي / الأرثوذكسي للدولة والحزام الأوراسي، وأن تستوحي النمط الأميركي للهيمنة كي تستعيد مكانتها كمهيمن إقليمي في أوروبا، وأن تسعى لتحويل حرب أوكرانيا مدخلاً إلى توسيع فجوة القوة إلى أقصى حد بينها وبين حلف شمال الأطلسي، بحيث لا يبقى لدى أي دولة في أوروبا الوسائل لتهديد أمنها الإقليمي. ولا يمكن استبعاد أن تحاول روسيا ذات النُّظم العسكرية الحديثة، بعد تأمين عمقها الآسيوي اعتماداً على مفهوم "الجوار القريب"[4] والشراكة الاستراتيجية مع الصين، دفع القوات العسكرية الأطلسية خارج شرق أوروبا، بالطريقة نفسها التي اعتمدتها الولايات المتحدة لدفع الدول الكبرى الأوروبية خارج النصف الغربي من الكرة الأرضية في القرن التاسع عشر، وهي العملية التي توّجت بتكريس "مبدأ مونرو" (1823) الذي جرى تفعيله ضد الوجود العسكري السوفياتي في كوبا في سنة 1962.[5]

ومن وجهة النظر الروسية، مثلما يعرضها المنظّر ألكسندر دوغين،[6] تبدو هذه الأهداف التي تحققت جزئياً في جورجيا وأرمينيا وشبه جزيرة القرم – منطقية من الناحية الجيوسياسية، باعتبار أن من الطبيعي أن ترغب موسكو العائدة إلى مقدم السياسة الدولية من خلال التموضع في سورية وأوكرانيا وأفريقيا، في أن تكون جاراتها الأوروبية ضعيفة عسكرياً؛ مثلما تفضّل واشنطن أن تكون كندا والمكسيك وكوبا ضعيفة عسكرياً على حدودها. وعلى غرار صيغة الترابط الأمني القائمة بين السويد والنروج، أو بين كندا وأميركا، أو المكسيك وأميركا، أنشأت روسيا علاقة من التفاهم الأمني مع كازاخستان التي تبلغ مساحتها مليونَي كيلومتر مربع، وهي علاقة تحول دون أن يصبح هذا الشريك الذي يملك من موارد الطاقة والثروات الطبيعية ما يؤهله لأن يكون قوة ناهضة، دولةً يصعب السيطرة عليها. وطبقت موسكو الصيغة نفسها مع بيلاروسيا ومجموعة الدول السوفياتية السابقة في آسيا. إلّا إنه خلافاً للواقعيين، عمل كارل شميت والفريق العامل معه على إيجاد حلول متنوعة للهاجس الأمني بين الدول، وتطوير مفهوم "التوافق الأمني" (security community) في اتجاه أمن دولي قائم على الثقة.[7]

يبقى من السهل أن نتصور ردة الفعل لدى قادة "الدولة العميقة" في واشنطن، في حال أقدمت أي من القوى الأُخرى على نقل قطعات عسكرية استراتيجية إلى النصف الغربي من الكرة الأرضية. وللمثال، فقد تعاملت إدارة كنيدي مع أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في سنة 1962، بصفتها تهديداً محتملاً للأمن القومي الأميركي. ويمكن أن ينطبق المنطق نفسه على معضلة الأمن الروسي في أوكرانيا والتي دفعت الكرملين إلى التلويح بالردع النووي. 

ديناميات ميزان القوى

كيف يمكن أن تكون ردات فعل صانعي السياسة الأميركية في حال حقق الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين تقدماً ملحوظاً في استعادة السيطرة على شرق أوروبا؟

من الصعب أن تقبل الولايات المتحدة بوجود نظراء منافسين لها، وهي أوضحت ذلك خلال القرن العشرين في تجارب الصراع مع ألمانيا واليابان والاتحاد السوفياتي، فضلاً عن كونها تبدي تصميماً على أن تظل هي المهيمن الوحيد. لذا نراها تحاول بجميع الوسائل منع عودة روسيا إلى الموقع الذي تستحقه في السياسة الدولية، بل راحت تتعامل مع الاتحاد الروسي في الأزمة الأوكرانية بالطريقة نفسها إلى حد ما التي تعاملت بها مع الاتحاد السوفياتي خلال مرحلة الحرب الباردة، بما في ذلك فرض العزل الدبلوماسي والحصار الاقتصادي والمالي والتكنولوجي. وفي هذا السياق تجد دول الاتحاد الأوروبي نفسها تحت ضغوط أميركية هائلة تهدف إلى قطع الطريق على أي اتجاه أوروبي لبناء سياسات مستقلة إزاء روسيا كشريك إقليمي لا غنى عنه، أقلّه في حقل إمدادات الطاقة، فضلاً عن العمل لتقويض نتائج المفاوضات بين الجانبين المتنازعين الروسي والأوكراني، ولإطالة أمد الحرب الأوكرانية من أجل استنزاف القوات الروسية على الأرض، وهذا كله يشبه حملة صليبية تدفع واشنطن إلى ممارسة تهديد العقوبات ضد الدول التي تمتنع من التورط في شيطنة روسيا، ومن المشاركة في الحصار الشامل عليها.

ولأن هذه المواجهة مرشحة لأن تطول وتكشف عن اصطفاف جديد يُقسّم العالم إلى كتلتين، فإنه يتعين الانتباه إلى ميزان القوى ودينامياته، وخصوصاً المتغيرات البارزة التي تطرأ على معادلة توزيع القوى. بكلام آخر، إن القوة المتفوقة إذ تواجه منافساً صاعداً فإن هذه الحالة تخلق وضعاً خطراً جداً يؤدي غالباً إلى حرب شاملة؛ ولأن الدولة المسيطرة أميركا تعرف أن أيامها معدودة في قمة هزم القوة، فإن لديها دوافع قوية لشنّ حرب وقائية ضد المنافس كي توقف صعوده. وهذا يعني طبعاً، أن على الدولة المتراجعة في ميزان القوة الحقيقي، أن تتصرف ما دامت لا تزال تحظى بتمييز واضح في مؤشرات القوة على منافسها الصاعد. ويرجح هذا السيناريو أيضاً أن تبادر القوة الصاعدة إلى الشروع في الحرب. أليست المواجهة الدائرة بين حلف الأطلسي وروسيا على المسرح الأوكراني في شرق أوروبا، هي الترجمة التقريبية لهذا السيناريو؟

وتقترح سيناريوات أُخرى أنه إذا كان العالم الأحادي القطب يشهد تراجعاً أميركياً انعكس في الانسحاب من العراق وأفغانستان، فإن دخول القوة الروسية إلى حقل المنافسة بين القوى العظمى في نظام التعددية، القطبية، يعمل في نهاية المطاف لوضع حد للأحادية القطبية. وعندما يحدث هذا التحول، ينقلب العالم إلى مكان أكثر اضطراباً، ذلك بأن نشوب حرب بين القوى العظمى في نظام التعددية القطبية، يبقى أمراً محتملاً، بينما تبدو هذه الحرب مستبعدة إلى أن تتولى "السلطة العالمية" دولتان كبريان مثل روسيا وأميركا. وإذا استمرت الصين والهند في الصعود التنافسي، سيكون هناك مجموعة من الدول الكبرى في النظام، الأمر الذي سيضاعف احتمال الصراع الشديد والحرب.

أخيراً، إذا كان للقوة الأميركية الثقل الحاسم في إحلال التوازن في النظام استناداً إلى التفوق ورجحان القوة، ولم تكن أي قوة عظمى أُخرى تجرؤ على مناطحتها ما دامت على قمة القوى العالمية، فمن الواضح الآن أن هذه المعادلة تغيرت بعدما بلغت الصين مرتبة باتت فيها توازن قوة الولايات المتحدة إن لم تكن قد تجاوزتها. ويأتي هذا التحول في تاريخ الهيمنة الأميركية في سياق جيوسياسي لا سابق له يغلب عليه مشهد الانسحاب الأميركي المذل والمضطرب من أفغانستان، وفشل الرهان على التموضع في قلب أوراسيا القارة الأكبر والأكثر سكاناً في العالم والأغنى من حيث الموارد، وعودة روسيا لاعباً جيوسياسياً من الطراز الأول.

 

المصادر:

[1] يُعرّف غرامشي الهيمنة بحالة تقوم فيها الجماعة المسيطرة اجتماعياً بتأمين قوتها من خلال إقناع الجماعات الاجتماعية الأُخرى بالموافقة على رؤيتها الأيديولوجية والالتحاق الفاعل بالقوة المسيطرة، الأمر الذي يجعل الاستخدام الواسع للأداة العسكرية المباشرة غير ضروري.

[2] Emmanuel Todd, Aprés l’Empire, Essai sur la decomposition au systéme américain (Paris: Editions Gallimard, 2004), PP 260 – 284.

[3] يمثّل كتاب كينيث والتز (Kenneth Waltz) "نظرية السياسة الدولية" المرجع الأساسي لمدرسة الواقعية البنيوية، وأطروحته الرئيسية هي أن غياب سلطة عليا تلجأ إليها الدول في الأزمات، لا يترك خياراً سوى التنافس من أجل القوة والبقاء. راجع في هذا الشأن: تيم دان وميليا كوركي وستيف سميت، "نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع" (بيروت المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016).

[4] مفهوم غير رسمي طبّقته روسيا ما بعد السوفياتية للحفاظ على هيمنتها الإقليمية في آسيا الوسطى والقوقاز حيث سُجل معظم التدخلات العسكرية الروسية منذ سنة 1990.

[5] "مبدأ مونرو" الذي وضعه الرئيس جايمس مونرو في سنة 1823، يحظر تدخل قوى خارجية في القارة الأميركية، وينص على أن أي تدخل من هذا النوع يُعتبر معادياً للولايات المتحدة الأميركية. وهذا المبدأ ينطوي على بُعد انعزالي في السياسة الخارجية الأميركية.

[6] منظّر جيوسياسي روسي بارز وشخصية عامة في موسكو، وهو صاحب نظرية الأوراسية الجديدة التي تدعو إلى استعادة روسيا قوتها ودائرة نفوذها المتواصلة في العهدين القيصري والسوفياتي. ويدافع دوغين أيضاً عن تقسيم أوكرانيا باسم روسيا أوراسية، ويقال إن له تأثيراً فكرياً في الرئيس فلاديمير بوتين.

[7] انطلاقاً من الرغبة في دراسة مختلف الوسائل التي تمكّن الإنسان في يوم من الأيام من إلغاء الحرب، واستناداً إلى الفرضية القائلة إن الحرب صارت على درجة من الخطورة تفرض اجتثاثها بأي طريقة، اعتبر كارل دويتش (Karl Deutsch)، عالم الاجتماع والمحلل السياسي التشيكي (1904 - 1992) أن المشكلة المركزية في دراسة العلاقات الدولية تدور حول السؤال: كيف يمكن أن يعمل البشر معاً من أجل إزالة الحرب كمؤسسة اجتماعية؟ وهذه نقطة افتراق أساسية مع الواقعيين البنيويين كونهم لا يهتمون بشروط السلام، بل يسعون لتفسير أسباب الحرب.

السيرة الشخصية: 

ميشال نوفل: كاتب لبناني.